اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/ageel/20.htm?print_it=1

العلم والعقل في الموقف من شذوذات العلماء

عقيل بن سالم الشمري

 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الهادي البشير، وبعدُ:

فلا زالت الأمة ولودًا، تلِد العلماء وطلَبة العلم وأهْل الدعوة والجهاد، والغيورين على دينها وهُوِيّتها، ومع تزايُد العلماء وتفرُّقهم في البلْدان وأصقاع الأرض، فإننا نسمع أحيانًا بفتاوى شاذَّة، تُخالف النَّصَّ الشرعي، فيطير لها أهلُ الأهواء والمرْجِفون فتزيدهم فتْنة، ويثبت لها أهلُ الإيمان والعلْم الراسخ، فتزيدهم تثْبِيتًا وإيمانًا.

ثم أتى الإعلامُ برجاله المتربِّصين، وأتْباعهم مِن مرضى القلوب، فجمعوا شذوذات العلماء وزلاتهم؛ ليضربوا بها المحكَم مِن أقوال أهْل العلم، فانتقلت الأقوالُ الشاذة من حيِّز الشذوذ والإهمال إلى حيِّز الاعتبار والإعمال، فقلَّدَها المقلدونَ احتجاجًا بالخلاف، ثم خرَّجُوا عليها تخريجاتٍ وفروعًا لَم تطرأ على صاحب القول الشاذ أول الأمر.

وأصبح الكثيرُ من الناس يتساءل بفطرةٍ نقيَّة:


هل الدِّين تغيَّر؟ أو أن العلماء لم يؤدُّوا أمانة العلم، فكتمُوا علينا أقوالاً شرعيَّة؟

كما زاد الاحتجاج بأقوال الرجال والعلماء على حساب السُّنة النبويَّة، حتى أصبح المناقِش أحيانًا حين تعجزه الحجَج النبوية، يرجع إلى حججٍ عصبية مقيتة، قائلاً: فلان أعلم منك! وهل يعقل أنَّ فلانًا لَم يسمع بهذا الحديث؟! ولأنَّ الشُّذوذ في الأقوال قديمٌ قِدم الاجتهاد نفسه، فسأذكُر منهج أهل السُّنة والجماعة والراسخين في العلم من تلك الزَّلاَّت والفتاوى الشاذة، وهو موقف يقوم على (العلْمِ الراسخ والعقل الكامل)، على أن الشذوذات المقصودة في كلامي ما اختص بالجانب الفِقهي، أمَّا الشذوذ في العقيدة، فهو البدْعة:

أولاً: الرسول - صلى الله عليه وسلم - والبيان:


أنْزَل الله كتابَه على رسوله - صلى الله عليه وسلم - لِيُبيِّن للناس؛ كما قال: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ [النحل: 44]، وأعطاه الفصاحة وجوامع الكلِم والإعجاز، فقام بالبيان خير قيام، فلم يتركْ طائرًا يطير في السماء إلا أعطانا منه خَبَرًا، حتى تعَجَّب المشركون من ذلك، كما في حديث سلمان في "صحيح مسلم".

ثانيًا: العصمة:

لَم يجعل الله أحَدًا معصومًا غير رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقد عبَّر عنها الإمامُ مالك بعبارةٍ جامِعة مانعة، فقال: كُلٌّ يُؤخَذ من قوله ويُرَدّ، إلا صاحب القبر.

والتطبيق العملي لهذا الأصل الأصيل: أنهم لا يعْصِمُون أحدًا عن الخطأ كائنًا من كان، وليس مِن شروط العالِم أو الولي ألا يخطئ ولا يذنب، لكنَّهم يوجبون التوبة على كلِّ أحد، وبهذا نعلم ضلال مَن ادَّعى العصمة لأحد غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوِ ادَّعَى أنه يمكنه تشريع هديٍ غير هديه - صلى الله عليه وسلم.

قال شيخ الإسلام - رحمه الله - في "الفتاوى" (11/66): "ليس مِنْ شرط أولياء الله المتقين ألا يكونوا مُخطئين في بعض الأشياء خطأ مغفورًا لهم، بل ليس من شرطهم ترْك الصغائر مُطلقًا، بل ليس من شرطهم ترْك الكبائر أو الكفر الذي تعقبه توبة"[1].

