بسم الله الرحمن الرحيم

قضاء الأوقات بين المباحات و الطاعات

 
السؤال :
أنا امرأة ملتزمه و لا أزكي نفسي ، و ليَ صديقةٌ أقضي معها كلّ يومٍ ساعةً أو ساعتين في الحديث عبر الانترنت ، ثمّ أشعر بالندم على ضياع الوقت في الحديث معها بدون فائدةٍ ، و أتوب إلى الله تعالى ، و أعاهده على عدم العودة ثانيةً إلى المسنجر ، و لكنّ نفسي تضعُف ، فأجد نفسي أعود ثانيةً إلى ما كنت عليه من تضييع للأوقات فيما لا يفيد ، و كلّما تُبتُ عدتُ من جديد ، فبماذا تنصحونني مأجورين ؟
الجواب :
إجابةً على هذا السؤال تحسن الإشارة إلى مسألتين :
المسألة الأولى : ما دام المرء يزن سلوكه و أفعاله بميزان الشرع فهو على خير إن شاء الله ، و إن بدر منه تقصير في بعض الأحيان ، و ذلك مقتضى قوله تعالى : ( وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) [ القيامة : 2 ] .
و النفس اللوّامة هي الَّتِي تَلُوم صَاحِبهَا عَلَى الْخَيْر وَالشَّرّ وَتَنْدَم عَلَى مَا فَاتَ ، كما قرّره الحافظ ابن كثيرٍ في تفسيره .
قلتُ : و الموفّق من عباد الله من أتبع سيئاته ما يمحوها من الحسنات ، لأنّ ( الحسنات يُذهبنَ السيئات ) [ هود : 114 ] ، كما أخبر بذلك تعالى في كتابه العزيز ، و لقول النبيّ صلّى الله عليه و سلّم لأَبِى ذَرٍّ فيما رواه أحمد و الترمذي بإسنادٍ قال عنه : ( حسنٌ صحيح ) : «‏ اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَ أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَ خَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ »‏ .
المسألة الثانية : إنّه لا بدّ للمرء من ساعات يقضيها في المباح ، و منه زيارة الأرحام و الأصدقاء ، أو الاتصال بهم عبر الهاتف أو الانترنت ، أو مراسلتهم أو نحو ذلك ، و هذا الأمر مشروعٌ ما لم يتجاوز حدود المعروف و المألوف ، أو تتخلّله منكرات لفظيّة أو فعليّة .
و قد جُبِلت النفس البشريّة على حبّ الاستمتاع بالمباح ، و ليس ذلك محظوراً عليها ، بل قد يكون سبباً في الثواب إذا صلحت نيّة صاحبه .
روى الترمذي بإسنادٍ قال عنه : ( حسن صحيح ) عَنْ ‏ ‏حَنْظَلَةَ الاسَيدِيِّ ‏ رضي الله عنه ‏أَنَّهُ مَرَّ ‏ ‏بِأَبِي بَكْرٍ ‏ ‏وَ هُوَ يَبْكِي ، فَقَالَ : مَا لَكَ يَا ‏ ‏حَنْظَلَةُ ‏ ؟ ‏قَالَ : نَافَقَ ‏ ‏حَنْظَلَةُ ‏ ‏يَا ‏ ‏أَبَا بَكْرٍ ‏ ؛ ‏نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ ‏ ‏يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَ الْجَنَّةِ كَأَنَّا رَأْيَ عَيْنٍ ، فَإِذَا رَجَعْنَا إِلَى الازْوَاجِ ‏ ‏وَ الضَّيْعَةِ ‏ ‏نَسِينَا كَثِيرًا . قَالَ : فَوَاللَّهِ إِنَّا لَكَذَلِكَ ، انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ ، ‏فَانْطَلَقْنَا ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏قَالَ : ( مَا لَكَ يَا ‏ ‏حَنْظَلَةُ ؟‏) ‏قَالَ : نَافَقَ ‏ ‏حَنْظَلَةُ ‏ ‏يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَ الْجَنَّةِ كَأَنَّا رَأْيَ عَيْنٍ فَإِذَا رَجَعْنَا ‏عَافَسْنَا ‏ ‏الأزْوَاجَ ‏ ‏وَ الضَّيْعَةَ ‏ ‏وَ نَسِينَا كَثِيرًا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ ‏: ( ‏لَوْ تَدُومُونَ عَلَى الْحَالِ الَّذِي تَقُومُونَ بِهَا مِنْ عِنْدِي لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلائِكَةُ فِي مَجَالِسِكُمْ وَ فِي طُرُقِكُمْ وَ عَلَى فُرُشِكُمْ وَ لَكِنْ يَا ‏ ‏حَنْظَلَةُ ‏ سَاعَةً وَ سَاعَةً ، سَاعَةً وَ سَاعَةً ) .
فهذا حال المؤمن ساعةً يقوى فيها إيمانه ، و ساعةً يضعُف ، و لكنّه في كلتَي الساعتين بين المأمور و المشروع ، بين الطاعات و المباحات ، و ليس كما يفهمه بعض الجَهلَة القائلين : ساعة لقلبك و ساعة لربّك ، فيجعلون العمر ساعتين ساعة في المشروع و ساعة في الممنوع ، و ذلك هو الخذلان و الضلال المبين ، و العياذ بالله ربّ العالمين .
فلتحرص الأخت السائلة على الإفادة من وقتها في ما يُصلح دينها و دنياها ، و عليها بالتسديد و المقاربة ، و لا بأس من قضاء بعض الأوقات في الأعمال المباحة كالتي ذكرتها في السؤال ، ما لم يكن ذلك على حساب دينها و واجباتها ، و الله الهادي إلى سواء السبيل .

كتبه
د . أحمد عبد الكريم نجيب
Dr.Ahmad Najeeb
alhaisam@msn.com