بسم الله الرحمن الرحيم

النصيحة الشرعيّة للمسلمين و ممثليهم في الديار الغربيّة بشأن التحاكم إلى المحاكم الوضعيّة

 
الحمد لله و كفى و صلاةً و سلاماً على عباده الذين اصطفى ، و بعد :
فطالما سُئِلتُ عن حُكم الشرع في الاحتكام إلى القضاء الايرلندي ؛ للفصل في نزاع طويل حول الحقِّ في إدارة المركز الثقافي الإسلامي بدَبلن ( ICCI ) بين كبرى الهيئات الممثلة للمسلمين في إيرلندا و أقدَمِها ، و هي الجمعيّة الإسلاميّة الايرلندية ( IFI ) ، و بين مؤسسة خيريّةٍ خاصّة أسسها المتبرّع بتكاليف تأسيسِ و تشغيلِ ذلك المركز ، و نَقَلَ إليها حقَّ إدارته ، متراجعاً بذلك عن منح هذا الحق لمدّة خمسٍ و ثلاثين عاماً من تاريخ افتتاح المركز عام 1407 للهجرة إلى الجمعيّة الإسلاميّة الايرلندية الحاصلة على صكٍّ مسجّلٍ لدى السلطات المحليَّة ينصُّ على حقّها في موضوع النزاع للمدّة المذكورة على سبيل الإيجار ( و قد نُصَّ في العقد على الإيجار لعدم إقرار القانون الإيرلندي لعقود الوقف ) مع اتّفاق الطرفين على أنَّ العقدَ عقدُ وقفٍ و ليس عقدَ إيجار ، و إن سُمّيَ كذلك اضطراراً .
و قد تفاقم الخلاف بين الجهتين خلال السنوات الأخيرة ، ممّا دفعَ بالجمعيّة الإسلاميّة الايرلندية ( IFI ) إلى رَفع الأمر إلى القضاء الوضعي سعياً لاسترداد ما يراه القائمون عليها حقّاً لها ، و انقسمت بذلك الجالية – على قلّة عدد أبنائها – إلى مُقرٍٍٍ لهذا الإجراء ، و مُعارضٍ له ، و غيرِ مبالٍ به و لا بما يترتّب عليه .
و أمام كثرة الإلحاح ، و قلّة الساعين إلى الإصلاح ، و فشل جهودهم في هذا السبيل ، رأيتُ أن أضع بين أيدي أبناء الجالية و القائمين على أمرها على اختلاف نزعاتهم و مشاربهم رؤيةً شرعيّةً لمسألة التحاكم إلى غير ما أنزل الله في هذه الحالة و نظائرها ممّا يكثر وقوعه في بلاد الغرب ، و أُقدّمَهما لمن يعنيه الأمر أداءً للأمانة ، و نُصحاً للأمّة ، و إبراءً للذمّة ،
فقلتُ مستعيناً بالله تعالى :
لا يخفى على متدبّرٍ لنصوص الكتاب و السنّة ، و أقوال أهل العلم من السلف الصالح رضوان الله عليهم ، فمَن بعدهم من أهل العلم و الفضل أنّ الاحتكام إلى الشريعة فيما شجر بين المسلمين من نزاعٍ و خصومات ، و ما طرأ عليهم أو عَرَض لهم من المسائل و النوازل ؛ واجبٌ متعيّن ، لقوله تعالى : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تأويلاً ) [ النساء : 59 ] .
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله : ( يزولُ الإيمان بمجرَّد الإعراض عن حكم الرَّسول و إرادة التَّحاكم إلى غيرِه ) [ الصارم المسلول ، ص : 43 ] .
و قال شمس الدين ابن القيّم رحمه الله : ( أمرنا الله برد ما تنازعنا فيه إليه و إلى رسوله صلى الله عليه و سلم ، فلم يُبَح لنا قط أن نرد ذلك إلى رأي و لا قياس و لا رحمة إمام و لا منام و لا كشوف و لا إلهام و لا حديث قلب و لا استحسان و لا معقول و لا شريعة الديوان و لا سياسة الملوك و لا عوائد الناس التي ليس على شرائع المسلمين أضر منها فكل هذه طواغيت من تحاكم إليها أو دعا منازعه إلى التحاكم إليها فقد حاكم إلى الطاغوت ) [ أعلام الموقعين 1 / 244 ] .
و قال رحمه الله أيضاً : ( إن الناس أجمعوا أن الرد إلى الله سبحانه و تعالى هو الرد إلى كتابه ، و الرد إلى الرسول صلى الله عليه و سلم هو الرد إليه نفسه في حياته و إلى سنته بعد وفاته ... و جعل هذا الرد من موجبات الإيمان و لوازمه فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه و لا سيما التلازم بين هذين الأمرين فإنه من الطرفين و كل منهما ينتفي بانتفاء الآخر ثم ) [ أعلام الموقعين 1 / 49 و 50 ] .
و قال مفتي الديار السعوديّة السابق الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في رسالته الشهيرة ( تحكيم القوانين ) : ( إن من الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين علي قلب محمد صلى الله عليه و سلم ليكون من المنذرين ، بلسان عربي مبين ، في الحكم به بين العالمين ، و الرد إليه عند تنازع المتنازعين ، مناقضة و معاندة لقول الله عز وجل : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تأويلاً ) [ النساء : 59 ] . اهـ .
و واجب الرد و الاحتكام إلى ما أنزل الله تعالى لا يُعدَلُ به غيره ، و لا يعدِلُ عنه إلى سواه ، مع الاستطاعة و الاختيار إلا كافرٌ كفراً أكبَرَ مخرجاً من الملّة ، لقوله تعالى : ( فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) [ النساء : 65 ] .
و من دُعيَ إلى التحاكم الشرعيِّ وجبَ عليه أن ينصاع امتثالاً ، لقوله تعالى : ( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَ أَطَعْنَا وَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [ النور : 51 ] .
و لا يجوز له الإعراض عن حُكم الله بحالٍ ، لقوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا  وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ) [ النساء : 60 و 61 ] .
قال الحافظ ابن كثير في تفسير هاتين الآيتين : (هذا إنكار من الله عز و جل على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله و على الأنبياء الأقدمين و هو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله و سنة رسوله ... و الآية ... ذامة لمن عدلوا عن الكتاب و السنة و تحاكموا إلى ما سواهما من الباطل و هو المراد بالطاغوت هنا ) .
و قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره : ( كل من لم يرض بحكم الحاكم – أي بما أنزل الله - و طعن فيه و رده فهي ردة يستتاب ) [ الجامع لأحكام القرآن : 5 / 267 ] .
و قال الإمام النووي رحمه الله في قوله تعالى : ( يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ) ؛ يكفرون به .اهـ . [ شرح صحيح مسلم : 11 / 108 ] .
و قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله معلّقاً على هذه الآية الكريمة : ( فذم الذين أوتوا قسطاً من الكتاب لما آمنوا بما خرج عن الرسالة و فضلوا الخارجين عن الرسالة على المؤمنين بها ... كما ذم المدعين الإيمان بالكتب كلها و هم يتركون التحاكم إلى الكتاب و السنة و يتحاكمون إلى بعض الطواغيت المعظمة من دون الله كما يصيب ذلك كثيراً ممن يدعي الإسلام و ينتحله في تحاكمهم إلى مقالات الصابئة الفلاسفة أو غيرهم أو إلى سياسة بعض الملوك الخارجين عن شريعة الإسلام من ملوك الترك و غيرهم و إذا قيل لهم : تعالوا إلى كتاب الله و سنة رسوله أعرضوا عن ذلك إعراضاً ) .
و قال الإمام ابن القيّم رحمه الله : ( أخبر سبحانه أن من تحاكم أو حاكم ما جاء به الرسول فقد حكَّم الطاغوت و تحاكم إليه ، و الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع ، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إلى غير الله و رسوله ، أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله ، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله فهذه طواغيت العالم إذا تأملتَها و تأملتَ أحوال الناس معها رأيتَ أكثرهم عدلوا عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت و عن التحاكم إلى الله و إلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت ، و عن طاعته و متابعة رسوله إلى الطاغوت و متابعته ، و هؤلاء لم يسلكوا طريق الناجين الفائزين من هذه الأمة ؛ و هم الصحابة و من تبعهم و لا قصدوا قصدهم بل خالفوهم في الطريق و القصد معاً ) [ أعلام الموقعين 1 / 50 ] .
و قال الشيخ حمد بن عتيق النجدي رحمه الله في معرض كلامه عن التحاكم إلى الطاغوت ، و تقرير كُفر فاعله و التشنيع عليه : ( إذا كان هذا كُفراً ، و النزاعُ إنّما يكون لأجل الدنيا ، فكيف يجوز أن تَكفُرَ لأجل ذلك ؟! ) ، إلى أن قال : ( لو ذَهَبَت دنياك كلُّها لما جاز لك المحاكمة إلى الطاغوت لأجلها ، و لو اضطرَّك أحدٌ و خيَّرك بين أن تُحاكِمَ إلى الطاغوت أو تبذُلَ دنياك لوجب عليك البذل ، و لم يجُز لك التحاكم ) [ الدرر السنيّة في الأجوبة النجديّة : 8 / 273 ] .
و ذكر العلامة أحمد محمد شاكر رحمه الله بعض ما آلت إليه أحوال المسلمين في العصر الحاضر ، و من ذلك إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه و على لسان رسوله محمد ، ثمّ عقَّبَ بقوله : ( فهذا الفعل إعراض عن حكم الله سبحانه وتعالى وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه ) .
و قال الشيخ المبارَك محمد الأمين بن المختار الشنقيطي رحمه الله : ( و لما كان التشريع ، و جميع الأحكام ؛ شرعيةً كانت أو كونية قدرية ، من خصائص الربوبية ... كان كل من اتبع تشريعاً غير تشريع الله قد اتخذ ذلك المشرِّعَ رباً ، و أشركه مع الله ) [ أضواء البيان : 7 / 162 ] .
و قال أيضاً في تفسير قوله تعالى : ( و لا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ) : أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم ، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته ، وأعماه عن نور الوحي مثلهم ) .
و إذا تقرَّرَ بُطلان التحاكم إلى المحاكم الوضعيّة الصادّة عن سبيل الله في ديار الإسلام أو خارجها ، ترتّب على ذلك بُطلان الأحكام الصادرة عنها ، و عدم صلاحيَّتِها للإلزام ، و كانت كعدمها لا تُحلُّ حراماً ، و لا تحرِّم حلالاً ، و لا تنقل ملكاً ، و لا تُبطِلُ حقاً أو تقرُّه ، بل يجب على من صدر الحكم بحقّه أن يرُدّه ، و يردّ الخلاف إلى الشرع للفصل فيه .
‏روى الشيخان و غيرهما عَنْ أمّ المؤمنين عَائِشَةَ بنتِ الصدِّيق رضي الله عنهما ، قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم : «‏ مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ »‏ ، و في روايةٍ عند مسلمٍ و غيره : « من عمِلَ عملاً ليس عليه أمرنا » .
و قوله «‏ فَهُوَ رَدٌّ » أي : مردود ، و هو باطل غير معتد به , و يحتج بهذا الحديث في إبطال جميع العقود المنهية و عدم وجود ثمراتها المرتبة عليها و أن حكم الحاكم لا يغير ما في باطن الأمر ، كما قرّر ذلك الحافظ في ( الفتح ) .
و قد ثبت النكير و اشتدّ الوعيد لمن أخذ مالا حقَّ له فيه ، و إن حكم له به - لقوّته في الخصومة ، و كونه ألحَنَ من خصمه في الحجّة - خيرُ الخلق صلّى الله عليه و سلّم ، فكيفَ لو حكم له به مبدّلٌ أو مشرّع من دون الله ، أو حاكمٌ بما لم يأذن به الله أصلاً ؟!
روى أصحاب الكتب الستّة و مالك و أحمد عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم قَالَ : «‏ إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِليَّ ،‏ وَ لَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ،‏ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئاً بِقَوْلِهِ ،‏ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلاَ يَأْخُذْهَا »‏ .
و إذا كان هذا الوعيد الشديد لمن تذرّع بخطأ الحاكم بشرع الله في الحُكم ؛ ليقتطع به شيئاً من حقّ غيره ، فما ظنّكَ بمن يتذرّع إلى ذلك بقرار محكمةٍ لا تقيم لشرع الله وزناً ، و لا تعدو أن تكون دارَ ضرار يضاهِؤُ قضاتُها بالقوانين الوضعيّة ما جاء في كتاب الله و سنّة رسوله ؟!
قال العلاّمة صدِّيق حسن خان : ( من حُكمَ عليه بغير الشريعة المحمّديّة إن كان يلزم عليه تحليل حرامٍ أو تحريم حلالٍ شرعاً ؛ فلا يجوز له قبوله و لا امتثاله ، و عليه ردّ ذلك و كراهته إلاّ أن يُكرَه عليه بما يسمّى إكراهاً شرعاً ) [ العبرة فيما ورد في الغزو و الشهادة و الهجرة ، ص : 252 ] .
قلتُ : فإن لم يكن في البَلَد من يحكُمُ بشَرعِ الله ، وجَبَ على المتخاصمين بذلُ وسعهم في الوصول إلى من يحكم به ، أو دعوته إلى الفصل بينهم بما أراهُ الله ، و هذا الواجب ينبغي أن تقوم به المؤسسات و الجمعيّات الإسلاميّة و من في حُكمها في هذا الشأن ، لأنّهم رعاةٌ مسؤولون عن رعاياهم و إن قلُّوا .
روى الشيخان و أبو داود و الترمذي و أحمد عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم يَقُولُ : «‏ كُلُّكُمْ رَاعٍ ،‏ وَ كُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ »‏ الحديث .‏
فإن قصَّر من لا عُذر له في إيجاد البديل الشرعي للمحاكم الوضعيّة الوضيعة ، في ديار الحرب أو غيرها ( كما هو الواقع في الحالة المسؤول عنها ) ، فليربأ المسلم الغيور على دينه و عقيدته من السعي إلى تلك المحاكم بمحض إرادته ، و إن ألجئ إليها على سبيل الاضطرار لا الاختيار و حُكِمَ عليه بخلاف شريعة الله المطهّرة فليتبرّأ من الحُكم و الحاكم به و المتسبب في تعريضه له على سواء ، و ليَنجُ بنفسه و ليصُن إيمانه .
أما إذا ( حُكِمَ عليه بما يوافق الشريعة المحمّديّة قبِلَ ضرورةً ، و ليسَ له أن يمتهِن نفسه بتعريضها لأحكامهم و هو يقدر على الهجرة ، و إلاّ كان في ذلك إذلالاً للدين و استخفافاً بالإسلام و المسلمين ، و الله تعالى يقول : " وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً " الآية من سورة النساء ) [ تضمينٌ من كتاب : العبرة فيما ورد في الغزو و الشهادة و الهجرة ، للعلاّمة صدِّيق حسن خان ، ص : 252 ] .
و بناءً على ما تقدّم فإني أوصي إخواني طَرَفي النزاع في هذه القضيّة بإيقافها فوراً ، و الاحتكام إلى أهل العلم الشرعي ، و هم كُثُرٌ و الحمد لله ، و ليحتسبوا عند الله تعالى أجر ما قد يكلّفهم السعي إلى أهل العلم من مشاقَّ و تكاليف ، و ما دام ذلك في سبيل الله فحاشاه تعالى أن يُضيعَ أجرهم ، أو أن يَتِرَهم أعمالهم .
و إذا حكَم أهل الشرعِ لأحد المتنازعين في المسألة بحقٍّ وَجب تمكينُه منه ، فإن حيلَ بينه و بين حقّه بعد الحكم الشرعيِّ الصادر لصالحه ، و لم يجِد سبيلاً لوضع يده عليه إلاّ بقانون البلد الذي يقيم فيه ، فأَخَذَ حقّه أو طلبه عن طريق ذلك القانون ؛ جاز له ذلك ، و لم يكُن بالإقدام عليه متحاكماً إلى الطاغوت في هذه الحال ، لأنّ قضاة الشرع قد قضوا له مسبقاً ، و ما جدَّ من أمره إلاّ السعي لإنفاذ حُكم الشريعة و حسب .
و ليسَ فيما اطّلعتُ عليه من سير القضيّة المشار إليها آنفاً و حيثيّاتها حكمٌ قضائيٌّ شرعيٌّ معتبرٌ لأيٍّ من الطرفين يسوّغ له الاستعانة في تطبيقه بالسلطات المحلّيّة ، القائمة على القوانين الوضعيّة .
قلتُ : و إن أبى الطرفان أو أحدهما إلاّّّ التحاكم إلى الطاغوت بعدَ بلوغهم النصيحة و قيام الحجّة عليهم بها ، فقد آذَنوا بفسادٍ عظيمٍ يبوئون بإثمه في الحياة و بعد الممات ، و من ورائه إثمُ من ائتمَّ بهم أو جاراهم في هذا العمل مطمئنّةً نفسُه إليه بسبب صدوره أو صدور مثله عن مؤسسة تمثّل الجالية المسلمة في ديار الغرب إلى أن يرِثَ الله الأرضَ و من عليها .
و رُبَّما سوَّغت خطواتهم التي يخطونها نحوَ القضاء الوضعي الوضيع ، لمن يتربَّصُ بهم أن يخطو نحو إشاعة الفتنة و الإيقاع بين أبناء الجالية متذرّعاً بالتصدي لمسعاهم الفاسد هذا ، و لمن يريد الصلاحَ و الإصلاح أن يطعنَ في شرعيّة تمثيلهم للجالية ، و يسعى لإنكار المنكر ، و تغييره باليد أو اللسان أو القلب ، و في هذا و ذاك ما لا تحمد عُقباه ، و لا يؤمن وقوع الناس في أذاه .
إنَّها - و الله - فتنّة ، إن لم نحذَر و نحاذر من الوقوع فيها ابتداءً ، فمن لنا بالنجاة منها بعدَ أن تحلّ بساحتنا ؟
و إنّه و الله لامتحان عظيم لا يُوَفَّق فيه إلا من قدّم الهُدى على الهوى ، كما هو الحال عند وقوع الفتن .
قال رجل لسعيد بن المسيب رحمه الله تعالى : يا سعيد في الفتنة يتبين لك من يعبد الله ممن يعبد الطاغوت [ الابانة الكبرى ، لابن بطة : 2/ 769 ].
فمن الضلال الحذَرَ الحذَرَ ، و إلى التدارك قبل التهالك البِدارَ البدار ، و السعيد من قدّم التوبة ، و بادر بالرجوع و الأوبة ، و هذا ظنّنا بإخواننا ، إذ نحسبهم على خير ، و نرجو لهم الخير ، و نسعى معهم للخير ، و الله على ما نقول شهيد .
و الحمد لله ربّ العالمين ، و الصلاة و السلام على خاتم النبيّين و المرسلين ، و آله و صحبه أجمعين .

و كتب
أحمد بن عبد الكريم نجيب
( الملقّب بالشريف )
دَبْلِن ( إيرلندا ) في الثاني و العشرين من ربيع الأوّل عام 1423 للهجرة
الموافق للرابع من يونيو ( حزيران ) عام 2002 للميلاد
http://www.saaid.net/Doat/Najeeb

alhaisam@msn.com