بسم الله الرحمن الرحيم

الإيمان هو الأساس- دروس في الإيمان(84-89)

(84)

عوامل الإخلاص:

وما دام قصد الإخلاص هو السبب في إطلاق هذه العبارات، التي ترتبت عليها تلك الآثار الفاسدة-غير المقصودة، إن شاء الله من قائليها-فلا بد من بيان موجز للعوامل التي تعين على الإخلاص لله تعالى في الأعمال، حتى يتقبلها الله، ويرضى عن صاحبها، ويثيبه عليها، ويتلخص هذا البيان في الأمور الآتية:

الأمر الأول: أن يعلم المؤمن أن منزلة الإخلاص، منزلة عظيمة يجب الحرص على تحقيقها في كل أعماله.

ولهذا جاءت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة، حاضة على الإخلاص بصيغ كثيرة متنوعة:

من ذلك أن الله تعالى قرن أمره بالعبادة عامة- بدنية، وقلبية، ومالية-بالإخلاص، وبين أن ذلك هو الدين القيم، فقال:{وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة}. البينة: 5.

ومن ذلك أنه تعالى أمر عابديه أن يخلصوا له الدين، و حصر الدين الذي له-وهو الدين الذي شرعه لعباده ويقبله منهم ولا يقبل غيره-في الدين الخالص، أي النقي الصافي من شوائب الشرك الأصغر، ومنه الرياء، والشرك الأكبر، فقال تعالى مخاطبا نبيه، صلى الله عليه وسلم-والأصل في خطابه دخول أمته فيه-:

{إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين، ألا لله الدين الخالص}. الزمر:1-2.

ومن ذلك أنه تعالى، جعل العمل الصالح -وهو ماقصدبه وجهه، وجرى على هدي نبيه صلى الله عليه وسلم-الذي يحقق رجاء لقاء الله، ما خلا من الشرك، قال تعالى:{قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}. الكهف: 110.

ومن ذلك رده تعالى على اليهود والنصارى في دعواهم أنه لا يدخل الجنة غيرهم، فقال تعالى: {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. البقرة: 112.ومثلها قوله تعالى: {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا}. النساء: 125.

وإسلام الوجه لله لا يكون إلا بالاستسلام الكامل لله الخالص من شوائب الشرك به.

وقد سميت السورة القصيرة التي اشتملت على وحدانية الله تعالى في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، ونفت عنه الشرك بكل أنواعه، سميت بسورة الإخلاص، وهي تعدل ثلث القرآن الكريم، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، [روى الحديث البخاري وغيره عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه. جامع الأصول(8/485)] وهي: {قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد}.وكل الآيات الآمرة بالتوحيد، أو العبادة لله، أو طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، هي آمرة بالإخلاص لله تعالى، لأن الله لا يقبل أي عمل إلا إذا كان خالصا له.

(85)

وأما الأحاديث، فهي-أيضا-كثيرة، وبأساليب متنوعة:

فأولها الإخلاص في قول كلمة التوحيد، كما في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، أنه قال: قيل: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (لقد ظننت يا أبا هريرة، أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أولَ منك، لما رأيت من حرصك على الحديث. أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة، من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه، أو نفسه). [البخاري، رقم: 99 (1/193) بشرح فتح الباري]

ومنها ما دل على أن الأعمال لا تقبل عند الله إلا بالنية. والمراد أن يقصد العامل بعبادته المعينة وجه الله تعالى، كحديث عمر بن الخطاب، رضي الله عنه،قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه). [متفق عليه (رياض الصالحين، رقم 1 ص: 4) تحقيق/رباح والدقاق]

ولوضوح دلالة هذا الحديث على وجوب الإخلاص، افتتح به كثير من المؤلفين في الحديث كتبهم، كما فعل الإمام البخاري، رحمه الله في كتابه: الصحيح، وكما فعل النووي في رياض الصالحين.

ومنها ما صرح الله تعالى فيه بأن إشراك غيره تعالى معه في العمل يبطل ذلك العمل، ويترتب عليه أن يترك الله العامل وعمله، ومن تركه الله، فقد خسر خسرانا مبينا، ففي حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: قال الله تعالى (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا، أشرك معي فيه غيري، تركتهوشركه). [مسلم (وهو في رياض الصالحين رقم: 1614 ص:619)]

ويورد المفسرون هذا الحديث وما أشبهه عند تفسير آية الكهف السابقة:{فمن كان يرجو لقاء ربه} الآية.

وقد سئل عبادة بن الصامت، رضي الله عنه، قيل له:(أرأيت رجلا يصلي يبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد، ويصوم يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويتصدق يبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد، ويحج يبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد، فقال عبادة: {ليس له شيء! إن الله يقول: (أنا خير شريك، فمن كان له معي شريك فهو له كله، لا حاجة لي فيه) . وحذر صلى الله عليه وسلم الأمة من الشرك الخفي، وهو الرياء. [راجع تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (3/108)]

ومنها ما دل على أن من عمل عملا فقد فيه الإخلاص، دخل النار، وهو يفسر معنى قول الله تعالى: (تركته وشركه) كما في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه، رجل استشهد، فأتي به، فعرفه نعمته فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك، حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء‍ فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال: عالم ‍، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه من أصناف المال، فأتي به فعرفه نعمه، فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها، إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار) [مسلم، وهو في (رياض الصالحين (رقم 1615، ص: 219)]

ومنها ما دل على أن فاقد الإخلاص الذي يعمل العمل ليراه الناس كذلك، أو يقول القول، ليسمع الناس ذلك،-يعني يرائي الناس بأعماله وأقواله-أن الله تعالى يفضحه يوم القيامة على رءوس الأشهاد، فيبين للناس، أنه لم يكن يقصد بأعماله وأقواله التي رأوها أو سمعوها وجه الله وإنما كان يحب الرياء والسمعة عند الناس، كما في حديث عبد الله بن سفيان، رضي الله عنه، قال قال النبي صلى الله عليه وسلم:(من سَمَّع سَمَّع الله به ومن يرائي يرائي الله به). [متفق عليه وهو في (رياض الصالحين، رقم: 1617، ص: 620)]

ولهذه المنزلة العظيمة للإخلاص في دين الله اهتم به عباد الله الصالحون، اهتماما عظيما، حرصا على قبول الله أعمالهم، وعدم إحباطها، وقد بالغ بعضهم في ذلك، حتى أطلقوا تلك العبارات الفاسدة، وإن كان قصدهم حسنا.

فهذه النصوص الدالة على منزلة الإخلاص العظيمة وغيرها، إذا تذكرها المؤمن أعانه تذكرها على معالجة نفسه، وأعانه الله تعالى على الإخلاص له.

(86)

تذكر أن النافع الضار هو الله وحده

ذلك هو الأمر الأول الدال على منزلة الإخلاص العظيمة عند الله تعالى، وهو يقتضي حرص عباد الله الصالحين على اتخاذ الأسباب التي تجعلهم يحافظون عليه، ويبتعدون عن إرادة غير الله بأعمالهم.

الأمر الثاني: أن المؤمن يجب أن يتذكر، وهو يعمل العمل أن الله تعالى وحده هو الذي ينفعه ويضره، في الدنيا والآخرة، وأن الناس كلهم، لا يقدر أحد على أن ينفعه ولا يضره، إلا إذا كان الله تعالى، قد قدر ذلك له أو عليه، فلا يغنيه أحد من فقر، ولا يشفيه أحد من مرض، ولا يمنحه أحد جاها ولا منصبا، إلا إذا كان الله قد أذن في ذلك، كما فال تعالى: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو، وإن يردك بخير فلا راد لفضله، يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم}. يونس: 107

ولو فرض أن أحدا نفع آخر بشيء فهو إنما نفعه بما أقدره الله عليه، ولا يليق بالعبد الذي أجرى الله نفعه على يد بعض خلقه أن ينسى الخالق الذي أجرى النفع على يد المخلوق، ويتعلق بالمخلوق، الذي لولا إقدار الخالق له على ذلك النفع لكان عاجزا عن نفع نفسه فضلا عن نفع غيره.

ثم إن المخلوق إذا قضى حاجة آخر بما أقدره الله-فالغالب أنه لا يقضي حاجته، إلا لغرض نفع نفسه هو، وقد يكون نفعه الذي يريده فيه مضرة على من قضى حاجته.

وقد أشار ابن القيم، رحمه الله إلى هذا المعنى-وهو حرص الناس على قضاء حاجاتهم ولو كان في ذلك ضرر على غيرهم-بقوله:(ومما يبين ذلك أن غالب الخلق يطلبون إدراك حاجتهم بك، وإن كان ذلك ضررا عليك، فإن صاحب الحاجة لا يرى إلا قضاءها، فهم لا يبالون بمضرتك إذا أدركوا منك حاجتهم، بل لو كان فيها هلاك دنياك وآخرتك لم يبالوا بذلك، وهذا لو تدبره العاقل، علم أنه عداوة، فهم يريدون أن يصيروك كالكير، ينفخ بطنك، ويعصر أضلاعك، في نفعهم ومصالحهم، بل لو أبيح لهم أكلك لجزروك كما يجزرون الشاة....) [طريق الهجرتين (ص:108)]. هذا هو شأن المخلوقين مع من يعمل من أجلهم.

أما الله تعالى الذي يخلص له العبد، فإنه يسبغ نعمه التي لا تعد على عبده، وهو غني عنه، كما قال تعالى:{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}. الذاريات: 55-57

فإن كان يقصد من التفاته إلى غير الله في عمله، المدح والثناء، فقد لبس بذلك ثوب زور، ليس له بساتر، فقد يكشف الله للناس عورته في الدنيا، وإن ستره فيها فضحه في الآخرة يوم تبلى السرائر، وقد سبق حديث أبي هريرة في الثلاثة الذين يسحبون على وجوههم في النار، وهم قارئ القرآن، والذي استشهد في المعركة والغني الذي أنفق ماله، وقد ادَّعوا كاذبين أنهم فعلوا ذلك ابتغاء وجه الله.

وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن المدح الجميل هو مدح الله للعبد، وليس مدح الناس الذي قد يكون مدحا على منكر، وقد يكون مدحا كاذبا، فقد روى البراء بن عازب في قول الله تعالى: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون}.الحجرات:4، أن رجلا قام فقال: يا رسول الله، إن حمدي زين، وإن ذمي شين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذاك الله) [الترمذي (5/387-388) وقال: هذا حديث حسن غريب]. أي هو الذي مدحه زين، وذمه شين.

وكما أن الرجل ينبغي له أن يتجنب محبة المدح والثناء عليه، محافظة على إخلاصه لربه، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم، قد حذر المداحين من الإطراء،كما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: سمع النبي،صلى الله عليه وسلم، رجلا، يثني على رجل ويطريه في المدحة، فقال: (أهلكتم، أو قطعتم ظهر الرجل). [متفق عليه، وهو في رياض الصالحين (رقم:1786 ص:673)]

وأَمَر صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يحثوا التراب في وجوه المداحين، كما روى همام بن الحارث، عن المقداد، رضي الله عنه أن رجلا جعل يمدح عثمان رضي الله عنه، فعمد المقداد، فجثاعلى ركبتيه، فجعل يحثوفي وجهه الحصباء، فقال له عثمان: ما شأنك؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب). [ مسلم، وهو في رياض الصالحين (رقم:1788 ص:674)]. وإذا كان المقداد قد حثا التراب في وجه من مدح الخليفة الثالث عثمان بن عفان، فمن هو الذي يستحق المدح والإطراء، ولا يستحق مادحه أن يُحثى في وجهه التراب؟.

فتذكر المؤمن هذا المعنى، يعينه على الإخلاص لله.

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كنت خلف النبي، صلى الله عليه وسلم يوما، فقال: (يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف). وفي رواية: (احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا) [أحمد والترمذي، وإسناده صحيح، رياض الصالحين، رقم: 62 ص: 42)].

(87)

ذكر المؤمن ربه في كل أعماله

ذلك هو الأمر الثاني الذي يعين صاحبه –إذا تذكره- على الإخلاص، وهو أنه لا ينفع أحدا ولا يضره إلا الله، فلا يليق بالعبد المؤمن أن يقصد بعمله من لا ينفعه ولا يضره من الخلق.

الأمر الثالث: أن يجاهد المؤمن نفسه بذكر ربه في كل أحيانه، وبخاصة في أوقات أدائه العبادة له تعالى، سواء أكانت فرضا أم نفلا، بل لو قصد الثواب على فعل المباح أو تركه، فلا بد أن يذكر الله تعالى ذكرا، يجعله يخلص عمله له، ولا ينظر إلى ما سواه، وقد ورد هذا المعنى، أي ذكر الله بصفة عامة، كما ورد مع كل عبادة على حدة، كالصلاة، والصيام، والحج، وغيرها، بل ورد حتى في الأعمال المباحة التي قد يظن كثير من الناس أن لا صلة لها بالعبادة ولا بالإخلاص.

وجاء الحث العام على ذكره تعالى، في آيات وأحاديث كثيرة، والذي يتأمل هذا الموضوع حق التأمل، يدرك منه أن الله تعالى يريد من عبده أن يكون في عبادة دائمة لربه، بفعل الواجبات، والمندوبات، وترك المحرمات، والمكروهات، وفعل المباحات وتركها، حسب المصلحة التي تقربه إلى الله بالفعل أو الترك، وهذه هي الأحكام التكليفية الخمسة التي لا تخرج عنها أفعال المكلفين، ويدل على ذلك قول الحق جل جلاله: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}. الأنعام: 162.

هذه الآية تقتضي أن تكون حركات المؤمن وسكنا ته كلها لربه تعالى، وهذه هي الحياة السعيدة التي يريدها الله لعباده.

ترغيب القرآن في الإكثار من الذكر المطلق:

فقد حث القرآن الكريم المؤمن على الإكثار من ذكر الله المطلق، غير المقيد بزمان أو مكان، ليكون المؤمن على صلة بربه في كل الأحوال، وهو أهم عامل من عوامل الإخلاص لله تعالى.

قال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}. الأحزاب: 21.

وقال تعالى:{والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما}.الأحزاب: 35.

وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا}. الأحزاب: 41.

وقال تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار}. آل عمران: 190-191.

هذه الآيات وردت بالحض على الذكر الكثير المطلق من الزمان والمكان، بمعنى أن يكثر المؤمن من ذكر الله في كل الأوقات، وهذا غير ما ورد في القرآن من ألفاظ بمعنى الذكر، وليست بلفظه، كالتسبيح والتحميد والتكبير، وغيرها، وهي كثيرة.

ترغيب السنة في الإكثار من الذكر المطلق:

وقد جاءت السنة كالقرآن مرغبة في الإكثار من الذكر المطلق، غير المقيد كذلك بزمان أو مكان .

من ذلك: حديث أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره، مثل الحي والميت). [البخاري، وهو في رياض الصالحين، برقم 1432، ص: 541)]

ومن ذلك حديث أبي هريرة، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم). [متفق عليه، وهو في (رياض الصالحين، برقم 1433، ص: 541)]

ومن ذلك حديثه-أيضا-، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبق المفردون) قالوا وما المفردون يا رسول الله؟ قال: {الذاكرون الله كثيرا والذاكرات} [مسلم، وهو في (رياض الصالحين، برقم: 1434، ص: 542)]

ومن ذلك حديث عبد الله بن بسر، رضي الله عنه، أن رجلا قال: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأخبرني بشيء أتشبث به. قال: (لا يزال لسانك رطبا بذكر الله). [الترمذي، وقال: حديث حسن.وهو في (رياض الصالحين، برقم: 1436، ص: 542)]

إن المؤمن الذي يكثر من ذكر ربه في كل أوقاته-والذكر ليس المراد به مجرد تحريك اللسان، وإنما المراد به ما تواطأ عليه القلب واللسان معا، وقد يكون ذكر الله بالقلب فقط كأن يهم المؤمن بمعصية، أو بترك طاعة فيذكر الله في نفسه ذكر مراقبة وإجلال فيؤب إلى ربه-إن المؤمن الذي هذه حاله لابد أن يلازمه الإخلاص لربه، بمقدار ملازمته للذكر.

(88)

أذكار مقيدة بأزمنة، وأمكنة، وعبادات معينة تعين المؤمن على الإخلاص لله

إن الذي يطلع على الكتب التي جمعت في أبواب الذكر خاصة، سيجد نفسه مع ربه في كل زمان ومكان، فهو في كل عباداته يذكر الله.

فالصلاة يدخل المؤمن فيها بادئا بتعظيم الله:(الله أكبر) وهو-لو استحضره المصلي في صلاته-عاصم له من مجردا لتفكير في الالتفات إلى غير الله، فالصلاة لله العظيم الأكبر، فمن ذا الذي يستحق أن يلتفت إليه غيره؟. ثم إن الصلاة كلها ذكر لله، ابتداء من دعاء الاستفتاح إلى أن يسلم المصلي، ما بين قراءة قرآن، وتكبير، وتسبيح، ودعاء في القيام والقعود، والركوع والسجود، والرفع والخفض، ألا يكفي المؤمن ذلك داعيا لأن يخلص لله صلاته، ولا يلتفت إلى سواه؟.

إن المؤمن الذي يلتفت إلى غير الله، وهو في صلاته، يؤدي فيها أذكارها بلسانه، لا يعتبر ذاكرا لربه في حقيقة الأمر، بل هو غافل عنه ذاكر لغيره.

وقد سمى الله تعالى صلاة الجمعة وخطبتيها ذكرا، وأمر المسلمين بترك البيع، لحضورها، وأذن لهم بعد ذلك بالانتشار في الأرض، لطلب الرزق ومزاولة البيع الذي أمرهم بتركه، وأمرهم مع ذلك بالإكثار من ذكره، كما قال تعالى:{يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون}. الجمعة: 9-10.

و الحج يدخل فيه المؤمن بادئا بهذه الكلمة العظيمة: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)، ويسن للحاج الاستمرار في هذه التلبية، حتى يقضي مناسكه، وهي كافية له في إخلاص أعمال الحج لربه تعالى، فكيف وهناك أذكار يشرع للحاج قولها، في طوافه وسعيه ووقوفه، وفي كل أوقاته،وكلها مذكرة بالله وبالإخلاص له.

والصوم أشار الله تعالى إلى ما يؤدي إليه، إذا صامه المؤمن إيمانا واحتسابا، وهو تقوى الله تعالى، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}. البقرة: 183.

وهل يكون متقيا لله في صيامه من أرد به غير الله؟ ثم إن الله تعالى ذكر أنه أنزل في هذا الشهر القرآن الكريم الذي يشرع للمؤمنين الإكثار من قراءته فيه كما قال تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان-إلى قوله تعالى-: ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون}. البقرة: 185

وكثير منهم يسمعون تلاوته من أئمتهم في صلاة التراويح في المساجد، وهم يبيتون نية الصيام في كل لياليه، ويذكرون الله عندما يتسحرون، وعندما يفطرون، ألا يكفي كل ذلك في إخلاص الصائم صومه لله؟

والزكاة ذكَّر الله تعالى عبده المؤمن الذي يخرجها أنه هو الذي فرضها عليه، وأتبع ذلك بذكر اسميه {العليم الحكيم}،كما قال تعالى {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم}. التوبة: 60.

فالمؤمن الذي يذكر أن الزكاة فريضة من الله العليم الحكيم، ينبني على ذكره ذلك أمران:

الأول الامتثال بإخراج زكاة ماله.

والثاني: الإخلاص في إخراجها، وعدم مراعاة الناس.

والجهاد الذي قيد في عامة نصوص القرآن والسنة بـ (سبيل الله) يأمر الله القائمين به، وهم يواجهون عدوهم في المعركة بالثبات والإكثار من ذكر الله، تذكيرا لهم بذلك القيد (في سبيل الله)، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون}. الأنفال: 45.

وعندما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم، عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله). [متفق عليه، وهو في (رياض الصالحين، برقم: 8 ص: 7)]

إذًا، فما من عبادة شرعها الله إلا شرع فيها ذكره، ولا شك أن من حكم ذلك استحضار عظمته تعالى المؤدي إلى إخلاص العبادة له.

فإذا تتبعنا مواضع الذكر المشروع للمؤمن وجدنا الذكر يملأ وقته كله حتى مع الأعمال المباحة التي قد لا يخطر بالبال أن يؤمر عندها بالذكر، والمقام-هنا-لا يتسع لسرد الأحاديث في ذلك، فليس سردها من مقاصد هذا البحث، ولولا تلك الشبهة الفاسدة التي بناها القائلون بها على حرصهم على إرادة الإخلاص لله، ثم جاء من يبني عليها إنكار اليوم الآخر لما تعرضت لهذا الموضوع في هذا البحث لهذا سأشير إجمالا إلى بعض مواضع الذكر المشروع، بدون سرد الأحاديث الواردة فيها.

فقد وردت أذكار دبر الصلوات، وأذكار عند المشي إلى الصلاة، وأذكار عند دخول المسجد، وأذكار عند الخروج منه، وأذكار عند النوم، وأذكار عند القيام من النوم وأذكار في الصباح، وأذكار في المساء، وأذكار عند ركوب الدابة-ومثلها السيارة والطائرة والباخرة، وكل مركوب-، وأذكار عند السفر، وأذكار عند الرجوع من السفر، و أذكار عند تناول الطعام والشراب، وأذكار عند الفراغ منهما، بل لقد ورد الأمر بالذكر-وهو دعاء-عندما يريد الرجل إتيان أهله، وأذكار عند دخول بيت الخلاء، وأذكار عند الخروج منه، ومن أراد معرفة النصوص الواردة في هذه المواضع-وغيرها كثير-فليراجع كتب الأذكار المؤلفة في الذكر خاصة [منها على سبيل المثال: كتاب الأذكار للإمام النووي، وكتاب الكلم الطيب، لابن تيمية، وكتاب الوابل الصيب لابن القيم]، وهي كثيرة، أو كتب الأذكار التي عقدها علماء الحديث في الأمهات، كالأمهات الست وغيرها.

(89)

هذا هو الحصن الحصين:

فليلجأ من يرغب رغبة صادقة في أن يحقق الإخلاص في أعماله لربه، إلى ذكر ربه فإنه واجد من الله العون على تحقق ذلك في كل أعماله بإذن الله، وهو عندما يلجأ إليه يلجأ إلى أمر مشروع، مأمور به، مثاب عليه، بخلاف تلك الشبهة الفاسدة التي تزهد المسلم في أمر رغب الله فيه، ورغب فيه رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو الطمع في جنته وثوابه، والخوف من ناره وعقابه، فإن ذلك زهد في سبب مشروع، والزهد في السبب المشروع غير مشروع.

هذا، ومن آثار ذكر الله تعالى، أنه يحصن صاحبه من ترك طاعة الله، ومن ارتكاب معاصيه،كما قال تعالى: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون}. [الأعراف: 200-201.

هذه هي الثمرة المطلوبة من ذكر الله: أن يخلص عمله لله، وأن يمتثل أمره ويجتنب نهيه

هذا ويجب أن يعلم أن الإخلاص لله تعالى في كل الأعمال، ليس سهلا، لأن النفس، تطلب حظوظها العاجلة التي قد يوسوس لها الشيطان بها عند المخلوقين كالمدح والثناء، أو القرب من ذوي السلطان الذين يرغبون في الأمناء الصالحين، فيحسن أعماله، من أجل ذلك، أي المدح والثناء، أو الحظوة لدى ذوي السلطان، ولهذه الصعوبة، بالغ أولئك العلماء تلك المبالغة، التي أدت بهم إلى القول بتلك العبارات.

والذي يجتهد في التحقق بصفة الإخلاص، لابد أن يشعر بهذه الصعوبة، وقد سمعت سائلا يشكو إلى أحد العلماء هذه الصعوبة، فأجابه إجابة فيها نوع من عدم الاهتمام بالموضوع، وذهب يقول له: لا تكثر من الوسواس، والإسلام لا يمنع من أن يجمع المسلم بين ما ينفعه في دنياه وآخرته...، وفي ذلك خروج عن الموضوع.

والمسلمون اليوم في أمس الحاجة إلى التذكير بالإخلاص الذي ينبني عليه-إضافة إلى الإخلاص لله-الصدق فيما بينهم، والتنا صح، وعدم الخداع بين الأفراد والأسر والرعاة والرعية، فإن الذي لا يتصف بالإخلاص لله تعالى لا يؤمن من الخيانة.

وقد سئل ابن عمر، رضي الله عنهما، فقيل له: إننا ندخل على سلاطيننا، فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم، قال ابن عمر، رضي الله عنهما : " كنا نعد هذا نفاقا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم".البخاري، وهو في رياض الصالحين رقم 1616 ص 620.

والعاصم من الخداع والغش بين السلمين كلهم هو الإخلاص لله الذي يذكر المسلم بربه، وما يحبه وما يبغضه، ولعل فيما سقته في هذه المسألة ما يعين، والله المستعان.

كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل