بسم الله الرحمن الرحيم

حكم استفتاء المتساهل و تصدره للفُتيا

 
السؤال :
أنا أحد أفراد الجاليةِ المسلمة المقيمة في إيرلندا منذ بِضعِ سنوات ، و بحكم إقامتنا في الغَرب تَعرِض لنا بعض الإشكالات الشرعيّة ، و نحتاج إلى معرِفة حُكم الشرع فيها ، و لكن ليس لدينا من نستفتيه من أهل العلم سوى إمامَي المسجدين الموجودَين في دَبلن ، و لا ثالث لهما ، عِلماً بأنّ أحدَهما مهندس زراعي في الأصل ، و ليس من العلماء بالشريعة و لا أهل الاختصاص ، و هو يُقرّ بذلك ، و لكنّه من حملة القرآن الكريم ، و له مطالعات في العلوم الشرعيّة ، و الآخر أزهري معروف بتبنّيه منهج التيسير في الفتوى على نحو لم نعُد نطمئن معه إلى أنّ ما يُفتينا به هو الحكم الشرعي الفصل فيما يُعرَض عليه .
فما هي نصيحتكم لنا في هذه الحال ، هل نأخُذ ديننا عن هؤلاء ، أم نرجع إلى الكتب القديمة رُغمَ ندرتها و عدم قُدرتنا على الاستنباط منها مباشرةً ، أم نلجأ إلى مفتين في بلاد أخرى إذا احتجنا لفتوى في أمور معيشتنا اليوميّة ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
من حيث المبدأ لا أحبّذ وجود مرجعيّة وحيدة للفتوى في أيّ زمان أو مكان ، لأنّ حصر الإفتاء في فردٍ أو فئة معيّنة ( سواءً كانت مجلساً أو مجمعاً أو لجنةً أو غير ذلك ) ذريعةٌ إلى إغلاق باب الاجتهاد الفسيح في الفقه الإسلامي ، و قد تعيدنا إلى عصر الجمود الذي قيّد الأمّة لقرون عديدة من الزَمَن .
و لا يعني هذا أننا نؤيّد فتح باب الاجتهاد على مصراعيه أمام من هبّ و دبّ ، من حاز ملكته و استوفى شروطه ، و من لم يتأهّل له من حُدثاء الأسنان ، و صغار طلبة العلم ، و قليلي الخبرة ، ممّن حالُهم يُبكي المتأخّرين كما أبكى المتقدّمين .
روى ابن عبد البرّ عن الإمام مالك أنّه دَخل على شيخه ربيعة الرأي فوجده يبكي فقال له : ما يبكيك ، أمصيبة نزلت بك ؟ قال : لا ، و لكن استُفتي من لا علم له ، و وقع في الإسلام أمر عظيم ، و لَبعض من يُفتي هاهنا أحق بالسجن من السُرَّاق ) [ أدب المفتي و المستفتي ، للنووي ، ص : 85 ] .
و الناس في باب الاجتهاد طرَفان و وسط ، و خير الأمور أواسطها ، و من التوسّط أن يتبوّأ كلٌّ مكانه ، فللاجتهاد أهله من العلماء الراسخين ، و للتقليد أهلوه الذين لا يَسعُهم غيرُه ، و لا يَصدُرون إلاّ عنه .
و ما ذَكره السائل من أنّ أحد الإمامَين في بلد إقامته غير مختصٍّ في العلوم الشرعيّة ليس حجّة في الانصراف عن سؤاله عمّا يعلمه بدليله ، و لا يُبرّر ردّ كلّ ما عنده ، لأنّ العلم ليس بالشهادات و لا الدَرَجات الأكاديميّة المعروفة في هذا العصر ، و إنّما هو بالطَلب و الحِرص و التحصيل ، فمن أخذه فقد أخَذ بحظّ وافر .
بل يتعيّن على المُستَفتَى أن يُفتي باجتهاده فيما عَرَف فيه الحقّ بدليله ، و لو كان ذلك في مسائل أو حالات معدودة .
قال شمس الدين ابن القيّم رحمه الله : ( الاجتهاد حالة تقبل التجزؤ والانقسام فيكون الرجل مجتهدا في نوع من العلم مقلدا في غيره أوفي باب من أبوابه كمن استفرغ وسعه في نوع العلم بالفرائض وأدلتها واستنباطها من الكتاب والسنة دون غيرها من العلوم أوفي باب الجهاد أو الحج أو غير ذلك فهذا ليس له الفتوى فيما لم يجتهد فيه و لا تكون معرفته بما اجتهد فيه مسوغة له للإفتاء بما لا يعلم في غيره .
... فإن قيل : ما تقولون فيمن بذل جهده في معرفة مسألة أو مسألتين هل له أن يفتي بهما ؟ قيل نعم يجوز في أصح القولين وهما وجهان لأصحاب الإمام أحمد ، و هل هذا إلا من التبليغ عن الله و عن رسوله ؟ و جزى الله من أعان الإسلام و لو بشطر كلمة خيراً ، و منعُ هذا من الإفتاء بما عَلِمَ خطأ محض ) [ إعلام الموقعين : 4 / 216 و 217 ] .
و إذا فُرِضَ جَدَلاً صحّة ما ذَكره السائل من عَدَم وُجود مفتٍ مؤَهّل موثوقٍ في دينه و منهجه يُرجَعُ إليه في بَلدٍ ما وجبَ على أهل ذلك البلد أن ينتدبوا منهم من يطلُب العلم ، و ذلك في حقّهم واجبٌ على الكفاية ؛ إن قام به من يكفي فبها و نِعمَت ، و إلا لَحِقَهُم الإثم جميعاً ، قال تعالى : ( فَلَولا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) [ التوبة : 122 ] .
و إلى أن يقوم بينَ ظهرانيهم من تقوم به الحجّة ، و تتضح بفتاواه معالمُ المَحَجَّة يَجب عليهم ردُّ ما وقع فيه الخلاف بينهم إلى من عُرِف بذلك من أهل العلم و لو كان مُقيماً في ديارٍ غير ديارهم .
و ينبغي لمن يُتَّخذُ مفتِياً أن يكون معروفاً إلى جانبِ علمِه بتزكيةِ العلماء له ، و ثنائهم عليه ، و شهادَتهم بكفاءته .
قال الإمام مالك رحمه الله : ما أفتيت حتى شهِدَ لي سبعون أني أهلٌ لذلك ) ، و في روايةٍ : ( ما أفتيتُ حتى سألتُ من هو أعلم مني : هل يراني موضعاً لذلك ؟ ) ، و قال أيضاً : ( لا ينبغي لرجُلٍ أن يرى نفسَه أهلا لشيءٍ ، حتى يَسألَ من هو أعلم منه ) [ آداب الفتوى للنووي ص : 18 ] .
أمّا اتّخاذ التيسير منهجاً في الفتوى ، على النحو الذي نراه اليَوم من بعض المشائخ ، فهو ممّا عمّت به البلوى ، و ابتلي به كثير من المسلمين ، و بخاصةٍ أولئك الذين اجتمعت عليهم غربةُ الزمان و المكان في الغرب ، و في النفس من هذا المنهج أشياءٌ و أشياءٌ .
و هاهُنا جُملة مسائل ذات صلةٍ بموضوع التساهل و التيسير في الفُتيا أرى لزاماً عليّ بيانُها في هذا المقام ، إذ إنّ تأخير البيان عن وقتِ الحاجة لا يجوز شرعاً ، و لا يسوغ عقلاً ، و من أراد الاستزادة أحَلنَاهُ إلى كُتُب الأقدمين ، و إن أرادَ خُلاصتها فعليه برسالتنا المسمّاة ( الفتاوى المُعاصرة .. بين التيسير و المسايرة ) ففيها مزيد بيان للمسائل التالية و غيرها :
المسألة الأولى :
الإفتاء منصب خطير ، و لذلك كان أورَعُ الناس أزهدَهم فيه ، و إذا كان الأجرؤ على الفتوى الأجرأَ على النار ، فلا غَروَ في أن يعزُفَ عنها خيار السلفِ و الخَلَف ، ما لم تصير عليهم مُتعيّنةً ، خشيةً أن يشملهم عموم قول الله عز و جلَّ : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَ حَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ) [ يونس : 59 ] .
قال أبو القاسم الزمخشري رحمه الله : ( كفى بهذه الآية زاجرة زجراً بليغاً عن التجوُّز فيما يُسأل عنه من الأحكام ، و باعثةً على وجوب الاحتياط فيه ، و أن لا يقول أحد في شيءٍ جائزٍ أو غيرَ جائزٍ ؛ إلا بعد إيقانٍ و إتقانٍ ، و من لم يوقِن فليتَّق الله ، و ليصمِت ، و إلا فهو مفترٍ على الله ) [ الكشّاف : 2 / 242 ].
و أخرج الدار مي في مقدّمة سننه عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى جَعْفَرٍ مرسلاً أنّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : «‏ أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْفُتْيَا أَجْرَأُكُمْ عَلَى النَّارِ »‏ .
و قال الإمام النووي رحمه الله : اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر كبير المَوقِع ، كثيرُ الفضلِ ؛ لأن المفتي وارثُ الأنبياءِ صلوات الله و سلامه عليهم و قائم بفرض الكفاية لكنه معرض للخطأ .
و لهذا قالوا : المفتي مُوقِّعٌ عن الله تعالى ، و رُوِّينا عن ابنِ المُنكدِر قال : العالمُ بينَ اللهِ تعالى و خَلْقِهِ ، فلينظُر كيف يدخُل بينَهم ، و رُوِّينا عن السلف و فضلاء الخَلَف مِنَ التوقُّف عن الفُتيا أشياء كثيرة معروفة نذكر منها أحرُفا تبركاً و رُوّينا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال أدركت مائةً و عشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يُسأل أحدهم عن المسألة ؛ فيردها هذا إلى هذا و هذا إلى هذا حتى ترجِعَ إلى الأول ، و في روايةٍ : ما مِنهُم من يُحدِّث بحديث إلا وَدَّ أن أخاهُ كفاهُ إيَّاهُ ، و لا يُستفتَى عن شيءٍ إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفُتيا ، و عن ابن مسعود و ابن عباس رضي الله عنهم : من أَفْتَى في كُلِّ ما يُسأل فهو مجنون ، و عن الشَّعبي ، و الحَسَن ، و أبي حُصَين التابعِيَّيْن قالوا : إنَّ أحدكم ليُفتي في المسألة ، و لَو وَرَدَت على عُمَر بنِ الخطاب رضي الله عنه ؛ لجمع لها أهل بدر ، و عن عطاءِ بنِ السائب التابعيِّ : أدركتُ أقواماً يُسأل أحدهم عن الشيء فيتكلم و هو يَرْعَدُ ، و عن ابن عباسٍ ، و محمد بن عجلان : إذا أَغْفَلَ العالِمُ لا أدري أُصيبَتْ مَقَاتِلُه ، و عن سُفيَان بن عيينة ، و سَحنُون : أَجسَرُ النّّاسِ على الفُتيا أقَلُّهم عِلماً ، و عن الشافعي ، و قد سُئِل عن مسألةٍ فلم يُجِب ، فَقِيلَ له ، فقال : حتى أدري أنَّ الفضلَ في السكوتِ أو في الجواب . و عن الأثرَمِ : سمعتُ أحمدَ بنَ حنبل يُكثِر أن يقول : لا أدري ، و ذلك فيما عَرَفَ الأقاويلَ فيه ، و عن الهيثم بنِ جميلٍ : شهدتُ مالكاً سُئِلَ عن ثمانٍ و أربعينَ مسألةٍ ، فقال : في ثِنتَين و ثَلاثين منها : لا أدري ، و عن مالكٍ أيضاً أنَّهُ رُبَّما كان يُسأل عن خمسين مسألة فلا يُجيب في واحدةٍ منها ، و كان يقول : مَن أجاب في مسألةٍ فينبغي قبلَ الجواب أن يعرِضَ نفسَه على الجنَّةِ و النّار ، و كيفَ خَلاصُهُ ، ثُمّ يُجيب ، و سُئِل عن مسألة ، فقال : لا أدري ، فقيل : هي مسألةٌ خفيفة سهلة ، فغضب و قال : ليس في العلم شيءٌ خفيفٌ ، و قال الشافعي : ما رأيتُ أحداً جمعَ الله تعالى فيه من آلةِ الفُتيا ما جَمَع في ابن عُيَيْنَة أسكتَ منهُ على الفُتيا ، و قال أبو حنيفة : لولا الفَرَق ( و هو الخوف ) مِن الله تعالى أن يَضيعَ العلم ؛ ما أفتيت ، يكون لهم المَهْنأ و علَيَّ الوِزرُ ، و أقوالُهُم في هذا كثيرة معروفة .اهـ. [ آداب الفتوى ، للإمام النووي ، ص : 13 و ما بعدها ] .
و لعلّ من المناسب في هذا المقام أن أذكّر نفسي و إخواني بما أورده الشيخ منصور بن يونس البهوتي [ في كشاف القناع في الفقه الحنبلي : 6 / 299 ] من توجيه سديد يُزهّد في التصدّر للفتوى لمن لا قبل له بها ، و من لم يستوفِ شروطها ، و ترشد من تبوّأها إلى ما ينبغي أن تكون عليه حاله فيها ، بعدَ أن ذَكرَ بعضَ ما أورَده الإمام النووي فيما نقلناه آنِِفاً ، إذ قال :
و أنكر الإمام أحمد و غيره على من يهجُمَ على الجواب لخَبَرِ : ( أجرؤُكم على الفتيا أجرؤكم على النار ) .
و قال أحمد : ( لا ينبغي أن يجيب في كل ما يُستَفْتَى فيه ) .
و قال : ( إذا هابَ الرجلُ شيئاً لا ينبغي أن يُحمَل على أن يقول ) .
و قال : ( لا ينبغي للرجل أن يُعَرِّضَ نفسَهُ للفُتيا حتى يكون فيه خمس خصال :
• إحداها : أن تكون له نيّةٌ ، أي : أن يُخلص في ذلك لله تعالى ، و لا يقصد رياسةً ، و لا نحوَها ، فإن لم يكن له نيّةٌ لم يكن عليه نُورٌ ، و لا على كلامه نور ، إذ الأعمالُ بالنيّات ، و لكل امرئ ما نوى .
• الثانية : أن يكون له حِلمٌ و وَقار و سكينة ، و إلا لم يتمكن من فعل ما تصدى له ؛ من بيان الأحكام الشرعية .
• الثالثة : أن يكون قويّاً على ما هو فيه ، و على معرفَتِهِ ، و إلا فقد عرَّض نفسه لعظيم .
• الرابعة : الكفايةُ ، و إلا أبغَضَهُ الناسُ ، فإنّه إذا لم تكن له كفايةٌ احتاج إلى الناس ، و إلى الأخذِ ممّا في أيديهم ؛ فيتضررون منه .
• الخامسة : معرفةُ الناس ؛ أي : ينبغي له أي للمفتي أن يكون بصيرا بمكر الناس و خِداعِهِم ، و لا ينبغي له أن يُحسِن الظن بهم ، بل يكون حذِراً فَطِناً مما يصورونه في سؤالاتهم ، لِئَلا يوقِعُوه في المكروه .اهـ من كشّاف القناع .
و ممّا جاء في تحرّز السلف من الإفتاء ما أورده الحافظ المناوي رحمه الله [ في فتح القدير : 1 / 158 ] ، و منه بعض ما تقدّمَ ، و زاد عليه :
و كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا سُئِل قال : ( اذهب إلى هذا الأمير الذي تقلَّد أمرَ الناس فضعها في عنقه ) ، و قال أيضاً : ( يُريدون أن يجعلونا جسراً يمُرُّونَ علينا إلى جهنم ) .
فرضي الله عنهم ما أورَعهم و ما أبعَدَهم عن التكلّف و التطلّع و استشراف النفس إلى ما تُخشى عواقبه في الدين و الدنيا ، و ما أحسن تعليق الإمام المناوي على ما أورَد من أخبارهم بقوله : ( و بما تقرّر يُعلَمُ أنّه يَحرُم على المُفتي التساهل ) .
قلتُُُُ : و يوافق قولَ النووي : ( قالوا : المفتي مُوقِّعٌ عن الله تعالى ) المتقدّمَ فِعلُ ابنِ القيّم حيث سمّى كتابه الشهير إِعلام ( و ضُبِطَ : أَعلام ) الموقّعين عن ربّ العالمين .
و كذا قول الإمام الشاطبي رحمه الله : ( المفتي قائمٌ في الأمّة مقام النبيّ صلى الله عليه و سلّم ) [ الموافقات : 4 /140 ] .
المسألة الثانية :
يحرُم التساهل في الفتوى بدعوى التيسير ، كما يَحرُمُ استفتاء من عُرِف بالتساهل ، ما لم يَكُن المفتي صادراً عن دليلٍ شرعيٍّ ( من الكتاب أو السنّة أو الإجماع أو القياس ) منضبط .
قال الإمام الشافعي رحمه الله: ( لا يجوز لمن استأهل أن يكون حاكماً أو مفتياً أن يحكم و لا أن يفتي إلا من جهةِ خبرٍ لازمٍ ... و ذلك الكتاب و السنة ، أو ما قاله أهل العلم لا يختلفون فيه ، أو قياس على بعض هذا ، و لا يجوز له أن يحكم و لا يُفتي بالاستحسان ) [ الأم : 7 / 298 ] .
وقال النووي رحمه الله : ( يحرم التساهل في الفتوى و من عُرِف به حرم استفتاؤه ) [ آداب الفتوى و المفتي ، ص : 37 ] .
و قال ابن الصلاح رحمه الله : ( لا يجوز للمفتي أن يتساهل في الفتوى , و من عرف بذلك لم يجز أن يُستفتى , و ذلك قد يكون بأن لا يَتثبَّت و يسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر و الفِكر, و ربّما يحمله على ذلك توهمه أن الإسراع براعةٌ , و الإبطاءَ عجزٌ و منقصة ، و ذلك جهلٌ ، و لأن يُبطئ و لا يخطئ , أجمل به من أن يَعْجَلَ فيضلَّ و يَضِلَّ ) [ فتاوى ابن الصلاح : 1 / 46 ، و انظره في أدب المفتي و المستفتي 1 / 111 ] .
و قال ابن مفلح الحنبلي رحمه الله : ( يحرم تساهل مُفتٍ في الفتيا ، و تقليد معروفٍ به ) [ الفروع : 6 / 379 ] .
و قال في موضع آخر : ( يحرم التساهل في الفتيا ، و استفتاء من عُرف بذلك ) [ المبدع : 10 / 25 ، و نقله عنه البهوتي في كشاف القناع : 6 / 300 ] .
المسألة الثالثة :
إن السلَف الصالح ( و منهم من بَلَغَنا خبَرُهم من الصحابة و الأئمّة الأربعة و غيرهم ) رضوان الله عليهم أجمعين دأبوا على التحذير من تتَبّع الرخَص في الفتوى ، و اعتبروا ذلك من علامات فساد دين فاعله ، و حذَّروا منه أشدّ التحذير ، و من ذلك قول الإمام النووي المتقدّم : ( لو جاز اتّباع أي مذهب شاء لأفضى إلى أن يلتقط رُخَص المذاهب متبعاً لهواه ، و يتخير بين التحليل ، و التحريم ، و الوجوب ، و الجواز ، و ذلك يؤدي إلى الانحلال من ربقة التكليف ) . [ المهذّب شرح المجموع : 1 / 5 ] .
و ذكر الإمام الشاطبي رحمه الله التلفيق بين المذاهب ، فذمّه بقوله : ( يُفضي إلى تتبّع رُخَص المذاهب من غير استنادٍ إلى دليلٍ شرعيٍ ) [ الموافقات : 4 / 72 ] ، ثمّ روى عن ابن حزم حكاية الإجماع على ( أنّ ذلك فِسقٌ لا يَحِلّ ) . [ الموافقات : 4 / 74 ] .
و قال الحافظ الذهبي : ( من تتبع رخص المذاهب و زلات المجتهدين ؛ فقد رَقَََّ دينُه كما قال الأوزاعي و غيره : من أخذ بقول المكيين في المتعة ، و الكوفيين في النبيذ ، و المدنيين في الغناء ، و الشاميين في عِصمة الخلفاء ؛ فقد جمع الشر .
و كذا من أخذ في البيوع الربوية بمن يتحيل عليها ، و في الطلاق و نكاح التحليل بمن توسع فيه ، و شِِبه ذلك ، فقد تعرض للانحلال فنسأل الله العافية و التوفيق ) [ سير أعلام النبلاء : 8 / 90 ] .
روى الحافظ ابن عبد البر عن سليمان التيمي قال: ( لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع في الشر كله ) ، ثمّ قال ابن عبد البر : و هذا إجماع لا أعلم فيه خلافاً . اهـ . [ جامع بيان العلم و فضله : 2 / 112 ] .
المسألة الرابعة :
إنَّ في تتبّع التخفيفات ، و العزوف عن العزائم إلى الرخَص ، مذمومٌ لما فيه من مجاراة اليهود الذين غَضِبَ الله عليهم و لعنهم ، و جَعلَ منهم القردة و الخنازير .
روى القرطبي في تفسير قول الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ) [ المائدة : 41 ] عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، قال : زنى رجل من أهل فَدَك ، فكتب أهل فدك إلى ناسٍ من اليهود بالمدينة ؛ أن سلوا محمداً عن ذلك فإن أمركم بالجلد فخذوه وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه ... فنزلت . [ تفسير القرطبي : 6 / 177 ]
و في سنن أبي داود عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ : زَنَى رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ وَ امْرَأَةٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : اذْهَبُوا بِنَا إِلَى هَذَا النَّبيِّ فَإِنَّهُ نَبِيٌّ بُعِثَ بِالتَّخْفِيفِ فَإِنْ أَفْتَانَا بِفُتْيَا دُونَ الرَّجْمِ قَبِلْنَاهَا وَاحْتَجَجْنَا بِهَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْنَا فُتْيَا نَبيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِكَ .
المسألة الخامسة :
تشبّثَ دُعاة التيسير من المفتين المُعاصِرين بجملة من الشُبَه ، انتصاراً لمذهبهم ، و من ذلك :
شبهتهم الأولى و ردُّها : استدلالهم بعموم النصوص الدالّة على أنّ التيسير و رَفع المشقّة مقصد من مقاصَد التشريع الإسلامي ، كقوله تعالى :
( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) [ البقرة : 185 ] .
و يغفلون عن صدر هذه الآية الذي فيه رَفعُ رُخصة الفطر في رَمضان مع الكفّارة لمن قدِرَ على الصوم ، و هو ما ثبتَ بقوله تعالى في الآية السابقة لها : ( وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) .
رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ سَلَمَة بْن الأَكْوَع أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ ( وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) ، كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِر و يَفْتَدِي حَتَّى نَزَلَتْ الآيَة الَّتِي بَعْدهَا فَنَسَخَتْهَا.
قلتُ : و هذا من قبيل النسخ بالأشد ، و هو من التشديد و ليس من التيسير ، في شيءٍ ، فتأمّل !
و مثل ذلك استدلالهم بقوله تعالى : ( وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) [ الحج : 78 ] ، متغافلين عن صدر الآية ذاتها ، و هو قوله تعالى : ( وَ جَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ ) مع أنّه لا مشقّة تفوق مشقّة الجهاد و التكليف به ، فبقي أن يُحمل رَفع الحرج على ما رُفِعَ بنصّ الشارع الحكيم سبحانه ، لا بآراء المُيَسّرين .
و من هذا القبيل ما رواه الشيخان في صحيحيهما ، و أبو داود في سننه , و أحمد في مسنده ، عَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ رضى الله عنها ، قَالَتْ : ( مَا خُيِّرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا ،‏ مَا لَمْ يَأْثَمْ ،‏ فَإِذَا كَانَ الإِثْمُ كَانَ أَبْعَدَهُمَا مِنْهُ ) .
و ما رواه البخاري في كتاب العلم من صحيحه ، و مسلم في الجهاد و السير عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه , عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : «‏ يَسِّرُوا و لاَ تُعَسِّرُوا ،‏ و بَشِّرُوا و لاَ تُنَفِّرُوا »‏ .‏
و في روايةٍ للبخاري في كتاب الأدب : «‏ يَسِّرُوا و لاَ تُعَسِّرُوا ،‏ و سَكِّنُوا و لاَ تُنَفِّرُوا » .
و روى مسلم و أبو داود عَنْ أَبِى مُوسَى رضي الله عنه قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَعَثَ أَحَداً مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ : «‏ بَشِّرُوا و لاَ تُنَفِّرُوا و يَسِّرُوا و لاَ تُعَسِّرُوا »‏ .‏
قلتُ : جميع ما تقدّم من نصوص الوحيَين ، و كثيرٌ غيره ممّا يقرّر قيام الشريعة الغرّاء على اليُسر و نفي الضرر ، و رفع الحَرَج ، فهِمَه الميسّرون على غير وجهه ، و حمّلوه ما لا يحتمل ، متعنّتين في توجيهه لنُصرة شُبهَتهم القاضيةَ بجَعل التيسير في الفتوى منهاجاً رَشَداً ، و فيما يلي نقضُ غَزلهم ، و كشف شبههم إن شاء الله :
أوّلاً : ثمّة فرقٌ لغويٌ بين اليُسر و التيسير ، فاليُسر صفةٌ لازمةٌ للشريعة الإسلاميّة ، و مقصدٌ من مقاصدها التشريعيّة جاء به الكتاب و السنّة ، و أنزله النبيّ صلّى الله عليه و سلّم و السلفُ الصالحُ منزلَتَه ، أمّا التيسير فهو من فِعل البشر ، و يعني جَعلَ ما ليس بميسَّرٍ في الأصل يسيراً ، و هذا مَوطِنُ الخَلل .
ثانياً : إن اختيار النبيّ صلّى الله عليه و سلّم للأيسر في كلّ أمرين خُيِّرَ بينهما ، كما في حديث عائشة رضي الله عنها المتقدّم فيه أربع نكات لطيفةٍ :
الأولى : أنَّ الاختيار واقع منه صلّى الله عليه و سلّم فيما خُيّر فيه ، و ليس في كلّ ما أوحيَ إليه أو كُلّف به ، هو أو أمّته ، و مثال ذلك الاختلاف في صيَغ الأذان ، و تكبيرات العيد ، و ما إليه حيث لا يعيبُ من أخَذ بهذا على من أخذَ بذاك من العلماء ، لثبوت الروايات بالأمرين كليهما .
و الثانيّة : تقييد التخيير بما لم يكُن إثماً ، و لا شكّ أنّ العدول عن الراجح إلى المرجوح ، أو تعطيل ( و من باب أولى رد ) ما ثبت من الأدلّة الشرعيّة إثمٌ يُخشى على صاحبه من الضلال ، فلا وَجه لاعتباره من التيسير المشروع في شيء .
و الثالثةُ : أنّ التخيير المذكور في الحديث يُحمل على أمور الدنيا لا الدِّين ، و هذا ما فهمه أهل العِلم قَبلَنا ، و منهم الحافظ ابن حجر ، حيث قال رحمه الله في الفتح : ( قولُه بين أمرين : أي من أمور الدنيا. لأن أمور الدين لا إثم فيها ... و وقوع التخيير بين ما فيه إثم و ما لا إثم فيه من قِبَل المخلوقين واضح ، و أمَّا من قبل الله ففيه إشكال ؛ لأن التخيير إنما يكون بين جائِزَين ) [ فتح الباري : 6 / 713 ] .
و الرابعة : أنّ هذا الخبر ما لم يُقيّد بما سبق سيكون معارضاً باختيار النبيّ صلّى الله عليه و سلّم الأشقَّ على نفسه ، كقيامه الليل حتّى تتشقق قدَماه مع أنّ الله تعالى قد غَفَر له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر . قال الحافظ في الفتح : ( لكن إذا حملناه على ما يفضي إلى الإثم أمكن ذلك بأن يخيره بين أن يفتح عليه من كنوز الأرض ما يخشى مع الاشتغال به أن لا يتفرغ للعبادة مثلاً ، و بين أن لا يُؤتِيَه من الدنيا إلا الكفاف ، و إن كانت السعة أسهل منه ، و الإثم على هذا أمر نسبي ، لا يراد منه معنى الخطيئة لثبوت العصمة له ) [ فتح الباري : 6 / 713 ].
ثالثاً : لا تكليف بدون مشقّة ، و أن كانت المشقّة الحاصلة بكلِّ تكليفٍ بحَسَبه ، و هي متفاوتة ، فإذا جاز لنا تخيّر أيسر المذاهب دفعاً لكلّ مشقّةٍ ، ترتّبَ على ذلك إسقاط كثيرٍ من التكاليف الشرعيّة ...
قال الإمام شمس الدين ابن القيّم رحمه الله : ( لو جاز لكل مشغول وكل مشقوق عليه الترخيص ضاع الواجب واضمحل بالكلية ) [ إعلام الموقعين 2 / 130 ].
و قال أيضاً في مَعرض كلامه عن رُخَص السفَر : ( إنَّ المشقة قد عُلِّقَ بها من التخفيف ما يناسبها ، فإن كانت مشقة مرض و ألم يُضِرُّ به جاز معها الفطر و الصلاة قاعداً أو على جنب ، و ذلك نظير قصر العدد ، و إن كانت مشقّةَ تعبٍ فمصالح الدنيا و الآخرة منوطةٌ بالتعب ، و لا راحة لمن لا تعب له بل على قدر التعب تكون الراحة فتناسبت الشريعة في أحكامها و مصالحها بحمد الله و مَنِّه ) [ إعلام الموقعين 2 / 131 ].
شبهتهم الثانية و ردُّها : زعموا أنّهم مُقلّدون في اختيارهم للأيسر ، و اعتمادهم إيّاه في الفتوى ، و أنّ لهم سَلفٌ فيما أفتوا به ، و لو كان قولاً ضعيفاً ، أو شاذّاً ، أو مَرجوحاً ، بل صاروا ينكِرون على من خالَفهم بغير دليل ، لا لشيءٍ سوى لأنّه لم يذهَب مَذهبَهُم ، و لم يَصِر إلى ما صاروا إليه من الإفراط في التيسير ، و لو بتعطيل أو إغفال أدلّة مخالفيهم .
و هُم في هذا مَحجوجون بانعقاد الإجماع على خلاف منهجهم ، فقد قال الإمام القرّافي رحمه الله ( أمّا الحُكم و الفتيا بالمرجوح فهو خلاف الإجماع ) [ مواهب الجليل : 6 / 91 ] .
و قال الإمام النووي : ( لو جاز اتّباع أي مذهب شاء لأفضى إلى أن يلتقط رخص المذاهب متَّبِعاً لهواه ، و يَتخيَّرَ بين التحليل و التحريم و الوجوب و الجواز ، و ذلك يؤدي إلى الانحلال من رِبقة التكليف ) [ المهذّب : 1 / 5 ] .
و قال الإمام الشاطبي رحمه الله : ( رُبَّما وقع الإفتاء في المسألة , فيقال : لِمَ تمنع و المسألة مختلف فيها ؟ فيجعل الخلاف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفا فيها , لا لدليل يدل على صحة الجواز, ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع ، و هو عين الخطأ على الشريعة حيث جعل ما ليس بمعتمد معتمداً , و ما ليس بحجة حجة ) [ الموافقات : 4 / 78 ] .
و قال السيخ منصور البهوتي الحنبلي : ( و ليس لمن انتسب إلى مذهب إمام إذا استفتى في مسألة ذات قولين أو وجهين ، بأن يتخير و يعمل بأيّهما شاء ، بل يُراعي ألفاظَ الأئمة و متأخرهما و أقربهما من الكتاب و السنة ) [ كشاف القناع : 6 / 300 ] .
شبهتهم الثالثة و ردُّها : تذرّعوا بما روي عن السلف و الأئمة المتّبعين بإحسان ، من استحباب الأخذ بالرُخص ، و من ذلك ، قول قتادة رحمه الله : ( ابتغوا الرخصة التي كَتَب الله لكم ) [ انظره في : تحفة المولود ، ص : 8 ] .
و قول سفيان الثوري رحمه الله : ( إنَّما العلم عندنا الرخصة من ثقة , فأما التشديد فيُحسنه كل أحد ) [ آداب الفتوى للنووي ، ص : 37 ] .
و قول شيخ الإسلام ابن تيميّة : ( إذا فعل المؤمن ما أُبيح له قاصداً العدول عن الحرام لحاجته إليه فإنّه يثاب على ذلك ) [ مجموع الفتاوى : 7 / 48 ] .
و قول ابن القيّم : ( الرخص في العبادات أفضل من الشدائد ) [ شرح العمدة : 2 / 541 ] .
إلى غير ذلك ممّا وقفوا عليه فاحتجّوا به ، أو غاب عنهم فأغفلوه .
و لو تأمّلنا ما أوردناه ( و لا أعلَم لهم استدلالاً بغيره من أقوال الأئمّة ) لما رأينا فيه دليلاً على التيسير الذي يُدندنُ حَوله المعاصرون ، فقتادةُ يدعوا إلى الترخّص حيث شرع الله الرخصة ، و لا يقول : رخِّصوا باستحسانكم ، أو لمجرّد التخفيف عن العباد أو مسايرتهم .
و ابن تيميّة يذكر الاستغناء بالحلال عن الحرام ، و ليس الإفتاء بعدَم حُرمةِ الحرَام أصلاً ، أو اختيار قول من يعدل عن التحريم إلى التحليل أو مجرّد الكراهة ، و إن ضَعُفَت حُجّته ، و وَهت شُبهته .
أمّا ابن القيّم فكلامه في الرخص في العبادات ، و هذا لا خلاف فيه ، أمّا دُعاة التيسير فقد وقعوا في تحليل الحرام ، و تفي الكراهة عن المكروه ، و شتّان ما بين المذهبين .
و ما يُروى عن سفيان رَحمه الله لا يؤخذ منه الترخيص بإسقاط الواجب ، أو تحليل المحرّم ، و لكنّه موجّه إلى ما ينبغي أن يفتيَ به العالم من وَقع في حرَج متيقّن ليعينه على القيام بما وَجَبَ عليه ، لا ليُسقِطه عنه .
قال النووي : ( و أما من صحَّ قصدُه , فاحتَسَبَ في طلب حيلةٍ لا شُبهةَ فيها , لتخليصٍ من ورطة يمينٍ و نحوها , فذلك حسن جميل ، و عليه يُحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا , كقول سفيان : إنَّما العلم عندنا الرخصة من ثقة , فأما التشديد فيُحسنه كل أحد ) [ آداب الفتوى للنووي ، ص : 37 ] .
و الله أعلم .
المسألة السادسة :
التساهل في الفتيا بغير مستندٍ شرعيٍ مذمومٌ كُلُّه ، و إن كانت بَعضُ صوره أشنع من بعض ، و ذلك بحسب الباعث على التيسير ، و قد ذكر بعض أهل العلمِ صوراً من التيسير المذموم ، و من ذلك قول الإمام النووي رحمه الله : ( و من التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحرمة أو المكروهة , و التمسُّكِ بالشبه طلباً للترخيص لمن يروم نفعَه أو التغليظَ على من يريد ضُرَّه ) [ آداب الفتوى للنووي ، ص : 37 ] .
و أشنع أنواع التيسير ما يفتي به المتزلّفون المتملّقون للحكّام من تبرير المنكرات ، أو التهوين من شأن الواجبات ، تبعاً للأغراض و الشهوات .
قال محدّث المغرب أبو الفضل عبد الله بن الصديق الغماري رحمه الله : ( أمَّا الذين يُسارعون إلى إباحة بعض المحرمات , و يصدرون فتاوى يُرضون بها رؤساء بعض الحكومات ، و قد تختلف فتاواهم بالتحليل و التحريم حسب اختلاف الأغراض و الشهوات , فهؤلاء مجتهدون في محو الدين , مُجدّون في تغيير أحكامه ، و لن يُفلتوا من عقاب الله تعالى ، و لا من شديد انتقامه ، و ما الله بغافل عما يعملون ) [ خواطر دينيّة و بحوث غالية لابن الصديق الغماري ، ص : 161 ].
المسألة السابعة :
بقيَ أنّ نبيّن المنهج الحق في الإفتاء و الترجيح و العمل ، و هو الذي نوصي به أنفسنا و إخواننا ، و ليسَ إلا اتباع الكتاب و السنّة ، و ما شهدا بصحّته من الأدلّة الشرعيّة ( الإجماع و القياس المنضبط ) ، و تقرير ذلك مبسوطٌ في كتب الأئمّة ، و لا حاجة لتقصّيه في هذه العُجالة ، بل نكتفي منه بقول الحافظ الذهبي : ( من بلغ رتبة الاجتهاد ، وشهد له بذلك عدة من الأئمة، لم يسغ له أن يقلد ، كما أن الفقيه المبتدئ و العامي الذي يحفظ القرآن أو كثيراً منه لا يسوغ له الاجتهاد أبداً ، فكيف يجتهد و ما الذي يقول ؟ وعلام يبني ؟ و كيف يطير ولما يُريِّش ؟ و القسم الثالث: الفقيه المنتهي اليقظ الفهم المحدث ، الذي قد حفظ مختصراً في الفروع ، و كتاباً في قواعد الأصول و قرأ النحو ، و شارك في الفضائل ، مع حفظه لكتاب الله و تشاغله بتفسيره و قوة مناظرته ، فهذه رتبة من بلغ الاجتهاد المقيَّد ، و تأهل للنظر في دلائل الأئمة ، فمتى وضح له الحق في مسالة و ثبت فيها النص و عمل بها أحد الأئمة الأعلام ... فليتبع فيها الحق و لا يسلك سبيل الرخص ، و ليتورع ، و لا يسعه فيها بعد قيام الحجة عليه تقليد ) . [ سير أعلام النبلاء : 18 / 191 ] .
و الله نسأل أن يوفّقنا ، و الأخ السائل ، و سائر من بلغه كتابُنا هذا إلى خير القول و العمَل ، و أن يعصمنا بمنّه و فضله من الضلالة و الزلل .
و الحمد لله ربّ العالمين .

كتبه
د . أحمد عبد الكريم نجيب
Dr.Ahmad Najeeb
alhaisam@msn.com