بسم الله الرحمن الرحيم

ماذا تريدُ أن تعرفَ عن " حزبِ اللاتِ ؟ حقائقٌ مهمةٌ


السابق

من هامش الحياة إلى نسيجها
( النظام اللبناني غير شرعي ومجرم ) و ( من الضروري تسلُّم المسلمين الحكم في لبنان كونهم يشكلون أكثرية الشعب ) [1] .

فَتْوَيَانِ : الأولى خمينية ، والأخرى خامنئية ، وضعتهما الحركة الشيعية في لبنان في بؤرة القلب وبؤبؤ العين ، ورفعتهما إلى مرتبة الهدف الذي يُسعى لتحقيقه .

كما أفتى رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى ، مهدي شمس الدين بذلك أيضاً حين قال : إن الدولة وجدت نتيجة لعقْدٍ ، هذا العقد تبرمه الأكثرية من المواطنين بإرادتهم الحرة ، فينتج عن إبرامه كيان الدولة ، ومن المؤكد أن التنازل عن الهوية الثقافية والدينية ومظاهرها في المؤسسات والقوانين يتنافى مع موجبات هذا العقد ، ولا يؤثر على موجبات هذا العقد موقف الأقلية التي توافق على التنازل عن هذه الهوية ؛ فإن على الأقلية في هذه الحال أن تخضع للأكثرية [2] .

وفي معرض رده على الأسئلة الموجهة إليه في أحد البرامج قال محمد حسين فضل الله الزعيم الروحي لحزب الله - هكذا يلقب - : لم يكن هؤلاء الذين حكموا العالم الإسلامي في الماضي يحكمون باسم الإسلام ؛ فنحن لا نعتقد - على سبيل المثال - أن الحكم العثماني كان عادلاً وحراً وإسلامياً ! ! [3] ، [4] .

وهكذا يُخرج الفقهاء الشيعة فتاويهم دون اعتبار لعامل التاريخ أو الجغرافيا ومن دون تقية كذلك .

ولأثر التبديل فقد احتل الفقهاء والآيات والحجج مكانة عالية بلغت درجة التقديس ، وأضحت الفتاوى الصادرة عنهم ، بل حتى الكلام المجرد من القداسة الدينية ، يتمتع بمرتبة القداسة في نفوس أتباعهم .

وكما مر - في الحلقة السابقة - فقد دأب الفكر الإمامي على ربط ( الأمة ) الجعفرية برموز غير قابلة للنقد أو التجريح ، وأعطاهم - أو أعطوا لأنفسهم - صلاحيات وصلت إلى خصائص الإمام الغائب المعصوم ، المعيَّن من قِبَلِ الله - تعالى - ! !

ولقد تجاوزت هذه الصلاحيات ما كان يتمتع به الشاه المستبد الطاغية الدكتاتور عميل الإمبريالية والصهيونية ! ! فقد أقر مجلس الخبراء الإيراني إعطاء الولي الفقيه صلاحيات تفوق ما كان مخولاً به للشاه السابق ، ونص على ذلك في المادة (107) [5] والفقرة (110) من الدستور الإيراني [6] .

( الثورة الإسلامية في لبنان ) هذه العبارة هي آخر ما تقرؤه على علم ( حزب الله ) في لبنان . والثورة بهذا الوصف محاولة استنساخ للثورة الأم في قم وكلتاهما ثورة آيات ، أي أن العلم الديني الإمامي هو أساس التصور والحركة ؛ فالثورة - بحسب المعلن - ثورة دينية : إمامها فقيه ، رئيسها فقيه ، وزيرها فقيه ؛ فالمثال الذي ينبغي وضعه نصب العين هو إرادة الفقهاء ، ولهذا فقد كان للحوزات والحسينيات دور هام في غرس مفاهيم التقديس ، وفي إمداد الثورة بالوقود البشري .

الملالي .. ومدارج المعالي :
مع نهاية الغيبة الصغرى المدَّعاة للمهدي وجد علماء الشيعة أنفسهم في حيرة شديدة ؛ وذلك خوفاً من انكشاف حقيقة أمر الغيبة والمهدي ودعاوى أخرى كثيرة لا تمتُّ إلى الحق بسند ولا نسب ، فأخرجوا مرسوماً منسوباً إلى مهديهم الغائب يقول فيه : أما الوقائع الحادثة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ؛ فإنهم حجتي عليكم ، وأنا حجة الله . ثم أتبعوه بمرسوم آخر يقول فيه : أما من الفقهاء من كان صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه ، مخالفاً لهواه ، مطيعاً مولاه فللعوام أن يقلدوه [7] .

ولهذا فقد وَسِعَ إمامهم المعاصر أن يقول : إن الفقهاء ( هم الحجة على الناس كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم حجة عليهم ، وكل من يتخلف عن طاعتهم فإن الله يؤاخذه ويحاسبه على ذلك ، وعلى كلٍ فقد فوَّض الله إليهم جميع ما فوض إلى ( الأنبياء ) وائتمنهم على ما ائتمنوا عليه ) [8] .

( فإذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل فإنه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي صلى الله عليه وسلم ، ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا ) [9] .

وقد نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( وعلماء أمتي كالأنبياء السابقين ) [10] بل إنه لم يجد حَرَجاً في أن يقول : ( الفقيه الرافضي بمنزلة موسى وعيسى ) [11] ! !

ولهذا لم يكن مستغرباً أن يقول أحد المسؤولين الإيرانيين : إن الخميني أعظم من النبي موسى وهارون [12] . وترتفع وتيرة التجاوزات في إعطاء الصلاحيات لفقهاء المذهب حين كتب آية الله آزاري قمي يقول : ليس لدى الولي الفقيه أية مسؤولية أخرى غير إقامة نظام الحكم الإسلامي ، حتى لو اضطره ذلك إلى أمر الناس بالتوقف مؤقتاً عن الصلاة والصيام والحج .. أو حتى الإيمان بالتوحيد ! ! [13] .

ويستمر التضليل بمحاولة الإقناع أن الفقهاء لا دخل لهم في وظائفهم وخصائصهم ؛ بل إن ( الفقهاء معينون ضمناً من قِبَل الله ) [14] وبذلك تكون سلطة الفقيه سلطة إلهية .

وبهذه المراسيم والقوانين والتحذيرات والتهديدات أصبحت سلطة الفقهاء فوق كل السلطات ولا تخضع لأي سلطة كانت ، وكما يقول الخميني : وإذا كان السلاطين على جانب من التدين فما عليهم إلا أن يصدروا في أعمالهم وأحكامهم عن الفقهاء ، وفي هذه الحالة ، فالحكام الحقيقيون هم الفقهاء ، ويكون السلاطين مجرد عمال لهم [15] .

ولم يخرج محمد حسين فضل الله عن هذا الخط الساخن الرافع أقدار الفقهاء إلى منازل النبيين .

حيث يقول : إن رأي الفقيه هو الرأي الذي يعطي الأشياء شرعية بصفته نائباً عن الإمام ، والإمام هو نائب النبي صلى الله عليه وسلم ، وكما أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم ، فالإمام هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، والفقيه العادل هو أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم [16] .

والواقع أن شرعية كل الأمور تنطلق من إمضاء الفقيه لها ، وهذا يعني أن رئيس الجمهورية لا يستمد سلطانه من الشريعة الإسلامية ، أو الدولة الإسلامية - من انتخاب الناس له - وإنما من إمضاء الفقيه لرئاسته ، والأمر ذاته يطبق بالنسبة للنواب في مجلس الشورى والخبراء في مجلس الخبراء وغيرها من المؤسسات الدستورية في الدولة [17] .

وقد حرصت السياسة الإيرانية على الاستحواذ الكامل على إعداد (رجال الدين الشيعة) في لبنان ، كما حرصت على إيلائهم دوراً متصدراً في الساحة اللبنانية ؛ فهؤلاء وحدهم الذين يُضمَنُ ولاؤهم للقيادة الإيرانية ولسياستها ، كما يَظهرون بأنهم القادرون وحدهم على صبغ المجتمع الشيعي اللبناني بصبغة عميقة تحصنه من التأثيرات المخالفة للنفوذ الإيراني والمنافسة له . وتتوسل طهران وقم بالتعليم الديني لتأطير الاجتماع الشيعي اللبناني تأطيراً متيناً ، فتحل نخب ثقافية جديدة محل النخب المدنية التي تدين بعقائد سياسية أخرى ، كما حدث بإحلال ( حزب الله ) محل (أمل ) .

