بسم الله الرحمن الرحيم

أثر التربية الإسلامية في أمن المجتمع الإسلامي (102-110)


(102)

الفصل الثاني :
تجنب الأسباب المؤدية إلى فقد الأخوة الإسلامية أو ضعفها

وفيه تمهيد و ثمانية مباحث:
المبحث الأول: اجتناب الظلم
المبحث الثاني: اجتناب الحسد
المبحث الثالث: اجتناب الاحتقار والسخرية
المبحث الرابع: اجتناب الهجر والقطيعة
المبحث الخامس: ترك ما يثير الشك والخوف في نفس المسلم
المبحث السادس: اجتناب الغيبة والنميمة
المبحث السابع: ترك المنافسة للمسلم فيما بدأ فيه من المعاملات
المبحث الثامن: الابتعاد عن الغش والكذب


تمهيد:

إن ما سبق في الفصل الأول هو نماذج لما يقوِّي الأخوة الإسلامية بين أفراد المجتمع، ويثبت أواصر المحبة والود والتعاون، على البر والتقوى ويحقق السعادة للجميع والأمن على الحقوق.
وفي هذا الفصل نذكر نماذج، هي على عكس ما ذكر في الفصل الأول، تعود على الأخوة الإسلامية بالنقض، أو تضعفها وتوهي رابطتها، وتشيع البغضاء والتنافر بين أفراد المجتمع، وتجعل بعضهم خائفاً من بعض، غير آمن له على حقوقه ومصالحه.
وكل خصلة تكون سبباً لحدوث ذلك بين المسلمين حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما حث على ما يقوي أخوتهم ومحبة بعضهم لبعض.

(103)

المبحث الأول: اجتناب الظلم

إن تدمير الظلم لحياة البشر وتقويضه لصرح الأخوة الإسلامية، أمر معلوم بالضرورة لا يحتاج إلى شرح وإيضاح، والظالم عندما يعتدي على غيره، يعلم أنه ظالم، وليس المقصود هنا بيان ما ورد في الظلم من نصوص الكتاب والسنة وغيرهما من كلام العلماء بياناً شاملاً، وإنما المراد بيان أن الظلم من أعظم الأسباب المحطمة لصرح الأخوة الإسلامية، فإن المسلم إذا ظلمه أخوه المسلم سيحاول دفع الظلم عن نفسه ومن هنا يحدث النزاع والخصومات.

ولو فرض أن المظلوم صبر على ظلم ظالمه، فإنه لا يثق فيه ولا يأمنه على شيء من حقوقه، ولهذا كان الظلم من أول ما يناقض الأخوة الإسلامية، فيجب اجتنابه والقضاء عليه للمحافظة على رابطة الأخوة الإسلامية.
روى عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه...) الحديث. [البخاري (3/98) ومسلم (4/1996)].
فقوله صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم) تقرير للأصل الذي يجب أن يكون بين المسلم والمسلم، وهو الأخوة الإسلامية المقتضية للود والصفاء وسلامة الصدور والنصح والتعاون بينهما، وقوله بعد ذلك: (لا يظلمه) تحذير من أهم العوامل المناقضة لتلك الأخوة، وفي طليعتها الظلم أي أن يظلم المسلم أخاه المسلم.

وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يسلمه) أنه يجب على المسلم أن لا يسلم أخاه المسلم إذا ظلمه أحد، بل يجب أن يدفع عنه الظلم إذا كان قادراً عليه، فالمسلم ليس منهياً عن ظلم أخيه المسلم فحسب، بل هو مأمور مع ذلك بدفع الظلم عن أخيه إذا صدر من غيره عليه ولا يسلمه له.
وفي حديث أبي ذر، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن ربه: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) [مسلم (4/1994)].
والآيات والأحاديث الواردة في التحذير من الظلم وبيان مخاطره وأضراره كثيرة جدا.
وإن من أعظم أسباب تأخر الأمة الإسلامية وخسارتها، انتشار الظلم بينها، الذي أصبح أمرا مألوفا، في بلدانها، حيث يظلم القوي فيها الضعيف، على مستوى الأفراد والجماعات والأحزاب والدول، فلا يجد المظلوم من ينصره على ظالمه، ولهذا سلط الله تعالى على الأمة كلها، أعداءها من اليهود والصليبيين والوثنيين عليها، تحقيقا لسنة الله في خلقه، عندما ينتشر بينهم السوء الشر، ويعم أرضهم الظلم والمنكر، فلا تقوم منهم فئة كافية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على يد الظالم ودفع ظلمه عمن ظلم.
قال تعالى: ((واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب)) [الأنفال (25)]
وفي حديث حذيفة بن اليمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم) [أحمد (5/388) و الترمذي 4(/468) وقال: "هذا حديث حسن"

(104)

المبحث الثاني: اجتناب الحسد

إن المؤمن موصوف بالصلاح والخير، يرجى خيره ويؤمن شره وهذا من أهم مقاييس الخير والشر عند رسوله صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على أناس جلوس، فقال: (ألا أخبركم بخيركم من شركم(؟ قال: فسكتوا، فقال ذلك ثلاث مرات، فقال رجل: بلى يا رسول الله، أخبرنا بخيرنا من شرنا، قال: (خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره، وشركم من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره) [الترمذي (4/528) وقال: هذا حديث حسن صحيح].

ولا شك أن الحاسد يقل رجاء خيره، ولا يؤمن شره، لأنه يتمنى أن يزول الخير الذي رزقه الله غيره، كما أنه يتمنى أن يصاب غيره بالشر، ولهذا كان الحاسد رابع أربعة ممن أمر الله تعالى بالاستعاذة منهم في سورة الفلق، هؤلاء الأربعة خصهم الله تعالى بالاستعاذة منهم، بعد أن أمر بالاستعاذة من كل ذي شر، لأن شرهم عظيم.
كما قال تعالى: ((قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد)). [الفلق].

والحسد متأصل في شرار الخلق، وإمام الحاسدين وقائدهم، هو الشيطان لعنه الله، ولهذا تكررت في القرآن الكريم قصته التحذير منه، فكان أول حاسد لآدم وذريته.
قال تعالى: ((وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا)) [الإسراء (61)]
وقال تعالى: ((قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين)) [الأعراف (12)]
وقد اقتدى بإبليس الموغلون في الشر من ذرية آدم، ومن أشدهم اقتداء به اليهود،وهم مع شدة حسدهم وعداوتهم للبشر جميعا، أشد حسدا وعداوة لهذه الأمة، وحربهم لدين الله وكتابه ورسوله، ولهذه الأمة غير خافية على قارئ التاريخ، من يوم وطئت قدما الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة النبوية إلى هذه اللحظة، وستستمر إلى أن يبعث الله لسحقهم جنده المؤمنين.

وحربهم للإسلام والمسلمين لا تقتصر على حالة قوتهم المادية، بل هي مستمرة في كل الأحوال، فعند قوتهم المادية لا يألون جهدا، في تقتيل وتشريد المسلمين، كما نشاهد اليوم ما يفعلون بالشعب الفلسطيني المسلم [كتابة هذه الأسطر في 22 جمادى الأولى عام 1423هـ ـ31 من أغسطس عام 2002م]

وفي حالة ضعفهم المادي، يستعملون الخداع وتحريش غيرهم من أعداء الإسلام على المسلمين، كما يستعينون بمرضى القلوب من المنافقين للإفساد في صفوف المسلمين، وفي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ما يبين حربهم السافرة المستمرة، برغم العهود والمواثيق التي أبرمت بينهم وبين المسلمين في الوثيقة النبوية والتي نقضتها قبائلهم الثلاث، واحدة تلو الأخرى.

وبمراجعة ما قاموا به في غزوة الأحزاب، من تأليب المشركين، على المسلمين، ومن طعن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الخلف، في أحرج موقف مروا به، يُعلم حسدهم ومكرهم بالمسلمين.
وهذه الوسيلة – وسيلة الخداع والتحريش – لا يعيشون بدونها، في حالتي قوتهم وضعفهم، كما هو حالهم اليوم.
ولهذا قال الله تعالى عنهم: ((لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا)) [المائدة(82)]
وغايتهم من تلك الحرب، هي إبعاد المسلمين عن دينهم الذي اشتد - ولا زال يشتد – حسدهم لهم على هذا الدين، كما قال تعالى: ((ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق)). [البقرة:109].

وما لم يفقه المسلمون مكر اليهود وخداعهم وحسدهم لهم، واستمرار حربهم لهذه الأمة وهذا الدين، ويعدوا العدة الكافية لرد عدوانهم، بالقوة التي لا يمكن أن يغنيهم عنها غيرها من وسائل الاستسلام التي تتخذ لتمكين واستقرار الدولة اليهودية، باسم "السلام" أقول: مالم يفقه المسلمون ذلك ويعدوا له العدة لدفع شر اليهود، فلا أمن ولا طمأنينة لهذه الأمة كلها، مهما حاول أعداء الإسلام أن يخدعونا بوعودهم، بل وبمواثيقهم وعهودهم، والجهاد وحده هو علاج خداع اليهود وحسدهم، وهو سفينة نجاة هذه الأمة!

وفي الداء الداخلي يكمن الدمار

ومهما اشتد حسد إبليس وجنده، وبخاصة اليهود، ومهما اشتد مكرهم وكيدهم، على الإسلام والمسلمين، فإن المسلمين قادرون بإذن الله على رد ذلك الحسد والكيد وإحباطه، لأنهم أهل حق، وأعداؤهم أهل باطل، والحق ثابت غالب، والباطل مضمحل زاهق، وأهل الحق هم حزب الله، وأهل الباطل هم حزب الشيطان، والله تعالى ناصر حزبه على حزب الشيطان.
كما قال تعالى: (( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون)) [الأنبياء (18)]
وقال تعالى: ((ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون)) [المائدة (56)]
ولكن منبع المصائب والشرور، أن يوجد الداء في المنتسبين إلى الإسلام أنفسهم، فينتشر الحسد بينهم، ويمكر بعضهم ببعض، أفرادا وأسرا ودولا، كما يعيشه المسلمون اليوم في مشارق الأرض ومغاربها، وإذا نبع الداء في داخل الجسم، أضعفه وقضى عليه.

ومن عجب أن يدب هذا الداء بين المسلمين، لتنافسهم في الزعامات، حتى الجماعات الإسلامية والأحزاب الإسلامية، بل في الجماعة الإسلامية الواحدة والحزب الإسلامي الواحد!

والأعجب من ذلك أن يدب الحسد بين زعماء الأحزاب الإسلامية وزعماء الشعوب الإسلامية والعربية، بسبب تنافسهم في إرضاء أعداء الشعوب الإسلامية، والتسابق إلى نيل القربى والحظوة عندهم، ويتمنى كل منهم أن تزول نعمة أخيه التي ينالها من أعداء الإسلام بالولاء لهم، ليحرزها هو، كما يحصل اليوم في الحملة الأمريكية الظالمة على العالم الإسلامي، فتضرب بعضهم ببعض، ثم تستأثر بخيرات البلاد، وتغير ما تريد من ثوابت الأمة، بأدوات من أبنائها، وتمكن اليهود من السيطرة على بلدان الرسالات!

ولهذا أنذر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته من هذا الداء، وحذرها منه، من يوم بعثه الله تعالى برسالته، ، فقد روى الزبير بن العوام رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دب إليكم داء الأمم قبلكم، الحسد والبغضاء، هي الحالقة، حالقة الدين لا حالقة الشعر، والذي نفس محمد بيده لا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) [أحمد 1/164)]

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سيصيب أمتي داء الأمم). فقالوا يا رسول الله وما داء الأمم؟ قال: (الأشر والبطر والتكاثر والتناجش في الدنيا، والتباغض والتحاسد، حتى يكون البغي) [أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين، (4/185) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه]

وفي حديث عمرو بن عوف: (فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم) [البخاري: رقم: 2989، ومسلم: 2961]
والحسد من أهم أسباب التنافس المهلك.

وقد نهى صلى الله عليه وسلم المسلمين عن التحاسد، وغيره من الصفات التي تقوض بناء الأخوة الإسلامية، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إياكم والظن....) إلى أن قال: (ولا تحاسدوا) [البخاري (7/88) ومسلم (4/1985)].
وبهذا يعلم، أن الحسد يناقض الأخوة الإسلامية، ويحول بين المسلمين ويفقد المسلمين الأمن فيما بينهم، لأن الحاسد الذي يتمنى زوال نعمة أخيه، إذا كان أقوى من صاحب النعمة، لا يؤمن أن يتسبب في زوالها بقوته.

(105)

المبحث الثالث
اجتناب الاحتقار والسخرية

لقد خلق الله سبحانه وتعالى بني البشر كلهم من أصل واحد، وهم لا يتفاضلون من حيث الخلقة، لأن الأصل واحد، ولأن الخالق هو الله، ولا فضل لأحد في لون ولا بلد ولا لغة ولا طول ولا قصر، لأن ذلك كله لم يوجد للإنسان باختيار منه، وإنما أوجده الخالق سبحانه وتعالى.
قال عز وجل: ((يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا)). [النساء:1].

فالخالق واحد، وهو الله، والأصل واحد، وهو آدم، والذي يجب عمله هو ما أمر الله به، وهو تقوى الله، وهذه التقوى هي التي جعلها الله تعالى معيارا للتفاضل بين الناس.
كما قال تعالى: ((يا أيها الناس إنا خلقنكم من ذكر وأنثى وجعلنكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقكم إن الله عليم خبير)). [الحجرات:13].
فكلما كان الإنسان أتقى لله، كان أكرم عنده، ويجب أن يكون أكرم عند خلقه، ولا تفاضل بغير ذلك.
والواجب أن يلتزم المسلمون بهذا الأدب الرباني، فيكرمون من أكرمه الله، ولا يجوز أن يحتقر أحدٌ منهم أحداً، ولا يسخر أحدٌ من أحد، لما في ذلك الأدب من جمع الشمل وغرس المحبة والود بينهم.

أما الاحتقار والسخرية بسبب لون أو خلقة، كالدمامة، أو بلد، أو نسب، أو فقر، أو وظيفة، فإن ذلك يخالف هذا الأدب الرباني، ويفرق شمل المسلمين ويحدث بينهم التباغض والخلاف.

وقد يكون المحتقَر [اسم مفعول] أكرم عند الله وأفضل ممن احتقره وسخر منه عند الله، ولهذا اشتد إنكار الله تعالى على الساخرين المحتقِرين.
قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون)) [الحجرات:11].

والسخرية والاحتقار من أعمال الجاهلية التي أنكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى أبو ذر رضي الله عنه، قال: كان بيني وبين رجل كلام، وكانت أمه أعجمية، فنلتُ منها، فذكرني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (أساببت فلانا)؟ قلت: نعم. قال: (أفنلت من أمه)؟ قلت: نعم. قال: (إنك امرؤ فيك جاهلية)، قلت: على حين ساعتي هذه من كبر السن؟ قال: (نعم هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه، فان كلفه ما يغلبه فليعنه عليه) [البخاري (7/85) ومسلم (3/1282ـ1283)].

وعظَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمرَ على عائشة رضي الله عنها، عندما أشارت بيدها إلى صفية بأنها قصيرة، قالت عائشة: حكيت للنبي صلى الله عليه وسلم رجلا، فقال: (ما يسرني أني حكيت رجلاً وأن لي كذا وكذا) قالت: فقلت يا رسول الله إن صفية امرأة، وقالت بيدها هكذا – أي – أنها قصيرة، قال: (لقد مزحت بكلمة لو مزجت بها ماء البحر لمزج). [الترمذي (4/660ـ661) وقال: هذا حديث حسن صحيح].

وإن الآثار المترتبة على الاحتقار والسخرية، لأمر يهدد بدمار المجتمع الذي يسكت عليهما ولم ينكرهما، لأن الفئة التي يصدر منها الاحتقار والسخرية، ترتب على احتقارها للفئة الأخرى، حرمانها من المساواة في الحقوق والواجبات بدون سبب.
بل قد تكون الفئة المحتَقَرة أهلاً لكثير من الأعمال والولايات وتكون الفئة المحتَقِرة ليست أهلاً لها، وإنما تستبد بها لقوتها أو كثرتها، فيترتب على ذلك سوء المعاملة وفشل الإدارة، كما يترتب عليه حقد الفئة المحتَقَرة التي حيل بينها وبين حقوقها، وقد تسعى لسلب الفئة التي حرمتها من حقوقها وما بيدها من مقاليد الأمور التي جعلتها وسيلة لتتعالى.

فإذا نجحت في ذلك أذاقت الفئة الساخرة المحتقِرة، أشدَّ أنواع الإيذاء والسخرية والاحتقار، جزاءً وفاقاً، وهذا ما يجري في كثير من البلدان الآن - ومنها البلدان الإسلامية - ونجم عنه التناحر والثورات والانقلابات، وهو ما ينذر بالدمار في بلدان الغرب في أمريكا وأوروبا، التي لا تزال تعامل بعض الفئات كالسود، معاملة تخالف ما تعامل به الفئات الأخرى.
فالمجتمع الذي يحتقر بعضُ أفراده بعضا، ويسخر بعضهم من بعض، مجتمع معرض للفوضى والفتن والتطاحن وعدم الأمن والاطمئنان.

(106)

المبحث الرابع
اجتناب الهجر والتقاطع

إن الأخوة الإسلامية تقتضي الوصل والرحمة والتزاور والمودة، وإن الهجر والقطيعة يناقضان ذلك، فلا يجوز للمسلم أن يقطع وصل أخيه المسلم أو يهجره، والأصل عدم جواز ذلك مطلقاً، ولكن الشارع راعى الفطرة البشرية، فأجاز للمتغاضبين أن يتهاجرا ثلاثة أيام - مع كراهة ذلك - ونهى عما زاد.

فقد روى أبو أيوب الأنصاري، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان، فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) [البخاري (7/91) ومسلم (4/1984)].
وفي حديث أنس، رضي الله عنه، مرفوعا: (.. وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال). [البخاري (7/91) ومسلم (4/1983)].

وورد في المتهاجرين وعيد شديد، جعلهما شاذين بين أهل القبلة، حيث يغفر الله لكل من لا يشرك به شيئا يومين في كل أسبوع، إلا من كان منهم بينه وبين أخيه شحناء وهجر.
كما روى أبو هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا، إلا رجلاً كان بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا) وفي رواية: (إلا المتهاجرين). [مسلم (4/1987)].

وأثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على وصل من قطعه، وأخبره أن الله معه على ذوي القطيعة، كما روى أبو هريرة، رضي الله عنه، أن رجلاً، قال: يا رسول الله، إن لي قرابة، أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، فقال: (لئن كنت كما قلت، فكأنما تُسٍفُّهم [تطعمهم] الملَّ [الرماد الحار]، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم مادمت على ذلك) [مسلم (4/1982)].
وقد أثر هذا الأدب النبوي في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يشق على أحدهم أن يهجره أخوه، ويبذل قصارى جهده في إرضائه، حتى يعود إلى صلته، ويبعث إليه الشفعاء، وكان الذي تغلبه منهم بشريته، فيهجر أخاً له أكثر من ثلاث، يندم على ذلك وتذرف عيناه الدموع، إذا ذكر حسرة على ما بدر منه.

تأمل قصة عائشة رضي الله عنها مع ابن أختها عبد الله بن الزبير، رضي الله عنهما، فقد حدثت أن عبد الله ابن الزبير، قال في بيع أو عطاء، أعطته عائشة: لتنتهين عائشة أو لأحجرن عليها، فقالت: أهو قال هذا؟! قالوا: نعم. قالت: هو لله على نذر أن لا أكلم ابن الزبير أبداً، فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة، فقالت: لا والله، لا أشفع فيه أبداً، ولا أتحنث إلى نذري.

فلما طال ذلك على ابن الزبير، كلم المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وهما من بني زهرة، وقال لهما: أنشدكما بالله لما أدخلتماني على عائشة، فإنها لا يحل لها أن تنذر قطيعتي.
فاقبل به المسور وعبد الرحمن مشتملين بأرديتهما، حتى استأذنا على عائشة، فقالا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، أندخل؟ قالت عائشة: ادخلوا، قالوا: كلنا؟ قالت: نعم، ادخلوا كلكم، ولا تعلم أن معهما ابن الزبير، فلما دخلوا دخل ابن الزبير الحجاب فاعتنق عائشة، وطفق يناشدها ويبكي، وطفق المسور وعبد الرحمن يناشدانها: إلا ما كلمته وقبلت منه، ويقولان: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عما عملت من الهجرة.
فإنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، فلما أكثروا على عائشة التذكرة والتحريج، طفقت تذكرهما وتبكي وتقول: إني نذرت، والنذر شديد، فلم يزالا بها حق كلمت ابن الزبير، وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة، وكانت تذكر نذرها بعد ذلك فتبكي حتى تبل دموعها خمارها. [البخاري (7/90)].

وإنما كان الهجر منافياً لمقتضى الأخوة الإسلامية، لما فيه من الصدود والأضغان، ولما يحدثه في نفوس المتهاجرين، من النفرة والظنون السيئة التي يوسوس بها الشيطان لكل منهما في الآخر، بأنه يبغضه ويغتابه ويدبر له المكايد، فيفقد كل واحد منهما الثقة في أخيه، ولا يأمن كل منهما الأخر، وقد يوسع دائرة سوء الظن أعداء الأخوة الإسلامية، فيورون نار العداوة ويزيدون اشتعالها.
وهذا يقع كثيراً في نفوس المتهاجرين، فإذا وصل كل منهما صاحبه عرف كل منهما أن ما كان يظنه في أخيه غير موجود، وأن الشيطان وأتباعه كانوا يوسوسون لكل منهما بالباطل، فتعود ثقة كل واحد منهما بصاحبه وائتمان كل منهما للآخر، وذلك ما يحزن الشيطان لعنه الله.

هذا وليعلم أن الهجر مشروع للعصاة، تأديبا لهم وإشعاراً بأنهم خارجون عن آداب المجتمع وطريقه المستقيم، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع كعب بن مالك وزميليه، حيث هجروهم خمسين ليلة، حتى نزلت توبتهم من عند الله عـز وجل.
كما قال تعالى: ((وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم)). [التوبة:118 وراجع قصة كعب وزميليه في صحيح مسلم (4/2120 وما بعدها..)].

وإذا كان الهجر مشروعا جاز أكثر من ثلاث، كما قال الحافظ بن حجر رحمه الله: (وفيها ترك السلام على من أذنب، وجواز هجره أكثر من ثلاث، وأما النهي عن الهجر فوق الثلاث، فمحمول على من لم يكن هجرانه شرعياً). [فتح الباري (8/124)].

(107)

المبحث الخامس
ترك ما يثير الشك والخوف في نفس المسلم

شرع الله تعالى في هذا الدين منع كل ما يفقد المسلم الأمن، أو ما يكون وسيلة إلى ذلك، كما شرع تعاطي الأسباب التي تؤدي إلى الأمن، بل إن غير المسلم - ما دام غير محارب - كالمسلم في ذلك.

فمن الأمور التي أمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ليأمن الناس: حفظ السلاح وعدم التساهل فيه، لئلا يسقط فيجرح أحداً، ويدخل في حكم ما يسقط ما ينطلق مثل الرصاص الذي تعبأ به الأسلحة النارية، لا سيما في الأماكن العامة، فإنه يجب التحرز منه أن يصاب به أحد بسبب التساهل، وما أكثر ما يقع ذلك فيحصل الندم ولات ساعة مندم.
روى جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما أن رجلا مر بأسهم في المسجد قد أبدى نصولها، فأُمر أن يأخذ بنصولها، كي لا يخدش مسلماً.. وفي رواية: فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (أمسك بنصالها). [البخاري (1/116) ومسلم (4/2018)].

وعن أبي موسى، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا مر أحدكم في مجلس أو سوق، وبيده نبل، فليأخذ بنصالها، ثم ليأخذ بنصالها، ثم ليأخذ بنصالها) وفي رواية: (فليمسك على نصالها بكفه، أن يصيب أحداً من المسلمين منها بشيء). [البخاري (1/116) ومسلم (4/462)].

ويدخل في ذلك ترويع المسلم بأخذ متاعه أو سلاحه، جداً أو لعباً، لما روى عبد الله بن السائب بن يزيد عن أبيه عن جده، رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً، ومن أخذ عصا أخيه فليردها). [أبو داود (5/273) والترمذي (4/462) وقال هذا حديث حسن غريب].
ومن ذلك الإشارة بالسلاح، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أشار على أخيه بحديدة لعنته الملائكة) [الترمذي (4/463) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه].
وفي حديث جابر رضي الله عنه، قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتعاطى السيف مسلولاً). [الترمذي (4/464) وقال: هذا حديث حسن غريب من حديث حماد بن سلمة].

ومما يثير الشك في نفس المسلم أن يتناجى اثنان ومعهما ثالث فقط.
قد يكون عند بعض الناس شيء من السر، لا يرغبون في اطلاع أكثر من واحد عليه، وذلك حق لهم، وقد يطرأ ذلك في سفر، فيرغب صاحب السر أن يحدث به واحداً من المسافرين فقط، فإن كان لا يرافقه إلا واحد وأراد أن يفضي إليه بذلك فلا إشكال، وكذلك إن كانوا أكثر من ثلاثة فله أن يسار أحدهم.
أما إذا كانوا ثلاثة فلا يجوز له أن ينفرد بواحد فيناجيه دون الثالث، لأن ذلك يدخل في نفسه شيئا من الشك والحزن والخوف.

وفعل المسلم ما يحزن أخاه المسلم محظور شرعاً، والتناجي بهذه الحالة يحزنه، وقد كان المنافقون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتناجون فيما بينهم ويهمس بعضهم لبعض، ويلتفتون إلى المسلمين، ليشعروهم أن هناك شيئاً مَّا يحدث فيه ضرر على المسلمين، كانتصار الكفار عليهم، وقتل بعض المسلمين ونحو ذلك وكان ذلك يحزن المسلمين.
فانزل الله سبحانه قوله تعالى: ((ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول)) [المجادلة: 8ـ10، وراجع الجامع لأحكام القرآن (17/290ـ296)].
وكان يشترك مع المنافقين اليهود، في مناجاة تحزن المسلمين، ثم نهى الله تعالى المؤمنين – ويدخل في خطابهم المنافقون – فقال تعالى: ((يا أيها الذين أمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون، إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون)). [المجادلة 9،10 ].

ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن تناجي اثنين دون الثالث، كما في حديث ابن عمر، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث) وفي رواية: (دون واحد) [البخاري (7/142) ومسلم (4/1717)].
وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس، من أجل أن يحزنه). [مسلم (4/1718)].

ويفهم من هذا الحديث أن المنهي عنه أن يحصل تناجٍ بين عدد ويبقى واحدٌ منفرد عن ذلك العدد، حتى ولو كان المتناجون أكثر من اثنين، لأن ذلك يحزنه.
قال القرطبي رحمه الله: "فبين هذا الحديث غاية المنع، وهي أن يجد الثالث من يتحدث معه، كما فعل ابن عمر، وذلك أنه كان يتحدث مع رجل، فجاء آخر يريد أن يناجيه، فلم يناجه حتى دعا رابعاً، فقال له وللأول: تأخر، وناجي الرجل الطالب للمناجاة. خرجه الموطأ.
وفيه أيضا التنبيه على التعليل بقوله: (من أن يحزنه) أي يقع في نفسه ما يحزن لأجله، وذلك بأن يقدِّر في نفسه أن الحديث عنه بما يكره، أو أنهم لم يروه أهلاً ليشركوه في حديثهم، إلى غير ذلك من أُلقيات الشيطان وأحاديث النفس.
وحصل ذلك كله من بقائه وحده، فإذا كان معه غيره أمن ذلك، وعلى هذا يستوي في ذلك كل الأعداد، فلا يتناجى أربعة دون واحد، ولا عشرة ولا ألف مثلا، لوجود ذلك المعنى في حقه، بل وجوده في العدد الكثير أولى، وإنما خص الثلاثة بالذكر، لأنه أول عدد يتأتى ذلك المعنى فيه... ". [الجامع لأحكام القرآن (17/295)].
فالتناجي الذي يترتب عليه شكوك في نفس المنفرد أو يحزنه، منهي عنه، وفيه شيء من المنافاة للأخوة الإسلامية...
وينبغي أن ينسحب هذا الحكم على غير المسلم، كالذمي الذي يرافق مسلمين في سفرهم، لأن لهم ما لنا وعليهم ما علينا.

(108)

المبحث السادس
اجتناب الغيبة والنميمة

الغيبة أن يذكر المسلم أخاه بما يكره وهو غائب، سواء كان ما ذكره موجوداً فيه أم لا، بل إذا لم يكن فيه، فهو مع كونه غيبة بهتان وافتراء، والأدب الإسلامي يقضي بأن يأمن الإنسان على عرضه في حضوره وغيبته.
وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن الغيبة، مشبهاً من يغتاب أخاه المؤمن، بآكل لحمه بعد موته، وهو غاية في التنفير عن هذا الخلق السيء.
قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم)) [الحجرات: 12].
وفي هذا التشبيه لطيفة، وهي أن الذي يتكلم في عرض أخيه، وهو غائب شبيه بمن يأكل لحم الميت، بجامع أن كلاً منهما لا يقدر أن يدافع عن نفسه، هذا بالإضافة إلى بشاعة الغيبة، كبشاعة أكل لحم الميت من البشر.

وقد بين صلى الله عليه وسلم معنى الغيبة في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتدرون ما الغيبة)؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (ذكرك أخاك بما يكره) قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته) [مسلم (4/2001)].
يفهم من هذا الحديث أن على من اغتاب المسلم بما فيه، يأثم على الاغتياب، وأن من اغتابه بما ليس فيه، فعليه إثمان: إثم الاغتياب، وإثم الافتراء عليه.

هذا وإذا استمرأ المجتمع الكلام في أعراض الغائبين في مجالسهم، ولم ينكروا ذلك، فان أعراض عامة المجتمع ستنتهك، إذ يصبح ذلك عادة في المجالس دون نكير، وكل من غاب عن المجلس يكون عرضة لاغتيابه ونهش عرضه، لعدم وجود من ينصره ويدافع عنه وهو غائب.
ويترتب على ذلك إساءة الظن والحقد وعدم الثقة، لهذا كان من الواجب على المسلمين أن يحاربوا هذه الصفة الذميمة في مجالسهم، فلا يأذنوا لأحد بالكلام في أعراض الغائبين، ليعملوا بما رواه أبو الدرداء رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رد عن عرض أخيه، رد الله عن وجهه الناريوم القيامة) [الترمذي (4/327) وقال: هذا حديث حسن].

والمسلم الذي لا يقدر على الرد عن عرض أخيه المسلم في المجالس، لا يجوز له أن يغشى تلك المجالس لغير ضرورة.
قال تعالى: ((وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم، إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا)) [النساء:40].

قال القرطبي رحمه الله: "فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي، إذا ظهر منهم منكر، لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر؟ قال الله عـز وجل: ((إنكم إذا مثلهم)). فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم، يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم، فينبغي أن يقوم عنهم، حتى لا يكون من أهل هذه الآية... ". [الجامع لأحكام القرآن (5/418)].

فقد حمل القرطبي الآية على عموم المعاصي، كفراً كانت أو غيره، والغيبة إحدى تلك المعاصي التي لا ينبغي للمسلم أن يحضر مجالسها، إلا إذا قدر على إنكارها.

وأخطر من الغيبة النميمة، وهي نقل الكلام بين الناس للإفساد بينهم، وقد يجتمع في النميمة الأمور الثلاثة: نقل الكلام الذي هو من طبيعتها، والغيبة، إذا كان الذي نقل عنه الكلام غائباً، والبهت، إذا كان ما نقله النمام من الكلام من افترائه، ولهذا كانت النميمة أشد خطراً من الغيبة.
وقد أورد الإمام البخاري رحمه الله النصوص المتعلقة بالنميمة في "باب الغيبة" وفي باب: "النميمة من الكبائر" ولعله يشير إلى ما ذكر.
روى ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض حيطان المدينة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال: (يعذبان، وما يعذبان في كبير، وإنه لكبير، كان أحدهما لا يستتر من البول، وكان الآخر يمشي بالنميمة، ثم دعا بجريدة، فكسرها بكسرتين أو ثنتين، فجعل كسرة في قبر هذا وكسرة في قبر هذا، فقال: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا) [البخاري (7/86) ومسلم (1/240)].

وإن ما يفعله النمام من الإفساد بين الناس والتفريق بينهم، وإثارة الأحقاد وما قد يؤدي إليه من البغضاء والتدابر والتقاتل، لجدير بأن يجعل المسلمين يأخذون على يديه ولا يأذنوا له بنقل الحديث من بعضهم إلى بعض.
ويجب أن يعلم من ينقل إليه النمام الحديث من آخر، أنه سينقل عنه الحديث إلى ذلك الآخر، وأنه إذا كذب على غيره فسيكذب عليه، وما الذي يمنع مرتكب الكبيرة من الإضرار بالجانبين، ولذلك سماه الرسول صلى الله عليه وسلم بذي الوجهين، لأنه يأتي هذا بوجه وذاك بوجه، أي أنه يبدو ناصحاً لهذا مبغضاً لذلك، فإذا جاء الآخر بدا كذلك محباً له ناصحاً له مبغضاً لخصمه، ومن هنا كان من شر الناس.
كما روى أبو هريرة، رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تجد من شر الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه) [البخاري (7/87) ومسلم (4/2011)].

ومما ورد فيه من الوعيد أنه لا يدخل الجنة، كما روى حذيفة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل الجنة قتّات) [البخاري (7/86) ومسلم (1/101) والقتّات النمّام].

هذا، وليعلم أن من أخطر النمامين المشائين بين الناس بنقل الحديث، أولئك الذين قد يظهرون في صورة الصلحاء الناصحين المحبين لمن نقلوا إليه الحديث، الخائفين عليه من الآخرين، وقد يتظاهرون بالخوف على الدين ويصفون بعض الناس بأوصاف تدل على عدائهم للدين أو مبدأ معين، ويحذرون من هؤلاء الذين يخشى على ذلك المبدأ منهم، وينقلون عنهم زوراً وبهتاناً ما هم بريئون منه، بل قد يكون المتَّهَم أحرص على الدين وعلى المبدأ، من أولئك النمامين الكاذبين.

نعم إن هؤلاء أخطر من غيرهم لتلبسهم بلباس المتدين الناصح، وقد لا يصرحون بأسماء الأشخاص إيغالاً منهم في التلبس بالنصح، وعدم محبة ذكر الأسماء تفادياً للغيبة، ولكنهم يذكرون أوصافاً لهم تعينهم، وذلك قائم مقام التعيين بالاسم، وكثير من هؤلاء المشائين بالنميمة، إذا فتش عنهم المتثبت الذي يخاف الله واليوم الآخر، ويعمل بقول الله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)) [الحجرات:6].

إذا فتش المتثبت عن هؤلاء، وجدهم كاذبين فيما ينقلون، متصفين بالزور والبهتان، يتخذون ذلك وسيلة للتقرب إلى من يظنون أنه يقدر على قضاء حاجاتهم بالمال أو الجاه والمنصب، أي أنهم يتأكلون بالتظاهر بالحرص على المبدأ والدفاع عنه، من أجل الحصول على فتات الدنيا.

