الحمدُ للهِ وبعدُ ؛
أخي الحبيب ؛ يبدو أنهُ حصل عندك لبسٌ في لفظةِ " الروحِ " ، فالإنسانُ
والحيوانُ يطلقُ عليهما من ذواتِ الأرواحِ ، لأن الروحَ دابةٌ فيهما ، فإذا
نزعت الروحُ ، صار جثةً هامدةً لا حراك فيها ، أما الأشجارُ فيطلقُ عليها
ما لا روح فيه ، ولو أنها من مخلوقاتِ اللهِ ، بل ربما تكونُ أفضلَ من
الإنسانِ من جهةِ عبوديتها للهِ ، فالعبرةُ بوجودِ الروحِ فيها .
وهذا ما يفهمُ من نصوصِ السنةِ الواردةِ في البابِ ،
ومن ذلك :
1 - عن أَبِي هُرَيْرَةَ قالَ : قالَ رَسُولُ
الله صلى الله عليه وسلم : " أَتَانِي جِبْرَيلُ فَقَالَ : " إنّي كُنْتُ
أَتَيْتُكَ البَارِحَةَ فَلَمْ يَمْنَعَنِي أَنْ أَكُونَ دَخَلْتُ عَلَيْكَ
البَيْتَ الّذِي كُنْتَ فِيهِ إِلاّ أَنّهُ كَانَ في بَابِ البَيْتِ
تِمْثَالُ الرّجَالِ ، وَكَانَ في البَيْتَ قِرَامُ سِتْرٍ فِيهِ
تَمَاثِيلُ ، وَكَانَ في البَيْتِ كلْبٌ . فَمُرْ بِرَأْسِ التّمْثَالِ
الّذِي بِالْبَابِ فَلْيُقْطَعْ فَليَصِيرَ كَهَيْئَةِ الشّجَرَةِ ، وَمُرْ
بِالسّتْرِ فَلْيُقْطَعْ وَيُجْعَلُ مِنْهُ وِسَادَتَيْنِ مُنْتَبِذَتَيْنِ
تُوطَآنِ ، وَمُرْ بِالْكَلْبِ فَيُخْرَجْ . فَفَعَلَ رَسُولُ الله صلى
الله عليه وسلم ، وَكَانَ ذَلِكَ الْكَلْبُ جِرْواً لِلْحُسَيْنِ أَوْ
للحَسَنِ تَحْتَ نَضَدٍ لَهُ ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ " .
رواهُ أبو داود (4158) ، والترمذي (2806) وقال : " هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ "
، والحديثُ أصلهُ في الصحيحين مختصراً .
والشاهدُ من الحديثِ قولهُ صلى اللهُ عليه وسلم : " فَمُرْ بِرَأْسِ
التّمْثَالِ الّذِي بِالْبَابِ فَلْيُقْطَعْ فَليَصِيرَ كَهَيْئَةِ
الشّجَرَةِ " . فقطعُ الرأسِ يجعلها تشبهُ الشجرة ، لأنه بقطعِ الرأسِ
تخرجُ الروحُ فيصير جماداً لا حراك فيه .
2 - عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ
: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، فَقَالَ : إِنِّي رَجُلٌ أُصَوِّرُ
هَذِهِ الصُّوَرَ، فَأَفْتِنِي فِيهَا. فَقَالَ لَهُ: ادْنُ مِنِّي .
فَدَنَا مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: ادْنُ مِنِّي . فَدَنَا حَتَّىَ وَضَعَ
يَدَهُ عَلَىَ رَأْسِهِ ، قَالَ : أُنَبُّئُكَ بِمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ
اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : " كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي
النَّارِ ، يَجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْساً ،
فَتُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمَ " . وَقَالَ : إنْ كُنْتَ لاَ بُدَّ فَاعِلاً
فَاصْنَعِ الشَّجَرَ ، وَمَا لاَ نَفْسَ لَهُ ، فَأَقَرَّ بِهِ نَصْرُ بْنُ
عَلِيٍّ .
رواهُ البخاري (2225) ، ومسلم واالفظ له .
قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ في " الفتاوى " (29/370) : " ولهذا يفرق بين
الحيوانِ وغيرِ الحيوانِ ، فيجوزُ تصويرُ صورة الشجر والمعادنِ في الثيابِ
والحيطانِ ونحو ذلك ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من صور صورةً
كُلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخٍ " ، ولهذا قال ابنُ عباسٍ للمستفتي
الذي استفتاهُ : " صور الشجرَ ما لا روح فيه " . وفي السنن عن النبي صلى
اللهُ عليه وسلم أن جبريل قال له في الصورةِ : " فَمُرْ بِالرَأْسِ
فَلْيُقْطَعْ " ، ولهذا نص الأئمةُ على ذلك ؛ وقالوا : " الصورةُ هي الرأسُ
، لا يبقى فيها روح ، فيبقى مثل الجمادات " .ا.هـ.
وقال الحافظُ ابنُ حجرٍ في " الفتح " (10/408) : " كذا أطلق وظاهره التعميم
فيتناول صورة ما لا روح فيه ، لكن الذي فهم ابن عباس من بقية الحديث
التخصيص بصورة ذوات الأرواح من قوله : " كلف أن ينفخ فيها الروح " فاستثنى
ما لا روح فيه كالشجر " .ا.هـ.
وعلى الرغمِ من وضوحِ الأدلةِ المخصصةِ المجيزةِ لتصوير ما لا روح فيه فقد
اختلف فيها أهلُ العلمِ على أقوالٍ :
القولُ الأولُ :
جوازُ تصويرِ ما لا روح فيه من الجبالِ والأشجارِ والأوديةِ
والكواكبِ كالشمسِ والقمرِ والنجومِ وسائر الأفلاكِ .
ويستثنى ما إذا صورت هذه المخلوقاتُ ، أو بعضها بقصدِ العبادةِ لها من دونِ
اللهِ فحينئذٍ يحرمُ تصويرها .
وهذا القولُ هو رأي جمهورِ أهلِ العلمِ ، قال الإمامُ النووي في " شرح مسلم
" (14/81 - 82) : " قال أصحابنا وغيرهم من العلماءِ : تصويرُ صورة الحيوان
حرام شديد التَّحريم ، وهو من الكبائر ، لأنَّه متوعَّد عليه بهذا الوعيد
الشَّديد المذكور في الأحاديث ، وسواء صنعه بما يمتهن أو بغيره ، فصنعته
حرام بكلِّ حالٍ لأنَّ فيه مضاهاة لخلق اللهِ ، وسواء ما كان في ثوب ، أو
بساط ، أو درهم ، أو دينار ، أو فلس ، أو إناء ، أو حائط أو غيرها . وأمَّا
تصوير صورة الشَّجر ، ورحال الإبل وغير ذلك ممَّا ليس فيه صورة حيوان فليس
بحرام ، هذا حكم نفس التَّصوير .
وأمَّا اتِّخاذ المصوّر فيه صورة حيوان فإن كان معلَّقاً على حائط ، أو
ثوباً ملبوساً ، أو عمامة ونحو ذلك ممَّا لا يعدُّ ممتهناً فهو حرام ، وإن
كان في بساط يداس ، ومخدَّة ووسادة ونحوها ممَّا يمتهن فليس بحرام ، ولكن
هل يمنع دخول ملائكة الرَّحمة ذلك البيت ؟ فيه كلام نذكره قريباً إن شاء
اللَّهُ ، ولا فرق في هذا كلُّه بين ما له ظلٌّ ، وما لا ظلَّ له ، هذا
تلخيص مذهبنا في المسألة . وبمعناه قال جماهير العلماء من الصَّحابة ،
والتَّابعين ومن بعدهم ، وهو مذهب الثَّوريُّ ، ومالك ، وأبي حنيفة وغيرهم
" .ا.هـ.
واستدلوا بالأدلةِ التي ذُكرت آنفاً . وهو الرأي الراجحُ .
القولُ الثاني :
التحريم ، وممن ذهب إلى هذا القول القرطبي وجماعةٌ .
واستدلوا :
قال تعالى : " مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا " [ النمل : 60 ]
.
قال الإمامُ القرطبي عند تفسير الآية : " قلت : وقد يستدلُ من هذا على منعِ
تصويرِ شيءٍ سواء كان له روحٌ أم لم يكن ؛ وهو قول مجاهد . ويعضده قولهُ
صلى الله عليه وسلم : " قال الله عز وجل : ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي،
فليخلقوا ذرَّة، أو: ليخلقوا حبَّة، أو شعيرة " رواه مسلم في صحيحه من حديث
أبي هريرة ؛ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قال الله عز
وجل ... فذكره ؛ فعم بالذمِ والتهديدِ والتقبيحِ كل من تعاطى تصوير شيءٍ
مما خلقه الله وضاهاه في التشبيه في خلقه فيما انفرد به سبحانهُ من الخلقِ
والاختراعِ هذا واضح .
وذهب الجمهورُ إلى أن تصويرَ ما ليس فيه روح يجوز هو والاكتساب به . وقد
قال ابن عباس للذي سأل أن يصنع الصور : إن كنت لا بد فاعلا فاصنع الشجر وما
لا نفس له " خرجه مسلم أيضا . والمنع أولى والله أعلم لما ذكرنا ".ا.هـ.
القولُ الثالثُ :
تحريمُ تصويرِ ما عبدهُ المشركون كالشمسِ والقمرِ والنجومِ ، وبعضِ
الأشجارِ ، والأحجارِ التي عبدت في الجاهليةِ ، وممن ذهب إلى هذا القول أبو
محمد الجويني .
واستدل : أن في تصويرها وسيلةً إلى عبادتها بالقولِ ، والفعلِ ، والاعتقادِ
مرة ثانية ، فالواجبُ منعُ تصويرها سداً للبابِ .
ولكن يقالُ : إنها إذا صورت لغرضِ عبادتها فإنه يحرمُ ، لأنها أصبحت وسيلةً
إلى الشركِ باللهِ ، والوسائل لها أحكامُ المقاصدِ كما قال الأصوليون .
القولُ الرابعُ :
الكراهةُ ، وذهب إلى هذا القولِ أبو سليمان الخطابي .
قال في " أعلام الحديث " (3/2160) : " فأما النقاشُ الذي ينقشُ أشكالَ
الشجرِ ، ويعملُ التداوير ، والخواتيم ونحوها ، فإني أرجو ألا يدخل في هذا
الوعيد ، وإن كان جملة هذا البابِ مكروهاً ، وداخلاً فيما يلهي ، ويشغلُ
القلب بما لا يغني .
هذا ملخصُ الأقوالِ في المسألةِ ، والراجح منها هو القولُ الأولُ لقوةِ
الأدلةِ وصراحتها في المسألةِ ، وقد لخصتها من كتابِ " أحكام التصوير في
الفقهِ الإسلامي " ، تأليف : محمد بن أحمد بن علي واصل . واللهُ أعلمُ .