ثالثًا: الخطأ طبيعة بني آدم:


ينْبَنِي على النقطة السابقة عدم سلامة بني آدم من الأخطاء، إلا أنهم يتفاوَتون في مقدارها وأنواعها، وقد ورد في الأثر: ((كل ابن آدم خطَّاء، وخير الخطَّائِين التوابون))[2]، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للصحابة الكرام: ((لو لَم تذنبوا لذهب الله بكم، ولَجَاء بقوم يذنبون فيستغفرون، فيغفر لهم))[3]، وسار على تقرير ذلك أهل العلم؛ فهذا الإمام الشافعي يقول: "قد ألفتُ هذه الكتب ولم آلُ فيها، ولا بد أن يوجد فيها الخطأ، إنَّ الله تعالى يقول: ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82][4].

وقال تلميذه المزَنِي: "لو عُورض كتابٌ سبعين مرة لوُجد فيه خطأ؛ أبَى الله أن يكونَ كتابٌ صحيح غير كتابه"[5].

وقال الإمام أحمد: "ما رأيتُ أحدًا أقل خطأ من يحيى بن سعيد، ولقد أخطأ في أحاديث ثم قال: "ومَن يعرَى من الخطأ والتصحيف؟!"[6].

وقال الإمام الترمذي: "وإنما تفاضَل أهلُ العِلْم بالحفْظ والإتْقان، والتثبُّت عند السماع، مع أنه لم يسلمْ من الخطأ والغلَط كبير أحَدٍ مِن الأئمة مع حفْظِهم"[7].

رابعًا: ضابط القول الشاذ:


القول الشاذ لا يكاد يخْفى على أحدٍ - ولله الحمد - ويتبيَّن بما يلي:


أ - القول الشاذ هو المخالف للدليل الشرعي من النص والإجماع:
وهذا من اختصاص أهل العلم، فهُم أعْرَف الناس بمُخالفة الدليل، ولهم في دلالة الدليل مؤلَّفاتٌ، بابُها علم أصول الفقه، ولهذا لا يحق لأحدٍ غير أهل العلم الحكم بأن قولاً ما مُخالف للدليل، ما لم يكن له إلمام بأنواع الأدلة وأقسام دلالة الألْفاظ.

ب - القول الشاذ ما أوجد حيْرةً واضطرابًا وتردُّدًا في قلب المؤمن:
لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الإثمُ ما حاك في صدْرك، وكرهتَ أن يطلعَ عليه الناسُ))؛ رواه مسلم، وفي رواية لأحمد: ((وإنْ أفتاك الناس)).

قال ابن رجب - رحمه الله - تعليقًا على هذا الحديث: "فهذا يدلُّ على أنَّ الحقَّ والباطل لا يلتبِسُ أمرُهما على المؤمن البصير، بل يعرف الحقَّ بالنُّور الذي عليه، فيقبله قلبُه، ويَنفِرُ عن الباطل، فينكره ولا يعرفه"[8].

وقال أيضًا: "وقوله في حديث وابصة وأبي ثعلبة: ((وإنْ أفتاك المفتون))؛ يعني: أنَّ ما حاك في صدر الإنسان فهو إثمٌ، وإنْ أفتاه غيرُه بأنَّه ليس بإثمٍ، فهذه مرتبةٌ ثانيةٌ، وهو أنْ يكونَ الشيءُ مستنكرًا عندَ فاعله دونَ غيره، وقد جعلَه أيضًا إثمًا، وهذا إنَّما يكون إذا كان صاحبُه ممَّن شرح صدره بالإيمان، وكان المفتي يُفتي له بمجرَّد ظن أو ميلٍ إلى هوى من غير دليلٍ شرعيٍّ، فأمَّا ما كان مع المفتي به دليلٌ شرعيٌّ، فالواجب على المستفتي الرُّجوعُ إليه، وإنْ لم ينشرح له صدرُه، وهذا كالرُّخص الشرعية؛ مثل: الفطر في السفر، والمرَض، وقصر الصَّلاة في السَّفر، ونحو ذلك ممَّا لا ينشرحُ به صدور كثيرٍ مِنَ الجُهَّال، فهذا لا عبرةَ به"[9].

ج - القول الشاذ ما استغربه جمهور المسلمين:
ويدل له قول معاذ - رضي الله عنه -: "اجْتَنِبُوا مِنْ كَلاَمِ الْحَكِيمِ كُلَّ مُتَشَابِهٍ، الَّذِي إِذَا سَمِعْتَهُ قُلْتَ: مَا هَذَا؟"[10].
أي: على وجْه الاستغراب؛ لأنَّه مخالف لغيره.

فلهذا لا يخفى القول الشاذ على جمهور المسلمين، وقد جعل الله للقول الحق نورًا يُعرَف به، ولم يجعل الله الحق ملتبسًا؛ بحيث يخفى على جمهور علماء المسلمين، بل من رحمته جعل له أماراتٍ وعلاماتٍ وأدلةً يعرفها أهلُ العلم، ويتفاضَلون في تحصيلها.

خامسًا: خطورة زلة العالِم:

زلَّة العالِم يضلُّ بها عَالَم، ولقد حذَّر الصحابةُ الكِرام منها؛ فقال زِيَاد بن حُدَيْر: قال لي عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال: قلتُ: لا، قال: يهدمه زلَّة العالِم، وجِدَال المنافق بالكتاب، وحُكم الأئمة المضلين"[11].

وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "ويْلٌ للأتباع من عثرات العالِم"[12].

ولهذا يشَبِّهُون زلَّة العالِم بانْكِسار السفينة، فيغرق بانكسارها خلْقٌ كثيرٌ.

فنُلاحظ أن السلَف لَم يجعلوا مِن زلات العلماء مسائل خلافيَّة، يُخَرِّجون عليها فُرُوعًا فقهية، ويستدلون بمجرد ثبوتِها عن العالِم، وإنما جعلُوها فتنة يستعيذ المؤمن مِن شَرِّها، ويتوَرَّع عن قَبُولِها؛ ليسلم له دينه وعبادته لربِّه.

ولخطورة زلَّة العالِم فقد ذكَرها أهلُ العلم في مؤلَّفاتهم، فمنهم:


الحافظ ابن عبدالبر: حيث أفرد فصلاً في كتابه "الجامع في بيان العلم وفضله".

والحافظ ابن القيم: في كتابه "إعلام الموقعين".

والإمام الشاطبي: في كتابه "الموافَقات"، وغيرهم كثير.

وعلى هذا يتأتَّى سؤالٌ:


ما بال أهلِ العلم يُحذِّرون من زلة العالِم مع أنها مبنيَّة على اجتهادٍ لا يكون صاحبُه آثمًا؟

ووجه التحذير هو: الآثار المترَتِّبة على زلة العالِم، حيث يترتَّب عليها آثارٌ خطيرة منها:


1- اتِّباع المقلِّدين لها، مع أنها في الأصل خارجة عن حُكْم الشرع.

2- وجود مَن يُنافح عنها؛ نظرًا لمكانة قائلِها؛ مما يجعل المنافِح يُحاول تأصيلها وحشْد الأدلة لها؛ حتى تلتبسَ على مَن يُطالعها.

3- قد يكثر أتباعها، فتنتقل المسألة عند البعض مِن حيِّز الشذوذ إلى مسألة مُعتبرة الخلاف، وهو أشد آثارها.

4- تخريج بعض الأتباع عليها مسائل أخرى، فتُبْنى مسائل على أصلٍ شاذٍّ.

سادسًا: المنهج تجاه القول الشاذ:

منهج أهل السنة والجماعة والراسخين في العلم تجاه القول الشاذ يتلخَّص فيما يلي:


أ - القول الشاذ للعالِم لا يجوز اتِّباعه ولا تقليده فيه، وإنما يُسأل لقائله المغفرة والعفو.

ب - على إخوانه من أهل العلم مُناصحته، وبيان القول الصحيح الموافق للدليل الشرعي؛ ليتوبَ القائل إن كان حيًّا من قوله الشاذ، وليترك العمل به.

وهذا كله داخل في النصيحة الواردة في حديث تميم الداري مرفوعًا: ((الدين النَّصيحة))، قلنا: لِمَنْ؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولأئمة المؤمنين وعامتهم))[13]، قال ابن رجب معلقًا على هذا الحديث: ومِمَّا يختص به العلماء ردّ الأهواء المضِلَّة بالكتاب والسنة على مُورِدِها، وبيان دلالتهما على ما يخالف الأهواء كلها، وكذلك رد الأقوال الضعيفة من زلاَّت العلماء، وبيان دلالة الكتاب والسنة على ردِّها"[14].

ج - الإعراض عن زلاَّت العلماء وسقطاتهم حتى تموت بِمَوْتهم، ومِن أفضل الخلْق مَن تموت مثالبُه بمَوْته.

ومن الإعراض عن الأقوال الشاذة:


عدم ذكرها ونشرها والاستدلال لها والمنافحة عنها، ولم يزلْ أهلُ العلم في كل عصر يردُّون شذوذات الأقوال، ولئن نقلوها في كُتُبِهم فمِن باب ما يسمَّى اليوم: الأمانة العلمية، في حصر جميع ما ورد في المسألة، وإن كان الأَوْلى إهمال القول الشاذ، وعدم ذكره ليموت مع الأيام.

ولأهل السُّنَّة طريقة محمودة في التعامُل مع الأقوال الشاذة، حسب ضررها على المجتمع المسلم، فهناك من الأقوال الشاذة ما يُكتفَى فيه بالنُّصح والتذكير بالله، وهناك ما يستدعي الرد والإبطال وتأصيل الحكم الشرعي، وهناك ما يستدعي المنْع مِنَ الفتوى بها، والمرْجِع في ذلك كلِّه مُراعاة طبيعة المسألة، ومقدار ضررها وحجْمها في الشريعة.

د - تحفظ للعالِم مكانته ومنزلته العلمية، ولا يكون قولُه الشاذ مدْعاةً للنَّيل مِنْ عِرْضه أو انتقاصه أو الاستهزاء به، والحطّ مِنْ قدْره.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله -: "نعوذ بالله سبحانه مما يُفضي إلى الوقيعة في أعراض الأئمة، أو انتقاص أحد منهم، أو عدم المعرفة بمقاديرهم وفضْلهم، أو محادتهم وترْك محبَّتهم ومُوالاتهم، ونرجو من الله سبحانه أن نكونَ ممن يحبهم ويواليهم، ويعرف مِن حقوقهم وفضْلِهم ما لا يعرفه أكثرُ الأتْباع، وأن يكونَ نصيبُنا من ذلك أوْفر نصيب وأعظم حظ، ولا حول ولا قوة إلا بالله"[15].

هـ - لا تلازُم عند أهْلِ السنة بين الخطأ والإثم، فقد يكون القول خطأً يُنْكَر على صاحبه، ولا يكون آثمًا، بل مأجورًا على اجتهاده، مغفورًا خطؤُه في حسناته.

قال ابن تيميَّة - رحمه الله -: "فأمَّا الصِّدِّيقون والشُّهداء والصالحون فليسوا معصومين، وهذا في الذنوب المحققة، وأمَّا ما اجتهدوا فيه فتارة يصيبون، وتارة يخطئُون، فإذا اجتهدوا وأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا وأخطؤوا فلهم أجر على اجتهادهم، وخطؤُهم مغفور لهم، وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازِمَيْن، فتارة يغلون فيهم يقولون: إنهم معصومون، وتارة يجفون عنهم ويقولون: إنهم باغون بالخطأ، وأهل العلم والإيمان لا يُعصمون ولا يُؤَثَّمون"[16].

و - لا يجوز اتِّهامه، ولو وافق أقوال المبتدعة، فليس كل قول وافَق أقوال المبتدعة أو أهل الأهواء - كالعلمانيين - يكون صاحبه مبتدِعًا أو علمانيًّا.

قال الإمام الذهبي - رحمه الله -: "ولو أنَّا كلَّما أخطأ إمامٌ في اجتهادِه في آحاد المسائل خطأً مغفورًا له، قُمنا عليه وبدَّعناه، وهجرناه، لما سلم معنا ابن نصير، ولا ابن مندهْ، ولا مَن هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلْق إلى الحق، هو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة"[17].

ز - أهل السنة هم أعدل الناس مع المخالفين، فما بالك بإخوانهم وعلمائهم؟! فذلك مِن باب أوْلَى، ومِن العدل ألا يؤثر شذوذه في هذا القول على اتِّباعه في القول الموافِق للحق، والعدل في هذا الباب عزيز إلا على الأتقياء.

سابعًا: حكم تتبُّع زلاَّت العلماء بالتقْليد:

أجْمع أهلُ العلم على أنه لا يجوز تتبُّع زلاَّت العلماء وتقليدها والعمل بها؛ احتجاجًا بأنها أقوال لعلماء الأمة، واعتمادًا على منْزلة قائليها، وتواتُر نكيرهم على مَن تَتَبَّع زلاَّت وشذوذات العلماء:

فقال سليمان التيمي: إنْ أخذْتَ برُخصة كل عالِم اجتمع فيك الشرّ كله.

وقال الإمام أحمد: لو أنَّ رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدِينة في السماع، وأهل مكة في المتْعة - كان فاسقًا.

وقال ابن المبارك: ولقد أخبَرَني المعتمر بن سليمان قال: "رآني أبي وأنا أنشد الشعر، فقال: يا بُنَي لا تنشد الشعر، فقلتُ: يا أبتِ، كان الحسَن يُنشد الشعر، وكان ابن سيرين ينشد، فقال: أي بني، إنْ أخذتَ بِشَرِّ ما في الحسَن، وبِشَرِّ ما في ابن سيرين، اجتمع فيك الشرُّ كله".

وقال الذهبي: "مَن يَتَتَبَّع رُخَص المذاهِب، وزلاَّت المجتهدين، فقد رقَّ دِينه"[18].

فنُلاحظ أنَّ أهل العلم لَم يجعلوا شذوذات العلماء مسوغة للخلاف وجائز الاتِّباع، وإنما جعلوها من شَرِّ ما في ذلك العالِم مع حفْظهم لِحُقُوقه الأخرى.

ثامنًا: الشذوذ أمارة ضعف القول:

أهل العلم يجعلون الشذوذ بذاته علامةً على الضَّعْف، وأمارةً على التردُّد وعدم قبول القول، ومَن درس أقوالهم عرَف منْهجهم، فكثيرٌ من العلماء مَن يترَدَّد في مخالفة الأكثر، مع أن القول الآخر قال به طائفةٌ من أهل العلم في كلِّ عصر وزمن، فكيف إذا كان القول شاذًّا، يمُرُّ الجيل وتَتَتَابَع الأزمان، ويبقى القائلون به أفرادًا؟!

تاسعًا: التأكُّد مِنْ نسْبة الأقوال لقائليها:


ينبغي أن يُتأَنَّى في نسبة الأقوال الشاذة لقائليها، خاصَّة إن كان منَ العلماء المعتبرين المعروفين بكثْرة الطلَبة أو المصنّفات والتآليف، فكثيرٌ منَ الأقوال المنسوبة هي مِن تخريجات الأتْباع على أقوال الأئمة، وليس كل ما قال به الحنابلة هو قولٌ لأحمد - رحمه الله - وكذلك الأئمة الثلاثة المتبوعون، ولئن كان التفرُّد في الحديث مظنَّة التوَقُّف حتى يتبيّن الأمر، فينبغي أن يُعمل بمنهج المحدثين - على تفصيلات عندهم - في بقية علوم الشريعة؛ فالباب واحد.

وقد يكون الخللُ مِنْ ناسخ الكتاب، وقد يكون مِن مختصر العبارة، وقد يأتي الخلَل في اجتزائها دون مراعاة لأول الكلام وآخره، وأحيانًا لا بُدَّ مِن معرفة السياق؛ فقد لا يكون السياقُ في تقرير حكم المسألة، وإنما من باب ضرب المثال الذهني.

عاشرًا: أكثر ما يشكل في الأقوال الشاذة:


أكثر ما يشكل في الأقوال الشاذة أسماء القائلين بها، فيتعاظَم الإنسان اسم العالم فلان وفلان ممن لهم قدَم صدْق، وشُهرة واسعة، والمؤمن لا يتعلق إلا بالدليل، وأما الأسماء فتبقى في باب الأمارات والعلامات، يستأنس بها طالبُ العلم، ولا يحتجُّ بها، وكان مِن القواعد الشرعية المقررة أن: "أقوال العلماء يُستدلُّ لها ولا يُستدلُّ بها".

وقال الإمام القرطبي - وقد ذَكَرَ الخلاف في حكم شرب النبيذ -: "فإن قيل: فقد أحل شُربه إبراهيم النخَعي، وأبو جعفر الطحاوي، وكان إمام أهل زمانه، وكان سفيان الثوري يشربه، قلْنا: ذكر النسائي في كتابه أن أول مَن أحَل المسكر من الأنبذة إبراهيم النخَعي، وهذه زلة من عالِم، وقد حُذِّرْنا مِن زلة العالِم، ولا حجَّة في قولِ أحَدٍ مع السُّنة"[19].

وقال رجل للإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -: إن ابن المبارك قال كذا، فقال الإمام أحمد: إن ابن المبارك لَم ينزل من السماء[20].

الحادي عشر: الموقف تجاه أقوال العلماء:


الناس تجاه أقوال العلماء على حالين:


في حال إجماع العلماء على قول، يجب اتِّباع إجْماعهم.

في حال اختلافهم، فالناس على صنفَيْن:

صنف له القدرة على معرفة الدليل: فيلزمه معرفة الدليل واتباعه والعمل به، فيختار من الأقوال أقربها موافقة للدليل الشرعي حسب استطاعته.

وصنف لا يستطيع ذلك: فيلزمه التقليد، وعليه في التقليد أن يقلد الأعلم والأتقى إن عرف ذلك، وإلا بقول أي عالم من علماء المسلمين تبرأ ذمته.

هذا كله في حال الأقوال الاجتهاديَّة سائغة الخِلاف، أما الشذوذات التي يُنكرها أهلُ العلم ويُحَذِّرون منها، فلا يجوز له التقليد - كما سبق - ولا تدخل في هذا الباب.

وبهذا أستطيع القول بأن كل ما اختلف فيه أهلُ العلم، فالواجب التأنِّي فيه، سواء على العلماء أو المقلِّدين.

أما العلماء: فيكون التأنِّي في اختيار الدليل ومراجعته والترجيح بين الأدلة.

وأما المقلد: فيكون التأنِّي في اختيار قول الأعلم والأتقى حسب استطاعته، وحسب ما يعرفه، وأما معرفة الأعلم والأتقى فالمرجع فيها حسب استطاعة الإنسان وتقواه.

الثاني عشر: هل يأثم صاحب القول الشاذ؟


العالِم ذو القول الشاذ له حالتان:


مأجورٌ على اجتهاده: حين يبذل وُسعه في طلَب الدليل، وتحرِّي القول الحق.

مأزورٌ: حين يُقَصِّر في طلب الدليل وتتبُّعِه، وبذْل الوُسْع في الوُصُول له، وحين يُبيَّن له الحق مع عدم الرجوع إليه، وقد يكون له من الحسنات ما يغفر ذلك - بفضْل الله سبحانه.

ولهذا؛ فعلى أهل العلمِ التحرِّي في الأقوال قدْر الاستطاعة، وبذْل أقصى الجهْد في التحرير والتقَصِّي، خاصة فيما يعرفون أنهم خالفوا به جمهور المسلمين.

الثالث عشر: ازدياد القائلين بالقول الشاذ هل يجعله مقبولاً؟


قد يزداد القائلون بالقول الشاذ، خاصة مع ثقافة تسويغ الخلاف بمُجرد ثبوت القول عن عالم من العلماء، وعند ابتلاء الأمة بالتقليد المقيت، ولأجل ذلك حذَّر العلماءُ مِن زلات العلماء؛ لأنه ليس كل زلة يكتب لها الاندثار، فقد تتهَيَّأ لها من الأسباب ما يزيدها انتشارًا؛ حكمة من الله العليم الحكيم، ومن هنا وُجِدتْ بعض المسائل الفقهيَّة التي حدَث فيها الخلاف، مع أنها مسبوقة بإجماع الصحابة الذي هو أعلى درجات الإجماع؛ مثل: حكم ترْك الصلاة، فقد حدَث فيها خلافٌ بعد إجماع الصحابة على التكفير.

الرابع عشر: حالات الضرورة لا تجعل الحكم الشرعي مُختلَفًا فيه:


أباحت الشريعة بعض المحَرَّمات؛ مراعاة لظروف خاصة؛ كأكل الميتة، وحالات الإكراه، وغيرها، إلا أنَّ منهج أهل العلم لا يجعل من هذه الحالات الاستثنائية قولاً في أصْل حكم المسألة، وإنما تبقى المسألةُ على بابها وأصلها في التحريم، وتباح في حالة الضرورة فقط.

ولهذا كان مِنْ قواعد أهل العلم المقرَّرة في هذا الباب قولهم:


حالات الضرورة يفتى لها، ولا يُقَعَّدُ لها:
أي: لا ينبني عليها أحكام، بحيث تعود على أصلها بالبطلان، ومنهج أهل العلم في كل عصر ألا يُفتى بحالات الضرورة بفتوى عامة، وإنما تبقى خاصة لحالات معينة، ومن ذلك القول بجواز فك السحر بالسحر ضرورة.

الخامس عشر: أمثلة من شذوذات العلماء المعاصرين:


من شذوذات العلماء المعاصرين:


1- إباحة الاختلاط المحَرَّم: وهو مخالف للنصوص الشرعية وسنة المسلمين عبر الأزمان.

2- إباحة يسير الرِّبا: فقد حرَّم الله الرِّبا وتوَعَّده بالمَحْق؛ فقال ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 276]، ولعن في السنة آكله وموكله، وكاتبه وشاهديه، وَلَمْ يَسْتَثْنِ منه شيئًا.

3 - إباحة الأغاني وآلات اللَّهْو: والتي كانتْ علامةً على الفِسْق والفُسَّاق، وقد كان الفاسق إذا تاب كسر طنبوره وآلاته، وأقبل على الله، وقد عُرف ابن حزم - رحمه الله - بإباحتها، فكانتْ تُذكَر في ترجمته على أنها مما شذَّ بها وأُنكرتْ عليه.

4 - إباحة حلْق اللحية: مع ثبوت الأمر بإعفائها وإكرامها، وأنها من سُنن المرسَلين.

5 - إباحة إقامة الأعياد بجميع أنواعها: وهي مِن خصائص أهل الكتاب التي تُميزهم عن الأمة المحمدية المتبعة سنن المرسلين، وقد تواترتِ الأحاديث في النهي عن التشبُّه بهم، ويشمل ذلك طريقتهم وهديهم وأعيادهم، وهي مِنْ أخَصِّ هدْيهم.

وأخيرًا:


آمل دراسة منْهج أهل السنة والجماعة عبر السنين الماضية؛ من حيث التعامُلُ مع الأقوال الفقهيَّة، فهو منهج ناضج متكامل، يحتاج إلى تأمُّل واتِّباع، ولا يحتاج إلى معارَضة ونزاع، فليس الشذوذ وليد عصْرنا، كما يتخيَّله البعضُ مع انتشار الإعلام، بل الاجتهاد البشري مظنة الخطأ، إلا أن الله حفظ دينه بمجموع أهل العلم في كل عصر وجيل، ولئن عاب بعض السلَف قديمًا تدوين الأقوال الشاذة خوْفًا من بقائها، فإننا نعيب في زماننا التفتيش عنها خوفًا من انتشارها واتِّباعها، ومع هذا يبقى المحكم كلَّما رُد إليه المتشابه بَانَ حكمُه، وزال غموضُه، نسأل الله أن يهديَنا لما اختلف فيه بإذنه، وأن يتقبَّلها منِّي، وأن يغفرَ لوالدينا أجمعين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وكتبه / عقيل بن سالم الشمري

---------------------------
[1] الفتاوى 11/66.
[2] أخرجه الترمذي، كتاب صفة القيامة، رقم 2499، وقال: حديث غريب، وابن ماجه، كتاب الزهد، رقم 4215، والدارمي، كتاب الرقاق، رقم 2727، وأحمد 3/198، وحسَّنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 2/418.
[3] أخرجه مسلم، كتاب التوبة، رقم 2749، والترمذي، صفة الجنة، رقم 252.
[4] "الآداب الشرعيَّة" 2/141.
[5] "مسند أبي يعلى" 1/465.
[6] "الآداب الشرعية" 2/141.
[7] كتاب "العلل الصغير في آخر جامع الترمذي" 5/747.
[8] "جامع العلوم والحِكَم" 253.
[9] "جامع العلوم" 254.
[10] أخرجه: أبو داود ( 4611 )، والحاكم برقم (8422) عن معاذ بن جبل، به.
[11] الدارمي (220)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (599)، وصححه الألباني في "المشكاة" (1/89 ).
[12] البيهقي في "مدخل السنن" (687).
[13] مسلم برقم (55 - 95 - 96).
[14] "جامع العلوم" 98.
[15] "الفتاوى الكبرى" 6/92.
[16] "الفتاوى" 35/69.
[17] "سير أعلام النبلاء" 14: 40.
[18] "سير أعلام النبلاء" 8/18.
[19] "تفسير القرطبي" 10/131.
[20] "الفروع" 6/381.


 

عقيل الشمري
  • مقالات ورسائل
  • الصفحة الرئيسية