بسم الله الرحمن الرحيم

الْكِبْر فِي الكتابِ والسنةِ


قبل الإجابةِ على استفسارِكَ دعنا نعيشُ مع كتابِ اللهِ وسنةِ رسولهِ صلى اللهُ عليه وسلم فيما يخصُ الكبر ، لكي يعرف الواحدُ منا خطورةَ هذا المرض - نسألُ اللهَ تعالى أن يعيذنا من الكبرِ وأن يرزقنا التواضعَ - .

أولُ مَنْ تكبر هو إبليسُ اللعينُ :

قالَ تعالى : " وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ " [ الأعراف : 11 - 12 ] .

وقال تعالى : " قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ " [ ص : 76 ] .

فالكبرُ خلُقٌ من أخلاقِ إبليس ، فمن أراد الكِبر فليعلم أنهُ يتخلقُ بأخلاقِ الشياطين ، وأنهُ لم يتخلق بأخلاقِ الملائكةِ المكرمين الذين أطاعوا ربهم فوقعوا ساجدين .

وقد رد شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى على قياسِ إبليس الفاسد من أوجهٍ .

قَالَ : فَصْلٌ حُجَّةُ إبْلِيسَ فِي قَوْلِهِ : " أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ " هِيَ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ عَارَضَ النَّصَّ بِالْقِيَاسِ . وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إبْلِيسُ وَمَا عُبِدَتْ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إلَّا بِالْمَقَايِيسِ . وَيَظْهَرُ فَسَادُهَا بِالْعَقْلِ مِنْ وُجُوهٍ خَمْسَةٍ .

أَحَدُهَا : أَنَّهُ ادَّعَى أَنَّ النَّارَ خَيْرٌ مِنْ الطِّينِ وَهَذَا قَدْ يُمْنَعُ فَإِنَّ الطِّينَ فِيهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ وَالِاسْتِقْرَارُ وَالثَّبَاتُ وَالْإِمْسَاكُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَفِي النَّارِ الْخِفَّةُ وَالْحِدَّةُ وَالطَّيْشُ وَالطِّينُ فِيهِ الْمَاءُ وَالتُّرَابُ .

الثَّانِي : أَنَّهُ وَإِنْ كَانَتْ النَّارُ خَيْرًا مِنْ الطِّينِ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَخْلُوقُ مِنْ الْأَفْضَلِ أَفْضَلَ فَإِنَّ الْفَرْعَ قَدْ يُخْتَصُّ بِمَا لَا يَكُونُ فِي أَصْلِهِ وَهَذَا التُّرَابُ يُخْلَقُ مِنْهُ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَالِاحْتِجَاجُ عَلَى فَضْلِ الْإِنْسَانِ عَلَى غَيْرِهِ بِفَضْلِ أَصْلِهِ عَلَى أَصْلِهِ حَجَّةٌ فَاسِدَةٌ احْتَجَّ بِهَا إبْلِيسُ وَهِيَ حُجَّةُ الَّذِينَ يَفْخَرُونَ بِأَنْسَابِهِمْ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ قَصَّرَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يَبْلُغْ بِهِ نَسَبُهُ " .

* الثَّالِثُ " أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَخْلُوقًا مِنْ طِينٍ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ بِنَفْخِ الرُّوحِ الْمُقَدَّسَةِ فِيهِ مَا شُرِّفَ بِهِ فَلِهَذَا قَالَ : " فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ " فَعُلِّقَ السُّجُودُ بِأَنْ يَنْفُخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ فَالْمُوجِبُ لِلتَّفْضِيلِ هَذَا الْمَعْنَى الشَّرِيفُ الَّذِي لَيْسَ لإبليس مِثْلُهُ .

الرَّابِعُ : أَنَّهُ مَخْلُوقٌ بِيَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى : " مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ " وَهُوَ كَالْأَثَرِ الْمَرْوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي تَفْضِيلِهِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ حَيْثُ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ : " " يَا رَبِّ قَدْ خَلَقْت لِبَنِي آدَمَ الدُّنْيَا يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ وَيَلْبَسُونَ وَيَنْكِحُونَ ؛ فَاجْعَلْ لَنَا الْآخِرَةَ كَمَا جَعَلْت لَهُمْ الدُّنْيَا فَقَالَ : لَا أَفْعَلُ . ثُمَّ أَعَادُوا . فَقَالَ : لَا أَفْعَلُ ثُمَّ أَعَادُوا فَقَالَ : وَعِزَّتِي لَا أَجْعَلُ صَالِحَ مَنْ خَلَقْت بِيَدَيَّ كَمَنْ قُلْت لَهُ : كُنْ فَكَانَ " .

الْخَامِسُ : أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ أَفْضَلَ فَقَدْ يُقَالُ : إكْرَامُ الْأَفْضَلِ لِلْمَفْضُولِ لَيْسَ بِمُسْتَنْكَرٍ " .ا.هـ.
وعقد الإمامُ ابنُ القيمِ - رحمهُ اللهُ - فصلاً في " زادِ المعادِ " فقال : " فصل : التحذير من " أنا " و " لي " و " عندي "

وليحذر كل الحذر من طغيان " أنا " ، " ولي " ، " وعندي " ، فإن هذه الألفاظ الثلاثة ابتلي بها إبليس وفرعون ، وقارون ، " فأنا خير منه " لإبليس " ولي ملك مصر " لفرعون و " إنما أوتيته على علم عندي " لقارون .

وأحسن ما وضعت " أنا " في قول العبد أنا العبد المذنب المخطئ المستغفر المعترف ونحوه . " ولي " ، في قوله لي الذنب ولي الجرم ولي المسكنة ولي الفقر والذل : " وعندي " في قوله " اغفر لي جدي ، وهزلي ، وخطئي ، وعمدي ، وكل ذلك عندي " .ا.هـ.

التحذيرُ من الكبرِ وأهلهِ :

قال تعالى : " وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا " [ الإسراء : 37 ] .

قال القرطبي في تفسيره : " هَذَا نَهْي عَنْ الْخُيَلَاء وَأَمْر بِالتَّوَاضُعِ . وَالْمَرَح : شِدَّة الْفَرَح . وَقِيلَ : التَّكَبُّر فِي الْمَشْي . وَقِيلَ : تَجَاوُز الْإِنْسَان قَدْره . وَقَالَ قَتَادَة : هُوَ الْخُيَلَاء فِي الْمَشْي . وَقِيلَ : هُوَ الْبَطَر وَالْأَشَر . وَقِيلَ : هُوَ النَّشَاط وَهَذِهِ الْأَقْوَال مُتَقَارِبَة وَلَكِنْهَا مُنْقَسِمَة قِسْمَيْنِ : أَحَدهمَا مَذْمُوم وَالْآخَر مَحْمُود ; فَالتَّكَبُّر وَالْبَطَر وَالْخُيَلَاء وَتَجَاوُز الْإِنْسَان قَدْره مَذْمُوم وَالْفَرَح وَالنَّشَاط مَحْمُود " .ا.هـ.

وَأَنْشَدُوا :

وَلَا تَمْشِ فَوْق الْأَرْض إِلَّا تَوَاضُعًا * * * فَكَمْ تَحْتهَا قَوْم هُمُو مِنْك أَرْفَع
وَإِنْ كُنْت فِي عِزّ وَحِرْز وَمَنْعَة * * * فَكَمْ مَاتَ مِنْ قَوْم هُمُو مِنْك أَمْنَع

ماذا حدث لقارونَ المتكبر؟

قال تعالى : " فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ " [ القصص : 79 - 81 ] .

عَنْ ‏أَبِي هُرَيْرَةَ ‏‏يَقُولُ ‏: ‏قَالَ النَّبِيُّ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏، ‏أَوْ قَالَ ‏أَبُو الْقَاسِمِ ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "‏ ‏بَيْنَمَا ‏ ‏رَجُلٌ ‏ ‏يَمْشِي فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ ‏‏مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ ‏؛ ‏إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ ‏ ‏يَتَجَلْجَلُ ‏ ‏إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " .

رواه البخاري ( 3297 ) ومسلم ( 2088 ) .

فهذه عقوبةُ الكبرِ في الثراءِ واللباسِ والتفاخر على الناسِ . فمن مَظَاهِرِ الْكِبْرِ الِاخْتِيَالُ فِي الْمَشْيِ : وَهُوَ يَعْنِي التَّبَخْتُرَ وَالتَّعَالِيَ فِي الْمِشْيَةِ وَكَمَا يَكُونُ الِاخْتِيَالُ بِاللِّبَاسِ الْفَاخِرِ يَكُونُ أَيْضًا بِفُرُشِ الْبُيُوتِ ، وَبِرُكُوبِ السَّيَّارَاتِ الْفَاخِرَةِ .

ومما يدخلُ تحت هذه الآيةِ قولهُ تعالى : " وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا " [ الكهف : 34 ] .

قَالَ قَتَادَة : " تِلْكَ وَاَللَّه أُمْنِيَة الْفَاجِر كَثْرَة الْمَال وَعِزَّة النَّفَر " .

لقمانُ يحذرُ ابنهُ من الكبر :

قال تعالى : " وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ " [ لقمان : 18 ] .

قال ابنُ كثيرٍ : " وَلَا تُصَعِّر خَدّك لِلنَّاسِ " يَقُول لَا تَتَكَبَّر فَتَحْتَقِر عِبَاد اللَّه وَتُعْرِض عَنْهُمْ بِوَجْهِك إِذَا كَلَّمُوك ... وَقَوْله " وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْض مَرَحًا " . أَيْ خُيَلَاء مُتَكَبِّرًا جَبَّارًا عَنِيدًا لَا تَفْعَل ذَلِكَ يُبْغِضك اللَّه وَلِهَذَا قَالَ" إِنَّ اللَّه لَا يُحِبّ كُلّ مُخْتَال فَخُور " أَيْ مُخْتَال مُعْجَب فِي نَفْسه فَخُور أَيْ عَلَى غَيْره وَقَالَ تَعَالَى " وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْض مَرَحًا إِنَّك لَنْ تَخْرِق الْأَرْض وَلَنْ تَبْلُغ الْجِبَال طُولًا " .ا.هـ.

وقال القرطبي : " مَعْنَى الْآيَة : وَلَا تُمِلْ خَدَّك لِلنَّاسِ كِبْرًا عَلَيْهِمْ وَإِعْجَابًا وَاحْتِقَارًا لَهُمْ . وَهَذَا تَأْوِيل اِبْن عَبَّاس وَجَمَاعَة . وَقِيلَ : هُوَ أَنْ تَلْوِيَ شِدْقك إِذَا ذُكِرَ الرَّجُل عِنْدك كَأَنَّك تَحْتَقِرهُ ؛ فَالْمَعْنَى : أَقْبِلْ عَلَيْهِمْ مُتَوَاضِعًا مُؤْنِسًا مُسْتَأْنِسًا ، وَإِذَا حَدَّثَك أَصْغَرُهُمْ فَأَصْغِ إِلَيْهِ حَتَّى يُكْمِل حَدِيثه . وَكَذَلِكَ كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَل .... وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ... أَيْ مُتَبَخْتِرًا مُتَكَبِّرًا " .ا.هـ.

وقال ابنُ العربي : " " وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّك " يَعْنِي لَا تُمِلْهُ عَنْهُمْ تَكَبُّرًا ، يُرِيدُ أَقْبِلْ عَلَيْهِمْ مُتَوَاضِعًا ، مُؤْنِسًا مُسْتَأْنِسًا ، وَإِذَا حَدَّثَك أَحَدُهُمْ فَأَصْغِ إلَيْهِ ، حَتَّى يُكْمِلَ حَدِيثَهُ ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " .ا.هـ.

قَالَ الشَّاعِرُ :
وَكُنَّا إذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ * * * أَقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَتَقَوَّمَا

فمن مَظَاهِرِ الْكِبْرِ تَصْعِيرُ الْوَجْهِ : وَهُوَ يَعْنِي : مَيْلُ الْعُنُقِ ، وَالْإِشَاحَةُ بِالْوَجْهِ عَنْ النَّظَرِ كِبْرًا ، وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْمُتَكَبِّرِينَ ، وَلِذَلِكَ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى .

عقوبةُ الكِبر في الآخرة :

قال تعالى في وصفِ المتكبرين : " فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ " [ النحل : 29 ] .

وقال تعالى : " قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ " [ الزمر : 72 ] .

وقال تعالى : " ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ " [ غافر : 76 ] .
قال ابنُ كثيرٍ : " أَيْ بِئْسَ الْمَقِيل وَالْمَقَام وَالْمَكَان مِنْ دَار هَوَان لِمَنْ كَانَ مُتَكَبِّرًا عَنْ آيَات اللَّه وَاتِّبَاع رُسُله وَهُمْ يَدْخُلُونَ جَهَنَّم مِنْ يَوْم مَمَاتهمْ بِأَرْوَاحِهِمْ وَيَنَال أَجْسَادهمْ فِي قُبُورهَا مِنْ حَرّهَا وَسَمُومهَا فَإِذَا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة سَلَكَتْ أَرْوَاحهمْ فِي أَجْسَادهمْ وَخَلَدَتْ فِي نَار جَهَنَّم " لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّف عَنْهُمْ مِنْ عَذَابهَا " كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى " النَّار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْم تَقُوم السَّاعَة أَدْخِلُوا آل فِرْعَوْن أَشَدّ الْعَذَاب " .ا.هـ.

وقال أيضاً : " أَيْ فَبِئْسَ الْمَصِير وَبِئْسَ الْمَقِيل لَكُمْ بِسَبَبِ تَكَبُّرِكُمْ فِي الدُّنْيَا وَإِبَائِكُمْ عَنْ اِتِّبَاع الْحَقّ فَهُوَ الَّذِي صَيَّرَكُمْ إِلَى مَا أَنْتُمْ فِيهِ فَبِئْسَ الْحَال وَبِئْسَ الْمَآل " .ا.هـ.
وقال تعالى : " فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا " [ النساء : 173 ] .

قال ابنُ كثيرٍ : " وَأَمَّا الَّذِينَ اِسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا " أَيْ اِمْتَنَعُوا مِنْ طَاعَة اللَّه وَعِبَادَته وَاسْتَكْبَرُوا عَنْ ذَلِكَ " فَيُعَذِّبهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُون اللَّه وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا " كَقَوْلِهِ " إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّم دَاخِرِينَ " أَيْ صَاغِرِينَ حَقِيرِينَ ذَلِيلِينَ كَمَا كَانُوا مُمْتَنِعِينَ مُسْتَكْبِرِينَ " .ا.هـ.

‏وَعَنْ ‏عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ‏: ‏عَنْ النَّبِيِّ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏‏قَالَ ‏: " ‏لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ " ، قَالَ ‏‏رَجُلٌ ‏: " ‏إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً " ، قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ ؛ الْكِبْرُ ‏‏بَطَرُ ‏‏الْحَقِّ ‏، ‏وَغَمْطُ ‏ ‏النَّاسِ " .
رواه مسلم ( 91 )

بَطْر الْحَقِّ : ‏‏فَهُوَ دَفْعه وَإِنْكَاره تَرَفُّعًا وَتَجَبُّرًا .

وَغَمْط النَّاسِ : وَذَكَره أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ , وَغَيْرُهُ ( غَمْض ) بِالصَّادِ وَهُمَا بِمَعْنَى وَاحِد ، وَمَعْنَاهُ اِحْتِقَارهمْ .
قالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ في " الفتحِ " : " وَاَلَّذِي يَجْتَمِع مِنْ الْأَدِلَّة أَنَّ مَنْ قَصَدَ بِالْمَلْبُوسِ الْحَسَن إِظْهَار نِعْمَة اللَّه عَلَيْهِ مُسْتَحْضِرًا لَهَا شَاكِرًا عَلَيْهَا غَيْر مُحْتَقِر لِمَنْ لَيْسَ لَهُ مِثْله لَا يَضُرّهُ مَا لَبِسَ مِنْ الْمُبَاحَات ، وَلَوْ كَانَ فِي غَايَة النَّفَاسَة ... مَعَ مُرَاعَاة الْقَصْد وَتَرْك الْإِسْرَاف جَمْعًا بَيْن الْأَدِلَّة " .ا.هـ.

ونقل الحافظُ عن الطيبي فقال : " قَالَ الطِّيبِيُّ : الْمَقَام يَقْتَضِي حَمْل الْكِبْر عَلَى مَنْ يَرْتَكِب الْبَاطِل ؛ لِأَنَّ تَحْرِير الْجَوَاب إِنْ كَانَ اِسْتِعْمَال الزِّينَة لِإِظْهَارِ نِعْمَة اللَّه فَهُوَ جَائِز أَوْ مُسْتَحَبّ ، وَإِنْ كَانَ لِلْبَطَرِ الْمُؤَدِّي إِلَى تَسْفِيه الْحَقّ وَتَحْقِير النَّاس وَالصَّدّ عَنْ سَبِيل اللَّه فَهُوَ الْمَذْمُوم " .ا.هـ.

وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ : " إنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ ، فَلُبْسُ الْمُنْخَفِضِ مِنْ الثِّيَابِ تَوَاضُعًا وَكَسْرًا لِسُورَةِ النَّفْسِ الَّتِي لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا مِنْ التَّكَبُّرِ إنْ لَبِسَتْ غَالِيَ الثِّيَابِ مِنْ الْمَقَاصِدِ الصَّالِحَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَثُوبَةِ مِنْ اللَّهِ ، وَلُبْسُ الْغَالِي مِنْ الثِّيَابِ عِنْدَ الْأَمْنِ عَلَى النَّفْسِ مِنْ التَّسَامِي الْمَشُوبِ بِنَوْعٍ مِنْ التَّكَبُّرِ لِقَصْدِ التَّوَصُّلِ بِذَلِكَ إلَى تَمَامِ الْمَطَالِبِ الدِّينِيَّةِ مِنْ أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ عِنْدَ مَنْ لَا يَلْتَفِتُ إلَّا إلَى ذَوِي الْهَيْئَاتِ لَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ الْمُوجِبَاتِ لِلْأَجْرِ ، لَكِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ ذَلِكَ بِمَا يَحِلُّ لُبْسُهُ شَرْعًا " .ا.هـ.

وقال أيضاً : " وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكِبْرَ مَانِعٌ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَإِنْ بَلَغَ مِنْ الْقِلَّةِ إلَى الْغَايَةِ . وَإِذَا كَانَ الْكِبْرُ هُوَ الصِّفَةُ النَّفْسِيَّةُ ، وَهِيَ قَصْدُ الِاسْتِعْلَاءِ عَلَى الْغَيْرِ فِي مَكْرُمَةٍ مِنْ الْمَكَارِمِ ، فَإِنَّ هَذَا الْكِبْرَ - أَيْ : التَّكَبُّرَ - إمَّا أَنْ يُحْتَاجَ إلَيْهِ ، أَوْ لَا يُحْتَاجَ إلَيْهِ . فَإِنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِ كَانَ مَحْمُودًا ، كَالتَّكَبُّرِ عَلَى الظَّلَمَةِ ، وَعَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ مِنْ الْكُفَّارِ الْمُحَارِبِينَ ، وَنَحْوِهِمْ ، وَلِذَلِكَ جَازَ الِاخْتِيَالُ فِي الْحَرْبِ إرْهَابًا لِلْعَدُوِّ . وَإِنْ لَمْ يُحْتَجْ إلَيْهِ ، فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ تُرَافِقَهُ نِيَّةُ التَّكَبُّرِ ، أَوْ لَا تُرَافِقَهُ نِيَّةُ التَّكَبُّرِ ، فَإِنْ رَافَقَتْهُ نِيَّةُ التَّكَبُّرِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ مِنْ الْكَبَائِرِ " .ا.هـ.

ومن صورِ الكبرِ التي جاء الوعيدُ عليها ، جر الثياب خيلاء .

‏* عَنْ ‏‏أَبِي هُرَيْرَةَ ‏‏أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏‏قَالَ ‏: " ‏لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا " .
البخاري (5788) ، ومسلم (2087) .

‏* عَنْ ‏‏سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ‏، ‏عَنْ ‏‏أَبِيهِ ‏‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ‏، ‏عَنْ النَّبِيِّ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏قَالَ ‏‏: " مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ ‏‏ خُيَلَاءَ ‏‏لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " ، قَالَ ‏‏أَبُو بَكْرٍ ‏: " ‏يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إِنَّ أَحَدَ شِقَّيْ إِزَارِي يَسْتَرْخِي إِلَّا أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ " ، فَقَالَ النَّبِيُّ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏: " ‏لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ ‏ ‏خُيَلَاءَ " . رواه البخاري (5784) .

قال الإمامُ النووي : " قَالَ الْعُلَمَاء : الْخُيَلَاء بِالْمَدِّ ، وَالْمَخِيلَة ، وَالْبَطَر ، وَالْكِبْر ، وَالزَّهْو ، وَالتَّبَخْتُر ، كُلّهَا بِمَعْنًى وَاحِد ، وَهُوَ حَرَام .

وَيُقَال : خَال الرَّجُل وَاخْتَالَ اِخْتِيَالًا إِذَا تَكَبَّرَ ، وَهُوَ رَجُل خَال أَيْ مُتَكَبِّر ، وَصَاحِب خَال أَيْ صَاحِب كِبْر " .ا.هـ.

وَ‏عَنْ ‏عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ،‏ ‏عَنْ ‏‏أَبِيهِ ‏، ‏عَنْ ‏جَدِّهِ ‏، عَنْ النَّبِيِّ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏‏قَالَ ‏: " ‏يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ ‏، ‏يَغْشَاهُمْ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى ‏: " ‏بُولَسَ ‏" ‏تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ ‏ ‏عُصَارَةِ ‏‏أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الْخَبَالِ " .‏
رواه الترمذي ( 2492 ) ، وَ‏قَالَ : "‏ ‏هَذَا ‏حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ " .

من أسماءِ اللهِ " الْمُتَكَبِّرُ " :

قالَ تعالى : " السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ " [ الحشر : 23 ] .

وقال تعالى : " وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " [ الجاثية : 37 ] .
‏* عَنْ ‏‏أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ ،‏ ‏عَنْ ‏‏أَبِيهِ ‏، عَنْ النَّبِيِّ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏‏قَالَ :‏‏ " جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا ، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا ، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ " . رواه البخاري (7444) ، ومسلم (180) .

وَعَنْ ‏‏أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ،‏ ‏وَأَبِي هُرَيْرَةَ ‏قَالَا ‏: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "‏ ‏الْعِزُّ إِزَارُهُ وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ فَمَنْ يُنَازِعُنِي عَذَّبْتُهُ " .
رواه البخاري (7444) ، ومسلم (180) .

قال الشيخُ علوي السقاف في " صفاتِ اللهِ عز وجل " : " الْكِبْرُ وَ الْكِبْرِيَاءُ : صفةٌ ذاتيةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجلَّ بالكتاب والسنة ، و(المُتَكَبِّر) من أسماء الله تعالى " .ا.هـ.

وقال أيضاً : " قال ابن قتيبة في " تفسير غريب القرآن " (ص 18) : " وكبرياء الله : شرفه ، وهو من (تكبَّر) : إذا أعلى نفسه " .ا.هـ .

وقال قوَّام السُّنَّة في " الحجة " (2/186) : " أثبت الله العِزَّة والعَظَمَة والقدرة والكِبر والقوة لنفسه في كتابه " .

وقال الشيخ عبد الله الغنيمان في " شرحه لكتاب التوحيد من صحيح البخاري " (2 : 161) : " وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن " : ومن المعلوم أن الكبرياء من صفات الله تعالى، ولا يجوز للعباد أن يتصفوا بها ؛ فقد توعد الله المتكبر بجهنم ؛ كما قال تعالى : قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ " .ا.هـ.

ثم قال : " ووصف الله تعالى بأن العَظَمَة إزاره والكبرياء رداؤه ؛ كسائر صفاته ؛ تثبت على ما يليق به ، ويجب أن يؤمن بها على ما أفاده النص ؛ دون تحريف ولا تعطيل " .ا.هـ.
 

كتبه
عَـبْـد الـلَّـه بن محمد زُقَـيْـل

الصفحة الرئيسة      |      صفحة الشيخ