وقد بوب الإمام البخاري رحمه الله لأمثال هؤلاء بقوله: "باب قول الله تعالى: ((واجتنبوا قول الزور)) [الحج:30].
وساق حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه) [البخاري (7/87)].
أي أن المتعبد الكاذب الذي يصوم رمضان - وكذا الذي يصلي ولا تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر - لا حاجه لله في عبادته المصطنعة.
ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم عنى أمثال هؤلاء عندما قال - كما روى عنه أبو هريرة رضي الله عنه أنه سمعه يقول -: (يخرج في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين، يلبسون للناس جلود الضان من اللين، ألسنهم أحلى من السكر وقلوبهم قلوب الذئاب، يقول الله عز وجل: أبي يغترون، أم علي يجترئون؟ فبي حلفت لأبعثن على أولئك منهم فتنة تدع الحليم منهم حيران).

وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إن الله تعالى قال: لقد خلقت خلقاً ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، فبي حلفت لآتينهم فتنة تدع الحليم حيران، فبي يغترون أم علي يجترئون)) [الحديثان في سنن الترمذي، وقال عقب حديث ابن عمر: هذا حديث حسن غريب من حديث ابن عمر].

فعلى المجتمع الإسلامي أن يحذر ذوي الألسنة الحلوة والملمس اللين، وهم يخزنون قلوبا خبيثة مليئة بالحقد، وهي أشد مرارة من الصبر، وإلا فكيف يأمن المسلم، بل كيف يأمن المجتمع كله، إذا كان أفراده لا يتثبتون مما ينقل إليهم عن إخوانهم من قالة السوء، وهل يجوز قبول كل ما ينقل من التجريح والاتهام بدون تثبت، وهل المسلم الذي ينقل الحديث أو يجرح مسلماً معصوم، ولوكان ظاهره الصلاح؟

إذا كان الله تعالى قد أمر بالتثبت في عهد رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي كان أصحابه أشد خشية لله من سواهم، وكانوا يتحرجون من الحديث في أعراض الناس، فكيف بهذا الزمن الذي لبس فيه فساقٌ ثيابَ أتقياء؟
نعم يجب على المسلم إذا رأى منكراً أن ينصح فاعله، فإذا أصر عليه نقل ذلك إلى من يقدر على إزالته من أولياء الأمور، وذلك من الحسبة الشرعية، ولكن هذا لا يلغي وجوب التثبت من الأمرخوفاً من ((ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)) [الحجرات(6)].

ويجوز للمظلوم أن يذكر ظالمه بما فيه ولوكان غائباً ليعان عليه.كما قال تعالى: ((لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعاً عليماً)) [النساء:148].
وبهذا يعلم أن إقرار المسلمين، أفرادا وجماعات لانتشار الغيبة والنميمة، في الأمة الإسلامية من أهم وسائل إضعاف الأخوة الإسلامية، ومما يفقد المسلمين الأمن والاطمئنان.

(109)

المبحث السابع
منافسة المسلم للمسلم فيما بدأ فيه من المعاملات

إن الأصل في المعاملات الإباحة إلا ما حظره الشارع، ومن ذلك البيع والشراء والنكاح، فلكل واحد أن يبيع ماله ممن يشاء وأن يشتري السلعة ممن يريد، وأن يتزوج أي امرأة رغب في نكاحها ما دامت مباحة له.
ولكن المسلم إذا سبقه أخوه المسلم، فرآه يساوم على سلعة ليشتريها أو يبيعها، أو سبقه إلى خطبة امرأة يريد نكاحها، فلا ينبغي له أن يتقدم ليشتري على شرائه ويبيع على بيعه، أو يخطب على خطبته، لما في ذلك من إغاظته وتكدير خاطره.

فإذا رآه ترك ما كان يريد شراءه أو بيعه، أو خطبة المرأة التي كان يريد نكاحها، فله أن يتقدم بعد ذلك للبيع أو الشراء أو الخطبة، ولا حرج عليه في ذلك، إذ لا ينافي عمله حينئذ مقتضى الأخوة الإسلامية، كما هو الحال بالنسبة للحالة الأولى.

وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك كله حسماً للخلاف وسداً لذريعة الأحقاد والتهاجر.
روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يبع بعضكم على بيع بعض) [البخاري (3/24) ومسلم (3/1154)].
وعنه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، إلا أن يأذن له) [البخاري (6/136) ومسلم (3/1154)].
وفي حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يسم المسلم على سوم أخيه) [مسلم (3/1154)].
ونهى صلى الله عليه وسلم عن النجش، وهو أن يزيد الرجل في ثمن السلعة التي يساوم عليها أخوه، وهو لا يريد شراءها، وإنما يستثيره ليشتريها بأكثر من ثمنها.
روى أبو هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن (تلقي الركبان، وأن يبيع حاضر لباد، وأن تسأل المرأة طلاق أختها، وعن النجش، وأن يستام الرجل على سوم أخيه) [البخاري (3/24) ومسلم (3/1155)].

وفي هذا الحديث زيادة على ما مضى النهي عن تلقي الركبان، أي أن يتلقى بعض أهل السوق الباعة قبل دخولهم السوق، ليشتروا منهم السلع بثمن أقل، ثم يبيعوها في السوق بثمن أكثر، وفي ذلك ضرر على البائع وعلى المشترين من أهل السوق.
وفيه النهي عن بيع حاضر لباد، لأن البادي يبيع بما تيسر له حسبما يرى من الأسعار في السوق، أما الحاضر فإنه يغلي على الناس السلع فيضرهم بذلك.
وفيه نهى المرأة عن سؤالها طلاق ضرتها، واشتراط طلاق الرجل امرأته ليتزوجها، وقد أطلق عليها في الحديث لفظ (أختها) إشارة إلى أن مقتضى الأخوة الإسلامية ينافي ذلك.

فهذه الأمور كلها نهى عنها الشارع، لما فيها من الأضرار على المجتمع، وما يحدثه ذلك في نفوس الناس على من تعاطى تلك المعاملات، فإذا تقيد المسلمون بهذا النهي، وابتعدوا عما فيه ضرر على غيرهم، تحققت بينهم الأخوة الإسلامية، وأمن الأخ أخاه وأحبه، وائتلفت القلوب، وزال الاستجابة لتحريش الشيطان ووساوسه، أو خفت.
قال الحافظ بن حجر، رحمه الله: "قال العلماء: البيع على البيع حرام، وكذلك الشراء على الشراء، وهو أن يقول لمن اشترى سلعة في زمن الخيار: افسخ لأبيعك بأنقص، أو يقول للبائع: افسخ لأشتري منك بأزيد، وهو مجمع عليه.
وأما السوم فصورته أن يأخذ شيئاً ليشتريه، فيقول له: رده لأبيعك خيراً منه بثمنه أو مثله بأرخص، أو يقول للمالك: استرده لأشتريه منك بأكثر، ومحله بعد استقرار الثمن وركون أحدهما إلى الآخر...". [فتح الباري (4/353ـ354) وراجع شرح النووي على مسلم (10/158ـ159)].

وقال النووي، رحمه الله: "هذه الأحاديث ظاهرة في تحريم الخطبة على خطبة أخيه، وأجمعوا على تحريمها، إذا كان قد صرح للخاطب بالإجابة ولم يأذن ولم يترك.." [شرح النووي على مسلم (9/197)].

(110)

المبحث الثامن: الابتعاد عن الغش والكذب

الغش والكذب والخيانة والغدر والفجور، كلها ضد النصح الذي أوجبه الشارع لكل مسلم على كل مسلم. [راجع المبحث الثامن عشر من الفصل الأول في هذا الباب].
وهذه الأمور إذا تمكنت من نفوس أفراد المجتمع وانتشرت فيه، اختل توازنه وضرب الله بعضه ببعض، وأصبح كل فرد فيه لا يأمن الأخرين على قضيب من أراك، وفي ذلك غاية التردي والانتكاس وغاية الخوف والقلق.
لذلك حذر الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من تلك الصفات تحذيراً شديداً، وهي متلازمة، فالغش - مثلا - كذب وخيانة وغدر وفجور.. وهكذا…

أمر الله سبحانه وتعالى بأداء الأمانة إلى أهلها. فقال: ((إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها)). [النساء:58].
ونهى سبحانه عن إضاعة الأمانة بالخيانة، فقال: ((يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون)) [الأنفال:27].
ووعيد الغاش للمسلمين شديد عند الله وعند رسوله، حيث أظهره صلى الله عليه وسلم، كأنه ليس من المسلمين، كما روى أبو هريرة، رضي الله عنه أن رسول لله صلى الله عليه وسلم، قال: (من حمل علينا السلاح فليس منا، ومن غشنا فليس منا) [مسلم (1/99)]. تأمل كيف نزل من غش المسلمين كمن قاتلهم في الذنب.
وفي حديث أبي هريرة أيضا، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً، فقال: (ما هذا)؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: (أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غش فليس مني). [مسلم (1/99)].
ووصف صلى الله عليه وسلم من اتصف بالكذب والخيانة والغدر والفجور، بالنفاق كما في حديث عبدالله بن عمرو، رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر). [البخاري (1/14) ومسلم (1/78)].
ولقد تفشت هذه الصفات في كثير من المسلمين حتى أصبح الأخ لا يأمن أخاه على كثير من أموره.

وهنا تنبيه لا بد منه، وهو أن كثيرا من الناس، يطرأ بأذهانهم عند ذكر الكذب والغش، غش الأفراد للأفراد، ويغيب عنهم، أن أسوأ الكذب وأشد الغش، وأعظمهما خطرا على المسلمين، وقوعهما بين الراعي ورعيته، أو بين دولة وأخرى من دول الشعوب الإسلامية، لأن ضررهما في هذه الحالة يحطم الشعوب بأكملها، حيث لم يعد الشعب يثق في حاكمه، والحاكم لا يثق في شعبه، ويترتب على ذلك إظهار كل طائفة ولاءها للأخرى، مع اتخاذ كل منهما ما يتاح لها من الكيد والمكر بأختها.

وأيهما أعظم جرما غش شخص لآخر، بإخفاء طعامه المبلول في أسفله ليستر عيب ما يريد بيعه، من المشتري، أم غش حكومات تتولى أمور الأمة لشعوبها في ضرورات حياتها، من الدين والنفس والعرض والعقل والمال؟
غش في التعليم، وغش في الاقتصاد، وغش في الإعلام، وغش في عدم إعداد عدة الدفاع عن الوطن، وغش في العلاقات الدولية التي تخضع الشعوب للدول المعادية لها.
بل لقد فشا الغش والخداع والمكايدة، بين الجماعات والأحزاب في الشعب الواحد، فأصبحت كثير من الشعوب تغلي بتدبير المكايد بين تلك الجماعات والأحزاب، وبين هذه كلها وبين الحكام فيها، مما أضعف الشعوب الإسلامية وجعلها لقمة سائغة لأعدائها المتربصين بها.

ولهذا عظَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الغش الذي يصدر من ولاة الأمر، كما في حديث معقل بن يسار المزني الذي ذكره لعبيد الله بن زياد عندما زاره في مرض موته، معقل، فقال له معقل: (إني محدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو علمت أن لي حياة ما حدثتك، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة)) [صحيح مسلم، رقم 142]
والغش والكذب، يثمران البغضاء والتنافر، وتمني كل طائفة طرد الطائفة الأخرى من هذه الحياة، بل تدعو عليها بطردها من رحمة الله، بدلا من اتخاذ أسباب غرس الأخوة الإسلامية في النفوس، يدل على ذلك، حديث عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : (خِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ ....) [صحيح مسلم، رقم 1855]
فكيف تتوطد الأخوة الإسلامية في أمة هذا حالها في غالب شعوبها؟!

كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل