الإيمان هو الأساس- دروس في الإيمان(99-102)

بسم الله الرحمن الرحيم

(99)

 آثار الإيمان بالقدر
الإيمان بالقدر على الوجه السابق يحدث في حياة المؤمن آثارا مهمة، أهمها ما يأتي:
أولا: الجد في العمل وعدم الاتكال على ما سبق به القلم، وقد سبق الكلام عليه.
ثانيا: التواضع، والبعد عن الغرور.
إن الذي يؤمن بقدرالله، لا بد أن يتصف دائما بصفة التواضع والخضوع لربه وأن يقدره حق قدره سبحانه، ويبتعد عن الكبرياء والغرور، ومحبة إطراء النفس ونسبة الكمال إليها، سواء كان هذا الإطراء صادرا منه، أو من غيره، لأنه يعلم أن أعماله كلها ليست مستقلة بالنتائج المترتبة عليها، وإنما هي مرتبطة بمشيئة الله تعالى، وأنه هو نفسه لولا فضل الله عليه لما وجد على ظهر الأرض، وأن قواه العقلية والبدنية، هو سبحانه الذي أوجدها له ابتداء، وهو الذي أنعم عليه بدوامها، ولو شاء لسلبها منه كلها أو بعضها.
وهذه هي سمة أنبياء الله ورسله، وسمة عباده الصالحين الذين قدروا الله حق قدره، ونشير-هنا-إلى نماذج منها:
الأنموذج الأول:
نبي الله يوسف عليه السلام، الذي، ابتلي بالعدوان عليه من إخوانه في صغره بفراق أبيه وأسرته، وابتلي بالاسترقاق والبيع والشراء، وهو ابن إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وابتلي بالغربة والبعد عن وطنه، وابتلي بإغراء ربات القصور والملك بارتكاب الفواحش، فعصمه الله ثم ابتلي بالتهديد والاتهام بما هو منه براء، فلطف الله به، فلقد أنزل الله تعالى حب يوسف في قلب عزيز مصر فوصى امرأته بإكرامه فأكرمته، وظنت أنها بإكرامها له-وهي سيدة القصر ويوسف شاب غريب الدار رقيق-سيكون طوع بنانها، سعيدا بالاستجابة لتحقيق رغبتها العارمة لتمكنه من نفسها، ردا للجميل والإكرام، ولكن يوسف المؤمن بقدر الله أبى أن يستجيب لإغرائها وأضاف ذلك الإكرام إلى الله الذي استعاذ به من الوقوع في حبائل سيدات القصور، وليس إلى أمر عزيز مصر بإكرامه الذي لم يأت إلا بقدر الله ولطفه به، كما قال الله تعالى في ذلك: {وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا-إلى قوله تعالى-وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي ي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون}. يوسف: 21، 23.
[هذا على القول بأن الضمير في (إنه) يعود إلى لفظ الجلالة في قوله:{معاذ الله} وهو الظاهر، لأن الله تعالى هو الذي سخر ليوسف كل سبل الخير التي أحاطه بها في مسيرة ابتلائه من وقت عزم إخوته على قتله إلى أن جمع الله بينه وبين أسرته، وقال في سياق إظهار شكره لربه على ذلك كله: {إن ربي لطيف لما يشاء}. وقد ذكر المفسرون هذا الاحتمال في مرجع الضمير عند تفسير الآية، ورجح ذلك ابن حيان في {البحر المحيط} (5/294) فقال: {والضمير في(إنه) الأصح أنه يعود على الله تعالى، أي أن الله ربي أحسن مثواي، إذ نجاني من الجب وأقامني في أحسن مقام...} ويرى كثير من المفسرين أن الضمير للشأن، وأن المراد به زوج المرأة الذي أمر بإكرام مثواه]
ثم ابتلي بالسجن فترة من الزمن ثم ختم ذلك الابتلاء بالعز والتمكين والملك، ونعمة انضمام أسرته إليه وهو في تلك الحال العظيمة، فما كان منه إلا أن يحمد ربه، ويناديه نداء العبد المعترف له بفضله عليه ونعمته، مسندا ذلك كله إليه شاكرا له عليه، كما قال تعالى عنه:{ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبتي هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا، وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين}. يوسف:100-101
الأنموذج الثاني: نبي الله سليمان عليه السلام، الذي آتاه الله من الملك ما لم يؤت أحدا من العالمين، آتاه هو وأباه العلم، وعلمه منطق الطير، وجعل جنوده من الجن والإنس والطير، وسخر له الريح التي كان غدوها شهرا، ورواحها شهرا، فاعترف لربه بالفضل والنعمة، وطلب منه أن يوفقه لشكره على ما أنعم عليه وتفضل، قال تعالى عنه: {ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين}. النمل: 15-19
وقال عندما أحضر له عرش ملكة سبأ:{هذا من فضل ربي ليبلوني ءأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم}.النمل: 40.
الأنموذج الثالث: قصة ثالث الثلاثة المبتلين، أي الذين ابتلاهم الله تعالى بالنعم بعد النقم، فشكر هو النعمة، وكفرها صاحباه، فقد كان أعمى، فرد الله عليه بصره، ورزقه واديا من الغنم، فجاءه الْمَلَكُ في صورته وهيئته، فقال:(رجل مسكين وابن سبيل انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري؟ فقال: قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري، فخذ ما شئت ودع ما شئت، فوا لله ما أجهدك اليوم بشيء أخذته لله عز وجل. فقال: أمسك مالك، إنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك،وسخط علىصاحبيك) [الحديث رواه أبو هريرة، عن الرسول صلى الله عليه وسله، وهو متفق عليه. (رياض الصالحين رقم 65 ص: 43)]

( 100)

الاطمئنان والرضا
ومن آثار الإيمان بالقدر أن المؤمن به على الوجه السابق يمنحه الله الرضا والطمأنينة، والصبر والثبات، ويدفع عنه الضجر والتسخط، والقلق والاضطراب، لأنه يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأ لم يكن ليصيبه، وأن الله يبتليه بالنعماء ليشكر، ويبتليه بالضراء ليصبر، وأن ذلك كله له خير، فلا يضيع وقته في الفرح والبطر بالنعماء، ولا يتعب نفسه بالندم والحزن والتحسر على ما فاته في الماضي من مال أو ولد أو جاه أو منصب، ولا يستسلم للغم بسبب المصائب والنكبات النازلة به في الحاضر، ولا للهم لما يتوقع أن يصيبه في مستقبل الزمان. كما قال تعالى:{ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنالله وإناإليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وألئك هم المهتدون}. البقرة:157

وقال تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور}. الحديد: 22-23. وسبق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (عجبا لأمر المؤمن،إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له). [ص: 121] ولا يقدر نعمة الرضا والطمأنينة إلا من فقدهما فظل يكابد الشقاء والقلق، وأصيب بالأمراض النفسية، وفضل الموت بإزهاق روحه منتحرا على الحياة، كما هو واقع كثير من الناس اليوم، وإن الذي يقارن بين حياة المسلمين اليوم-مع بعد كثير منهم عن التمسك بالإسلام-وبين غيرهم يجد فرقا كبيرا في هذا المجال، مع أن ما ينزل بالمسلمين من المحن، والفقر، والحرمان، والعدوان من أعدائهم أشد مما ينزل بغيرهم، وهم أشد صبرا وأقل قلقا، ونسبة الانتحار فيهم ليست شيئا يذكر بجانب ما يحصل عند غيرهم.وإن ذلك لمصداق لقول الله تعالى: {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا}.طـه: 123-124.

(101)

آثار عدم الإيمان بالقدر على الوجه السابق
وعلى عكس ذلك يصاب الذي لا يؤمن بقدر الله بالغرور والكبرياء، ويظن أنه هو صاحب الفضل على نفسه وعلى غيره، وليس الله القادر على كل شيء، وهذا زعم فاسد وغرور كاذب مقيت، كثيرا ما يُرِي اللهُ صاحبَه عاقبةَ غروره وكبريائه، ويجعله عبرة لغيره.
ومما ذكر في القرآن الكريم ثلاثة نماذج، فيها عبرة لمن اعتبر:
النموذج الأول :
قصة صاحب الجنتين، الذي أنساه كبره مشيئة ربه، وجعله يفخر على غيره بما رزقه الله من مال وولد، ويزعم أنه جدير بهما، وأنه بتلك الجدارة استحقهما، ولا يمكن أن يُسْلَبَهُمَا، قال تعالى عنه وعن محاوِرِه الذي حاول تذكيره بالمنعم عليه بخلقه، وبما أنعم الله عليه من المال والولد، فلم تنفعه الذكرى، فندم ولات ساعة مندم : {واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا. كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا. وفجرنا خلالهما نهرا وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا. ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا. وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا. قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا. لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا. ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا. فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا فتصبح صعيدا زلقا. أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا. وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا. ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا. هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا}. الكهف: 32-44.
النموذج الثاني : قصة قارون الذي بغى على نبي الله موسى عليه السلام وقومه، ناسيا فضل الله عليه، ناسبا ما أنعم الله به عليه إلى كفاءته وخبرته، متباهيا بذلك على الناس، فتمنى من غرَّتْهم الحياة الدنيا أن يكون لهم مثله، ونصحه عباد الله الذين يقدرون الله حق قدره بالتواضع لله وشكر المنعم عليه بتلك النعم التي أبطرته، فلم تنفعه الذكرى، ونصحوا كذلك من اغتروا بغناه وكبريائه، فكانت عاقبته ما ذكر الله عنه في قوله: {إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين. وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله عليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين. قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون. فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم. وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون. فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين. وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون}. القصص: 76-82.
تأمل قول الله تعالى فيه: {فما كان له من فئة ينصرونه وما كان من المنتصرين}، وقوله في صاحب الجنتين:{ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا}، الدالين على أن المتكبر الذي لا يقدر الله حق قدره لا ينصر نفسه ولا يجد من ينصره من دون الله، أي لا يمنعه أحد من عقاب الله له.
النموذج الثالث : قصة فرعون، وقد وردت بأساليب متنوعة في القرآن الكريم، يكفي أن أذكر منها بعض الآيات المناسبة للمقام في موضعين:
الموضع الأول: قول الله تعالى عنه: {وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أ طلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين}. القصص: 38-40.
الموضع الثاني: قول الله تعالى:{ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا فاسقين فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين} الزخرف-56 ]
وهكذا تجد من ينسى تقدير الخالق سبحانه، يتكبر ويتعالى في الأرض، وينسب ما آتاه الله إلى قدرته هو وعلمه وخبرته، وتكون نهايته هي نهاية فرعون وقار ون وصاحب الجنتين.

(102)

غرور فاقد الإيمان بقدر الله في هذا العصر
ولقد بلغت الكبرياء والغرور ونسيان الخالق سبحانه في هذا العصر الذروة، ممن ابتلاهم الله تعالى باستعمال عقولهم التي أنعم بها عليهم واستغلال خيرات الأرض والسماء، والاستمتاع بها في الأرض، مسكنا ومركبا، ومأكلا ومشربا، واختراعا ت متنوعة مكنتهم من تقريب الزمان والمكان،انتقالا، وصوتا، ورؤية، وأكسبتهم قدرة على جمع المال، وقوة السلاح، وغير ذلك مما يصعب تعداده، فاغتروا بذلك أيما غرور، وكفروا نعمة الله، قولا واعتقادا وعملا، فتسمع كثيرا منهم يقولون: قهرنا الطبعة وحققنا المعجزات، وأنكر كثير منهم وجود الله، وقدرته، ووصفوا الدين الذي يوجههم إلى صراط الله بأنه أفيون الشعوب، واستكبروا في الأرض فعاثوا فسادا وأهلكوا الحرث والنسل، ونشروا الظلم، وقد حق عليهم عذاب الله في الدنيا فأنزل بهم بأسه ففرق جمعهم وشتت شملهم وجعلهم شيعا وأحزابا ولا يزالون في تشتت وتمزق، كما حصل ذلك فيما كان يسمى الاتحاد السوفييتي، وسينزل الله بأعدائه الظالمين الذين لا يزالون يجاهرون بعلوهم وفسادهم في الأرض، وينصرون الظالم على المظلوم، كنصر اليهود والهندوس والنصارى على المسلين، في فلسطين، والهند، والفليبين والبوسنة والهرسك، وغيرها، ولقد بدأت بوادر نقمة الله تظهر في أقوى دولة مادية، على يد أبنائها، ومن ذلك حادث أوكلاهما، وحوادث العنف في لوس إنجليس، وغيرهما إضافة إلى التفسخ الأخلاقي والتمزق الاجتماعي والتدني الاقتصادي والأمراض النفسية والجسدية، وسنة الله تأبى العلو والفساد في الأرض، ولكن الله يمهل ولا يهمل ولايغترن أحد بالطول النسبي لعمر الدول، فهي تصاب بالأمراض والهرم والشيخوخة والموت كالأفراد {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد} آل عمران:196-197]

هذا، ويحسن-هنا- نقل جمل تناسب المقام، لابن القيم ن رحمه الله، في وصف فقر العبد الذاتي المطلق، وحاجته المطلقة إلى الله، وفي غنى الله الذاتي المطلق وتفضله على العبد بكل نعمة، ثم وصف حال من نسي فضل الله عليه، فاغتر بما آتاه الله وتكبر، قال رحمه الله: (فمن عرف ربه بالغنى المطلق، عرف نفسه بالفقر المطلق، ومن عرفه بالقدرة التامة، عرف نفسه بالعجز التام،-إلى أن قال-:بل لم يزل عبدا فقيرا إلى بارئه وفاطره، فلما أسبغ عليه نعمته، و أفاض عليه رحمته، و ساق إليه أسباب كمال وجوده ظاهرا وباطنا، وخلع عليه ملابس إنعامه، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، وعلمه وأقدره وصرفه وحركه، مكنه من استخدام بني جنسه، وسخر له الخيل والإبل، وسلطه على دواب الماء، واستنزال الطير من الهواء وقهر الوحش العادية، [و] حفر الأنهار، وغرس الأشجار، وشق الأرض، وتعلية البناء، والتحيل على مصالحه، والتحرز والتحفظ لما يؤذيه، ظن المسكين أن له نصيبا من الملك، وادعى لنفسه ملكا مع الله سبحانه، ورأى نفسه بغير تلك العين الأولى، ونسي ما كان فيه من حالة الإعدام والفقر والحاجة، حتى كأنه لم يكن هو ذلك الفقير المحتاج...). [طريق الهرتين وباب السعادتين (ص:13-14). طبع قطر]
 

كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل