بسم الله الرحمن الرحيم

أثر التربية الإسلامية في أمن المجتمع الإسلامي (47-60)

(47)

المبحث الثاني: حقوق الزوج على المرأة
وفيه اثنا عشر مطلباً:
المطلب الأول: تعظيم حقه عليها
المطلب الثاني: وجوب طاعتها له في غير معصية
المطلب الثالث: وجوب ابتعادها عما يؤذيه
المطلب الرابع: وجوب قرارها في بيته وعدم خروجها بدون إذنه
المطلب الخامس: عدم إذنها لأحد في بيته بدون رضاه
المطلب السادس: عدم صومها تطوعاً بدون إذنه
المطلب السابع: تربية أولاده تربية إسلامية
المطلب الثامن: اعترافها بإحسانه وعدم إنكار نعمته
المطلب التاسع: حفظ ماله وعدم التفريط فيه
المطلب العاشر: عدم تمكينها أجنبياً من الخلوة بها
المطلب الحادي عشر: مواساته وإدخال السرور عليه
المطلب الثاني عشر: تسليمها بإمرته للأسرة في حدود ما شرعه الله

حقوق الزوج على المرأة
تمهيد
لقد جمع رسول الله صلة الله عليه وسلم المسئولين كلهم في حديث واحد من جوامع كلمه، بحديث ذكر أعظم مسئول في المجتمع الإسلامي، وأصغر مسئول فيه، وما بينهما، كما في حديث عيد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عن رعيتهم، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده، وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع ومسئول عن رعيته)) [البخاري (8/104) ومسلم (3/1459)].
فقد قسم الرسول صلى الله عليه وسلم المسئوليات العامة والخاصة في هذا الحديث، فذكر أعلى أصناف الناس في أول من ذكر، وأدناهم في آخر من ذكر، وأوسطهم فيما بين ذلك فالمقصود من الحديث استغراق كل أفراد المسلمين بذكر أعلاهم وأوسطهم وأدناهم [راجع رسالة للمؤلف بعنوان: المسئولية في الإسلام، الطبعة الثانية].
والمقصود هنا ذكر بعض الحقوق التي يجب أن يرعاها كل فرد من أفراد الأسرة لمن هو مسئول عنه.

 (48)

المطلب الأول:
تعظيم حق الزوج على زوجته
وقد ورد في ذلك نصوص كثيرة منها حديث قيس بن سعد رضي الله عنه قال: أتيت الحيرة، فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فقلت: رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يسجد له، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أتيت الحيرة، فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فأنت أحق أن يسجد لك، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرأيت لو مررت بقبري أكنت تسجد له؟)) فقلت: لا، فقال: ((لا تفعلوا، لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن، لم جعل الله لهم عليهن من حق)) [أبو داود (2/604-605)].
ومثله حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها)) [الترمذي (3/456) وقال: هذا حديث أبي هريرة حديث حسن غريب من هذا الوجه، وذكر أن تسعة من الصحابة رووه بهذا المعنى غير أبي هريرة. وقال المحشي على جامع الأصول (6/494) على حديث قيس: يشهد له الأحاديث التي قبله فهو حديث حسن .. وقال في حديث أبي هريرة: حديث صحيح له شواهد بمعناه].
ففي هذين الحديثين الشريفين وما جاء في معناهما بيان عظيم لحق الزوج على المرأة، وأنها يجب أن تجتهد في أداء حقوقه بكل ما تقدر عليه وأن تسعى لرضاه فيما لا معصية لله فيه، ومنه ما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ممثلاً له بأفحش الذنوب، وهو عبادة غير الله، لأن السجود لا يجوز إلا له سبحانه، إلا أنه لو فرض أنه يجوز أن يؤدى لأحد لكان الزوج جديراً به من قبل امرأته، لما له عليها من حق عظيم، وذلك لأن الزوج يعفّ امرأته ويكرمها ويجعلها ربة لبيته، لها منزلتها في الأسرة، يأتمنها على ماله وولده وعرضه، ويسعى في جلب الرزق لها ولأولادها، ويدفع عنها وعنهم العوادي التي يقدر على دفعها، وغير ذلك مما تشعر معه المرأة بالراحة والأمن والاطمئنان.

 (49)

المطلب الثاني:
طاعتها له في غير معصية الله تعالى
ويدل على ذلك الحديثان السابقان وغيرهما، كحديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم:: أي النساء خير؟ قال: ((التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره)) [النسائي (6/56) قال المحشي على جامع الأصول (6/498): ورواه أحمد، وإسناده حسن].
ويتأكد وتأكد وجوب طاعته في دعوته إياها إلى فراشه، حتى أن الملائكة لتلعنها ليلتها إذا بات زوجها غاضباً عليها، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح)) [البخاري (6/150) ومسلم (2/1059)].

(50)

المطلب الثالث: وجوب ابتعادها عما يؤذيه
ويكفي أن نذكر في هذا المطلب حديثين واضحي الدلالة على خسارة المرأة التي تؤذي زوجها وتغضبه:
الحديث الأول: عن معاذ ابن جبل رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه، قاتلك الله، فإنما هو دخيل عندك، يوشك أن يفارقك إلينا)) [الترمذي (3/467-468) وقال: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه].
الحديث الثاني: عن أبي أمامة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم، العبد الأبق، حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون)) [الترمذي (2/193) وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه وعلّق عليه أحمد محمد شاكر، فقال: بل هو حديث صحيح ...].
ويجب على الزوج –كذلك- أن يبتعد عما يؤذي زوجته، فللنساء على الرجال مثل الذي عليهن، كما قال تعالى { ولهن مثل الذي عليهن}

 (51)

المطلب الرابع:
وجوب قرارها في بيته وعدم خروجها بدون إذنه
سبق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((والمرأة راعية على أهل بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها)) في التمهيد الذي سبق المطلب الأول من هذا المبحث: وفي الحديث إشارة إلى ما تقرر في نصوص الشريعة من أن الأصل في حق المرأة القرار في البيت، والخروج منه خلاف ذلك الأصل، يباح عند الحاجة بقدرها، فإذا انتهت الحاجة رجعت إلى ما هوا الأصل في حقها، وهو القرار في البيت، وقد أمر الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالقرار في بيوتهن، وجعل ذلك من وسائل تطهيرهن من الذنوب والمعاصي، والأصل في الأحكام المتعلقة بالنساء أن تستوي فيها كل النساء، من غير فرق بين نساء الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرهن من نساء المؤمنين، إلا إذا دل دليل خاص على اختصاصهن بحكم معين، مثل كونهن أمهات المؤمنين في حرمة الزواج بهن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيضاً فإن الطهر والعفة والمغفرة مطلوبة لكل النساء، وقد جعل الله قرارهن في البيوت من وسائل الطهر، وأيضاً فقد نهاهن الله تعال عن التلبس بصفات نساء الجاهلية الأولى كالتبرج، وهو أمر لا يختص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، بل كل المسلمين منهيون – نساءً ورجالاً – عن الاتصاف بصفات الجاهلية.
قال تعالى: وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى [الأحزاب: 33، وراجع كتابنا: المسئولية في الإسلام ص: 125-126] وأتبع ذلك بما لا يختلف فيه اثنان أن ليس من خصائصهن، وهو الأمر بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله ...، فقال تعالى: وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً [الأحزاب: 33، وراجع كتابنا: المسئولية في الإسلام ص: 125-126].
وإذا كان الأصل في المرأة أن تقر في بيتها، فإنها إضافة إلى ذلك لا يجوز لها الخروج منه إلا بإذن زوجها، وقد دل على ذلك أمره صلى الله عليه وسلم الرجال أن يأذنوا للنساء في الخروج لصلاة الجماعة في المسجد، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: ((إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها)) [البخاري (6/160) ومسلم (1/326-327)].
ولو كان للمرأة الحق في الخروج بدون إذن زوجها لما كانت هناك حاجة لنهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن منعها إذا هي استأذنت بل لا حاجة لاستئذانها، وإذا كان خروجها للعبادة لابد أن تستأذن فيه، فإن خروجها للأمور المباحة أولى بالاستئذان.

 (52)

المطلب الخامس:
عدم إذنها لأحد في بيته بدون رضاه
سواء كان من أقربائها أو أقرباء الزوج، ولو كانوا محارمها، ما عدا أباه، فقد مضى أن ولده من كسبه، وأنه يأخذ من ماله ما شاء – مع الشروط التي ذكرها بعض العلماء – وليس من الجائز له ولا لها منعه من دخول بيت والده إلا إذا كانت هناك ضرورة شرعية معينة تصدر بها فتوى، وهي – إن حصلت – نادرة.
فقد روى الأحوص رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، بعد أن حمد الله وأثنى عليه، وذكر ووعظ ثم قال: ((ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنما هن عوانٍ عندكم ليس تملكون لهن شيئاً غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً، ألا إن لكم على نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حقاً، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فراشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن)) [الترمذي (3/458) وقال: وهذا حديث حسن صحيح. وابن ماجة (1/594)].
قال الحافظ المباركفوري في قوله: ((فلا يوطئن فراشكم من تكرهون)): "قال الطيبي: أي لا يأذن لأحد أن يدخل منازل الأزواج)) وقال في قوله: ((إلا أن يأتين بفاحشة مبينة)): "كالنشوز وسوء العشرة وعدم التعفف" [تحفة الأحوذي (4/326) نشر المكتبة السلفية في المدينة المنورة].
قلت: وإذا تقيدت المرأة المسلمة بهذه التوجيهات النبوية فلم توطئ فراش زوجها ولم تدخل أحداً يكره منزله، مع الحقوق الأخرى التي يجب أن تؤديها له فإن الأمن الأسري يصل إلى ذروته.

 (53)

المطلب السادس: عدم صوم المرأة تطوعاً بدون إذنه
إن خدمة المرأة زوجها، وقيامها بقضاء حاجاته، أولى من قيامها بأداء بعض العبادات تطوعا، كالصوم والحج ونحوهما.
وقد دل على ذلك –وعلى ما جاء في المطلب الخامس أيضا- حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم-فذكر أحاديث ومنها- : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته وهو شاهد إلا بإذنه، وما أنفقت من كسبه من غير أمره، فإن نصف أجره له." [البخاري (6/150) مسلم (2/711)

 (54)

المطلب السابع:
تربية المرأة أولاد زوجها تربية إسلامية والقيام على شؤونهم.
وهذا المطلب من أهم وظائف المرأة في بيت زوجها، فلا تقوم الحياة الأسرية الآمنة المطمئنة بدون هذه الوظيفة، ونصيب الأم في هذه الوظيفة أعظم من نصيب الأب، وقد أشار إلى ذلك حديث ابن عمر المتقدم [انظر التمهيد في أول هذا المبحث] في رواية البخاري، قال صلى الله عليه وسلم: "والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده". ولا شك أن أو جب الرعاية وأهمها هي التربية الإيمانية السلوكية التي جاء بها القرآن الكريم والسنة المطهرة، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتبع ذلك الرعاية الجسمية، صحة وغذاء ونظافة، وغيرها.
ويدخل في ذلك أن تعين زوجها على تربية أولاده من غيرها، إذا ماتت أمهم، أو طلقت، وهم في سن يحتاجون فيها إلى الرعاية، وكذلك إخوانه الصغار، إذا كانوا بلا أم.
وقد شمل ذلك كله قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده" كما يدخل فيه بعض أقاربه الذين يجب أن يسعى هو في رعايتهم، كأمه العجوز وأبيه.
ومما يدل على ذلك حديث جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، وفيه: قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " هل تزوجت بكرا أم ثيبا؟" قلت: تزوجت ثيبا. فقال: "هلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك؟" قلت: يا رسول الله، توفي والدي، أو استشهد، ولي أخوات صغار، فكرهت أن أتزوج مثلهن، فلا تؤدبهن ولا تقوم عليهن، فتزوجت ثيبا لتقوم عليهم وتؤدبهن..." [البخاري (4/9-10) ومسلم (2/1087]
نعم. لا يجب على المرأة أن تقوم على أبناء زوجها من غيره، أو بعض أقاربه، إلا إذا كان شرط ذلك عليها وقبلت الشرط، ولكن ينبغي أن تقوم بذلك تطوعا واختيارا، فإن لها في نساء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة، في الصبر على خدمة أزواجهن التي قد تعاني المرأة منها شيئا من المشقة، ولكنها تنال بذلك فائدتين:
الفائدة الأولى: إرضاء ربها في خدمة زوجها وإعانته.
الفائدة الثانية: إدخال الأمن والطمأنينة والراحة، والسرور والرضا على نفسه، وجلب ما يزيد المودة بينها وبينه.
فقد حفظ علي رضي الله عنه لزوجه وبنت عمه، فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيامها بخدمته، وما عانت من تعب ومشقة في خدمته، فحكى ذلك للناس بعد وفاتها، كما روى أبو الورد بن ثمامة، قال: قال علي لابن أعبد: "ألا أحدثك عني وعن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت أحب أهله إليه، وكانت عندي؟" قلت: بلى. قال:" إنها جرت بالرحى حتى أثرت في يدها، وكنست البيت حتى اغبرت ثيابها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم خدم، فقلت: لو أتيتِ أباك فسألته خادما؟ فأتته فوجدت عنده حداثا، فرجعت، فأتاها من الغد، فقال: "ماكان حاجتك؟" وسكتت، فقلت: "أنا أحدثك يا رسول الله، جرت بالرحى حتى أثرت في يدها، وحملت بالقربة حتى أثرت في نحرها، فلما أن جاء الخدم أمرتها أن تأتيك، فتستخدمك خادما يقيها حر ما هي فيه. قال: "اتقي الله يا فاطمة، وأدي فريضة ربك، واعملي عمل أهلك، وإذا أخذت مضجعك فسبحي ثلاثا وثلاثين، واحمدي ثلاثا وثلاثين، وكبري أربعا وثلاثين، فتلك مائة، فهي خير لك من خادم." قالت: رضيت عن الله وعن رسوله. [البخاري (6/192-193 ) ومسلم (4/2091) والترمذي (5/477) وأبوداود (3/394)
ويؤخذ من هذا الحديث –زيادة على ما ذكر من دلالته على قيام المرأة بخدمة زوجها-ذلك التوجيه النبوي العظيم، لولاة أمور المسلمين الذين تقع خزائن بيت المال تحت أيديهم، بأن لا يرخوا العنان ويفلتوا الزمام لقراباتهم في الاستمتاع الذي يصل إلى حد الترف والاستئثار بأموال الأمة التي قد لا يجد كثير من أفرادها وأسرها القوت الضروري الذي يبقي على حياتهم، ولا يجدون السكن ولا المركب.
فقد بلغ التوجيه النبوي أن يصبر أهله على ما يعانون من مشقة وشظف العيش، والاستعانة على ذلك الصبر بالإكثار من ذكر الله وعبادته، مع إيثار غيرهم من عامة الناس عليهم.
فأين هذا المعنى الذي سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لولاة الأمر من بعده، مما يلصقه أعداء الله وأعداء دينه بالإسلام من أنه يخدر الشعوب والكادحين، ليستمتع بخيرات الأرض ومرافق الدولة وكدح الكادحين الزعماء والملوك باسم هذا الدين؟! نعم يستغل الإسلام كثير من الزعماء، ولكن استغلالهم شيء، والإسلام شيء آخر.
فلا يجوز أن ينسب إلى الإسلام سوء تصرفات من يستغله، وهو من ذلك براء. فالعبرة بما جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرته المطهرة، وما جرى عليه عمل خلفائه الراشدين ومن تبعهم بإحسان.

 (55)

المطلب الثامن
اعتراف المرأة بإحسان الزوج وعدم إنكار نعمته
إن ما يقوم به الزوج من اكتساب الرزق في خارج البيت، وما يعانيه من الإشراف على الأسرة داخل البيت ومحاولة التوفيق بين رغبات الأسرة المتنوعة، وكفاية المرأة في كثير من أمور الحياة، التي لو غاب عنها لأرهقتها وكلفتها شططا، وكذلك ما يقدمه من الإحسان إليها ، إن ذلك كله جدير بشكرها له واعترافها بنعمته.
واعتراف المحسن إليه بنعمة المحسن، يدخل عليه السرور، ويجعله يشعر بأن ما يبذله من خير يقع في مكانه اللائق به، وجحد النعمة يسيء إليه ويفقده الأمل في أن تثمر نعمته وإحسانه، وينزل به الغم، لأنه يشعر أن إحسانه مجحودة، ونعمته منكرة، فهي لم توضع في المكان اللائق بها.
ومع ذلك فيشرع في حقه الاستمرار في بذل الإحسان والنعمة. نعم. جزاؤه عند ربه وينبغي أن يقصد بذلك وجه الله ويطلب منه الثواب، ويصبر على ما يلقاه من جحود امرأته إحسانه ونعمته، وهي ستلقى جزاءها عند ربها.
ولهذا حذر الرسول صلى الله عليه وسلم النساء من كفران نعم أزواجهن، وذكر لهن الوعيد الشديد الذي ينلنه على ذلك، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رأيت النار، فإذا أكثر أهلها النساء، يكفرن" قيل: أيكفرن بالله؟ قال: "يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئا، قالت: "ما رأيت منك خيرا قط." [البخاري (1/13) ومسلم (2/626)

 (56)

المطلب التاسع:
حفظ مال الزوج وعدم التفريط فيه.
إن من أولى الناس بائتمان الزوج على ماله أهل بيته، فإذا كانت امرأته حريصة على حفظه اطمأن على كل ما عنده، وأمن الإسراف والتبذير والإنفاق في غي ما يحتاج إليه، وإذا لم تكن كذلك، بأن أسرفت في الإنفاق، أو فرطت في المال، هو يجمعه بكده من هنا، وهي تبدده بسفاهتها هناك، أصيب بخيمة أمل، ولازمه الخوف على ماله في أولى الأماكن التي يجب أن تكون أكثر أمنا له واطمئنانا.
ولهذا أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على نساء قريش بخصال، منها: حنوهن على الولد، ورعاية ذات اليد-أي حفظ المال-كما روى أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خير نساء ركبن الإبل نساء قريش" وفي رواية: صالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده." [البخاري (6/193)]

 (57)

المطلب العاشر: عدم تمكينها أجنبيا من الخلوة بها
لا يجوز للمرأة أن تمكن غير محارمها الأمناء عليها الحريصين على عرضها وشرفها الخلوة بها، وبخاصة أقاربها وأقارب زوجها الذين ليسوا محارم لها، لما في ذلك من الريبة والذريعة إلى الفساد والمنكر، وهذا –مع كونه يؤذي أهل المرأة كلهم-من أشد ما يتأذى به الزوج من تصرفات امرأته، وبخاصة المسلم الغيور الذي يؤذيه تدنيس عرضه. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، كما في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والدخول على النساء" فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟ قال: "الحمو الموت." [البخاري (6/159) مسلم (4/1711)]
والحمو يشمل أقارب الزوج –وكذلك أقارب الزوجة- الذين ليسوا محارم للمرأة.
وإن تشبيه الحمو بالموت، يدل على أن دخوله على النساء أشد خطرا من دخول غيره من الأجانب، لأن الناس يتساهلون في دخول أقربائهم بيوتهم، فيصبح دخولهم وخروجهم مألوفا في كل الأحوال، فلا يكون مستنكرا، وذلك من وسائل الدخول على النساء في حال الخلوة، وهو قد يجر إلى المنكر، بخلاف الأجنبي، فإن الغالب عدم التساهل في دخوله بيوت منن لا قرابة بينه وبينهم.

 (58)

المطلب الحادي عشر: مواساة الزوج وإدخال السرور عليه.
إن الرجل يتعرض للمتاعب والمعاناة، والاحتكاك بالناس، خارج المنزل، وقد يواجه مصاعب في أعماله، وعقبات في سبيله، فيغضب ويحزن، ويعود إلى البيت وهو مرهق –وقد يكون مكتئبا- فينبغي أن تستقبله المرأة ببشاشة وحنان، وأن تواسيه في مصائبه ومشكلاته، وأن تعينه على ما يحقق له الراحة والهدوء في منزله، ليظفر بالسكن والمودة والرحمة، وأن تعامله بالأسلوب المناسب لكل حالة من حالاته، كما فعلت خديجة رضي الله عنها مع زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواساته، منذ بدأ الوحي ينزل عليه، إلى أن فارقت الحياة.
فقد روت عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فاجأه الوحي: "فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد، رضي الله عنها، فقال: (زملوني، زملوني) حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة: -وأخبرها الخبر-: (لقد خشيت على نفسي) فقالت خديجة: كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق ... ثم ذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، فطمأنه صلى الله عليه وسلم" [البخاري: 1/3-4 ، ومسلم: 1/139-142]
ومن أروع الأمثلة على مواساة المرأة لزوجها ورعايتها له، ما صنعته أم سليم رضي الله عنها، مع زوجها أبي طلحة الأنصاري، رضي الله عنه، عندما مات ابن لهما. وهذه قصتهما، كما رواها أنس رضي الله عنه، قال:
"مات ابن لأبي طلحة من أم سليم، فقالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة بابنه، حتى أكون أنا أحدثه. قال: فجاء، فقربت إليه عشاءً، فأكل وشرب، فقال: ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك، فوقع بها، فلما رأت أن قد شبع وأصاب منها، قالت: يا أبا طلحة! أرأيت لو أن قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت، فطلبوا عاريتهم، ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا. قالت: فاحتسب ابنك. فغضب، وقال: تركتني حتى تلطخت، ثم أخبرتني بابني! فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بما كان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بارك الله لكما في غابر ليلتكما...)" [البخاري: 2/84، ومسلم: 4/1909]

 (59)

المطلب الثاني عشر: رضاها بقوامته على الأسرة في حدود ما شرع الله.
إن كل جماعة يرتبط بعضها ببعض، يحتاج أفرادها إلى من يتولى أمرهم، بالرجوع إليه فيما يطرأ لهم مما يحتاجون فيه إلى الاستشارة والتوجيه، أو حل النزاع بينهم، عندما يختلفون، حتى لا تستحكم فيهم الفوضى، ويتأصل الخلاف بينهم، فلا يستقيم لهم أمر:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
""""""""""""""ولا سراة إذا جهالهم سادوا
لذلك اقتضت الضرورة أو الحاجة، وجود الإمرة على الأفراد، لتنظيم حياتهم، في حضرهم وسفرهم.
وإذا كان المسافرون يحتاجون إلى الإمرة، ولو كانوا ثلاثة، فإن الأسرة أشد حاجة على أمير يرجع أفرادها إليه عند الحاجة، لملازمة أفرادها بعضهم بعضا في منزل واحد لمدة طويلة.
ولا بد من تقسيم وظائف الأسرة علىكبارها، حسب الأهلية والطاقة وإجادة العمل.
ولما كان الرجل يتميز بخصائص قد لا توجد في المرأة، أو يقل وجودها فيها غالبا، وكانت المرأة تتميز عن الرجل بخلال لا توجد في الرجل، أو تقل فيه غالبا، فقد اقتضت حكمة الله أن ينزل كل واحد منهما المنزلة اللائقة به، ويسند إليه ما هو كفء له.
فالمرأة هي الأرض الخصبة للنسل والإنجاب-وهما مطلوبان شرعا وعادة-وهي الظل الوارف الذي تستظل به الأسرة والذرية، والمحضن الأمين الذي يتربى فيه النشء، وهي الأم الحنون ذات العاطفة السريعة الاستجابة لحاجات الصغار والكبار في المنزل، وهي المعدة –في الأصل- للبقاء في البيت، للإشراف على تنظيفه وترتيبه، وتهيئة ما يريح أهله كلهم، فكانت وظيفتها تناسبها، وهي الحمل والوضع والرضاع، وتربية الأولاد، والقيام بمصالحهم، وتدبير أمور المنزل المتنوعة، من تنظيف وإعداد طعام، وتمريض، وغير ذلك، بالتعاون مع بقية الأسرة.
ومعلوم أن إمكاناتها العقلية والعاطفية والجسدية، صالحة –غالبا-لهذه الوظائف، وما أشبهها، ولذا غلب عليها لقب: "ربة البيت"
أما الرجل، فقد هيئ للقيام بوظائف أخرى، حيث زوده الله بقوة جسدية، وعقلية، مع الصبر على المشاق، ومقارعة الأعداء، وحماية الأهل، وإجابة داعي العشيرة، وتحمل متاعب السفر والمشي في مناكب الأرض، فاقتضت حكمة الله أن يكلف ما يناسبه، من تولي جلب حاجات الأسرة، من خارج البيت، من السعي في اكتساب الرزق، بوسائل حراثة الأرض، وصناعة الأدوات، والصفق في الأسواق للتجارة والبيع والشراء، وبناء المسكن، وصون أدواته ومرافقه... وغير ذلك مما فيه مشقة في الغالب.

 (60)

ولما كانت للمرأة خصائصها، في الغالب، وللرجل خصائصه في الغالب، فقد منح الله الرجل رئاسة الأسرة وتوجيهها العام، لأنه أقدر على ذلك من المرأة، وأكثر هيبة في نفوس الأسرة، فهو الذي كلف الإنفاق عليها، ومراقبة تصرفاتها في الإنفاق الذي ينبغي أن يراعى فيه مقدار الدخل، وعدم الإسراف والتبذير، وهو الذي يأمر أو ينهى عند الحاجة إلى الأمر أو النهي، وهو الذي يأذن بالدخول أو الخروج من المنزل، وهو الذي يأخذ على يد من تعدى حدوده شرعا أو عرفا، وليس قيامه بهذه الأمور مبنيا على تسلط أو هوى.
قال تعالى : ((الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم)) [النساء: 34]
ولا يفهم من هذه الإمرة أو القوامة، أن يكون الرجل في رئاسته للأسرة جبارا متسلطا مستبدا بالأمر، مكبلا حركات غيره من الأسرة، وبخاصة المرأة في نشاطها في المنزل، وإنما هو موجه توجيها عاما، وهي وإن كانت مرؤوسة له، بل ينبغي أن يكون لها رأيها الذي لا بد أن يسمعه ويقرها عليه، ويتشاور معها في مصالح الأسرة، ويتعاون معها على الوصول إلى ذلك بالحكمة، ولا يتدخل في كل شأن من شئون عملها، وعليها هي أن ترضى بقوامته في هذه الحدود.
قال الأستاذ الإمام محمد عبده: "والمراد بالقيام هنا، هو الرئاسة التي يتصرف فيها المرؤوس بإرادته واختياره، وليس معناها أن يكون المرؤوس مقهورا مسلوب الإرادة، لا يعمل عمل إلا ما يوجهه إليه رئيسه، فإن كون الشخص قيما على آخر، هو عبارة عن إرشاده والمراقبة عليه في تنفيذ ما يرشده إليه، أي ملاحظته في أعماله وتربيته، ومنها حفظ المنزل وعدم مفارقته، ولو لنحو زيارة أولي قربى، إلا في الأوقات والأحوال التي يأذن بها الرجل ويرضى. أقول: ومنها مسألة النفقة، لأن الأمر فيها للرجل، فهو يقدر للمرأة تقديرا إجماليا، يوما يوما، أو شهرا شهرا، أو سنة سنة، وهي تنفذ ما يقدره على الوجه الذي ترى أنه يرضيه، ويناسب حاله من السعة والضيق." [تفسير المنار: 5/68 وراجع كتاب في ظلال القرآن: 5/650 وما بعدها]
فإذا سار الرجل والمرأة في حياتهما على هذا المنهج، استقامت حياة الأسرة، وسلمت من النزاع المؤدي إلى الشقاق والتفكك.
أما إذا تنافس الزوجان على رئاسة الأسرة، أو تدخل أحدهما في شئون الآخر بدون حق، فإن ذلك يحدث من التصدع والنفور والفوضى والاضطراب، ما الله به عليم.
هذا إذا كان التنافس في الرئاسة، مع الاتفاق على الأهداف التي ينبغي تحقيقها، والوسائل التي تحقق تلك الأهداف.
أما إذا حصل بينهما التنافس على الرئاسة، مع اختلافهما في الاتجاهات والأهداف والوسائل، فهناك يكون التحطيم الكامل والتفكك والانفصام النكد للأسرة، وبخاصة إذا كان محل التنافس هو تربية الأولاد، فإن ذلك أعظم خطرا، وأشد شرا.
قال الأستاذ محمد قطب: "كما ينبغي أن تكون سياسة الأبوين موحدة أو متقاربة، تجاه الطفل، بحيث لا يشعر أن هناك فارقا ملحوظا بين معاملة كل منهما له، وبالذات لا ينبغي أن يقف الأبوان موقفين متعارضين –أمام الطفل- تجاه عمل قام به، أحدهما –مثلا- يطالب بعقابه، والآخر يعارض في توقيع العقوبة عليه، فإن هذا يفسد الموازين في حسه، ويشعره بأن الأمور ليس لها ضابط محدد، ولا معيار معين يلتزم به، وأن في إمكانه أن يخالف تعاليم أحد الوالدين، ويجد من يدافع عنه من طريق آخر...." منهج التربية الإسلامية: 2/115]
إن اختلاف الأبوين المتناقض في شأن تصرفات الأولاد في المنزل، معناه وجود حزبين متصارعين، ينضم فيه الأولاد إلى من يرون أنه يحقق لهم رغباتهم، ويؤيد ميولهم، وفي ذلك كارثة على الأسرة كلها، وهدم لكيانها، فليعلم الأبوان ذلك، وليتلافياه قبل فوات الأوان.
هذه بعض الأمور التي ينبغي أن تعلمها المرأة، من حقوق زوجها، ليكون تعاملها معه، ومع أفراد أسرتها، مترتبا عليها، وهي إذاما اتبعتها وطبقتها في حدود طاقتها، ، كفيلة بأمن زوجها واستقراره وشعوره بالسكن والمودة والرحمة، وتلك بداية أمن الأسرة كلها، فإن الرجل يأمن على نفسه وولده وماله وعرضه، وكفى بذلك أمنا.

كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل