بسم الله الرحمن الرحيم

الصلاة على الغائب و من دُفِنَ و لم يُصلَّ عليه

 
السؤال :
ما هو حكم الصلاة على ميت دفن منذ سنين دون أن يُصلى عليه ، فهل تجوز الصلاة عليه الآن ، علما أنه بعيد من مقر سكنانا و إذا كانت الصلاة عليه جائزة فوضحوا لنا كيفيتها ، و هل تجوز الصلاة عليه من طرفنا نحن ذويه في البيت لأنه يتعسر علينا الوصول إلى قبره ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
الصلاة على الميّت واجبة على الكفاية ، فإن قام بها البعض سقط الوجوب عن الباقين ، و إن لم يَقُم بها أحدٌ أثموا جميعاً ، و هاهنا مسائل هامّة ذات صلة بموضوع السؤال ، أوجز الكلام عليها تعميماً للفائدة :
المسألة الأولى : في مشروعيّة الصلاة على الميّت الغائب عن البلد ، و قد قال بذلك الشافعي و أحمد في المشهور عنه و الظاهريّة ، و خالف المالكيّة و الحنفيّة في جوازها ، و فصّل آخرون .
قال ابن قدامة المقدسي رحمه الله : ( تجوز الصلاة على الغائب في بلد آخر بالنية ، فيستقبل القبلة ، و يصلى عليه كصلاته على حاضر ... و بهذا قال الشافعي . و قال مالك و أبو حنيفة : لا يجوز ، و حَكى ابن أبي موسى عن أحمد روايةً أخرى كقولهما ) [ المغني : 2 / 195 ] .
و مدار الخلاف في هذه المسألة إنّما هو على حديث الصلاة على النجاشي رضي الله عنه ، الذي أخرجه أصحاب الكتب الستّة و غيرهم .
و قد أحسن الإمام الشوكاني رحمه الله التفصيل في هذه المسألة في قوله : ( استدل بهذه القصة القائلون بمشروعية الصلاة على الغائب عن البلد ، قال في الفتح : و بذلك قال الشافعي ، و أحمد ، و جمهور السلف ، حتى قال ابن حزم : لم يأت عن أحد من الصحابة منعُه . قال الشافعي : الصلاة على الميت دعاء له فكيف لا يُدعى له و هو غائب أو في القبر . و ذهبت الحنفية و المالكية و حكاه في البحر عن العِتْرة أنها لا تشرع الصلاة على الغائب مطلقا ، قال الحافظ : و عن بعض أهل العلم إنما يجوز ذلك في اليوم الذي يموت فيه أو ما قرُبَ منه لا إذا طالت المدة ، حكاه ابن عبد البر ، و قال ابن حبان : إنما يجوز ذلك لمن كان في جهة القبلة ، قال المحب الطبري لم أر ذلك لغيره ، واعتذر من لم يقل بالصلاة على الغائب عن هذه القصة بأعذار منها أنه كان بأرض لم يصل عليه بها أحد ومن ثم قال الخطابي لا يصلى على الغائب إلا إذا وقع موته بأرض ليس فيها من يصلي عليه واستحسنه الروياني وترجم بذلك أبو داود في السنن فقال باب الصلاة على المسلم يليه أهل الشرك في بلد آخر قال الحافظ وهذا محتمل إلا أنني لم صليت في شيء من الأخبار أنه لم يصل عليه في بلده أحد .اهـ . و ممن اختار هذا التفصيل شيخ الإسلام ابن تيمية ، و المحقق المقبلي ، و استدل له بما أخرجه الطيالسي و أحمد و ابن ماجة و ابن قانع و الطبراني و الضياء المقدسي ، و عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال : إن أخاكم مات بغير أرضكم فقوموا فصلوا عليه ) [ انظر : نيل الأوطار : 4 / 87 ] .
و مذهب الجمهور أولى المذاهب بالاتّباع ، و أقواها حجّة ، و إليه أذهب ، و إن كنت فيما مضى أذهَب مذهَب شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله ، ثمّ بدا لي خِلافُه لأنّ في الاستدلال بزيادةِ ( ماتَ بغير أرضكم ) على أنّ الصلاة على الغائب لا تُشرَع إلاّ إذا كان غائباً في أرض لم يُصلّ عليه فيها فيه نَظر ، لِعَدَم التصريح بالعلّة من جهة ، و لاحتمال أن يكون قوله هذا لبيان الحال و ليس للتقييد ، إذ لو لم يكن النجاشي قد مات بغير أرضهم ، لما كانت الصلاة صلاةً على غائبٍ أصلاً .

المسألة الثانية : في مشروعيّة الصلاة على من دُفِن و لم يُصلِّيَ عليه أحد ، و لو لم يكن غائباً عن البلد ، و هي ثابتة من وجهين :
أحَدُهُما : لوجوب الصلاة على الجنازة على الكفاية ، فإن لم يقُم بها أحدٌ أثِموا جميعاً ، و يُرفَََعُ الإثم بالأداء ، و لو بعد الدفن .
و ثانيهما : قياساً على الصلاة على الغائب الذي مات و دُفِن في أرضٍ بعيدةٍ ، و لم يُصلّى عليه ، فهما سواء من جهة دفنِ كلّ واحدٍ منهما بدون صلاةٍ عليه .
قال الإمام ابن حزم الظاهري رحمه الله : ( أما الصلاة على الغائب ؛ فقد جاء به نص قاطع أغنى عن النظر ، و إن كان النظر تجب به الصلاة عليه لأن قول رسول الله صلى الله عليه و سلم : صلوا على صاحبكم ، عمومٌ يدخل فيه الغائب و الحاضر ، و لا يجوز أن يُخَصَّ به أحدهما ، بل فرضٌ في كل مسلم دُفن بغير صلاة أن يصلي عليه من بلغه ذلك من المسلمين لأنها فرض على الكفاية وهي فيمن صُلِّيَ عليه ندبٌ ) [ المحلى : 5 / 139 ] .

المسألة الثالثة : في تحديد المدّة التي تشرع فيها الصلاةُ على الميّت بعد دفنه ، سواءً صُلّيَ عليه قبل الدفن أم لا ، و في هذه المسألة أقوال القويّ منها ضعيف ، إلاّ قولٌ أطلَقَ و لم يُقيِّد .
قال الإمام الشربيني رحمه الله : ( يجب تقديمها أي الصلاة على الدفن و تأخيرها عن الغسل أو التيمم ... و يصلى عليه و هو في القبر ولا ينبش لذلك ... و إلى متى يصلى عليه فيه أوجه :
أحدها : أبدا فعلى هذا تجوز الصلاة على قبور الصحابة فمن بعدهم إلى اليوم . قال في المجموع : و قد اتفق الأصحاب على تضعيف هذا الوجه .
ثانيها :
إلى ثلاثة أيام دون ما بعدها ، و به قال أبو حنيفة .
ثالثها : إلى شهر ، و به قال أحمد .
رابعها : ما بقي منه شيء في القبر فإن انمحقت أجزاؤه لم يصلَّ عليه ، و إن شك في الانمحاق فالأصل البقاء .
خامسها : يختص بمن كان من أهل الصلاة عليه – وهو المسلم البالغ العاقل الطاهر - يوم موته ) [ مغني المحتاج : 1 / 346 و قد ذكر هذه الأقوال عدا الأوّل أبو اسحاق الشيرازي رحمه الله في المهذّب : 1 / 134 ] .
قلتُ : هذه الأقوال يُسقِطُ بعضُها بعضاً ، و لا حُجَّةَ في بعضها على بَعضٍ ، و لا دليل يَصلُح على تحديد أو تَرجيح مدّةٍ دون أخرى ، بل غايةُ ما جُمعَ للانتصار لبَعضِها هو من قبيل الاتّفاق و ليس التحديد ، كما هو الحال في اشتراط العَدَد لصلاة الجُمُعة .
بل الأمر على إطلاقه ، فإذا شُرِعَت الصلاة على من دُفِن و لم يُصلَّ عليه ، شُرعت المبادرة إليها عند الاقتدار و الله أعلَم .

المسألة الرابعة : إذا كان الميّت مدفوناً في بَلَد المصلين عليه ، فليس لهم أن يُصلّوا عليه صلاة الغائب في بيوتهم ، بل عليهم التوجّه إلى قبره للصلاة عليه .
قال أبو إسحاق الشيرازي الشافعي : ( و إن كان الميت معه في البلد لم يجز أن يصليَ عليه حتى يحضر عنده لأنه يمكنه الحضور ) [ المهذّب : 1 / 134 ] .
و قال ابن قدامة المقدسي : ( لو كان في البلد لم تجز الصلاة عليها مع غَيبَتِها عنه ) [ المغني : 2 / 195 ] .
و قال الإمام النووي رحمه الله في شرح كلام الشيرازي المتقدم : ( قطع المصنف و الجمهور : لا يجوز أن يصلى عليه حتى يحضر عنده لأن النبي صلى الله عليه وسلم « لم يصل على حاضر في البلد إلاّ بحضرته » ، و لأنه لا مشقة فيه بخلاف الغائب عن البلد ) [ المجموع : 5 / 206 ] .
فهذا مذهب الجمهور ، و لا دليل يُسلّم لمن خالفه ، و لا يُحتجُّ بوجود المشقّة أو احتمال وجودها للصلاة على الميت لمن لم يحضر جنازته أهل البلد في البيوت ، لأنّ المشقّة كما لم تمنع من دفنه فلا تمنع من شهود جنازته أو الصلاة عليه عند قبره .
قال الإمام شمس الدين ابن القيّم رحمه الله : ( لو جاز لكل مشغول و كل مشقوق عليه الترخيص ضاع الواجب و اضمحل بالكلية ) [ إعلام الموقعين : 2 / 130 ] .
و قال أيضاً في مَعرض كلامه عن رُخَص السفَر : ( مصالح الدنيا و الآخرة منوطةٌ بالتعب ، و لا راحة لمن لا تعب له بل على قدر التعب تكون الراحة فتناسبت الشريعة في أحكامها و مصالحها بحمد الله و مَنِّه ) [ إعلام الموقعين : 2 / 131 ] .
هذا ما تيسّر تحريره في موضوع السؤال ، و بالله التوفيق .

كتبه
د . أحمد عبد الكريم نجيب
Dr.Ahmad Najeeb
alhaisam@msn.com