وبهذا فقد تحقق نجاح كبير في إنجاز أحد أكبر الأهداف ، وهو تأطير ( الأمة) الشيعية بسياج الآيات وتجييشها تحت قيادة واحدة ؛ وعليه فلا عجب أن نرى قوافل متوالية من الشباب الشيعي يضحون بأنفسهم في سبيل طاعة الفقهاء ، وهذه الطاعة والسيطرة المطلقة كانت نتيجة لجهد كبير بذله الفقهاء على مر التاريخ الإمامي . يقول د . موسى الموسوي معللاً كيفية سيطرة الفقهاء الشيعة على الأمة الإمامية : لقد استغلّت الزعامات المذهبية والفقهاء عبر التاريخ - ومنذ أن بدأت تُحكِم علينا الطوق - سذاجتنا - نحن الشيعة الإمامية - وحبَّنا الجارف لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأحدثت في مذهبنا بدعاً وتجاويف وتجاعيد كل واحدة منها تخدم مصالحهم ، وفي الوقت نفسه تضر بنا بل تنسفنا نسفاً . إن كل واحدة من هذه البدع أُدخلت في عقيدتنا - نحن الشيعة الإمامية - لإحكام طوق العبودية علينا والتحكم فينا كما يشاء الفقهاء ؛ إذن السذاجة وحدها لم تلعب الدور الكافي ، بل استغلال الفقهاء حبَّ الشيعة لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مضافاً إليه البدع التي أحدثوها في العقيدة جعلت من الشيعة أداة طيعة للفقهاء ، يضحون في سبيل مآربهم في ساحات الوغى مرة وفي ساحات البلاء مرة أخرى ، ولم يكن الفقهاء وحدهم هم الذين لعبوا هذا الدور الخطير في انحراف الشيعة عن نهجها الصحيح القويم المتمثل في تبعيتهم لفقه الإمام الصادق ، بل كان للفقهاء أجنحة أخرى استمدّوا قوتهم منها وهم الرواة ورجال الحديث والمفسرون الذين نسبوا إلى أئمتنا الكرام - زوراً وبهتاناً - روايات وأحاديث كلها تؤيد البدع والتجاويف والتجاعيد التي أدخلوها في العقيدة الشيعية لصالحهم ، وتفسير الآيات القرآنية حسب أهوائهم بصورة تخدم أهواء الفقهاء ، وبهذين الجناحين استطاع الفقهاء أن يحكموا قيود الاستغلال والاستبداد على أعناق الشيعة عبر التاريخ . كان فقهاؤنا على علم كامل بالنفسية الشيعية التي كانت مهيأة للخضوع إلى ما يُطلب منها في عهد الظلام ؛ فنصبوا أنفسهم أولياء وأوصياء عليهم .

وأعتقد جازماً أن فقهاءنا لم يقصدوا من استعبادنا - نحن الشيعة الإمامية - بالسيطرة الروحية والفكرية علينا فحسب ، بل كانوا يخططون لأمرين كل واحد منهما أخطر من الآخر : كانوا يخططون للسيطرة على أموال الشيعة ، ومن ثم الاستيلاء على مقاليد الحكم . فأدخل الفقهاء تلك البدعة الكبرى في العقيدة الشيعية ، وفسروا الآية الكريمة التي تقول : " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ... " [ الأنفال : 41 ] ، بأن هذه الآية نزلت في أرباح المكاسب في حين أن المفسرين وأرباب الأحاديث والفقهاء أجمعوا على أنها نزلت في غنائم الحرب ولا علاقة لها بأرباح المكاسب ، ثم أفتوا بوجوب تسليم هذا الخمس إلى يد الفقهاء ، وأضافوا أن الشيعة إذا لم تسلِّم خمس أرباحها إلى يد المجتهد أو الفقيه فإن صلاتهم باطلة وصومهم باطل وحجهم باطل ... وهكذا دواليك ، وخضعت الشيعة المسكينة إلى هذه الفتوى التي ما أنزل الله بها من سلطان . وها هم عبر التاريخ يقدمون إلى الفقهاء خُمس أرباح مكاسبهم ، ولم يحدث قط أن نفراً منهم قد سأل هؤلاء الشركاء الذين لا يشاركون الشيعة في رأس المال ولا في التعب والكد والجهد ؛ بل يشاركونهم في الأرباح فقط : من الذي جعلكم شركاء في أرباحنا ؟ وما الأدلة التي تستندون عليها ؟ ولماذا نكدح ونكافح نحن ، وأنتم قاعدون تجنون ثمار تعبنا ؟

لقد خضعت الشيعة لهذه الضريبة الجائرة بلا سؤال ولا ضجر ، فاحتلبهم الفقهاء كما تُحتلب الناقة الطيعة .

ولم يقنع الفقهاء بمشاركتهم في أرباح الشيعة ، بل زعموا أنهم ولاة عليهم يجب إطاعتهم ، ومن خرج عليهم فقد خرج على الله ، ومن رد عليهم فهو كالراد على الله يجب قتله وقمعه من الوجود . فخضع كثير من الشيعة لهذه الفاجعة الفكرية وقبلوها وآمنوا بها وضحوا بأنفسهم وأولادهم في سبيل هؤلاء الذين ادعوا لأنفسهم السلطة الإلهية وبدون أن يساندهم دليل أو يقف معهم برهان ؛ بل إن الذي يدَّعونه لا يتناقض مع عقيدة التوحيد والشريعة الإلهية فحسب ، بل يتناقض مع مبادئ العقل والبدهيات الأولية ، حقاًّ إنه من الأمور المحزنة أن تواجه الشيعة محنة فكرية كهذه ، وكثير منهم يؤمنون بها ، ويتفانون في سبيلها [18] .

لا عزاء للملة .. ولا للملالي :
قام النائب الشيعي الجنوبي رشيد بيضون يصيح في جلسة البرلمان اللبناني في 11-5-1944م ، مطالباً بمنح الطائفة الشيعية حقوقها قائلاً : امنحوها حقها في الوظائف ، وفي العلوم والمعارف ، مدوا الطرقات وسهلوا المواصلات في أرجائها المحرومة ، عززوا فلاحيها وعمالها ، تعهدوها بالعناية اللازمة انظروا إليها نظرة احترام كما تنظرون إلى غيرها [19] . كانت هذه الحال وصفاً لواقع الحياة الشيعية السياسية في ذلك الوقت ، أما في الجانب التعليمي ، فبالرغم من هذا الإحكام الشديد لطوق السيطرة الدينية الشيعية على الناس ، إلا أن الوضع الديني والاجتماعي والتعليمي بلغ في لبنان وضعاً مزرياً ، ( فهذه القرى العاملية لا يُذكر فيها اسم الله - تعالى - في ليل ولا نهار ، ولا فرق عند أهلها بين رمضان وشوال ، أما مكانة عالم الدين فانحطت إلى أسفل الدركات : فهذا يموت جوعاً ولا يشعر به إنسان ، وذاك تتهجم السفهاء على كرامته ، فلا يجد ناصراً ولا معيناً ، وآخر يتحزب للبيك والنائب ليأكل الرغيف ) [20] ، وقد دفعت هذه الحال الحاج سليمان البزي - أحد وجهاء الجنوب - إلى الشيخ محمد حسين الكاظمي - أشهر علماء العرب في العراق وقتها - يطلب أحد اثنين : السيد إسماعيل الصدر ، أو السيد مهدي الحكيم ، وقَبِلَ الحكيم المجيء على أن يُرسَلَ له مئتا ليرة عثمانية ذهباً .

كما عزف أبناء علماء كبار أمثال : محسن الأمين ، وعبد الحسين شرف الدين وغيرهم عن طلب العلم الإمامي ، بل وقد خلع بعضهم العمامة ولم يكمل العلم الشرعي وانصرف لغيره .

ولا يُخفي جواد مغنية مرارته حين يقول : إن ثلة من خيرة الشباب العاملي قضوا في طلب العلم والدين سنوات طوالاً ، وبعد أن اجتمعت لهم الشروط تحولوا عنه مغتبطين حين وجدوا الفرصة للتحرر والانطلاق ، هذه الظاهرة آيات بينات على عدم الثقة بمصير العلم ورجال الدين [21] .

وكان طالب العلم في النجف يقيم مدة تؤهله لإصلاح إحدى القارات الخمس ، فإذا عاد إلى بلده لم يحصل له من المال ما يتناوله حارس أو موظف بريد ، فانحطت مكانة عالم الدين الاجتماعية والأدبية انحطاطاً ذريعاً ، حتى لقد أخذ بعضهم على أهل جبل عامل ضنهم على العالم بالرغيف [22] ! !

وقد تسببت هذه الحال في حسرة ومرارة شديدة لدى الشيعة ؛ حيث مثلت هذه الحال حائطاً كبيراً أمام تحقيق الأحلام المنشودة ، ولهذا يقول وضاح شرارة : ولا شك أن انصراف طلبة العلم الديني الإمامي إلى غيره وإحجام وَلَدِ من استووا أعلاماً على التشيع - ليس في جبل عامل أو لبنان وحده ؛ بل في العالم العربي والإسلامي " الشيعي " كله - عن اقتفاء سنة آبائهم ، ظهر ذلك بمظهر تنكب تاريخ برمته ، ولما كانت الجماعة العاملية التي جرى مثقفوها من علماء وأفندية وأساتذة على تسميتها بـ ( الأمة ) أناطت بتشيعها وببلائها وبلاء علمائها في حفظ التشيع ورعايته واستمرارها واستقلالها ، وقع انقطاع المنقطعين عن طلب العلم النجفي عليها وعلى مثقفيها وقوعاً قاسياً وأليماً [23] .

وقد كان من أسباب اضمحلال التعليم الإمامي في لبنان والعزوف عنه أنه كان يؤخذ على جامعة النجف - إضافة إلى البعد المكاني - انزواؤها وانكفاؤها ، وبعدها عن العالم المحيط بها ومشكلاته وقضاياه ، وإذ تركها من تركها منهم أقبل على السياسة وعلى الحياة السياسية إقبال النهم ، وباشرها كتابة ودعاوى وتظاهراً وتنظيماً ، أما من لم يتركها فقدم الدعوة إلى الإصلاح . واعتبر بعضهم أن أصل البلاء : هو عجز العلماء عن مماشاة العصر ، وقال : ( تطورت الحياة وجمدنا ، وتكلم العصر وخرسنا ، إن على العالم أن يتصل بجميع طبقات الشعب اتصالاً وثيقاً ويحيط بأحوالها مباشرة ، ويسير بحسب التطور مع المحافظة على الدين الحقيقي ) [24] .

وبهذا فقد تمثلت المأساة الإمامية في لبنان في أمور عدة نوجزها بالآتي :
1 - غياب القيادة الدينية التي تمثل مرجعية واعية لتحقيق أحلام الطائفة .
2 - انكفاء العلم الإمامي على نفسه وعدم مواكبته لمتطلبات العصر .
3 - انحطاط مكانة العلم والعلماء بين عامة الناس وخواصهم .
4 - بُعد المدارس الدينية الشيعية الكبرى التي يتطلب شدُّ الرحال إليها والتحصيلُ العلمي منها مبالغَ مالية كبيرة ، وهو ما لم يكن في مستطاع الكثير من الناس وقتها .
5 - انصراف أبناء العائلات الدينية الكبيرة والمشتهرة بأنها ( بيوت علم ودين) عن طلب العلم الإمامي .

وهكذا اكتملت صورة المأساة للواقع الشيعي في لبنان ، ولكن مع نهاية منتصف هذا القرن الميلادي كانت هناك بدايات جديدة لحياة جديدة .

التثوير قبل الثورة :
دفعت هذه المرارة علماء الشيعة إلى النظر بجدية للواقع اللبناني ، كما كان النظر منصرفاً لحال بقية الأمة الشيعية ؛ فخلال الفترة السابقة للثورة كانت الأفكار الثورية حول الحكم تتطور وتفصل في أوساط القوى المعارضة للشاه في عملية ملحوظة من التفاعل الشيعي الشامل . إن المدارس الدينية مثلت في قم بإيران وفي النجف بالعراق (وخاصة الأخيرة) دوراً جاذباً ونقطة التقاء للعلماء والفقهاء من إيران ولبنان والعراق ؛ حيث أُرسيت الأسس من أجل رؤية عالمية مماثلة - وإن لم تكن متطابقة تماماً - وشبكة من الصداقات الشخصية والولاءات السياسية الدينية التي كان لها أثر هام على المنطقة بأسرها .

إن العلاقة بين الإمام موسى الصدر ورجال الدين الشيعة اللبنانيين الآخرين والخميني قد ساعدت في تأسيس الروابط التي سهلت فيما بعد دخول إيران الثورية إلى الساحة اللبنانية ، وعلى الرغم من الطبيعة الشيعية الخاصة بمدرسة النجف ، فإن هذه التجمعات ربما تكون قد ساعدت على التخفيف من حدة الطائفية الضيقة للعقيدة الثورية الجديدة [25] .

وهكذا فقد مثلت المدارس الشيعية الكبرى بؤراً أساسية لتجميع الملالي وتوحيد الأفكار الثورية ، التي كان على رأسها إقامة دولة شيعية كبرى تضم إيران والعراق ولبنان في بداية الأمر .

وعندما نظر علماء هذه المدارس إلى الحال اللبنانية التي هي أحد أضلاع مثلث الحلم ، كان لا بد من تذليل العقبات الكبرى التي تواجه تحقيق هذا الحلم ، وكان التركيز العلاجي متوجه لحل الإشكاليات الخمس السابقة الذكر ، وكان ذلك بسلوك خطين متوازيين في وقت واحد يلتقيان في مرحلة ما ؛ فيشكلان نقطة انطلاقة واحدة ، وكان الخطان هما : التثوير السياسي ، والتثوير العلمي الديني ، ثم ينتهيان إلى الثورة المسلحة .

----------------------
(1) انظر مقال : صادق الموسوي ، مجلة الشراع ، 17/5/1993 وانظر : وضاح شرارة ، دولة حزب الله ، ص342 .
(2) د وجيه كوثراني ، المسألة الثقافية في لبنان ، الخطاب السياسي والتاريخ ، ص20- 21 .
(3) قراءة في فكر زعيم فكري لبناني ، ضمن حلقات الإسلام والكونجرس الأمريكي د أحمد إبراهيم خضر ، مجلة المجتمع ، العدد : 953 ، ص45 .
(4) ورد في الموسوعة العربية العالمية ، ج21/71 ، أن عدد الشيعة في لبنان بلغ عام 1990م مليونا ومائتي ألف نسمة ، أي بنسبة 54% من السكان المسلمين الذين يمثلون 62% من سكان لبنان كما تذكر مصادر أخرى أنهم يشكلون 50% من نسبة السكان كما ورد ضمن حلقات الإسلام والكونجرس ، مجلة المجتمع العدد928 ، ص 29 ، كما أوردت مجلة المجلة في العدد : 795 /13/4/ 1995م أن عدد الشيعة في لبنان يبلغ 42% من مجموع سكان لبنان .
(5) انظر : بهمان بختياري ، المؤسسات الحاكمة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية ، ضمن مجموعات أبحاث تحت عنوان إيران والخليج ، البحث عن الاستقرار ، إعداد جمال سند السويدي ، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية ، ط1 ، 1996 ، ص75 .
(6) كينيث كاتزمان ، الحرس الثوري الإيراني ، نشأته وتكوينه ودوره ، ص60 ، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية ، ط1 ، 1996 .
(8) الحكومة الإسلامية ، الخميني ، ص80 .
(9) المصدر السابق ، ص49 .
(10) انظر إيران : تحديات العقيدة والثورة ، د مهدي شحادة ، د جواد بشارة ، مركز الدراسات العربي الأوروبي ، ط1/1999 ، ص 19 .
(11) الحكومة الإسلامية ، ص95 .
(12) انظر حجة الإسلام : د موسى الموسوي ، الثورة البائسة ، ص 147 .
(13) انظر : مهدي نور بخش ، الدين والسياسة والاتجاهات الأيديولوجية في إيران المعاصرة ، ضمن إيران والخليج ، البحث عن الاستقرار ص 48 .
(14) الحكومة الإسلامية ص 54 .
(15) الحكومة الإسلامية ص 54 .
(16) محمد حسين فضل الله ولاية الفقيه ، ص55 .
(17) المصدر السابق ص24 .
(18) يا شيعة العالم استيقظوا ، لحجة الإسلام موسى الموسوي ص 1620 .
(19) التيارات السياسية في لبنان 1943 1952 ، د حسان حلاق ، الدار الجامعية 1988 .
(20) محمد جواد مغنية ، الوضع الحاضر في جبل عامل ، ص58 ، نقلا عن دولة حزب الله ، ص26.
(21) السابق ص 24-29 .
(22) السابق ص 47- 48 .
(23) دولة حزب الله ص30-31 .
(24) مغنية ، مصدر سابق ص43 .
(25) سوريا وإيران : تنافس وتعاون ، أحمد خالدي ، حسين ج أغا ، ت/ عدنان حسن ، دار الكنوز الأدبية ط1/1997م ص 1920 .

كتبه
عَـبْـد الـلَّـه بن محمد زُقَـيْـل

الصفحة الرئيسة      |      صفحة الشيخ