صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







دفع الافتراءات عن كتاب " كشف الشبهات "

بدر بن علي بن طامي العتيبي

 
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

أما بعد :
فقد قرأت كتاب " ؟؟؟ " لمؤلفه بدر الوراد العنزي ، يرد به على كتاب " كشف الشبهات " للإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله تعالى - ، ويؤسفني أن أقول أن الكاتب قد تجشم العقبة الكؤود ، ودعته نفسه إلى ما أحجم عن الإقدام إليه كبار معاصري الشيخ من مخالفيه ومن جاء من بعدهم ! ، فعلى صغر حجم هذه الرسالة إلاّ إن ما فيها من حجج وبينات ثقلت على قلوب الملحدين فلم يحتملوا دفعها ولا رفعها ! ، ففزعوا إلى الشغب ، وحمل الكلام على غير مراد الشيخ ، وإلزامه ما لا يلزمه لا بصريح الكلام ، ولا بفحوى الخطاب ومدلوله ! .
ومضت الأيام والليالي حتى أنجبت الأرحام ( بدر العنزي ) فانبرى لهذا الكتاب يريد إبطاله !! فيما يعتقد ، فعلّق عليه بعجيب التعليق ، وأتى فيه بعجيب التحريف والتلفيق ، فاحتسبت المثوبة من الله تعالى نصرة لدينه لا لشخص محمد بن عبدالوهاب يرحمه الله ، فكتبت هذه المعارضة لما في مزبوره ذلك ، وسميته " دحض الافتراءات على كتاب كشف الشبهات " ، فأقول :
ذكر المعترض بـ [ قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إني لستُ أخشى عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تتنافسوا فيها، فتقتتلوا، فتهلكوا، كما هلك من كان قبلكم ) ] ، متفق عليه من حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه ، واستدل به على أن الشرك لا يقع في هذه الأمة !! ، ثم قال : [وعلى الرغم من ذلك قد خرج من بيننا من يتهم الأمة ويرميها بالشرك جزافا، وقاتل المسلمين، ورماهم بالشرك، بسبب خلاف يخالفهم فيه، وإذا دققنا في حقيقة هذا الخلاف الذي يخالفهم به نجد أن جلّه عبارة عن خلاف فقهي فقط، لا علاقة له فيما يرميهم به من الشرك واتخاذ الأنداد من دون الله تبارك وتعالى ] .
فيقال : أولاً نفي وقوع الشرك في أمة محمد صلى الله عليه وسلم نفي باطل بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين ! ، والله تعالى ذكر في كتابه طائفة ممن صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجاهد معه ، وصح لهم إيمانهم ، ثم بعد ذلك أوقع عليهم الكفر لما ناقضوا الإيمان ، فقال تعالى : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) (التوبة:65-66) ، قال أهل العلم : فأثبت الله لهم الإيمان ، ثم أوقع عليهم الكفر ، فهاهو الشرك وقع على أحد أفراد هذه الأمة ؟ .
ويقول الله تعالى : ( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النحل:106) ، وهذه الآية في صدق وقوع الكفر بعد الإيمان ، وإنما يعذر من كان في ذلك مكرهاً أما من شرح بالكفر صدره بعد إيمانه فهو الكافر المتوعد بهذه العقوبة .
ويقول تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة:54) ، وهذا خطاب لأمة محمد المؤمنة بأنهم لو ارتدوا عن دين الله تعالى لكان الله في غنىً عنهم وسوف يأتي بغيرهم ، ولو كانت الردة والكفر والشرك مستحيلة الوقوع عليهم لما كان لهذا الخطاب والوعيد فائدة لاستحالة وقوع الردة في أهل الإيمان على قولك ؟! .
وقال تعالى : ( وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ ) (التوبة:74)
وقال تعالى : ( يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:217) ، وهذه الآية كسابقتها ، فلو كانت الردة مستحيلة الوقوع في هذه الأمة لما كان لهذا الوعيد فائدة ! .
والآيات في المعنى كثيرة جداً مما يثبت الإيمان ثم يثبت نقضه بموجبٍ من موجبات الخروج منه بالكلية.

أما الأحاديث ، فيقول صلى الله عليه وسلم : ( من بدل دينه فاقتلوه ) رواه البخاري .
ويقول صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث وذكر منها : التارك لدينه المفارق للجماعة ) متفق عليه .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة وذو الخلصة طاغية دوس التي كانوا يعبدون في الجاهلية ) متفق عليه .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين ، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان ) رواه البرقاني في " صحيحه " وأصله في صحيح مسلم .
والأدلة من السنة النبوية أكثر من أن تحصر ، كلها تقضي بإمكانية وقوع الشرك في أمة محمد من جانب ، و حقيقة وقوعه من بعض الناس من جانبٍ آخر .
وأما الإجماع فهو منعقد بإجماع العلماء من كل المذاهب على إمكان وقوع الكفر بعد الإيمان في صورٍ عدة ذكروها في كتب العقائد والفقه تحت أبواب حكم المرتد ! ، وذكروا لذلك صوراً بعضها أقل بكثير من صرف شيٍ من أنواع العبادة لغير الله تعالى : من الاستهزاء بالدين ولو بمدّ الشفاة وتحميض الوجه ، أو تصغير معظم كمسيجد ومصيحف ! ، فكيف بمن ارتكب ما جهاد النبي صلى الله عليه وسلم الكفار عليه من صرف شيٍ من أنواع العبادة لغير الله تعالى ؟! ، وتعظيم القبور ، والعكوف عندها ، وتقديم القرابين لها ، والحج لها ، ونسبة بعض خصائص الربوبية والألوهية للمخلوقين ؟! .

ولولا ضيق المقام لنقلت من كتب الفقه من شتى المذاهب : أبواب حكم المرتد ، وذكرهم لموجبات الردة القولية والعلمية والاعتقادية ، ولعلي أنقل هنا بعضاً مما جاء في ذلك ، قال صاحب " الإقناع " : ( فمن أشرك بالله ، أو جحد ربوبيته ، أو وحدانيته ، أو صفة من صفاته [ ثابتة بدليل قطعي ] ، أو اتخذ له صاحبة ، أو ولداً ، أو ادعى النبوة ، أو صدق من ادّعاها ، أو جحد نبياً ، أو كتاباً من كتب الله ، أو شيئاً منه ، أو جحد الملائكة ، أو البعث ، أو سب الله ، أو رسوله ، أو استهزأ بالله ، أو رسله ، أو كتبه ، قال الشيخ [بن تيمية رحمه الله ] : أو كان مبغضاً لرسوله أو لما جاءه [ كفر ] اتفاقاً ، وقال : أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ، ويدعوهم ويسألهم ، [ كفر ] إجماعاً ، انتهى .
أو سجد لصنم ، أو شمس ، أو قمر ، أو أتى بقولٍ أو فعلٍ صريح في الاستهزاء بالدين ، أو وجد منه امتهان للقران ، أو طلب تناقضه ، أو دعوى أنه مختلف ، أو مختلق ، أو مقدور على مثله ، أو إسقاط لحرمته ، أو أنكر الإسلام ، أو الشهادتين ، أو أحدهما ، كفر ، .. ، وإن أتى بقولٍ يخرجه من الإسلام ، مثل أن يقول : هو يهودي ، أو : نصراني ، أو : مجوسي ، أو : برئ من الإسلام ، أو : القران ، أو : النبي عليه الصلاة والسلام ، أو يعبد الصليب ، .. ، أو قذف النبي صلى الله عليه وسلم ، أو أمه ، أو اعتقد قدم العالم ، أو حدوث الصانع [ أي الخالق عز وجل ] ، أو سخر بوعد الله ، أو بوعيده ، أو لم يكفر من دان بغير الإسلام ، كالنصارى ، أو شك في كفرهم ، أو صحح مذهبهم ، أو قال قولاً يتوصل به إلى تضليل الأمة ، أو تكفير الصحابة ، فهو كافر .
قال الشيخ [ ابن تيمية رحمه الله ] : من اعتقد أن الكنائس بيوت الله ، وأن الله يعبد فيها ، أو أن م يفعله اليهود والنصارى عبادة لله ، وطاعة لرسوله ، أو أنه يحب ذلك ، أو يرضاه ، أو أعانهم على فتحها وإقامة دينهم ، وأن ذلك قربة أو طاعة ، فهو كافر ، وقال في موضع آخر : من اعتقد أن زيارة أهل الذمة كنائسهم قربة إلى الله ، فهو مرتد ، وإن جهل أن ذلك محرّم : عرّف ذلك فإن أصرّ ، صار مرتدا .
وقال [ ابن تيمية رحمه الله ] : قول القائل : ما ثمّ إلاّ الله ، إن أراد ما يقوله أهل الاتحاد من أن ما ثمّ موجود إلاّ الله ، ويقولون : إن وجود الخالق هو وجود المخلوق ، والخالق هو المخلوق ، والعبد هو الربّ ، والربّ هو العبد ، ونحو ذلك من المعاني ، وكذلك يقولون : إن الله تعالى بذاته في كلّ مكان ، ويجعلونه مختلطاً بالمخلوقات ، يستتاب فإن تاب و إلاّ قتل .

وقال [ ابن تيمية رحمه الله ] : من اعتقد أن لأحدٍ طريقاً إلى الله من غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم ، أو لا يجب عليه إتباعه ، أو أن له أو لغيره خروجا عن إتباعه ، وأخذ ما بعث به ، أو قال : أنا محتاج إلى محمد في علم الظاهر دون علم الباطن ، أو ف علم الشريعة دون علم الحقيقة ، أو قال : إن من الأولياء من يسعه الخروج على شريعته ، كما وسع الخضر الخروج على شريعة موسى ، أو غير هدى النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه ، فهو كافر .
وقال : من ظنّ أن قوله تعالى : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ }(الإسراء: 23) بمعنى : قدّر ، فإن الله ما قدّر شيئاً إلاّ وقع ، وجعل عبّاد الأصنام ما عبدوا إلاّ الله ، فإن هذا من أعظم الناس كفراً بالكتب كلها ، .. ، وقال : من سبّ الصحابة ، أو أحدٍ منهم ، واقترن بسبه دعوى أن علياً إله أو نبي ، وأن جبريل غلط ، فلا شك في كفر هذا ، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره ، وكذلك من زعم أن القران نقص منه شي وكُتم ، أو أن له تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة ، ... ، ومن قذف عائشة رضي الله عنها ، بما برأها الله منه ، كفر بلا خلاف ، ... ) إلى آخر كلامه رحمه الله ، وما بين الحاصرتين منّي للتوضيح .
وقد صنّف ابن حجر الهيتمي المكي رسالته المشهورة المسماة بـ ( الإعلام بقواطع الإسلام ) ذكر فيها أضرباً من المكفرات عند أئمة المذاهب الأربعة وعلمائها ، وسبقه جماعة من أهل العلم في ذلك .

فنفي وقوع الشرك أو الردة في بعض أفراد هذه الأمة لا يستطيع دفعه أحد من الناس ، وأما أن تجتمع أمة النبي صلى الله عليه وسلم على الشرك بالله تعالى ، فهذا لم يقل به أحد من العالمين ، ومن الكذب نسبة ذلك للإمام محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله تعالى – وكلامه ، ومؤلفاته ، كلها تنقض هذه الفرية السفسطائية ! ، وبهذا يظهر للقارئ الكريم مبلغ تجني المعترض في قوله التالي : [ وعلى الرغم من ذلك قد خرج من بيننا من يتهم الأمة ويرميها بالشرك جزافا، وقاتل المسلمين، ورماهم بالشرك، بسبب خلاف يخالفهم فيه، وإذا دققنا في حقيقة هذا الخلاف الذي يخالفهم به نجد أن جلّه عبارة عن خلاف فقهي فقط، لا علاقة له فيما يرميهم به من الشرك واتخاذ الأنداد من دون الله تبارك وتعالى ].
فأقول : هو بلا شك يعني الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى ، وأعوذ بالله تعالى من شأن المنافقين ! ، حيث وصف الله المنافق بالفجر في الخصومة ، فتحمله مخاصمته للغير على الكذب والفجور نصرة لنفسه ! ، والله تعالى عز مكله وسلطانه أمر بالعدل ونهى عن الظلم ، قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) (النساء:58) ويقول تعالى : ( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)(المائدة: من الآية8) ، ويقول تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة:119) .
فمن أين جاء هذا المعترض بأن الشيخ محمد بن عبدالوهاب جاء ( بتكفير الأمة ) أجمع ؟! ، ورميها بالشرك ؟ ، وقاتل المسلمين ؟! .
فإن هذا من أكذب الكذب ، وأبطل الباطل ، حتى إن الشيخ رحمه الله تعالى لما سئل عن فرية أنه يكفر بالعموم ، وأن يستبيح دماء المسلمين ، كان يقول دائماً : سبحانك هذا بهتان عظيم .
قال الشيخ في " عقيدته " : ( ولا أكفر أحداً من المسلمين بذنب ، ولا أخرجه من دائرة الإسلام .. ) [ الدرر السنية : 1 / 32 ] .
ثم قال رحمه الله تعالى : ( وإن قال قائلهم : إنهم يكفرون بالعموم فنقول : سبحانك هذا بهتان عظيم ) [ الدرر السنية : 1 / 63 ] وانظر [ 1/71-72 ] ومواطن عدة أخرى .
فهذا كلام الشيخ بنفسه عن نفسه فلماذا ترمونه بما لم يفعل أو يقل ، والله تعالى يقول : ( وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (النساء:112) ، وقال تعالى : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (الأحزاب:58).
وقال المعترض : [ وإذا دققنا في حقيقة هذا الخلاف الذي يخالفهم به نجد أن جلّه عبارة عن خلاف فقهي فقط، لا علاقة له فيما يرميهم به من الشرك واتخاذ الأنداد من دون الله تبارك وتعالى ] .
فيقال : هذا الكلام مخالف للحقيقة ، وأوقعك في الحقيقة التي لم تلتزم بها !! ، أما مخالفته للحقيقة ، فالشيخ لم يخالف أهل الضلال في عصره في مسائل فقهية فرعية ، وإنما خالفهم في مسائل أصلية بل أصول الأصليات !! من توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة ، حيث خرج على أقوام يعيدون دين الجاهلية ، ويعكفون على القبور ، ويتقربون إليها بشتى القرابين والنذور ، ويعتقدون في الأولياء ما يعتقده المشركون الذين نزل في ظهرانيهم القرآن ، فهذه المسائل ليست فرعية بل أصل الأصلية ، وبذلك استحق الإمام وصفه بالتجديد ، كما قال عالم صنعاء محمد بن الأمير الصنعاني في دليته :

وقد جاءت الأخبار عنه بأنه ***** يعيد لنا الشرع الحنيف بما يبدي
وينشر جهراً ما طوى كل جاهلٍ **** ومبتدعٍ منه فوافق ما عندي
ويعمر أركان الشريعة هادماً **** مشاهد ضل الناس فيها عن الرشدِ
أعادوا بها معنى سواع ومثله ***** يغوث و ودٌ بئس ذلك من ودِّ
وقد هتفوا عند الشدائد باسمها **** كما يهتف المضطر بالصمد الفردِ
وكم عقروا في سوحها من عقيرة **** أهلّت لغير الله جهراً على عمدِ
وكم طائف حول القبور مقبل **** ومستلم الأركان منهن بالأيدي

إلى أن قال :

فأكرم رب الناس بالنصر حزبه **** فولت جيوش البغي بالخزي والطردِ
وذي سنة الجبار في كل من بغوا ***** على حزبه يمنون بالقصم والردِّ
محمد الهــادي لـسـنة أحمدٍ ***** فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي

إلى آخر قصيدته عليه رحمة الله عز وجل .
وأما كون هذا الكلام أوقعك في الحقيقة التي لم تلتزم بها ، فمن حيث أننا لو فرضنا التسليم لما قالت بأنه أنما خولف في مسائل فرعية فقهية خلافية ، وأغلظ النكير على المخالفين فيها ، فكيف لا يعذر بما طلبتم منه العذر ، واعترفتم بفضله ، وأن المسألة محل خلاف ونظر ، وإنما أخطأ في الحكم على المخالف ، ولم يصل بكم الظلم والتجني إلى وصفه بالخروج ، والمروق من الدين ، وسفاهة العقل ، و وصفه بخرق الإجماع ! ، بل والطعن في كل ما يتعلق به من أمانته ونسبه وغير ذلك ؟! ، فأين هذه الحقيقة الغائبة عنكم في فقه الخلاف ، ورحمة المخالف ؟! .

ثم قال المعترض في مقدمته : [ بل ونجد أن نهجهم يشبه نهج الخوارج في تكفير المسلمين حيث أنهم يجعلون الآيات التي نزلت على المشركين يحملونها على المسلمين الموحدين من هذه الأمة ] .
فيقال : هذا من الكلام يدل على جهل المعترض بدعوة الشيخ رحمه الله تعالى ، ويدل على بعده عن حلية الإنصاف في النقد والرد ، ولو نظر في مؤلفات الشيخ ، وذمه للخوارج وطريقتهم ، ومعرفة ما يكفّر الشيخ به خصومه لم يقل بأن الشيخ يكفر المسلمين بالذنب !! كالخوارج ، وسبق أن نقلت من بعض كلام الشيخ ما ينقض ذلك ، وكشف هذه الفرية لا يحتاج إلى كبير عناء ، ولم يذكرها في الشيخ الإمام إلاّ من أسلم عقله لمتبوعه ولم ينظر بعين العدل والقسط الذي أوجبه الله تعالى على عباده .

ثم قال المعترض في " مقدمته " : [ وقد قال الإمام العلامة الشيخ محمد أحمد رضا خان الأفغاني القادري البريلوي – رحمه الله – في كتابه " الدولة المكية بالمادة الغيبية" يقول ما نصه : اعلم أن ملاك الأمر مناط النجاة الإيمان بالكتاب كله وما ضل أكثر من ضل إلا أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض ..." ] .
فيقال : هذا النقل فاضح وقاصر من وجهين : أحدهما فساد عقيدة المنقول عنه فالبريلوية من أكثر الطوائف انحرافا في المعتقد ، وقد صنّف في بيان حالهم العديد من المصنفات ممن عاشرهم وعاصرهم ، وما بلي أهل التوحيد والإسلام في الديار الهندية بأشد بلية من البريولية ، ولا أجد المقام يسمح الآن في بيان فساد هذا المعتقد ، ومحله موطن التفصيل بإذن الله تعالى .
أما الوجه الثاني : فإن من حسن التحقيق النقل عن الأول فالأول ، وهذا الكلام ليس فيه مزيد عن كلام الأئمة من قبل ، وقد نصّ عليه جماعة من أهل العلم من قديم الزمان ممن هم قبل هذا الأفغاني ! ، ومن أشهر من يتردد نقله في هذا الباب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ، وإلا فقد نص عليها الإمام أحمد ، وعبدالعزيز الكناني في " الحيدة " وغيرهم .
تم بذلك اللقاء الأول ويليه الثاني بإذن الله تعالى .
 



دفع الافتراءات عن كتاب " كشف الشبهات "
اللقاء الثاني :


الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :

وحان الآن اللقاء الثاني مع المقطع الثاني في نقد المعترض لكتاب " كشف الشبهات " لشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله تعالى - ، وفي حقيقة الأمر لا أخفي القارئ الكريم مخفي الحال أنني عندما رأيت هذا الكتاب للمعترض ظننت أن فيه ما يستوجب استشراف أهل السنة والتوحيد للتصدي له ، وأنه ناقش الكتاب بأسلوب علمي يستحق المعارضة ! ، بيد أنني فوجئت بخلاف ذلك ، بل ظهر لي زيادة على افتقاره للحجة والدليل ، قصور علم كاتبه في سبك الكلام ، وسلامة المنطق ، وضعف اللسان في العربية فقهاً وإعرابا !! ، وسوف يرى الناظر حقيقة ذلك في ثنايا الرد بإذن الله تعالى ، فأقول:

عند قول الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى في " كشف الشبهات " : { بسم الله الرحمن الرحيم ، أعلم يرحمك الله أن التوحيد هو إفراد الله سبحانه بالعبادة . وهو دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده فأوّلهم نوح عليه السلام أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين " ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر" وآخر الرسل محمد – صلى الله عليه وسلم – وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين ) .

انتقد عليه المعترض انتقادات عدة ، ومن ذلك قوله : [ التوحيد هو التوحيد أن يؤمن الرجل بالله عز وجل بيقين راسخ لا يقبل فيه الشك بأن الله تعالى موجود خالق رازق محيي ومميت بيده ملكوت كل شيء عندها عليه أن يجعل عبادته لله تعالى خالصة لوجهه لا لصنم أو لشجر أو لشمس أو لقمر بل لله وحده لا شريك له ] .
أقول : على ما في هذا الكلام من ركاكة أسلوب ، إلا أن لم يأتِ بجديد حيث أنه ما ذكره بعد طول تفصيل وعناء هو شرح ما ذكره الشيخ الإمام من أن التوحيد هو إفراد الله تعالى بالعبادة ! ، بل نصّ هذا المعترض على ذلك حيث قال في كلامه : [ عندها عليه أن يجعل عبادته لله تعالى خالصة لوجهه لا لصنم أو لشجر أو لشمس أو لقمر بل لله وحده لا شريك له. ] .
وكلام الشيخ أبلغ من كلامه لعمومه في بطلان جميع ما يعبد من دون الله تعالى ، أو جميع من يصرف له شيٌ من أنواع العبادة ! ، ولا يخص ذلك بالأصنام والأشجار والشمس والقمر فقط ، ولهذت يقول الله تعالى : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (لقمان:30) ، فكل ما سوى الله تعالى معبود باطل ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أصدق كلمة قالها الشاعر لبيد : ألا كل شي ما خلا اله باطل ) .
وهذا هو معنى لا إله إلاّ الله ، أي لا مستحق للعبادة إلاّ تعالى وحده ، ولهذا سميت هذه الكلمة بـ ( العروة الوثقى ) و ( القول السديد ) ، والاعتراف لله تعالى بالانفراد باستحقاق العبادة متضمن للاعتراف له بالوجود والخلق والرزق وملك السموات والأرض وسائر صفات الربوبية والقيومية على الخلق .
ومجرد طلب هذا الاعتراف لم يأتِ الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام - لإثباته للعالمين ، حيث لم ينكره أحد من الخلق وعلى رأسهم إبليس الأكبر ! ، بل حتى فرعون الطاغية وقومه لم ينكروا حقيقة وجود الله تعالى ، وأنه الخالق الرازق المدبر المحيي المميت ، ولهذا فضحه الله تعالى في قوله : ( قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) (الإسراء:102) ، وقال سبحانه وتعالى : ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (النمل:14) ، ولما قال فرعون لموسى ولأخيه هارون - على نبينا وعليهما الصلاة والسلام - : ( قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (طـه:49-50) فلم يحر الطاغية جواباً عند ذلك .
بل كفار قريش الذين نزل القرآن بين ظهرانيهم ، وقاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم واستباح دمائهم لم ينكروا ذلك ، وقد حُفظ عنهم في آثارهم وأشعارهم ، بل وكلام الله تعالى أصدق قيلاً ، حيث قال تعالى : ( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) (يونس:31 ) .
وقال تعالى : ( قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) (المؤمنون:88- 89 ) .
وقال تعالى : ( أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (النمل:62-64 ) .
وقال تعالى : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (العنكبوت:61-63 ) .
وقال تعالى : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (لقمان:25 ) .
وقال تعالى : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) (الزمر:38 ) .
وقال تعالى : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) (الزمر:38 ) .
وقال الله تعالى : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) (الزخرف:9 ) .
فيا أرباب الحِجا ، ويا أصحاب العقول : اقرءوا كلام الله تعالى ، وكيف حاج الله تعالى كفار قريش ، وألزمهم بآيات وجوده على طلب تحقيق ( إفراده بالعبادة ) ؟! .
ألم تكن الكعبة بين أظهرهم ، ألم يكونوا يقفون على الصفا والمروة ، ألم يكونوا يخرجون حجاجاً إلى عرفة ومزدلفو ومنى ؟! .
ألم تكن تلبيتهم : ( لبيك لا شرك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك ) رواه مسلم ، إذا علم العبد هذا علم يقيناً أن مجرد الاعتراف بأن الله تعالى هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت وغير ذلك من صفات الربوبية ليس هو لبّ دعوة الأنبياء ورسالتهم ، بل لبّها هو ( عبادة ) من لا يستطيعون دفع ( ربوبيته ) دون غيره سبحانه وتعالى : ( قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) (ابراهيم:10 ) .

أما قول المعترض : [ فالتوحيد : هو علم تعرف به ما يجب وما يجوز وما يستحيل في حق الله تبارك وتعالى ، وكذلك في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيما يجب وما يجوز وما يستحيل، وبه يتم معرفة السمعيات والإيمان بها على الوجه المطلوب شرعاً ] .
فأقول : التوحيد : تفعيل من واحد ، أي جعله واحداً ، والشيخ هنا لم يرد به تعريف العلم ، وإنما أراد تفسير عمل المكلفين الذي يجب تأديته إلى الله تعالى وهو ( التوحيد ) الواجب لله تعالى ، فلا يصرف إلى غيره شيُ من أعمال المكلفين من دعاء ورغبة ورهبة وإنابة وصلاة وصوم وحج وغير ذلك مما صدق شرعاً تسميته عبادة .
وتعريف المعترض لعلم التوحيد – على ما فيه من نظر - لا يدفع ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ، فقول الإمام : { التوحيد هو إفراد الله سبحانه بالعبادة } يشمل معنى الحق الواجب لله ، وينفي الوصف المستحيل على الله وهو ( الإشراك ) ضد ( الإفراد ) ، والجواز داخل فيما يثبت له تعالى من حق .
وأما النظر الذي أعنيه في تعريف المعترض فهو ضم : معرفة الحق الواجب للأنبياء عليهم السلام إلى منطوق علم التوحيد ! .
وفي الحقيقة أن معرفة الحق الواجب لهم عليهم السلام لا يدل عليه منطوق مسمى التوحيد ، وإنما هو من لوازمه هذا التوحيد فيعرف ذلك بالتضمن ، فتوحيد الله تعالى لا يصح حتى يؤمن العبد بكل ما يجب الإيمان به .
وعليه فمعرفة حقهم الواجب – عليهم الصلاة والسلام - من باب الإيمان ، والإيمان أعم من التوحيد .
فالتوحيد خاص لما يتحقق فيه ( الإفراد ) من وحّد يوحد ، والمطلوب إفراد الله تعالى بالإقرار بربوبيته ، وألوهيته ، وأسمائه وصفاته .
ولا يصح تسمية الإقرار : بالرسل أو الملائكة أو القدر أو الكتب و اليوم الآخر : توحيداً ، فلا يقال ( موحد بالرسل ! ) و ( موحد بالملائكة ) ونحو ذلك .
وإنما يصدق في ذلك الإيمان وهو التصديق والإقرار .
أما التوحيد فهو خاص بالحقوق الواجبة لله تعالى من المكلفين في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته ، والإقرار به ( يتضمن ) الإقرار بباقي أصول الإيمان الستة ، فالإيمان يشملها كلها ، ويسمى الإيمان الواجب لله تعالى – خاصة - توحيدا لإفراده بالربوبية والألوهية والأسماء والصفات .
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : ( وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم التَّمِيمِيّ فِي " كِتَاب الْحُجَّة " : التَّوْحِيد مَصْدَر وَحَّدَ يُوَحِّد , وَمَعْنَى وَحَّدْت اللَّه اِعْتَقَدْته مُنْفَرِدًا بِذَاتِهِ وَصِفَاته لَا نَظِير لَهُ وَلَا شَبِيه , وَقِيلَ مَعْنَى وَحَّدْته عَلِمْته وَاحِدًا , وَقِيلَ : سَلَبْت عَنْهُ الْكَيْفِيَّة وَالْكَمِّيَّة فَهُوَ وَاحِد فِي ذَاته لَا اِنْقِسَام لَهُ , وَفِي صِفَاته لَا شَبِيه لَهُ , فِي إِلَهِيَّته وَمُلْكه وَتَدْبِيره لَا شَرِيك لَهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ وَلَا خَالِقَ غَيْره ) .
ولهذا فرق أهل العلم بين ( مسائل الإيمان ) و ( مسائل التوحيد ) .
فالبخاري جعل في أول كتابه ( كتاب الإيمان ) وفي آخره ( كتاب التوحيد ) .
والحافظ ابن منده ألف كتابين ( كتاب التوحيد ) و ( كتاب الإيمان ) .
وتقدم أن معنى الإيمان أشمل من معنى التوحيد ، وأن التوحيد خاص من حيث منطوقه بذات الله العلية وحقوقه الواجبة .
يتبع إن شاء الله
وكتب
بدر بن علي بن طامي العتيبي

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
أبو ريان الطائفي
  • رسائل
  • مقالات
  • الصفحة الرئيسية