بسم الله الرحمن الرحيم

الابتلاء سنّة الله في خلقه
( محاضرة ملقاة في مسجد دَبلِن بإيرلندا يوم السبت الواقع في غرّةِ ذي القعدة عام 1423 هـ الموافق للرابع من يناير ـ كانون الثاني ـ 2003 م )

احصل على نسخة من الخطبة


إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ، و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلا وَ أَنْتُمْ مسلمون } [ آل عمران : 102 ] .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَ بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَ نِسَاءً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } [ النساء : 1 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيْداً  يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا  وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } [ الأحزاب : 70 – 71 ] .
أمّا بعد فأيها الحضور الكريم !
أحمد الله تعالى الذي جمعنا معاً في هذا المجلس الطيب ، و أسأله تعالى أن يجعله مجلساً مباركاً ، لا تِرَةَ فيه و لا ندامة ، تتنزل على أهله السكينة ، و تحفهم الملائكة ، و تغشاهم الرحمة ، و يذكرهم الله تعالى فيمن عنده ، كما ثبت الوعد بذلك لقوم يجتمعون في بيت من بيوت الله ، يقرؤون كتاب الله ، و يتدارسونه فيما بينهم ، فيما رواه مسلم و أبو داود و ابن ماجة .
إخوتي و أحبّتي في الله !
{ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيْدُ  إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } وَ مَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ  .
فعليكم بتقوى الله العظيم و طاعته ، و أحذّركم وبال عصيانه و مخالفة أمره ، و أُذَكِّرُكُم و نفسي بأنّ حياتنا قائمةٌ على الابتلاء ، حيث قال تعالى : { إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } [ الإنسان : 2 ] ، و قال سبحانه : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ } [ البلد : 4 ] ، أي : في مكابدة و معاناة منذ مولده في دارٍ كلّها بلاء و عناء و كدر ، أحسن في وصفها الإمام علي رضي الله عنه لمن سأه عنها : دار أولها بكاء و أوسطها عناء و آخرها فناء .
و وَصَفَها أبو الحسن التهامي فأجاد في قوله :

جُبلت على كَدَرٍ و أنت تريدها ***صفواً من الآلام و الأكدارِ
و مُكَلِّفُ الأيامِ ضدَّ طِباعِهـا *** مُتَطَلِّبٌ في الماء جذوةَ نارِ

هذه هي الدنيا الدنيّة ، لم يسلَم منها أحد ، و مع ذلك فلم يكف عن السعي في الاستزادة منها أحد ، و أسعد الناس فيها من قَنِع منها ببُلغة تبلغه غايته ، و لُقمةٍ يسد بها جوعته ، و ليبذل وسعه بعد ذلك في مقارعة البلاء و اللأواء ، في دار الابتلاءِ ؛ سنةِ اللهِ في خلقِه ، و قدره المحتوم الذي لا يتخلّف في عباده .
و حديثنا اليوم عن الابتلاء له من المبررات الشيئ الكثير ، فهو ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد ، و هو موضوع تمس إليه الحاجة في زمن غربة الدين التي تكاد تطبق على حياة المسلم من كل جهة و جانب ، الغربةِ التي لا يكاد يشعر بها من لم يستشعر عظم المسؤولية الملقاة على عاتقه تجاه دينه و أمته ، و لا من لم يتذوق حلاوة الإيمان في حياته الدنيا .
و للمسلم حلاوتان يذوقهما في حياته معاً ؛ حلاوة الإيمان المترتبة على حبه لله و لرسوله ، و حبه العباد في الله دون سواه ، و كراهيته الكفر بعد الإيمان كما يكره أن يُلقى في النار ، فمن ذاق حلاوة الإيمان المترتبة على هذه الخصال ، كان أهلاً لنيل حلاوة التضحية في سبيل الله ، و بذل الغالي و النفيس من النقير إلى القِطمير في سبيل ، فلا يلوي ذراعه بلاء ، و لا تلين له قناة أمام الشدائد و العناء .
أما من أعرض عن ذكر ربِّه { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } [ طه : 124 ] .

نعم أيها الأحباب الكرام ..
مَن جانَبَ الهدى ، فمصيره إلى الردى ، و حياته ضنكٌ تعُجُّ بالبلاء ، و تصير به و بغيره إلى هلاكٍ و فناء .
و لكي نعطي موضوع حديثنا اليوم بعض حقه - و ليس بمقدورنا إيفاءه الحق كلّه في هذه العُجالة – نركز فيما يسعفنا به الوقت على المحاور التالية :

المحور الأول : تحرير معنى البلاء و الابتلاء في اللغة و الاصطلاح :
للبلاء في اللغة معان أشهرها ما ذكره الإمام القرطبي رحمه الله [ عند تفسير الآية الثانية بعد المائة من سوره الصافات في الجزء الخامس عشر من تفسيره ] .
أولاً : الإنعام ، و هو بذل النعمة للغير ، كما في قوله تعالى : ( إن هذا لهو البلاء المبين ) أي النعمة الظاهرة ؛ يقال : أبلاه الله إبلاء و بلاء إذا أنعم عليه . و قد يقال بلاه ، كما قال زهير :
فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
أي : صَنَع بهما خيرَ الصَّنِيع الذي يَبْلُو به عباده .
ثانياً : الاختبار و الامتحان بالخير أو الشر ، كما في قوله تعالى : ( و نبلوكم بالشر و الخير فتنة ) [ الأنبياء : 35 ] ، أي اختباراً و امتحاناً ، يُقال : بلاه يبلوه إذا اختبره ، و لا يقال من الاختبار إلا بلاه يبلوه .
و البلاء بالمعنى الثاني مرادف للابتلاء ، فهما بمعنىً ، و هو المقصود فيما نحن بصدده .
قال ابن منظور [ في مادة بَلا من المجلد الرابع عشر من لسان العرب ] : ( و ابْتَلاه الله : امْتَحَنَه ، و الاسم البَلْوَى و البِلْوَةُ و البِلْيَةُ و البَلِيَّةُ و البَلاءُ ، و بُلِيَ بالشيء بَلاءً و ابْتُلِيَ ؛ و البَلاءُ يكون في الخير و الشَّر ، و الجمع : البَلايا .
و يقال : أَبْلاه الله يُبْلِيه إبْلاءً حسناً إذا صنع به صُنْعاً جميلاً.
و بَلاه اللهُ بَلاء وابْتَلاه أي: اختَبره .
و التَّبالي : الاختبار .
و البَلاء : الاختبار ... الخ .
و الذي يهمنا في موضوع بحثنا هذا هو المعنى المتبادر من الابتلاء عند ذكر ما يترض له المؤمن في حياته من سراء و ضراء ، و هو الاختبار و التمحيص المقرون – غالباً – بالشدائد و المحن ، و المصائب و الفتن .

المحور الثاني : من حِكَم الابتلاء :
لا شك في مدار الأقدار على حكمة الملك الجبار ، الذي  لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْأَلُونَ  [ الأنبياء : 23 ] و لا في أنّ الحكمة المقدرة في الخلق و التدبير قد تكون مما استأثر الله تعالى بعِلمه ، و قد تكون مما أخبر به في كتابه أو على لسان نبيّه ، و قد تكون مما وفّق من يشاء من عباده لمعرفته باستنباطه أو الاجتهاد في الوقوف عليه ، بإلهام أو دُربةٍ أو غير ذلك .
و من تأمل فيما عاناه ، أو ما وَقَعَت عليه – من معاناة غيره - عيناه من صور الابتلاء ، سيدرك و لا شك بعض الحكم الربانية في ذلك كله ، و من أَجَلّ تلك الحِكَم تمحيص المعبود لعباده { حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } [ آل عمران : 173 ] .
فقد يكون الابتلاء لتمحيص الصف المسلم و تنقيته من الدَغَل و الدَخَل و الدُخلاء ، و من صور الابتلاء للتمحيص ما قد تتعرّض إليه الصفوة من أبناء الأمة من الكرب أو الأسر أو النفي أو القتل أو غير ذلك مما هو معروف مشاهد في كل زمان و مكان .
قال تعالى : { وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَ الأَنْفُسِ وَ الثَّمَرَاتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ } [ البقرة : 155 ] .
و قد يكون الابتلاء قصاصاً في الدنيا مما تقترفه أيدي العباد ، و جزاءً لهم بالسيئة على السيئة .
قال تعالى : { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَ هَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ } [ سبأ : 17 ] و قال سبحانه : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً } [ النساء : 160 ] . و قال أيضاً : { وَ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] .
كما قد ينزل البلاء على العباد رفعاً للدرجات ، أو وضعاً للآصار و تكفيراً للخطايا و السيئات .
فمما يكون لرفع درجات العباد ، و يراد لهم الخير به ما رواه البخاري في صحيحه أن أبا هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( من يرد الله به خيراً يُصِبْ منه ) . أي : يبتليه بالمصائب و المحن ليرفع درجاته و يزيد في حسناتة على ما يكون من صبره و احتسابه .
و مما يكون لتكفير السيئات ما جاء في الحديث المتفق على صحته عند الشيخين أن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله : ( ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفَّر الله بها عنه ، حتى الشوكة يُشاكها ) .
قال الإمام المناوي رحمه الله شارحاً هذا الحديث في فيض القدير : ( ما من مصيبة ) أي : نازلة ، و أصلها الرمي بالسهم ثم استعيرت لما ذكر ( إلا كفر اللّه بها عنه) ذنوبه أي محي خطيئاته بمقابلتها ( حتى الشوكة ) قال القاضي : حتى إما ابتدائية فالجملة بعدها خبرها أو عاطفة ( يشاكها) أي : حتى الشوكة يشاك المسلم بتلك الشوكة أي يجرح بشوكة ، و الشوكة هنا المرة من شاكه ، و لو أراد واحدة النبات قال يشاك بها ، و الدليل على أنها المرة من المصدر جعلها غاية للمصائب .اهـ.
و مما اتفق عليه الشيخان أيضاً حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، أن رسول الله قال : ( ما يصيب المسلم من هم و لا غم و لا نصب و لا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ) .
قال الإمام الغزالي رحمه الله : قال عيسى عليه السلام : لا يكون عالماً من لم يفرح بدخول المصائب و الأمراض عليه لما يرجوه من ذلك من كفارة خطاياه .

المحور الثالث : الابتلاء سنة عامة تتفاوت مراتب الناس فيه :
ليس الابتلاء قاصراً على أحد ، و لا ينجو منه بر و لا فاجر ، و إن تباينت صوره ، و تفاوتت مراتبه و مراتب الناس فيه تبعاً لذلك .
و ما ادعى أحدٌ إيماناً بالله و رسوله إلا كان نصيب من الابتلاء كما أخبر بذلك رب الأرض و السماء ، فقال تعالى : { أ لم  أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ  وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [ العنكبوت : 1-3 ] .
و لو نجى من هذا الابتلاء أحد لنجى منه الأنبياء و المرسلون ، و من تابعهم من الأولياء و الصالحين .
و لكن ؛ ما من نبي أوتي الكتاب و الحكمة إلا و هو معرض لأصناف البلاء حتى يبلغ رسالة الله إلى الناس ، فالأنبياء أكمل الناس إيماناً و أكثرهم بلاءً ، و ذلك لأن الابتلاء على قدر العطاء ، فقد قال ربنا تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ } [ المائدة : 48 ] .
و لو تأملنا ما قصه الله تعالى علينا من معاناة الأنبياء لوجدنا ما يذيب الحديد ، و يشيب الوليد .
ألم تَرَ كيف ابتلى الله أبا البشر آدم عليه السلام بالسراء فكرمه و أسجد له الملائكة ، ثم ابتلاه بالضراء فأهبطه من جنة عجن إلى دار الهم و الغم و الحزن .
و ابتلى نوحاً عليه السلام في أهله و ولده بكفرهم و صدهم عن سبيل الله و إعراضهم عن دعوته إلى دين الله ، و أي ابتلاء أعظم من أن يرى الأب ابنه يغرق أمامه في موج كالجبال مع من كفر من قومه ، و هو لا يملك صرف الضر عنه و لا تحويلاً .
و ابتلي إبراهيم عليه السلام في أبيه الذي كان يصنع أصناماً تعبد من دون الله ، و ابتلي في جسمه فقذف في النار ، و ابتلي في ولده و فلذة كبده فأمر بذبحه ، و ابتلي إلى ذلك بابتلاء من نوع خاص ، و هو تحميله أمانة الإمامة ، حيث قال تعالى : { وَ إِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } [ البقرة : 142 ] .
و يالها من أمانة ثقيلة و ابتلاء عظيم على من تصدر له فأناط بعنقه مسؤولية أمة أو طائفة من العباد .
و ابتُليَ أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام بأقوام لا يرعون ذمة و لا حرمة فقتلوا أنبياءهم و حرفوا كتبهم و شرائعهم ، وكان من آخر من قَتَلوا يحيى و زكريا عليهما السلام .
و ابتلي نبي الله يوسف عليه السلام بالطعن في أمانته حينما قال إخوته : { إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ } [ يوسف : 77 ] ، و أُلقِيَ في غيابة الجب كما تلقى الأحجار ، و بيع في سوق النخاسة كما يباع العبيد ، و شري بثمن بخس دراهم معدودة ، و كان من اشتراه فيه من الزاهدين ، و خدم في البيوت كما يخدم العبيد ، و اتهم في عرضه تهمة يتنزه عنها العقلاء فكيف بالأنبياء ؟ و ألقي بسببها في السجن كما يلقى المجرمون ، فلبث فيه بضع سنين
هذه حياة الأنبياء ، و هذه نماذج من ابتلاء الله تعالى لهم ، و من تأمل ما لحقهم من صنوف البلاء لوجد عامته من الابتلاء بالشدائد و المحن ، و لا يخرج عن ذلك إلا صور معدودة جاءت مقرونة بالعز و التمكين كما في قصتي داود و سليمان عليهما و على نبينا الصلاة و السلام .
و من الملاحظ أيضاً ابتلاء الكثيرين منهم في ولده لأن الولد أقرب الناس إلى أبيه ، و مصاب أبيه فيه جلل .
فهذا آدم عليه السلام ؛ يقتل أحد ولديه أخاه في أول جريمة عرفتها البشرية في إراقة الدماء .
و هذا نوح عليه السلام ؛ يحول الموج بينه و بين ولده فيكون الولد من المغرقين على مرأى الأب و مسمعه ، و هو ينهى عن التدخل لإنقاذه و يقال له : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } [ هود : 46 ] ؛ لكفره و إعراضه عن دين الله .
و هذا خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام يؤمر بذبح ولده البار إسماعيل فيسن شفرته و يتُلُّهُ للجبين امتثالاً لأمر رب العالمين ، فيكاد يذبحه لولا ما تداركه ربه به من الفداء بذبح عظيم .
و هذه أم موسى تبتلى في ابنها موسى الكليم عليه السلام فلا تجد بداً من إلقائه في اليم ، و قلبها يتفطر حزناً عليه .
ثم يبتلى موسى الكليم بقتلة الأنبياء من بني إسرائيل من جهة ، و بالفراعنة الأشداء من جهة أخرى ، فيهدد بالقتل ، و يخرج من بلدته خائفاً يترقب ، و الملأ يأتمرون به ليقتلوه ، و تتوالى عليه الأيام ؛ و هي حبلى بالأحداث و صنوف البلاء بعد بعثته ، من ملاحقة فرعون و ملأه لموسى و من معه إلى اليمّ ، إلى ارتداد قومه و اتخاذهم العجل ، حتى لا تكاد تخلو صفحة من صفحات سيرته التي كادت تذهب بالقرآن لكثرة أحداثها ، من صنف من صنوف الابتلاء .
و تُبتلى الطاهرة البتول مريم العذراء فتضع طفلاً نبياً من غير أب ، و تؤذى بسببه ، فيتسلط عليها اليهود و يتهمونها في عرضها ، و هي الصديقة الطاهرة المطهرة .
و يُبتلي محمد في أبنائه الذكور خاصة فلا يعيش له منهم أحد ، حتى سماه المشركون أبتراً ، و هو صابر محتسب يجود ابنه إبراهيم بنفسه بين يديه الشريفتين ، و هو لا يزيد على أن يقول و عيناه تذرفان الدموع : ( إن العين لتدمع ، و إن القلب ليجزع ، و إنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون ) و ( لا نقول إلا ما يرضي ربنا )

نعم أيها الأحباب الكرام ... هكذا يبتلي الله أولياءه ، و من أشدهم بلاءً نبيّه المختار ، و صحابته الأخيار رضوان الله عليهم ؛ جرياً على سنّة مضت و تمضي { فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً  [ فاطر : 43 ] و لا محيص لأحدٍ عن التمحيص ، و لذلك  ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا } [ الأحزاب : 11 ] .
و عانى الصحابة مع نبيهم أشد أنواع الابتلاء ، فقُتِّلوا ، و شُرِّدوا ، و أخرجوا من ديارهم ، حتى قال رسول الله ( ما أوذي أحد ما أوذيت في الله ) [ رواه أبو نعيم في الحلية و رواه بنحوه الترمذي و حسّنه – و هو كما قال ، و ابن ماجة و أحمد ] .
و اختص الله تعالى المجاهدين و المرابطين في سبيله بأصناف البلاء ، و لم يذكر غيرهم على سبيل التخصيص رغم عموم سنة الابتلاء لعموم البشر .
قال تعالى : { وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُـجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَ الصَّابِرِينَ وَ نَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } [ محمد : 31] .
و قال سبحانه : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ التوبة : 16 ] .
و قال و هو أصدق القائلين : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَ الضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] .
و ليس هذا خاصاً بهذه الأمة ، و لكنها سنّة مضت و تمضي إلى أن يرث الله الأرض و من عليها ، و لا يعدُ الابتلاء أن يكون { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } [ الأحزاب : 62 ] ، كما دلّ عليه صدر سورة العنكبوت ، و قد تقدم .
و عن خبّاب بن الأرتّ رضي الله عنه قال : شكونا إلى رسول الله و هو متوسد بُردةً له في ظل الكعبة ، فقلنا : ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ فقال : ( قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ، ثم يجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ، و يمشط بأمشاط الحديد من دون لحمه و عَظمِه ، فما يصده ذلك عن دينه .. و الله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء حتى حضر موت لا يخاف إلا الله و الذئب على غنمه ، و لكنكم تستعجلون ) [ رواه البخاري ] .
و هاهنا فائدة يحسن التنبيه إليها ، و هي متعلقة بمسألة الدعاء على الظالم سواء كان وليَ أمرٍ كافراً ، أو عدواً متسلّطاً ، أو غير ذلك ، حيث كثر عند من يجادل عن المنافقين ، و الحكام الظالمين التذرع بأن النبي ترك الدعاء لخباب و من معه رضي الله عنهم ، و لم يزد على أن أوصاهم بالصبر ، و وعدهم بالظفر و التمكين و لو بعد حين .
فيقال لهؤلاء : ليس في هذا الحديث ما يدل على أنّه لم يدع لخباب و من معه ، و لا النهي عن الدعاء لهم ، بل قد يكون مما فعله و لم يُروَ عنه لعدم وجود المناسبة أو المقتضي ، أو ممّا فعله عليه الصلاة و السلام لاحقاً .
و إذا سلّم جدلاً إعراضه عليه الصلاة و السلام عن الدعاء و الاستنصار لأصحابه في الحال المذكورة ، فتوجيهه على ما ذكره الحافظ [ في الفتح : 12 / 391 ، 392 ] حيث أورد قول ابن بطال رحمه الله : ( إنما لم يُجب النبي سؤال خباب و من معه بالدعاء على الكفار مع قوله تعالى : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] و قوله : { فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا } [ الأنعام : 43 ] لأنه علم أنه قد سبق القدر بما جرى عليهم من البلوى ليُؤجروا عليها ، كما جرت به عادة الله تعالى في من اتَّبَعَ الأنبياء فصبروا على الشدة في ذات الله ، ثم كانت لهم العافية بالنصر و جزيل الأجر ، فأما غير الأنبياء فواجب عليهم الدعاء عند كل نازلة لأنهم لم يطَّلِّعوا على ما اطلع عليه النبي ) .
و مما تقدم في الآي و الأثر يتقرر أن الابتلاء سنة عامّة لا ينجو منه مؤمن قط ، و إن كان ما يصيب العباد من البلاء متفاوتاً بحسب قوة إيمان العبد و ضعفه فـ ( أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه ، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض و ما عليه خطيئة ) [ كما أخرج النسائي ( في الكبرى ) و ابن ماجه و الترمذي و قال : ( ‏هذا ‏ ‏حديث حسن صحيح ) و ابن حبان و الحاكم ، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، و بوّب عليه البخاري في صحيحه ] .
و قد يكون الابتلاء بالغير ، أو بالشر و الخير .
و من أصعب صور الابتلاء بالغير أن يبتلى المرء في أقرب الناس إليه ؛ و هم أهله و ولده .
قال تعالى : { وَ جَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَ كَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } [ الفرقان : 20 ] .
و قال تعالى : { وَ اعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ أَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ الأنفال : 28 ] .
و ما أكثر من نعرف ممن ابتُليَ بولد عاق أو مريض ، أو زوج نشاز أو ناشز تلطخ ما ابيض من صفحات زوجها بسوء أخلاقها أو أفعالها .
كما يكون الابتلاء بالخير تارةً و بالشر تارةً أخرى ، و قد يكون بهما معاً ، قال تعالى : { وَ بَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَ السَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الأعراف : 168 ] .
و قال سبحانه { وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [ الأنبياء : 35 ] ، و على المؤمن أن يوطن نفسه على مقابلة الابتلاء في كلتي الحالتين على مرضاة الله التي في تحصيل سعادة الدارين ، و بذلك يحوز خير الخيرَين ، و أفضل الأمرين .
و روى مسلم ‏عن ‏ ‏صهيب رضي الله عنه ،‏ ‏قال ‏:‏ قال رسول الله ‏ : ( عجباً لأمر المؤمن ، إن أمره كله له خير و ليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر ، فكان خيراً له ، و إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ) .
أما من يُسَرُّ بالسرّاء ، و يستاء بالضراء فيسخط و يضجر و ينقلب على وجهه ، فهو على جرف هار يوشك أن ينهار به في نار جهنم و العياذ بالله .
قال تعالى : { و من الناس من يعبد الله على حرف ، فإن أصابه خير اطمأن به ، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ، ذلك هو الخسران المبين } [ الحج : 11 ] .
قال الإمام الغزالي رحمه الله : قال عيسى عليه السلام : لا يكون عالماً من لم يفرح بدخول المصائب و الأمراض عليه لما يرجوه في ذلك من كفارة خطاياه .اهـ .
و يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله ( ما أغبط أحداً لم يصبه في هذا الأمر بلاء ) [ من كتاب المحن ، لأبي العرب التميمي ، ص : 283 ] .
فلينظر امرؤٌ أن يضع قدمه ، فإن الأرض مزلة مزلقة ، و الموفق من ثبته الله حتى يلقاه ، و ما من عبدٍ لله طوعاً أو كرهاً إلا و هو معرّضٌ لأن يُبتلى فيما آتاه الله من أوجه النعماء ، قال تعالى : = ليبلوكم فيما آتاكم  [ المائدة : 48 ] ، فما أوتي أحد نعمة إلا كانت ابتلاء له و اختباراً لشكره أو صبره .
فالغني يبتلى بغناه و الفقير يبتلى بفقره .
و القوي يبتلى بقوته و الضعيف يبتلى بضعفه .
و العالم يبتلى بعلمه و الجاهل يبتلى بجهله .
و هكذا دواليك ...
كلنا مبتلى ، و إلى أقدارنا سائرون { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَ مَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [ آل عمران : 185 ] .

المحور الرابع : عوامل الثبات عند المُلِمَّات :
إن من لطف الله تعالى ؛ و { اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ } [ الشورى : 19 ] أن لا يبتليهم إلا بما يطيقون ، و أن يلطف بهم فيما ابتلاهم به ، فيعينهم و يثبتهم ، على ما يرضيه عنهم و يرتضيه لهم .
و في دينه الذي ارتضاه لعباده من العوامل المساعدة على ثبات العباد على ضراوة الفتن و البلاء الشيء الكثير ، الذي لا يستصحبه عبد في شدّة إلا خفف عنه ، و ربط على قلبه ، و من هذه العوامل :
أوّلاً : التعرف على الله في الرخاء :
من كان مع الله كان الله معه بلا ريب ، كيف و لا جزاء للإحسان إلا بالإحسان ، و من تقرّب إلى الله شبراً تقربّ إليه باعاً ، و من تقربّ إليه باعاً تقرّب إليه ذراعاً ، و من أتى ربّه ماشياً أتاه ربُّه هرولة ، كما ثبت ذلك فيما رواه الشيخان و غيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال النبي : ( يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي ، و أنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، و إن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ، و إن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً ، و إن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً ، و إن أتاني يمشي أتيته هرولة ) .
قال الإمام الترمذي بعد أن روى هذا الحديث في سننه : و يروى عَن الأَعْمَشِ في تفسيرِ هَذَا الحَدِيثِ ( من تقرَّبَ منِّي شِبراً تقرَّبتُ منهُ ذراعاً ) يعني : بالمغفرةِ و الرَّحمةِ ، و هكذا فسَّرَ بعضُ أهلِ العلمِ هَذَا الحَدِيثَ . قَالُوا : إنَّما معناهُ يقولُ : إذا تقرَّبَ إليَّ العبدُ بطَاعَتي و بما أَمَرْتُ تُسَارِعُ إليهِ مغفرتي و رَحْمَتِي .اهـ .
و روى الإمام أحمد في مسنده ‏عن ‏عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، أنه قال : ‏كنت ‏ ‏رديف ‏ ‏النبي‏ ‏فقال : ( يا غلام ‏ ‏أو يا ‏ ‏غُلَيم ‏ ‏ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن ؟ ) فقلت : بلى ، فقال : ( ‏احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة ، و إذا سألت فاسأل الله ، و إذا استعنت فاستعن بالله ، قد جف القلم بما هو ‏ ‏كائن ‏؛ ‏فلو أن الخلق كلهم جميعاً أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه ، و إن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه ، و اعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً ، و أن النصر مع الصبر ، و أن الفَرَجَ مع الكرب ، ‏و أن مع العُسر يُسراً ) .
و مما تقدم و نحوه يتبين لنا فضل الإقبال على الله في ساعات الرخاء ، و تتأكد ثمرة ذلك في ساعات الشدائد و البلاء ؛ حيث تتجلى مكافأة بالأولى ، و هو نصرة الله و تسديده و تثبيته لعبده حين يكون أحوج ما يكون إلى رحمة من يقول : { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ الحجر : 49 ] .

ثانياً : الإيمان بالقدر :
لا شيء يبعث على التسليم و الطمأنينة عند نزول القضاء مثل التسليم لله في قضائه و قدره ، و البعد عن التسخط و الضجر .
قال تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [ الحديد : 22 ] .
فلا يكمل إيمان عبد و لا يستقيم حتى يؤمن بالقدر خيره و شرّه ، و يعرف أن من صفته تعالى أن يُقَّدر و يلطف ، و يبتلي و يخفف ، و من ظن انفكاك لطفه عن قدره فذلك لقصور نظره { إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ } [ يوسف : 100 ] .
‏روى أبو داود في سننه بإسناد صحيح عن ‏عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال‏ ‏لابنه : يا بني إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، و ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، سمعت رسول الله ‏ ‏ ‏ ‏يقول ‏: ( ‏إن أول ما خلق الله القلم فقال له : اكتب . قال : ربِّ ! و ماذا أكتب ؟ قال : اكتُب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة ) يا بُنَيَّ ! إني سمعت رسول الله ‏ ‏ ‏ ‏يقول : ( من مات على غير هذا فليس مني ) .
و ثبت في المسند و عند الطبراني ( في الأوسط ) عن أبي الدرداء رضي الله عنه ، ‏عن النبي ‏ ‏ ، ‏قال :‏ ( لكل شيء حقيقة ، و ما بلغ عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ‏ ‏ليُخطئه ، و ما أخطأه لم يكن ليصيبه ) .
قال الإمام المناوي رحمه الله شارحاً هذا الحديث =[ في فيض القدير ] : ( إن لكل شيء حقيقة ) أي : كنهاً ( و ما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم ) علماً جازماً ( أن ) أي : بأن ( ما أصابه ) من المقادير ، أي : وصل إليه منها ( لم يكن ليُخطئه ) ؛ لأن ما قُدر عليه في الأزل لا بد أن يصيبه ، و لا يصيب غيره منه شيئاً ، ( و ما أخطأه ) منها ( لم يكن ليُصيبه ) ، و إن تعرَّضَ له ؛ لأنه بان أنه ليس مقدراً عليه ، و لا يُصيبه إلا ما قُدِّرَ عليه . و المراد : أن من تَلَبَّسَ بكمال الإيمان ، و وَلَجَ نورُه في قلبه حقيقةً ؛ عَلِمَ أنه قد فُرِغ مما أصابه أو أخطأه من خيرٍ و شرٍّ ، فما أصابَه فإِصابَتُهُ له مُتَحتِّمةٌ ، لا يُتَصوَّر أن يُخطئه ، و ما أخطأَهُ فسلامَتُهُ منه مُتَحتِّمةٌ ؛ لأنَّها سهامٌ صائبةٌ وُجِّهَت في الأَزَل ؛ فلا بد أن تقع مواقعها . اهـ .

ثالثاً : النظر إلى ما حلّ بالعبد على أنّه مصيبة و لكنها أهون من غيرها :
جاء في الحكمة : ( من نظر إلى مصاب غيره هانت عليه مصيبته ) .
و من ثمرات إعمال هذه الحكمة الإقرار بأن مصيبة الدنيا أهون من مصيبة الدين ، و قد علمنا رسول الله أن نقول في دعائنا : ( اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا ، و لا تجعل الدنيا أكبر همنا و لا مبلغ علمنا ) رواه الترمذي في سننه ( و قال : ‏هذا ‏ ‏حديث حسن غريب ) و الحاكم في مستدركه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما .
و تحمُّل البلاء العاجل خوفاً مما يترتب على فتنة الدين من العذاب في الآجل ؛ هو اختيار الأنبياء ، و من اتبعهم بإحسان من الصالحين الأولياء ، فقد حكى الله تعالى عن نبيه يوسف عليه و على نبينا الصلاة و السلام قوله : { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } [ يوسف : 33 ] ، فقد آثر السجن على ما فيه من الكرب و الضيق و اللأواء على ما كان ينتظره من نعيم الدنيا في كنف العزيز و فتنة النساء .
و لما كان عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، صار اختيارَ من يدرك العواقب ، بما أوتي من بصيرة و نظر ثاقب ، كما أنّ اختيار أهون الشرين ، و أخف الضررين في أمور الدنيا هو مقتضى العقل و التشريع معاً .
و ما فتئ العقلاء يوازنون بين مصاب و مصاب فيجدون العزاء و السلوان في أنّهم كفوا أضعاف ما ألم بهم ، و هذا ما نلمحه من موقف أئمة السلف الصالح رضوان الله عليهم ، و منهم عروة بن الزبير ، و هو أحد أئمة التابعين ، و من جملة الفقهاء العشرة الذين كان عمر بن عبد العزيز يرجع إليهم في زمن ولايته على المدينة .
قال الحافظ ابن كثير [ في البداية و النهاية : 9 / 120 ، 121 ] : قد ذكر غير واحد أن عروة بن الزبير لما خرج من المدينة متوجهاً إلى دمشق ليجتمع بالوليد ، وقعت الأكلة في رجله في واد قرب المدينة ، و كان مبدؤها هناك ، فظن أنها لا يكون منها ما كان ، فذهب في وجهه ذلك فما وصل إلى دمشق إلا وهي قد أكلت نصف ساقه ، فدخل على الوليد فجمع له الأطباء العارفين بذلك ، فأجمعوا على أنه إن لم يقطعها أكلت رجله كلها إلى وركه ، و ربما ترَقَّت إلى الجسد فأكلته . فطابَتْ نفسُه بنشرها . و قالوا له : ألا نَسقيك مُرَقِّداً حتى يذهب عقلك منه ؛ فلا تُحس بألم النشر ؟ فقال : لا ! و الله ما كنت أظن أن أحداً يشرب شراباً أو يأكل شيئاً يُذهِب عقله ، و لكن إن كنتم لا بد فاعلين فافعلوا ذلك و أنا في الصلاة ، فإني لا أحس بذلك ، و لا أشعر به . قال : فنشروا رجله من فوق الأكلة ، من المكان الحي ؛ احتياطاً أنه لا يبقى منها شيء ، و هو قائم يصلي ، فما تضوّرَ و لا اختلَج ، فلما انصرف من الصلاة عزّاه الوليد في رِجله . فقال : اللهم لك الحمد ، كان لي أطراف أربعة فأخذت واحداً ، فلئن كنت قد أخذت فقد أبقيت ، و إن كنت قد أبليت فلطالما عافيت ، فلك الحمد على ما أخذت و على ما عافيت . قال : و كان قد صحب معه بعض أولاده من جملتهم ابنه محمد ، و كان أحبهم إليه ، فدخل دار الدواب فرفسته فرس فمات ، فأتوه فعزَّوه فيه ، فقال : الحمد لله كانوا سبعة فأخذتَ منهم واحداً و أبقيت ستةً ، فلئن كنت قد ابتليت فلطالما عافيت ، و لئن كنت قد أخذت فلطالما أعطيت . فلما قضى حاجته من دمشق رجع إلى المدينة . قال : فما سمعناه ذكر رجله و لا ولده ، و لا شكا ذلك إلى أحد حتى دخل وادي القرى ، فلما كان في المكان الذي أصابته الأكلة فيه قال : { لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً } [ الكهف : 62 ] ، فلما دخل المدينة أتاه الناس يسلمون عليه ، و يُعزُّونه في رجله و ولده ، فبلغه أن بعض الناس قال : إنما أصابه هذا بذنب عظيم أحدثه . فأنشد عروة في ذلك أبياتاً لمعن بن أوس يقول فيها :

لعمـرك ما أهويـت كفى لريبـة *** و لا حملتنـي نحو فاحشة رجلي
و لا قادني سمعي و لا بصري لها *** و لا دلني رأيي عليها و لا عقلي
و لسـت بماش ما حييـت لمنكـر *** من الأمر لا يمشي إلى مثله مثلي
و لا مؤثـر نفسي على ذي قرابـة *** و أوثر ضيفي ما أقام على أهلي
و أعلـم أني لـم تصبني مصيبـة *** من الدهر إلا قد أصابت فتى مثلي

فارض اللهم عن سلف ما انحطت لهم همة عن قمّة ، و اجعلنا من خيرة أتباعهم ، و اجمعنا بهم على ما يرضيك عنا ، بمنك و فضلك و رحمتك يا أرحم الراحمين .

رابعاً : احتساب الأجر عند الله تعالى :
إن الله لا يظلم الناس شيئاً ، و لكن الناس أنفسهم يظلمون ، و من عدل الله تعالى في خلقه أن ينصف المظلوم و يكافئ المحروم .
فما من عبد يصاب فيحتسب إلا استحق البشارة بالأجر الجزيل و الخير العميم و لو بعد حين ، إنجازاً لما وعد الله به عباده في كتابه ، و على لسان نبيّه القائل : ( ما يصيب المسلم من هم و لا غم و لا نصب و لا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ) رواه الشيخان عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، و قد تقدم شرحه .
كما تقدم معنا أن الابتلاء عام في نزوله على بني البشر ، و هو من سنن الله الكونية التي لا مفر منها ، و لا قبل لأحد نحوها إلا بالرضا و الصبر و التسليم ، الذي أُمرنا به و نُدبنا إليه ، كما في قول ربنا تعالى : ( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ ) [ آل عمران : 186 ] .
و إذا كان ( مثل المؤمن تصيبه الوعكة من البلاء كمثل الحديدة تدخل النار فيذهب خبثها ويبقى طيبها ) ؛ فلن تكون عاقبة الجلد الصبور إلا إلى خير الأمور .
قد روى ابن ماجة و الحاكم و الترمذي ( بإسناد قال عنه : حسن غريب ) عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي أنه قال : ( أن عِظَم الجزاء مع عظم البلاء ، و إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، و من سخط فله السخط ) .
و روى النسائي و ابن ماجة و ابن حبان و الحاكم و الترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( ما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض و ما عليه من خطيئة ) ، قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .
و ما أبلغ ما قال الرافعي : ( ما أشبه النكبة بالبيضة ، تُحسب سجناً لما فيها و هي تحوطه ، و تربيه و تعينه على تمامه ، و ليس عليه إلا الصبر إلى مدة ، و الرضا إلى غاية ، ثم تفقس البيضة ، فيخرج خلقاً آخر ، فتبارك الله أحسن الخالقين ، و ما المؤمن في دنياه إلا كالفرخ في بيضته ) .
فطوبى للصابرين ، و العاقبة للمتقين .

المحور الخامس : خاتمة في موقف المسلم من الابتلاء :
يختلف المؤمن في موقفه من المقدور عن سائر البريّات ، فهو يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه ، و ما أخطأه لم يكن ليصيبة ، و هذا ما يحدوه لتسليم أمره ، و زمام قياده إلى ربّه الرؤوف الرحيم ، الذي وعد المؤمنين و المؤمنات بالتثبيت عند الشدائد و الملمّات .
{ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ فِي الآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } [ إبراهيم : 27 ] .
و المؤمن باحتسابه الأجر فيما يلحقه من لأواء ، موعود بجزيل الأجر ، و عظم الجزاء ، و لذلك يتلقاه بتثبيت الله تعالى له ، راضياً مطمئناً ، و إن لم يكن يتمناه .
يقول مسروق الوادعي رحمه الله ( إن أهل البلاء في الدنيا إذا لبثوا على بلائهم في الآخرة إن أحدهم ليتمنى أن جلده كان قرض بالمقاريض ( [ من كتاب المحن ، لأبي العرب التميمي ، ص : 283 ] .
و في مقابل المؤمن الثابت كالطود الشامخ أمام نوائب الدهر ، صنف آخر من البشر لا يلوح له البلاء إلا و تنهار قواه ، و يهتز كيانه ، و لا يلبث أن يسقط في ما يعترض سبيله من فتن ، و هذا شأن المنافقين ، و من قالوا آمنّا بألسنتهم و لم يدخل الإيمان في قلوبهم .
فهم كخُشبٍ مسنّدةٍ ، لا حياة فيها و لا إيمان يقويها .

ليس من مات فاستراح بِمَيْتٍ *** إنما المَيْتُ ميِّتُ الأحياء!
إنما المَيْتُ من يعيش كئيبـاً *** كاسِفاً بالَهُ قليلَ الرجـاء !

وكأن هؤلاء لم يستمعوا إلى قوله تعالى : { وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } [ العنكبوت : 10 ] .
قال الشيخ العلامة محمد الأمين بن المختار الشنقيطي رحمه الله مفسراً هذه الآية الكريمة : ( يعني أن من الناس من يقول : آمنا بلسانه فإذا أوذي في الله أي آذاه الكفار إيذائهم للمسلمين جعل فتنة الناس صارفة له عن الدين إلى الردة ، و العياذ بالله ، كعذاب الله فإنَّه صارف رادع عن الكفر و المعاصي ، و معنى فتنةَ الناس ، الأذى الذي يصيبه من الكفار ، و إيذاء الكفار للمؤمنين من أنواع الابتلاء الذي هو الفتنة ) [ أضواء البيان : 6/462 ] .

و لعلّ من المناسب في ختام هذا الكلمات التذكير بقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله ( ما أغبط أحداً لم يصبه في هذا الأمر بلاء ) [ من كتاب المحن ، لأبي العرب التميمي ، ص : 283 ] .
و آخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
و صلى الله و سلّم و بارك على نبيّه محمّد و آله و صحبه أجمعين

د . أحمد عبد الكريم نجيب
Dr.Ahmad-A-Najeeb
alhaisam@msn.com
http://www.saaid.net/Doat/Najeeb