بسم الله الرحمن الرحيم

أثر التربية الإسلامية في أمن المجتمع الإسلامي (61-71)

(61)

المبحث الثالث
في حقوق المرأة على الزوج والولي
وفيه تمهيد وأربعة مطالب:
المطلب الأول: حقوق المرأة قبل الزواج.
المطلب الثاني: حقوق المرأة عند البناء بها.
المطلب الثالث: حقوق المرأة في فترة الحياة الزوجية.
المطلب الرابع: حقوق المرأة بعد الفراق.

تمهيد
إن الذي يتأمل الحقوق التي شرعها الله في هذا الدين لكل واحد من الزوجين، يرى فيها كمال علم الله وحكمته، وكمال عدله ورحمته، وأنه سبحانه وتعالى قد منح كلاً منهما من الحقوق، ما تقوم به الحياة الزوجية على أكمل وجه، والحياة الأسرية على أتم حال.

وإن الذي يطالع حقوق الزوج مستقلة يظن أنه قد منحه من الحقوق، ما لم تنل المرأة مثلها، فإذا نظر رجع إلى حقوق الزوجة مستقلة، ظن أنها منحت من الحقوق ما لم ينل الزوج مثلها، ولكنه إذا نظر إلى هذه وتلك، ظهر له كمال العناية الربانية بالجانبين، ولما كان من الصعب هنا التفصيل في حقوق الزوجة، كما هو الحال في حقوق الزوج، فقد سلكنا في حقوقها مسلكنا في حقوق الزوج من الاختصار، حسب المطالب الأربعة، وفي كل مطلب فروع تذكر فيه:

المطلب الأول:
حقوق المرأة قبل الزواج.

وفي هذا المطلب خمسة فروع:

الفرع الأول: التحقق من رضاها بالزواج منه.
لا يجوز إجبار المرأة على الزواج بشخص لا ترضاه، لما في إجبارها من فقد الحياة المطمئنة والراحة النفسية والمودة والسكن والرحمة، وتلك من أهم أهداف الزواج في الشريعة الإسلامية، فلا بد من استئذانها في الزواج.
وإذن البكر يدل عليه سكوتها، لأنها تستحي في الغالب أن تصرح بالقول، أما إذن الثيب فلا بد أن يكون بالقول الصريح بقبول الزوج الخاطب، كما في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن " قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: "أن تسكت " [البخاري (6/135) ومسلم (2/1036)].
وفي حديث عائشة، رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله، يستأمر النساء في أبضاعهن؟ قال: "نعم" قلت: فإن البكر تستأمر فتستحي، فتسكت، قال: "سكاتها إذنها" [البخاري (8/57) ومسلم (2/1037)].
فإذا زوج الولي المرأة البالغة بدون إذنها، بكراً كانت أم ثيباً، فلها فسخ النكاح إذا لم ترضه، كما في حديث ابن عباس، رضي الله عنهما، أن جارية بكراً أتت سول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم [أحمد (1/364) وأبو داود (2/576)، وابن ماجة (1/602)، قال الشوكاني في نيل الأوطار (6/138): قال الحافظ: ورجاله ثقات، ثم أجاب الشوكاني على من أعل الحديث بالإرسال، ورجح وصله، وقال المحشي على سنن أبي داود: وقد صححه الشيخ أحمد شاكر].

وقد أثبتت إحدى الصحابيات هذا الحكم بالسنة النبوية، قاصدة بذلك سد الباب في وجه الأولياء المستبدين بالأمر، مخالفين بذلك شرع الله، في إكراه المرأة على زوج لا ترضاه.

فقد روى بريدة، عن عائشة، رضي الله عنها قالت: جاءت فتاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته، قال: فجعل الأمر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي، ولكني أردت أن تعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء "[أحمد (6/136)، والنسائي (6/71)، وابن ماجة (1/602ـ603) وقال محققه، محمد فؤاد عبد الباقي: في الزوائد: إسناده صحيح، وقد رواه غير المصنف من حديث عائشة وغيرها. أهـ قلت: هو في سنن ابن ماجة: عن بريدة عن أبيه].

بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر استشارة المرأة من تثق به، وترى أن يشير عليها بما ينفعها، عندما ذكرت له فاطمة بنت قيس، رضي الله عنها أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، أنكحي أسامة بن زيد) فكرهته، ثم قال: "انكحي أسامة بن زيد" فنكحته، فجعل الله فيه خيرا، واغتبطت " [مسلم (2/1114)].

ومع ذلك فان المرأة ليست مطلقة الحرية في استبدادها بزواج نفسها ممن تشاء، كما أن وليها ليس مطلق الحرية في تزويجها بمن يشاء، بل يجب عليها أن تعود إلى وليها ليلي عقد نكاحها، وقد اشترط الجمهور الولي في النكاح، إلا إذا عضلها عن النكاح بغير حق، فإن الولاية تنتزع منه وتعود إلى الحاكم، حتى لا يضر الأولياء قريباتهم بالعضل.
وقد وردت نصوص كثيرة تؤيد رأي الجمهور، خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله [راجع المغني لابن قدامة (7/6)] لأن المصلحة وان كانت تعود إلى المرأة أساسا، وكذلك المضرة، فإن وليها وأسرتها تعود إليهم مصلحتها ومضرتها أيضا، لأنها قد تزوج نفسها من غير كفء، فيكون ذلك عاراً على أسرتها كلهم [راجع الولاية على النفس لأبي زهرة ص125].

وللولي أن يزوج الصغيرة إذا وجد الكفء الصالح الذي يخشى فواته، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه في تزويج بنته عائشة رضي الله عنها، برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي بنت ست سنين، وإن كان لم يدخل بها إلا وهي بنت تسع [البخاري (6/134) ومسلم (2/1038)].
وبما تضمنه هذا الفرع تأمن المرأة على حياتها الزوجية فلا يملك عصمتها من لا ترضاه زوجاً لها.

(62)

الفرع الثاني: من حق المرأة على وليها أن يبحث لها عن زوج صالح، وأن يعرضها عليه.
وهذا أمر مشروع، وقد عرض الرجل الصالح إحدى ابنتيه على موسى، عندما توسم فيه الصلاح كما قال تعالى: (قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين. قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج) [سورة القصص: 26،27]

وطبق ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهده، كما عرض عمر بن الخطاب، رضي الله عنه بنته حفصة حين تأيمت على عثمان فاعتذر، ثم عرضها على أبي بكر فسكت، ثم خطبها رسول الله، وعلم عمر أن سبب اعتذار عثمان وسكوت أبي بكر عليهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها. [راجع القصة في صحيح البخاري: 6/130].

الفرع الثالث: عدم جواز عضلها إذا طلبها الكفء

ولا يجوز للولي أن يمنع المرأة من الزواج إذا كان الزوج المتقدم كفؤاً لها، وهي راضية به، سواء أكان متقدماً لها ابتداء ـ أي لم يسبق له أن تزوجها، أم كان زوجاً لها فطلقها، وأراد خطبتها بعد انقضاء عدتها، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن عضلها نهياً صريحاً، فقال تعالى: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون) [سورة البقرة: 232].

وقال سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن) [سورة النساء: 19].

قال القرطبي رحمه الله على قوله: (فلا تعضلوهن):
روى معقل بن يسار، كانت أخته تحت أبي البداح، فطلقها وتركها حتى انقضت عدتها، ثم ندم فخطبها، فرضيت وأبى أخوها أن يزوجها، وقال: وجهي من وجهك حرام إن تزوجتيه، فنزلت الآية.

قال مقاتل: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم معقلاً، فقال: "إن كنت مؤمناً فلا تمنع أختك من أبي البداح" فقال: آمنت بالله وزوجها منه، وروى البخاري عن الحسن أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها حتى انقضت عدتها، فخطبها، فأبى معقل فنزلت: (فلا تعضلوهن أن ينحكن أزواجهن) [الجامع لأحكام القرآن: 3/158].

وقالت عائشة، رضي الله عنها، في قوله تعالى: (يستفتونك في النساء، قل الله يفتيكم فيهن) إلى آخر الآية، قالت: هي اليتيمة تكون في حجر الرجل قد شركته في ماله، فيرغب عنها أن يتزوجها، ويكره أن يزوجها غيره، فيدخل عليه في ماله، فيحبسها، فنهاهم الله عن ذلك. [البخاري: 6/134].

فالواجب تزويج المرأة إذا خطبها الكفء، وعدم عضلها بسبب مال أو منصب ونحوهما، ولا يتسع المقام هنا للحديث عن الكفاءة، ولكن الكفاءة في الدين هي الدعامة الأولى [راجع نيل الأوطار: 6/144].

وبما تضمنه هذا الفرع تأمن المرأة من منعها بالزواج من الكفء الذي ترضاه، كما أنها بما تضمنه الفرع الأول تأمن من إكراهها على الزواج بمن لا ترضاه.

(63)

الفرع الرابع: أن لا يقدم الخاطب على الزواج بها إلا بعد التحقق من رغبته فيها، لئلا تفاجأ بعد الزواج بكراهيته لها، فتعيش معه حياة غير مرضية، وقد يصل به الأمر إلى فراقها، وفي ذلك إساءة إليها، وإدخال الحزن إلى قلبها، وحرمانها من حياة تاقت لها في مقتبل عمرها، ولأن المقصود من الزواج هو دوام العشرة واستمرارها.

ولهذا شرع له إذ خطبها أن ينظر إليها قبل الزواج، ليرى إن كانت تعجبه، ويقدم على الزواج بها، وإن كانت لا تعجبه، تركها ليرزقها الله غيره ويرزقه غيرها.

وقد نظر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التي وهبت له نفسها، فلم تعجبه، فتركها بأسلوب مناسب، كما في حديث سهل بن سعد، رضي الله عنه، (أن امرأة جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، جئت لأهب لك نفسي، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصعد النظر إليها وصوبه، ثم طأطأ رأسه، فلما رأت أنه لم يقض فيها شيئاً جلست...) [البخاري: 6/131].

وفي حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه رجل، فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنظرت إليها؟" قال: لا، قال: "فاذهب فانظر إليها فإن في عيون الأنصار شيئاً" [مسلم: 2/1140، وراجع المغني لابن قدامة: 7/96].

فقد ثبت هذا الحكم من فعله صلى الله عليه وسلم ومن قوله، وقد يظهر بادئ ذي بدء أن هذا الأمر من حقوق الزوج، والواقع أن للزوجة حقاً كبيراً فيه، كما ذكرت.

وفي حديث أبي هريرة هذا تنبيه من الرسول صلى الله عليه وسلم للرجل، أن ينظر إلى ما يخشى أن يكون سبباً في كراهيته للمرأة، إذا تزوجها ولم يره من قبل، لقوله: "فإن في عيون الأنصار شيئا" لأن من المصلحة رؤية العين قبل الزواج، حتى يتزوجها وهو راضٍ بما فيها من عيب أو يدعها، بخلاف ما إذا فوجئ به بعد الزواج، فإن مفسدة ذلك أكبر من مفسدة تركها قبل الزواج.

وهذا الفرع يتضمن أمن الرجل والمرأة معاً، من الزواج الذي قد يفاجأ أحدهما بعيب أو عيوب خلقية في الآخر، لم يرها قبل الزواج فيندم، وقد يترتب على ذلك عدم استمرار الحياة الزوجية بينهما.

(64)

الفرع الخامس: إعطاؤها المهر المتيسر
ولا بد للمرأة من مهر يعطيه الزوج لها، ولكن ينبغي عدم المغالاة فيه.

قال ابن قدامة، رحمه الله:
"الأصل في مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب، فقوله تعالى: ((وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين)) [النساء: 24].
وقوله تعالى: ((وآتوا النساء صدقاتهن نحلة)) [النساء: 4]. قال أبو عبيد: يعني عن طيب نفس بالفريضة التي فرض الله تعالى".

ويجوز أن يكون كثيراً إذا كان الزوج موسراً، كما قال تعالى: ((وآتيتم إحداهن قنطارا)) [النساء: 20]. إلا أنه لا يجوز أن تكون المغالاة في المهور سببا لمنع الشبان والشابات من الزواج، كما هو الواقع في هذا الزمان الذي كثر فيه الفساد، وحيل بين الشاب والشابة أن يتزوجا على سنة الله ورسوله، بسبب غلاء المهور وكثرة ما يطلب منه من الحلي والملابس وأنواع الزينة والأثاث، والولائم المبالغ في إنفاق الأموال فيها إلى حد التبذير والسرف فيها، حتى أصبح الزواج عند كثير من الشباب لا يطاق بسبب ذلك، فكثرت العوانس وكثر العزاب وانتشر الفساد.

والواجب على ولاة أمور المسلمين، من العلماء والحكام والعقلاء في البلدان الإسلامية، وكذلك تجارهم أن يوجدوا حلا لهذا الأمر الخطير، حتى يتمكن الشبان والشابات من الزواج المشروع، وهو من أسس تخفيف الشرور التي تحصل في الأقطار الإسلامية، التي تكاد تصل إلى ما وصلت إليه دول الكفر من الفسوق والفواحش، ومن أهم الحلول أن يكون الأغنياء والزعماء قدوة لغيرهم في التخفيف من المهر والولائم وغيرها حتى يقتدي بهم غيرهم.

ومن أهم الحلول أن وجود صناديق تبرعات كافية للذين لا يجدون ما يمكنهم من إقامة حياة زوجية سعيدة، وينبغي أن يعود أغنياء المسلمين إلى الجود بإيقاف بعض أموالهم على المشروعات الخيرية، ومنها زواج الفقراء [راجع في مقدار المهر، فتح الباري (9/204ـ217) والمغني لابن قدامة (7/210ـ212)].

وعلى حكام الشعوب الإسلامية أن يعنوا بهذا الأمر، ويسعوا إلى تزويج الشباب بإيجاد وسائل ذلك، من الزكوات والتبرعات، أو أي مورد مشروع لبيت أموال المسلمين، فإن المصالح التي تترتب على تزويج الشباب عظيمة جداً، كما أن المفاسد التي تترتب على عدم تزويجهم خطيرة جدا.

وإذا كان مهر أغلب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة درهم، أي أن مهر الواحدة لم يزد على اثنتي عشرة أوقية فهل غيرهن أفضل منهن؟

وقد استنكر النبي صلى الله عليه وسلم كون رجل أصدق امرأته أربع أواق، وقد جاء إليه ليصيب إعانة منه صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: "على أربع أواق؟ كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك، ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه، فبعث بعثا إلى بني عبس، بعث ذلك الرجل فيهم " [مسلم (2/1040)].

وقال الشوكاني رحمه الله:
"فيه - أي أحد أحاديث الباب - دليل على أفضلية النكاح مع قلة المهر، وأن الزواج بمهر قليل مندوب إليه، لأن المهر إذا كان قليلاً لم يستصعب النكاح من يريده، فيكثر الزواج المرغب فيه، ويقدر عليه الفقراء، ويكثر النسل الذي هو أهم مطالب النكاح، بخلاف ما إذا كان المهر كثيراً فإنه لا يتمكن منه إلا أرباب الأموال، فيكون الفقراء الذين هم الأكثر في الغالب غير متزوجين، فلا تحصل المكاثرة التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم"[نيل الأوطار (6/190ـ191)].

قد يرى القارئ غرابة دعوتي في هذا الفرع إلى التقليل من المهر، مع أنه في حق المرأة التي تستفيد من كثرته، ولكن الغرابة تزول إذا علم أن عوانس كثيرات يتململن من غلاء مهورهن إلى درجة عدم استطاعة الراغبين فيهن التقدم لخطبتهن، وكثيرات منهن يشكون من ذلك، فالشابات في أمس الحاجة إلى تخفيف مهورهن، ليستطيع من يرغب فيهن ويرغبن فيه أن يتزوجهن.

وبهذا الفرع تأمن المرأة على أخذ ما فرض الله لها من صداق، وتأمن هي والراغب فيها على عدم جعل المغالاة في المهور سدا في طريق زواجهما.

(65)

المطلب الثاني
حقوق المرأة عند البناء بها.

وفيه ثلاثة فروع:

الفرع الأول: إظهار الزواج للناس.
ويكون ذلك بإظهار أسرتي الزوجين وجيرانهم الفرح والسرور.
ومن مظاهر ذلك الضرب بالدفوف، وفعل شيء من الطرب واللهو غير المنكر، كما في القصة التي رواها خالد بن ذكوان، عن الربيع بنت معوذ قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم غداة بني علي، فجلس على فراشي كمجلسك مني، وجويريات يضربن بالدف، يندبن مَن قتل من آبائهن يوم بدر، حتى قالت جارية: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت تقولين) [4/1469 ورقم الحديث: 3779]

فقد أقر صلى الله عليه وسلم ضرب الدفوف، وذكر محاسن آباء الفتيات اللاتي يحتفلن بزواج أختهن المسلمة، وأنكر الغلو الذى ظهر من إحداهن.

وسأل صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها، بعد أن زفت امرأة من الأنصار، عما إذا كان حصل في هذا الزفاف شيء من اللهو؟ وعلل ذلك بأن الأنصار يعجبهم اللهو، قالت عائشة، رضي الله عنها: إنها زفت امرأة من الأنصار، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة، ما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو [البخاري (6/140)].

وكان صلى الله عليه وسلم يفرح عندما يرى النساء والأطفال ذاهبين إلى الزفاف أو راجعين منه، كما روى أنس بن مالك، رضى الله عنه، قال: أبصر النبي صلى الله عليه وسلم نساءً وصبياناً مقبلين من عرس، فقام ممتناً، فقال: "أللهم أنتم من أحب الناس إلي" [البخاري (6/144)].

وفي هذا الفرع مشروعية إعلان النكاح والفرح به، لما فيه من تحقيق سنة اللقاء المشروع بين الرجل والمرأة، اللذين ليسا في حاجة إلى التدسس بلقائهما، لأنه لقاء مشروع يجب أن يعلمه الناس، ليأمن الزوجان من القيل والقال، اللذين لا يسلم منهما من التقيا على غير سنة الله ورسوله، وفيه قضاء على الفواحش والمنكرات التي تحدث سراً بدون زواج.

الفرع الثاني:
إقامة الزوج الوليمة المتيسرة.

وهي مشروعة لزيادة إعلان النكاح، وإظهار السرور به والشكر لله الذي حض عليه ويسره، وتطبيقا لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والجمهور على أن الوليمة سنة وليست واجبة، وذهب بعض أصحاب الشافعي أنها واجبة استنادا إلى ظاهر الأمر بها، عندما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف الذي تزوج امرأة من الأنصار: (كم أصدقتها(؟ قال: "وزن نواة من ذهب.. فقال له صلى الله عليه وسلم: (أولم ولو بشاة) [البخاري (6/142].

وكان هو صلى الله عليه وسلم إذا تزوج امرأة أولم بما يتيسر له، قال أنس رضي الله عنه - وقد ذكر عنده تزويج زينب بنت جحش برسول الله صلى الله عليه وسلم -: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أولم على أحد من نسائه ما أولم عليها، أولم بشاة.) [البخاري (6/143)].
وقالت صفية بنت شيبة: "أولم النبي صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه بمدين من شعير" [البخاري (6/143)].

الفرع الثالث:
تخصيصها عند البناء بمدة معينة يقيمها عندها.

ومن حق المرأة التي تزف إلى زوجها، أن يقيم عندها سبعا إن كانت بكراً، وثلاثا إن كانت ثيباَ، ثم يقسم لبقية نسائه بعد ذلك ما جرت به عادته.
قال أنس رضي الله عنه: "من السنة إذا تزوج الرجل البكر على الثيب أقام عندها سبعا وقسم، وإذا تزوج الثيب على البكر أقام عندها ثلاثا. ثم قسم." قال أبو قلابة: "ولو شئت لقلت: إن أنساً رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم". [البخاري (6/154)].

وسبب هذا التخصيص، والله أعلم، أن المرأة الجديدة في حاجة إلى إيناسها من وحشة الانتقال من بيت أهلها إلى بيت الزوج، وكذلك في بقائه عندها هذه المدة إشباع لرغبتها فيه، وهو أيضا ينال رغبته منها، وخصت البكر بزيادة على الثيب، لأنها أحوج إلى ذلك الإيناس وتلك الرغبة، حتى تألف الزوج والزوج يألفها.

(66)
المطلب الثالث
حقوق المرأة في فترة الحياة الزوجية

والحقوق التي تدخل في هذا المطلب كثيرة جدا، ومهمة كذلك، وهي التي تمتد بها الحياة الزوجية السعيدة والأمن الأسري، إن تحققت أو يحصل بفقدها الشقاء والقلق والنزاع والتمزق، إن لم تؤد كما أمر الله سبحانه وتعالى: أداء من قبل الزوج، وقبولا من قبل المرأة.

ولنجمل ما تيسر من هذه الحقوق في اثني عشر فرعا:

الفرع الأول: تعليمها أمور دينها، وتربيتها عليها، فيما يتعلق بحياتهما الزوجية والأسرية، من حقوق وواجبات، ويشمل ذلك حقوق الأولاد وواجباتهم، وحقوق الأقارب من الجانبين، وغير ذلك من حقوق الجيران...مما ينبغي أن تعلمه، وبهذا التعليم تعرف واجباتها وحقوقها، فلا تقصر في أداء واجب ولا تطمع في غير حق، إلا على سبيل التعاون والإيثار من الطرفين.

وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم نساءه دينهن، حتى كن من كثرة ما يتلقين عنه صلى الله عليه وسلم العلم من الكتاب والسنة، من المفتيات لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، وقد أمرهن الله سبحانه وتعالى أن يذكرن تلك النعمة التي ساقها الله إليهن مباشرة، من رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيوتهن، فقال تعالى: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا). [الأحزاب:34].

والواجب الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في تعليم نساء المؤمنين، كما كان صلى الله عليه وسلم يعلم نساءه وغيرهن، ولا يقي الإنسان نفسه من عذاب الله إن لم يحاول وقاية أهله منه، كما يحاول وقاية نفسه بتعليمهم ما يجب عليهم.

وتعليم المرأة هو أساس تعليم أفراد الأسرة، لأنها إذا تعلمت علمت أبناءها وغيرهم بالقول والقدوة الحسنة، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون). [التحريم:6].
وقال تعالى: (وأمر أهلك بالصلاة وأصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى). [طه:132].

وسبق حديث: "كلكم راع ومسئول عن رعيته ". [في أول المبحث الثاني من هذا الفصل].
ومن أعظم رعاية الرجل امرأته تعليمها أمور دينها وما تتحقق به مصالح الأسرة، فإن المرأة الجاهلة تسيء إلى زوجها وأولادها، بل وعلى نفسها بتصرفاتها، وهي لا تدري عن النتائج المترتبة على ذلك.

ويجب أن يعلم أن المرأة قد تكون متعلمة مثل الرجل، وقد تكون أكثر علما منه، وعلى هذا ينبغي أن يتعاونا على التفقه في الدين، وأن يستفيد كل منهما من الآخر، وأن يتلقى الأقل منهما علما من الأكثر علما، لأن المقصود هو التفقه في دين الله، ولا فرق بين أن يُتُلَقَّى من قبل رجل أو امرأة.

الفرع الثاني
معاشرتها معاشرة حسنة والتلطف بها وعدم العنف معها

إن معاشرة الزوج امرأته معاشرة حسنة، وتلطفه بها وتحسين أخلاقه معها، يقوي بينه وبينها المودة والمحبة والألفة، وذلك يثمر التعاون على راحة الأسرة وهدوء بالها واطمئنانها.

ولما كان الزوج وامرأته لصيقين يكثر احتكاك بعضهما ببعض، وينبني على ذلك وجود مشكلات بينهما، وقد تختلف وجهات نظرهما، كان لا بد من صبر بعضهما على بعض وتحمل بعضهما أخطاء بعض، وعدم المشاحة في الحقوق، لأن في ذلك من تلافيا للشقاق والنزاع المستمرين استمرار الحياة الزوجية.

وإذا كانت المرأة قد أمرت بطاعة زوجها والقيام بحقوقه، وعدم التساهل فيها وتعظيم حقه عليها، فإن الزوج أيضاً مأمور بأداء حقوق زوجه وعدم التساهل فيها، بل مأمور بالتساهل في حقوقه الخاصة، وإذا رأى منها خلالاً لا تعجبه، فليذكر فيها صفات أخرى تعجبه، ويجعل الأخلاق الحسنة بمنزلة الماء والصفات السيئة بمنزلة النار، وليطفئ بالأولى الثانية.

روى أبو هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول لله صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالنساء خيرا، فإن المرأة خلقت من ضِلَعٍ أعوج، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإذا ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء.) [البخاري (6/145) ومسلم (2/1090)].

روى أبو هريرة، رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً، رضي منها آخر) [مسلم (2/1091)].

ولقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم ميزان التفاضل في الخلق، عشرة الرجل الحسنة لنسائه، ففي حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم خلقا). [الترمذي (3/457) وقال: حديث أبو هريرة هذا حديث حسن صحيح، وأبو داود (5/60)].

ولعل من الحكمة في جعل ميزان التفاضل في الخلق السبق في العشرة الحسنة للنساء، هو ما ذكر أولا من أن المرأة فيها اعوجاج، يحتاج زوجها معه إلى صبر، وكثرة احتكاكه بها، فصبره عليها مع اعوجاجها وطول عشرته معها، يدل على قوة تحمله وحسن خلقه، لأنه إذا كان أحسن خلقاً امرأته، فسيكون أحسن خلقاً مع غيرها من الناس، فهو يفضل في خلقه مع الناس، من هو أقل خلقا مع امرأته.

قال الشوكاني، رحمه الله: (خيركم خيركم لأهله): في ذلك تنبيه على أعلى الناس رتبة في الخير وحسن الخلق والإحسان وجلب النفع ودفع الضر، فإذا كان الرجل كذلك، فهو خير الناس، وإن كان على العكس من ذلك، فهو في الجانب الآخر من الشر.

وكثيرا ما يقع الناس في هذه الورطة، فترى الرجل إذا لقي أهله، كان أسوأ الناس أخلاقاً وأشجعهم نفسا وأقلهم خيراً، وإذ لقي غير الأهل من الأجانب لانت عريكته وانبسطت أخلاقه وجادت نفسه وكثر خيره، ولا شك أن من كان كذلك فهو محروم التوفيق، زائغ عن سواء الطريق. [نيل الأوطار (6/233)].

قلت: ولا بد أن تكون تلك الأخلاق التي ظاهرها الحسن مع غير الأهل، ممن هو سيء الأخلاق مع الأهل، متكلفة ليست من طبعه، لأنه لم يستقم على الميزان النبوي للأخلاق الحسنة: (وخياركم خياركم لنسائهم خلقا).

(67)

الفرع الثالث
بذل ما تحتاجه من النفقة والكسوة مما يكفي أمثالها

ونفقة المرأة الكافية لها، وكسوتها التي جرت بها العادة لأمثالها واجبة، وينبغي للزوج إذا كان موسراً أن يوسع على أهله، ولا يبخل عليهم بشيء ما لم يكن إسرافاً أو ينفق في معصية، فإنه حينئذ لا يجوز.
وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبدأ المرء في النفقة بمن يعول، ولا شك أن الزوجة من أولى الناس بذلك.

روى أبو هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصدقة ما ترك غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول). [البخاري (6/190)].

وكان صلى الله عليه وسلم يحبس نفقة عياله لسنة، كما في حديث عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، "أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يبيع نخل بني النضير ويحبس لأهله قوت سنتهم". [البخاري (6/190)].
وجعل صلى الله عليه وسلم الإنفاق على الأهل، مع كونه واجباً صدقة إذا احتسبه المنفق عند الله، كما روى أبو مسعود البدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة). [البخاري (1/20) ومسلم (2/695)].

كما أخبر صلى الله عليه وسلم أن الإنفاق على الأهل أعظم أجراً من الإنفاق على غيرهم، حتى ما أنفق في سبيل الله. روى أبو هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك). [مسلم (2/692)].

وفي حديث حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري، عن أبيه رضي الله عنه، قال:
قلت: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: (أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت). [أبو داود (2/606) وقال المحشي على جامع الأصول (6/505) وإسناده حسن، ومعنى هجرها في البيت: في المضجع وهي في بيتها].

الفرع الرابع
الإذن لها بالخروج من بيتها لقضاء حوائجها

سبق أن المرأة يجب أن تلزم بيت زوجها، ولا تخرج منه إلا أن يأذن لها. [المطلب الرابع من المبحث الثاني من هذا الفصل].
وقد أذن الله سبحانه وتعالى للنساء أن يخرجن لقضاء حوائجهن، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أزواجهن أن يأذنوا لهن، ودل فعله صلى الله عليه وسلم على ذلك.

روت عائشة، رضى الله عنها، قالت: "خرجت سودة بنت زمعة ليلاً، فرآها عمر، فعرفها، فقال: إنك والله يا سودة ما تخفين علينا، فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، وهو في حجرتي يتعشى، وإن في يده لعرقاً، فأنزل عليه، فرفع عنه وهو يقول: (قد أذن لكن أن تخرجن لحوائجكن). [البخاري (6/195)].

فهذا إذن عام من الله سبحانه وتعالى للنساء أن يخرجن لحوائجهن، ولكن عليها أن تستأذن زوجها في خروجها لحاجتها، وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الأزواج بالإذن لهن، ونهى عن منعهن من حضور الصلاة في المساجد. [المطلب الرابع المذكور آنفاً].

وقد كان نساؤه صلى الله عليه وسلم ونساء أصحابه، يخرجن معهم في الغزو للقيام بالسقي والتمريض ونقل الجرحى وغيرها من أنواع الخدمة، كما هو معروف في كتب السيرة النبوية والحديث والفقه. [راجع صحيح البخاري (3/220) وما بعدها..].
ويدخل في ذلك زيارة أقاربها وشراء حاجاتها من السوق إذا غاب عنها زوجها أو لم تجد من يحضرها لها.

الفرع الخامس
أن لا يطرقها ليلاً إذا أطال الغيبة
إذا طالت غيبة الزوج عن أهله، فالسنة أن لا يفاجئ امرأته بدخول الدار دون أن يكون عندها علم سابق بقدومه، لما في ذلك من المحاذير، كوجودها على حالة غير مرضية من التهيؤ له واستقباله على حالة لائقة، ونحو ذلك.

قال الإمام البخاري، رحمه الله: "باب لا يطرق أهله ليلا إذا طال الغيبة مخافة أن يخونهم أو يلتمس عثراتهم.. "
وقال بعد ذلك: "باب تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة".
وساق في كلا البابين حديث جابر، رضي الله عنه، قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة... إلى أن قال: فلما قدمنا ذهبنا لندخل فقال": (أمهلوا حتى تدخلوا ليلا - أي عشاء - لكي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة. [البخاري (6/161)].

والمقصود أن تتهيأ المرأة لاستقبال زوجها الذي طالت غيبته، وأن يدخل عليها وهي على حالة تسره، فإذا علم أنها على علم بوقت وصوله ولو طالت غيبته، فلا ضرر في دخوله في أي وقت، وهذا الأمر متيسر في هذا الزمان، لوجود وسائل الاتصال السريعة، كالهاتف والفاكس والإنترنت، والبرق والبريد.

وعلى كل حال فإن مِن أمْن الأسرة، عدم طروق الزوج أهله ليلاً، إذا طالت غيبته إلا إذا علموا وقت قدومه بوقت كاف.

الفرع السادس
عدم هجرها أو ضربها لغير سبب مشروع
لما كان المقصود من الزواج دوام العشرة الحسنة والمودة والسكن والرحمة، فإنه لا ينبغي للزوج أن يهجر امرأته ولا للمرأة أن تهجر زوجها، مهما جرى بينهما من خلاف، لما في الهجر من القطيعة التي تؤثر على الأسرة كلها، وكذلك لا يجوز له أن يضربها بدون سبب مشروع.

وقد ورد نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن ضرب النساء صريحاً، مع بيان قبحه وبشاعته، حيث يضربها ثم يجامعها، كما روى عبد الله بن زمعة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، ثم يجامعها في آخر اليوم). [البخاري (6/153)].

وقد أباح الله تعالى الهجر والضرب في حالة نشوز المرأة - أي عدم طاعتها زوجها فيما أوجب الله عليها فيه طاعته، كما قال سبحانه وتعالى: (واللائي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان علياً كبيراً). [النساء:34].

فالواجب على الزوج إذا عصته امرأته أن يبدأ بوعظها، فإن لم تستجب هجرها في المضجع، أي يبتعد عنها فلا يضاجعها، فإن نفع الهجر وإلا انتقل إلى تأديبها بالضرب غير المبرح.

قال القرطبي، رحمه الله: "أمر الله أن يبدأ النساء بالموعظة أولا، ثم بالهجر، فإن لم ينجعا فالضرب، فإنه هو الذي يصلحها له، ويحملها على توفية حقه.
والضرب في هذه الآية هو ضرب الأدب غير المبرح، وهو الذي لا يكسر عظما ولا يشين جارحة كاللكزة ونحوها، فإن المقصود منه الصلاح لا غير".

وفي صحيح مسلم: (اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم من تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح...) الحديث، أخرجه من حديث جابر الطويل في الحج، [مسلم (2/889ـ890)]. أي لا يدخلن منازلكم أحدا ممن تكرهونه من الأقارب والنساء الأجانب.

وعلى هذا يحمل ما رواه الترمذي، وصححه عن عمر بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع، فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ، فقال: "ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا.

ألا إن لكم على نسائكم حقا، ولنسائكم عليكم حقا، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذنَّ في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن. قال: هذا حديث حسن صحيح. [الترمذي (3/458)].

فقوله: "بفاحشة مبينة" يريد لا يدخلن من يكرهه أزواجهن ولا يغضبنهم، وليس المراد بذلك الزنى فإن ذلك محرم ويلزم عليه الحد". [الجامع لأحكام القرآن (5/170ـ173)].

وقد ذم الرسول صلى الله عليه وسلم من شكا النساء من ضربه لهن، كما في حديث إياس بن عبد الله بن أبي ذباب، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تضربوا إماء الله) فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ذئرن النساء على أزواجهن، فرخص في ضربهن، فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن، ليس أولئك بخياركم) ومعنى: "ذئرن": نشزن واجترأن على أزواجهن؟ [أبو داود (2/608)، قال المحشي على جامع الأصول: وقد أورد الحافظ بن حجر هذا الحديث في الإصابة في ترجمة إياس بن عبد الله بن أبي ذباب، وصحح إسناده. جامع الأصول (6/506ـ507)].

وسبق حديث حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه: (ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت). [آخر الفرع الثالث من هذا المطلب].

وفي ترتيب ما شرعه الله تعالى في الآية الكريمة ((واللائي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان علياً كبيراً)) من تأديب الزوج زوجه، ما يظهر حكمة الحكيم العليم، في علاج ما يطرأ من زوجته من عصيان ونشوز، لأن النساء أصناف، كل صنف منهن تناسبها مرتبة من المراتب التي ذكرت في الآية الكريمة.
فالمرتبة الأولى: هي مرتبة الموعظة، وهي الترغيب في ثواب الله إذا تراجعت عن عصيان زوجها وأطاعته، والترهيب بعقاب الله إذا أصرت على استمرارها في المعصية، وكذلك إنذارها بالعواقب الأسرية الوخيمة التي لا تكون في مصلحتها، ولا مصلحة زوجها وأولادها وأهلها، والمرأة العاقلة التي يتخذ معها زوجها هذا العلاج يرجى أن تسرع إلى التوبة من العصيان، والاستجابة للموعظة، وتندم على ما بدر منها، لأن الوعظ الصادر من الزوج، يعيد إليها عاطفة الحب والسكن، ويذكرها بالفضل الذي كان بينه وبينها.

المرتبة الثانية : هجر ها في المضجع، بأن يوليها في المبيت ظهره، ولا يعاشرها المعاشرة الحسنة التي كانت تلقاها منه، وهذه المرتبة يثقل على المرأة تحملها، ولا بد أن تحدث عندها التفكير في عواقب عصيانها، ويجعلها تثوب إلى رشدها، وتفيء إلى أمر الله في طاعة زوجها...

المرتبة الثالثة: هي مرتبة الضرب، وهذه المرتبة لا يحتاج إليها الزوج إلا مع صنف سيء الخلق من النساء، لا ينجع معها الترغيب في ثواب الله، ولا الترهيب من عقابه، ولا الحرص على مصلحتها ومصلحة أسرتها، ولم يردعها الهجر الذي يعد من أشد العقاب وقعا على نفس المرأة، فلم يبق أمام الزوج إلا أن يمسها بعقاب بدني شرعه الله، ليكون آخر وصفة علاجية لصلاح هذا الصنف من النساء، وضربها أقل مفسدة من طلاقها، فإذا لم يردعها هذا العقاب، لم تعد صالحة لأن تكون زوجة تبنى بها مع زوجها أسرة صالحة، وآخر الدواء الكي: "الطلاق"
وسبق أن الضرب المشروع يجب ألا يكون مبرحا، لأن المقصود منه التأديب، وليس النكال و التعذيب... حتى رأى بعض العلماء، أنه يضربها بمثل السواك ونحوه...

ويجب أن يعلم بأن ما يصدر من بعض الأزواج من الاعتداء على نسائهم بالضرب المبرح، سواء كان ذلك بسبب أو بدون سبب، لا يبيحه شرع الله، وأنه لا يصدر إلا من زوج ظالم سيء الخلق، فالأصل في الحياة الزوجية السكن والمودة والرحمة، فإذا فقدت هذه الأمور، وحل محلها العداوة والبغضاء والشحناء، ولم تنجع في إزالتها الأسباب المشروعة، فالواجب عمل ما شرعه الله، وهو التسريح بإحسان.

أما استغلال الزوج قوته، وضعف امرأته، وعدوانه عليها بغير حق مشروع، فهو دليل على عدم خوفه من الله تعالى الذي سيحاسبه على عدوانه،

وليتأمل المسلم الآية الكريمة السابقة التي شرع الله تعالى فيها تأديب المرأة الناشز، كيف ختم الآية باسمين عظيمين من أسمائه ((عليا كبيرا)) يُذَكِّر الله تعالى بهما، الزوج الذي شرع له تأديب امرأته، بأنه إذا بغي عليها وظلمها، بسبب قوته وضعفها، فإن الله تعالى أقوى منه، وفي ذلك تهديد وزجر له عن الاعتداء. فالمخلوق مهما علا وتجبر فالله أقوى منه، قال تعالى: ((واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا)).النساء:34.

(68)

عدم إفشاء سرها
ومن حقوق المرأة أن لا يفشي الزوج سرها، ومما لا شك فيه أنه يطلع منها على ما لم يطلع عليه أقرب المقربين إليها، فلا يجوز أن يتخذ ذلك وسيلة لكشف أسرارها، وكذلك هي أيضا لا يجوز لها كشف سر زوجها فإن الحكم واحد، روى أبو سعيد الخدري، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها). [مسلم (2/1060ـ1061)].


الفرع الثامن
أن يبقيها في عصمته بدون قَسْمٍ إذا طلبت منه ذلك
بسبب كرهه لها وأرادته طلاقها

إن الرجل قد يكره المرأة ولا يطيق الاستمرار معها، والمشروع إمساكها بالمعروف أو تسريحها بالمعروف، والإمساك بالمعروف مع الكراهة صعب، وقد يريد الزواج بغيرها لكبر سنها وعدم صلاحها للاستمتاع أو لمرض طرأ عليها ثم طال فأصبح مزمناً، أو لسوء خلق فيها أو غير ذلك من الأسباب، وقد تكون هي راغبة في بقاء عقدة نكاحها بيده، فتطلب منه إمساكها وتعفيه من القسم لها، فينبغي للرجل أن يقبل طلبها، لما في ذلك من تطييب خاطرها وعدم نسيان المعروف معها، ولا ضرر عليه في ذلك.

وقد نزل في مثل ذلك قوله تعالى: (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح، وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا). [النساء:128].

وقد روت عائشة رضي الله عنها أن الآية الكريمة نزلت في مثل هذا، قالت: "وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا": قالت هي المرأة تكون عند الرجل لا يستكثر منها، يريد طلاقها ويتزوج غيرها، تقول له: أمسكني ولا تطلقني، ثم تزوج غيري، فأنت في حل من النفقة علي والقسمة لي، فذلك قوله تعالى: (فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير) [البخاري (6/153)].

وقد ثبت ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، كما روى ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: خشيت سودة أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: لا تطلقني، وأمسكني، واجعل يومي لعائشة، ففعل، فنزلت: (فلا جناح عليهما أن يصلحا بينها صلحا والصلح خير) فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز، كأنه من قول ابن عباس" [الترمذي (5/249) وقال: هذا حديث حسن غريب].

قال القرطبي في تفسير الآية، بعد أن ذكر حديث الترمذي هذا: "روى ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب، أن رافع بن خديج كانت تحته خولة ابنة محمد بن مسلمة، فكره من أمرها إما كبراً وإما غيره، فأراد أن يطلقها، فقالت: لا تطلقني، واقسم لي ما شئت، فجرت السنة بذلك، ونزلت: (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا) - إلى أن قال -: في هذه الآية من الفقه الرد على بعض الجهال الذين يرون أن الرجل إذا أخذ شباب المرأة وأسنت لا ينبغي أن يتبدل بها" [الجامع لأحكام القرآن (5/403ـ405)].

وذكر القرطبي صوراً عديدة مما يدخل في هذا الصلح، فراجعه إن شئت. [الجامع لأحكام القرآن (5/403ـ405)] وفي الآية الكريمة ذم الشح والحث على التقوى والإحسان من الجانبين.

الفرع التاسع
حفظ يمينه عن هجرها وعدم إتيانها

ولا ينبغي له أن يحلف على هجرها وعدم غشيانها، فإن فعل فعليه أن يعود إليها خلال أربعة أشهر، ولا يجوز أن يتجاوزها، فإن أصر على التجاوز فلها الحق في مطالبته بالطلاق، فإن طلق وإلا تولى أمر طلاقها الحاكم.

وقد نزل في هذا الحكم، وهو ما يسمى بالإيلاء، قوله سبحانه وتعالى: (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر، فان فاءوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم). [البقرة:226ـ227].

والإيلاء هو الحلف، وذلك أن يحلف الزوج أن لا يقرب امرأته أو نساءه مدة معينة، فإذا حلف على مدة لا تزيد عن أربعة أشهر فلا إشكال، وإن حلف أن لا يقربها أكثر من أربعة أشهر أو مطلقا، فله أن ينتظر أربعة أشهر، ويجب عليه في نهايتها الرجوع إلى امرأته، فإن أصر على الاستمرار فإنه يلزمه الطلاق، إذ لا يجوز له أن يمسكها بلا معاشرة وقسم.

وقد بوب الإمام البخاري رحمه الله للآية الكريمة، وأورد في الباب ما يلي: "عن أنس ابن مالك، يقول: آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسائه، وكانت انفكت رجله، فأقام في مشربة له تسعا وعشرين، ثم نزل فقالوا: يا رسول لقد آليت شهرا، فقال: (الشهر تسع وعشرون). [البخاري (6/173ـ174) وراجع تفسير القرطبي للآية، وأقوال العلماء في تفاصيل أحكام الإيلاء (3/102)].

وعن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول في الإيلاء الذي سمي الله: "لا يحل لأحد بعد الأجل إلا أن يمسك بالمعروف، أو يعزم على الطلاق، كما أمر الله عـز وجل..." وعنه: إذا مضت أربعة أشهر يوقف حتى يطلق، ولا يقع عليه الطلاق حتى يطلق، ويذكر ذلك عن عثمان وعلي وأبي الدرداء وعائشة، واثني عشر رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم". [المصدر السابق]. وبهذا تأمن المرأة من المضارة والحبس العاري عن المعاشرة الزوجية.

الفرع العاشر
عدم جواز مضارتها ليكرهها على الافتداء منه، إذا كان راغباً عنها.

إذا كره الرجل امرأته، ولم يعد يرغب في بقائها معه فإن عليه أن يطلقها، ولا يجوز له أن يأخذ منها شيئا، لأن الكراهية صادرة منه، ولا يجوز له - كذلك - أن يضارها ويضايقها، حتى تطلب هي منه الطلاق، ليطلب منها رد الصداق أو أكثر منه أو أقل.

وفي هذا المعنى قال تعالى: (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله، فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعدَّ حدود الله فأولئك هم الظالمون). [البقرة: 229].

دلت الآية الكريمة على أن الزوجين إذا علما أنهما يقيمان حدود الله في العشرة بينهما، وأداء كل واحد منهما حق الآخر، فعليهما الاستمرار في حياتهما الزوجية والمعاشرة بالمعروف، وإن ظهر للزوج أنه لا يقيم حدود الله في العشرة الحسنة مع امرأته وأداء حقوقها عليه، فإن عليه أن يطلقها ويفارقها بإحسان، ولا يجوز له أن يضارها لتفتدي منه وهو الذي كرهها.

وإن علمت الزوجة أنها لا قدرة لها على إقامة حدود الله مع زوجها، أي لا تطيق البقاء معه مع القيام بحقوقه، فإن عليها أن تفتدي منه ليفارقها، لأن الكره جاء منها له.

قال القرطبي رحمه الله: "والجمهور على أن أخذ الفدية على الطلاق جائز، وأجمعوا على تحذير أخذ مالها إلا أن يكون النشوز وفساد العشرة من قبلها... - إلى أن قال -: قوله تعالى: (إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله). حرم الله تعالى في هذه الآية أن لا يأخذ إلا بعد الخوف ألا يقيما حدود الله، وأكد التحريم بالوعيد لمن تعدى الحد، والمعنى أن يظن كل واحد منهما بنفسه ألا يقيم حق النكاح لصاحبه، حسب ما يجب عليه فيه لكراهة يعتقدها، فلا حرج على المرأة أن تفتدي، ولا حرج على الزوج أن يأخذ…" [الجامع لأحكام القرآن (3/137)].

وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه أن يقبل مالا افتدت به امرأته منه، لكراهتها البقاء معه وخوفها من الإثم بعدم إقامتها حدود الله في حقه.
كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما اعتب عليه في خلق ولا دين، ولكن أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتردين عليه حديقته)؟ قالت: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة) [البخاري (6/170)].

وبهذا تأمن المرأة من إكراهها على البقاء مع زوجها الذي تكرهه، كما يأمن هو من إكراهه على بقائه مع زوجته التي يكرهها، فإن له أن يطلقها متى شاء.
ولا يكرهان أو أحدهما على بقاء رابطة النكاح، وهذا هو الحكم المناسب للفطرة والعيش باطمئنان، بخلاف ما في بعض الأديان من إيجاب بقاء هذه الرابطة، مع كراهة كل من الزوجين أو بعضهما للآخر، بحجة أنها رابطة مقدسة، لما في ذلك من العنت والمشقة، وما يترتب عليه من آثار سيئة، قد تصل إلى قتل أحد الزوجين الآخر، ليفتك من رابطة لا طاقة له بها.

فإن لم يظهر النشوز من أحدهما واختلفا، فإن الواجب على أهلهما أو على الحاكم، أن يبعثوا لهما حكما من أهل المرأة، وحكما من أهل الرجل، ممن يتوسم فيهما الصلاح والعدل وحب الإصلاح، ليقوما بالصلح بينهما، فإن استطاعا التوفيق بينهما، على أن يقوم كل منهما بما يجب عليه لصاحبه فذاك، وإلا حكما على من تبين لهما نشوزه من الآخر.

فإن كان النشوز من الزوج حكما عليه بالطلاق، وإن كان من المرأة حكما عليها أن تفتدي منه، كما قال تعالى: (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما، إن الله كان عليما خبيرا). [النساء:35، وراجع الجامع لأحكام القرآن (5/174)].

(69)

الفرع الحادي عشر
أن يطلقها لعدتها المشروعة إذا أراد طلاقها.
الطلاق من الأحكام المكروهة في شرع الله، لما فيه من انحلال عقدة النكاح الذي يحبه الله ورسوله، وهو - أي النكاح - ضرورة من ضرورات الحياة، وقد رغب الله تعالى فيه وحذر من العزوف عنه. [راجع الفصل الثالث حفظ النسل من كتابنا الإسلام وضرورات الحياة].

فالمقصود بالنكاح الاستدامة لتحقيق أهدافه، والطلاق مضاد لذلك، وقد وردت نصوص دالة على كراهته، منها حديث ابن عمر، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (أبغض الحلال إلى الله عـز وجل الطلاق). [أبو داود (2/631ـ632) وابن ماجة (1/650) والحديث، وإن كان ضعيفاً كما ذكر الشوكاني في نيل الأوطار (6/248) والألباني في إرواء الغليل (7/106) فإن مقصود النكاح يؤيد معناه].

والمقصود هنا بيان أن من عزم على الطلاق، فالواجب أن يطلق امرأته في الوقت الذي حدده الشارع، ليكون بداية عدتها من زوجها، وهو الطهر الذي لم يجامعها فيه، أو أن تكون المرأة حاملاً قد استبان حملها، لأنه في الأول يعرف براءة رحمها، ويحسب الطهر الذي طلقها فيه من عدتها، فلا تظلم بطول مدة العدة، وفي الثاني تكون العدة معروفة بوضع الحمل، وقد عرف ما اشتمل عليه رحمها.

فإذا طلقها وهي حائض طالت مدتها، لأن وقت الحيض الذي طلقها فيه لا يحسب من عدتها، لأنها تعتد بالأطهار وليس بالحيض [على ما رجحه كثير من العلماء]. فيحسب الطهر الذي يلي تلك الحيضة، كما أنه إذا طلقها في طهر جامعها فيه، لم تعلم براءة رحمها منه.

لذلك أمر الله تعالى أن تطلق المرأة لعدتها، وأمر بحفظ عدتها، لما في ذلك من حفظ حق الزوج وحق المرأة معاً، قال تعالى: ((يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة)).

قال القرطبي رحمه الله: "لعدتهن ": أي في عدتهن، أي في الزمان الذي يصلح لعدتهن، وحصل الإجماع على أن الطلاق في الحيض ممنوع، وفي الطهر مأذون فيه… - إلى أن قال -: قوله تعالى: ((وأحصوا العدة)): معناه احفظوها، أي احفظوا الوقت الذي وقع فيه الطلاق…. [الطلاق:1].

وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم من طلق امرأته وهي حائض أن يراجعها، ثم يطلقها في طهر لم يمسها فيه، كما في حديث عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، أنه طلق امرأته وهي حائض في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: (مره فليراجعها، ثم ليمسكها، حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء).

ولو طلقها في الطهر الذي يلي الحيضة التي طلقها فيها، جاز عند بعض العلماء، ولعل من الحكمة في الأمر بإمساكها إلى الطهر الثاني طول بقائها عند زوجها، لعله يذهب عنه كرهها ويرغب في بقائها، فلا يطلقها. [الجامع لأحكام القرآن (18/153)].

الفرع الثاني عشر
وجوب الإنفاق والسكنى لها إذا كان طلاقها رجعيا.
المطلقة التي يحق لزوجها أن يراجعها قبل انقضاء عدتها، لا تزال زوجة له، أي لم يحصل الفراق الشرعي بينهما، لذلك يجب على زوجها أن ينفق عليها ويسكنها حتى تنتهي عدتها.

كما قال سبحانه وتعالى: ((يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن، ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، وتلك حدود الله، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب)). [الطلاق: 1ـ3].

فقد أمر الله سبحانه أن تطلق المرأة لعدتها، أي في أول المدة التي تصلح لعدتها، كما مضى قريباً، وأمر بإحصاء العدة، أي ضبطها وحفظها ليعلم الزوج والزوجة حقوقهما وواجباتهما، فالزوج يعلم الوقت الذي له فيه حق الرجعة، ويعلم الوقت الذي لا تلزمه فيه النفقة والسكنى لها، ويعلم ما يلحقه منها من نسب، وهي تشترك معه في ذلك كله، وتعلم الوقت الذي يحق لها فيه أن تستعد لخاطب غير زوجها الذي طلقها. [راجع الجامع لأحكام القرآن (18/154)].

فقد شرع الله للمرأة المطلقة الرجعية، أن ينفق عليها زوجها، حتى تبين منه بانتهاء عدتها، فإذا انتهت عدتها جعل الله لها مخرجاً ورزقها من حيث لا تحتسب.

أما إذا كانت المطلقة ليست رجعية، وهي التي تبين منه بمجرد طلاقه إياها، كالتي لم يدخل بها وهي لا عدة لها، والتي استكملت ثلاث تطليقات، أو طلقت ثلاثاً دفعة واحدة عند من يعتبر الثلاث في وقت واحد مبينة للمرأة، فلا نفقة لها ولا سكنى، إلا إذا كانت حاملاً، كما قال تعالى: (وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن). [الطلاق:6].

وهذا ما ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهما وأحمد بن حنبل، وهو الذي روته فاطمة بنت قيس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: "إن أبا عمر بن حفص طلقها البتة، وفي رواية: ثلاثاً، وهو غائب، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته، فقال: والله مالك علينا من شيء، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال صلى الله عليه وسلم: (ليس لك عليه نفقة) فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك…

وفي رواية: (لا نفقة لك ولا سكنى) وقد خالفها في ذلك عمر رضي الله عنه، فقال: "لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة، لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، لها السكنى والنفقة".

قال الله عـز وجل: ((لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة)) وكذلك خالفها مروان، فقال: لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة، سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها، قال الله عـز وجل: ((لا تخرجوهن من بيوتهن)) الآية.

قالت – أي فاطمة رداً على من خالفها -: هذا لمن كانت له مراجعة، فأي أمر يحدث بعد الثلاث، تشير بذلك إلى قوله تعالى: ((لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا)) أي في مراجعة الزوج المرأة، وإذا لم يكن له حق المراجعة، فأي أمر يحدث؟ وكذلك أنكرت عليها عائشة، رضي الله عنها هذا الحديث، وذهب إلى ما ذهب إليه عمر وعائشة ومروان، أبو حنيفة رحمه الله، فرأى لها السكنى والنفقة، وذهب مالك والشافعي إلى أن لها السكنى دون النفقة.

ولعل في قوله تعالى: ((فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف)) ما يؤيد ما روته فاطمة بنت قيس. ورجح ابن القيم رحمه الله أنها لا سكنى لها ولا نفقة، وأطال الرد على من خالف فاطمة بنت قيس في هذا.
[انظر قصة فاطمة بنت قيس في البخاري (6/183) ومسلم (2/1114 وما بعدها) وراجع أقوال العلماء ووجه دليل كل منهم، في شرح النووي على مسلم (10/95) وفتح الباري (9/477ـ481) والمغني لابن قدامة (8/232) وزاد المعاد (5/522ـ542)].

(70)

المطلب الرابع
في حقوق المرأة بعد الفراق

وفي هذا المطلب ثلاثة فروع:

الفرع الأول:حقها في رضاع ولدها منه.
لأنها أحن وأرق على ولدها من غيرها، ويجب أن يعطيها أجراً على رضاعه، كما ينبغي أن يحسن إليها ولا يبخل عليها بمزيد من الفضل، مراعاة للعشرة السابقة من جهة، ولقيامها برضاع ولده ورعايته من جهة.

قال تعالى في سياق عدة المطلقات: ((وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن، فان أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وائتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى)). [الطلاق:6].
قال القرطبي، رحمه الله: قوله تعالى: ((فإن أرضعن لكم)) - يعني المطلقات - أولادكم منهن، فعلى الآباء أن يعطوهن أجرة إرضاعهن، وللرجل أن يستأجر امرأته للرضاع كما يستأجر أجنبية… [الجامع لأحكام القرآن (18/168)].

وقال تعالى: ((والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك، فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما، وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير)). [البقرة:233].

وهذه الآية شاملة للوالدات اللاتي ما زلن في عصمة الزوج، والمطلقات.
قال الخرقي رحمه الله: "وعلى الأب أن يسترضع لولده، إلا أن تشاء الأم أن ترضعه بأجرة مثلها، فتكون أحق به من غيرها، سواء كانت في حبال الزوج أم مطلقة". [المغني لابن قدامة (8/250)].

الفرع الثاني:
حقها في حضانة ولدها ما لم تتزوج.

إن الخلاف الذي ينشأ بين الزوجين، يجر وراءه مشكلات أسرية تهز الأسرة هزاً، وأكثر من يتضرر بذلك بعد الزوجين أولادهما كباراً وصغاراً، وإن كان تضرر الصغار أشد، وإذا اشتد الخلاف بين الزوجين وبلغ مبلغه لجآ إلى الفراق الذي هو آخر الدواء.

وعندئذ يتشاكسان في الأولاد: الأب يريد إبقاءهم عنده بالقوة، إما حرصاً على مصلحتهم، لاعتقاده أن الأم غير صالحة لتربيتهم، وقد يكون محقاً، وقد يكون غير محق، وإما لإرادته النكاية بها والإضرار، والأم تستصرخ وتستغيث وقد تلجأ إلى وليها لينجدها.

وهنا ينتشر الشقاق بين أسرتي الأب والأم، فما الحكم في هذه المسألة التي يكون مرجعها القاضي في نهاية المطاف؟
إن الأطفال الصغار في حاجة إلى الرعاية بالغذاء والتنظيف والتمريض، وفي حاجة إلى الحنو والحنان والحب والعاطفة، ولا شك أن هذه الأمور لا توجد مكتملة إلا عند الأم، ثم عند من هي أقرب إليها من النساء، وأن الأب مهما بلغ حبه وحنانه واجتهاده في مصالح ولده لا يبلغ ما يجده الولد عند أمه.

وللأم المطلقة التي تطالب بكفالة ولدها ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن تكون خالية، ليست متزوجة، وهي في هذه الحالة أحق به، بنص رسول الله، صلى الله عليه وسلم المنطوق، كما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - عبد الله بن عمر - أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثدي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني، وأراد أن ينتزعه مني، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت أحق به ما لم تنكحي". [أبو داود (2/707ـ708) وأحمد (2/182)، وقال شيخنا الألباني: "وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وإنما هو حسن فقط، للخلاف المعروف في عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده" إرواء الغليل (7/244)].

والذي يظهر أنه لا خلاف في هذا الحكم، إذا كانت الأم صالحة للتربية.
قال ابن قدامة - بعد أن ذكر بعض العلماء الذين ذهبوا إلى ما ذكر في الحديث -:
"ولا نعلم من خالفهم". [المغني (8/238)].

ويروى أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه طلق زوجة له من الأنصار فولدت له عاصم بن عمر، فجاء عمر إلى قباء، فوجد ابنه عاصماً يلعب بفناء المسجد، فأخذ بعضده، فوضعه بين يديه على الدابة، فأدركته جدة الغلام، فنازعته إياه، حتى أتيا أبا بكر الصديق، فقال عمر: "ابني " وقالت المرأة: "ابني" فقال أبو بكر الصديق: خل بينها وبينه، فما راجعه عمر في الكلام.

ويذكر أن أبا بكر قال لعمر، رضي الله عنهما: "ريحها وشمها ولطفها خير له منك". [انظر جامع الأصول (3/614)].

الحالة الثانية: أن تكون قد تزوجت من له قرابة بالزوج الأول وهو - أي زوجها السابق راض للأم بكفالة ابنها.

والذي يفهم من حديث عمرو بن شعيب السابق أن الأم في هذه الحالة ليست بأحق به، بل الأب أحق به منها، لأنها نكحت، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما جعل الأم أحق ما لم تنكح، ولكن جاء في حديث البراء، رضي الله عنه ما يعارض هذا المفهوم، وفيه: "فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فتبعته ابنة حمزة تنادي: يا عم يا عم، فتناولها على، وقال لفاطمة عليها السلام: "دونك ابنة عمك احمليها" فاختصم فيها علي وزيد وجعفر، قال علي: أنا أخذتها وهي ابنة عمي، وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد: ابنة أخي، فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال: (الخالة بمنزلة الأم). [المغني (8/238ـ239)].

فقد اختصم في الجارية ابنا عم أبيها، وهما بمنزلة الأب، لعدم وجود من يطالب بها ممن هو أقرب منهما، وكان تحت أحدهما خالة الجارية، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقوله في الخالة إنها (بمنزلة الأم ) وهي متزوجة، دليل على أنها أحق بها من أبيها لو كان حياً، إذا كان زوج الأم قريبا للولد، راضياً لها بحضانة ابنها.
قال الحافظ ابن حجر، رحمه الله: "وأن الحاضنة إذا تزوجت بقريب المحضونة لا تسقط حضانتها، إذا كانت المحضونة أنثى، أخذاً بظاهر الحديث، قاله أحمد، وعنه: لا فرق بين الأنثى والذكر، ولا يشترط كونه محرماً، لكن يشترط أن يكون مأمونا، وأن الصغيرة لا تشتهى، ولا تسقط إلا إذا تزوجت بأجنبي..." [[7/507]

فالذي يظهر رجحانه أنه إذا تزوجت الحاضنة من هو من أقارب الولد المحضون، ورضي لها زوجها بحضانته، أن حضانتها لا تسقط، بشرط تحقق مصلحة المحضون.

الحالة الثالثة: أن تتزوج بأجنبي. والذي يدل عليه حديث عمرو بن شعيب أن كفالتها تسقط، وتنتقل إلى الأب أو من هو أولى به بعد الأم. [فتح الباري (7/507) وراجع المغني لابن قدامة (8/243ـ244) ونيل الأوطار (6/368)].

وعلى هذا جمهور العلماء، ولا يعلم فيه خلاف إلا ما حكي عن الحسن أن حقها في الكفالة لا يسقط بالتزويج، وهو قول شاذ إن صح عنه، وما نقل في رواية عن أحمد أنها لا تسقط حضانتها بالنسبة للجارية وتسقط بالنسبة للصبي، وهي رواية مرجوحة. [راجع لمعرفة الأولى: زاد المعاد (5/438وما بعدها..].

قال ابن القيم رحمه الله: "والذي دل عليه هذا الحكم النبوي أن الأم أحق بالطفل ما لم يوجد منها النكاح، فإذا نكحت زال ذلك الاستحقاق، وانتقل الحق إلى غيرها، فأما إذا طلبه من له الحق وجب على خصمه أن يبذله له، فإن امتنع أجرى الحاكم عليه، وإن أسقط حقه، أو لم يطالب به بقي على ما كان عليه أولاً، فهذه قاعدة مستفادة من غير هذا الحديث – يعني حديث عمرو بن شعيب- [راجع المغني (8/243)، وزاد المعاد (5/454) وما بعدها..].

هذا بالنسبة للولد الصغير الذي لم يميز، أما المميز، وهو في الغالب من بلغ سبعاً، فقد ورد ما يدل أنه يخير بين أمه وبين أبيه، فأيهما اختار كان أحق بحضانته، فإن لم يختر أحدهما أجريت بينهما القرعة، فيكون مع من كانت القرعة بجانبه.

يدل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه، جاءته امرأة فارسية معها ابن لها، فادعياه وقد طلقها زوجها، فقالت: يا أبا هريرة، ورطنت له بالفارسية: زوجي يريد أن يذهب بابني، فقال أبو هريرة: استهما عليه، ورطن لها بذلك، فجاء زوجها، فقال: من يحاقني في ولدي؟ فقال أبو هريرة: اللهم إني لا أقول هذا إلا أني سمعت امرأة جاءت إلى رسول الله وأنا قاعد عنده، فقالت: يا رسول الله، إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عنبة، وقد نفعني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استهما عليه" فقال: من يحاقني في ولدي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا أبوك، وهذه أمك، فخذ بيد من شئت فأخذ أمه فانطلقت به". [أبو داود (2/708ـ709) وأورده الترمذي (3/631) مختصراً، وقال: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح].

وقال الترمذي – بعد أن ساق الحديث -: "والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرهم، قالوا: يخير الغلام بين أبويه، إذا وقعت بينهما المنازعة في الولد، وهو قول أحمد وإسحاق، وقالا: ما كان الولد صغيراً فالأم أحق به، فإذا بلغ الغلام سبع سنين خير بين أبويه".

وسرد ابن القيم رحمه الله ما نقل عن السلف مما يؤيد هذا، فنقل عن أبي بكر وعمر وعلي وأبي هريرة رضي الله عنهم القول بالتخيير، وقال: "فهذا ما ظفرت به عن الصحابة" [زاد المعاد (5/464ـ 466)].

ثم ذكر أقوال الأئمة في ذلك، وذكر عن شيخه ابن تيمية رحمه الله أن قواعد الإسلام تقضي بأن الاستهام أو التخيير، إنما يكونان عندما لا يكون أحد الأبوين مفسداً لأخلاق الصبي، فإذا كان أحدهما مفسداً لأخلاقه فلا تخيير.

قال رحمه الله: "وسمعت شيخنا، رحمه الله يقول: تنازع أبوان صبياً عند بعض الحكام، فخيره بينهما، فاختار أباه، فقالت له أمه: سله لأي شيء يختار أباه؟ فسأله، فقال: أمي تبعثني كل يوم للكتاب والفقيه يضربني، وأبي يتركني للعب مع الصبيان، فقضى به للأم، قال: أنت أحق به".

قال شيخنا: "وإذا ترك أحد الأبوين تعليم الصبي وأمره الذي أوجبه الله عليه، فهو عاصٍ ولا ولاية له عليه، بل كل من لم يقم بالواجب في ولايته، فلا ولاية له، بل إما أن ترفع يده عن الولاية ويقام من يفعل الواجب، وإما أن يضم إليه من يقوم معه بالواجب، إذ المقصود طاعة الله ورسوله بحسب الإمكان"

قال شيخنا: "وليس هذا الحق من جنس الميراث الذي يحصل بالرحم والنكاح والولاء، سواء كان الوارث فاسقا أم صالحا، بل هذا من جنس الولاية التي لا بد فيها من القدرة على الواجب والعلم به وفعله بحسب الإمكان" قال: "فلو قدر أن الأب تزوج امرأة لا تراعي مصلحة ابنته، وأمها أقوم بمصلحتها من تلك الضرة، فالحضانة هنا للأم قطعاً، قال: ومما ينبغي أن يعلم أن الشارع ليس عنه نص عام في تقديم أحد الأبوين مطلقاً، ولا تخيير الولد بين الأبوين مطلقا،ً والعلماء متفقون على أنه لا يتعين أحدهما مطلقاً، بل لا يقدم ذو العدوان والتفريط على البر العادل المحسن" [زاد المعاد (5/475)].

وخلاصة القول: أنه يقرع بين الأبوين، أو يخير الولد بينهما عندما يكونان متقاربين في مصلحة الولد، أما إذا كان أحدهما مصلحاً له والآخر مفسداً، فإن الواجب تقديم المصلح على المفسد.

وقد فرق بين هذا وبين عدم اشتراط عدالة الحاضن - أي أن العدالة ليست شرطاً، ولكن الإصلاح شرط - فإن اشتراط العدالة فيه ضياع لأطفال العالم.
كما قال ابن القيم رحمه الله، "لأن أكثر الناس بعيدون عنها، ولكن كثيراً من الفساق لا يحاولون إفساد محضونيهم، وإنما يرغبون في صلاح المحضون، ولو كانوا هم أنفسهم فساقاً. [راجع زاد المعاد (5/461)].

(71)

الفرع الثالث
تمتيع المطلقة التي لم يدخل بها أو لم يسم لها صداق

قال تعالى: ((لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين)). [البقرة: 236]

فالمطلقة التي لم يسم لها صداق، ولم يدخل بها الزوج، لها حق التمتيع بحسب قدرة الزوج، والظاهر أن الذي يحدد به المقدار هو العرف، لقوله تعالى: (متاعا بالمعروف) كما أن الظاهر من الأمر الوجوب، وإن قال بعضهم: إنه للندب، ورجح كونه للوجوب القرطبي في تفسيره. [تفسير الآية سورة البقرة: 236].

ولعل المطلع على هذه الحقوق التي شرعها الله للمرأة، قبل الزواج وأثناءه، وبعد الفراق، يتضح له أن في تطبيقها كما أراد الله، يجعل المرأة في غاية من الأمن والسعادة للعناية الربانية بها، وأن نساء الأمم الكافرة ليتمنين أن يحصلن على شيء يسير من تلك الحقوق، التي تنالها المرأة المسلمة بتنظيم إلهي وأمر شرعي، إن لم يعطها من لها عليه الحق، أعطاها القائم على تنفيذ شرع الله.

وهذه الأمور التي ذكرت هنا هي أصول لحقوق المرأة بمنزلة الفهرس العام، أما جزئيات تلك الحقوق وتفريعاتها فقد احتوتها أسفار ومجلدات لعلماء الإسلام. وبتحقيق، هذه المطالب وما تفرع عنها يتحقق للركن الثاني من أركان الأسرة، وهي الزوجة، الأمن وعلى الركنين تقوم الأسرة الآمنة المطمئنة.
 

كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل