بسم الله الرحمن الرحيم

محاسبة النفس ومخالفتها ( 139 -142) جهاد الشيطان

(139)

الجهاد في سبيل الله المطلب الثاني: محاسبة النفس ومخالفتها
المبحث الثاني: جهاد الشيطان

وفيه فرعان:
الفرع الأول: بيان خطره على النفس.
الفرع الثاني: وسائل مجاهدته.

الفرع الأول: بيان خطر الشيطان على النفس:
خطر الشيطان له جوانب كثيرة عني بها القرآن الكريم عناية فائقة، وكذلك السنة النبوية، وعلماء المسلمين والفقهاء في دين الله من الكتاب والسنة، وعداؤه للإنسان قديم، إذ لم يوجد الإنسان إلا كان الشيطان بجانبه، يحسده على الخير الذي آتاه الله، ويدبر له المؤامرات ويكيد له المكائد ويغريه بالمعاصي، ويزين له الابتعاد عن طاعة الله ورضاه.

والشيطان يزهو بعنصره الذي خلقه الله منه على عنصر الإنسان، وهو مصر على مواصلة العداء والإضلال، وهو ملازم للإنسان ملازمة مستمرة، في كل مكان وزمان، وله أساليب متنوعة في الإضلال، الإغراء وقلب الحقائق حتى يُرى الإنسانَ الحق باطلا والباطلَ حقاً، ويتخذ أنواعا من التهديد والتخويف االتي يرعب بها الإنسان، ليثنيه عن طاعة الله، ويوقعه في معصيته. إنه الشيطان!

وهذه أمثلة من النصوص التي توضح خطر الشيطان على الإنسان:
قال تعالى: ((وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى (116) فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى (117) إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى(118) وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى (119) فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى (120) فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى ءادم ربه فغوى (121) ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى (122) قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى (123) ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى (124)قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا (125) قال كذلك أتتك ءاياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى)) (126) [طه]

فأنت ترى إبليس عصى أمر ربه، وأن الله حذر آدم زوجه منه لأنه عدوٌ لهما، ولا يريد لهما البقاء في رحاب الله ولزوم طاعته والنعيم الذي منحهما الله إياه، ويصعب عليه أن يبقى مطروداً من رحمة الله، وآدم وزوجه في رضوان الله ونعيمه، وأن الشيطان على الرغم من ذلك التحذير الذي حصل لآدم وزوجه استطاع أن يغويهما ويوقعهما في معصية الله، ولولا رحمة الله بهما، وتوبته عليهما لكانا ـ وكذلك ذريتهما ـ مطرودين مثله من رحمة الله..

وقال تعالى: ((ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين(11)قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين (12) قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين (13) قال أنظرني إلى يوم يبعثون (14) قال إنك من المنظرين(15) قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم (16) ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين(17)قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين (18) ويا ءادم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين (19) فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين (20) وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين (21) فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين (22) قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين)) (23) [الأعراف:]

فانظر كيف يطلب أن يطيل الله عمره إلى أن يموت الناس كلهم ويبعثوا، ليضمن ملازمته لهم وإضلالهم حتى لا يفلت منه أحد إذا مات قبل ذلك!. ثم تأمّل كيف يقسم على أن لا يدع أحداً يستقيم على أمر الله تعالى، لأنه سيبقى على صراط الله صاداً عنه، وأنهم أينما ذهبوا سيجدونه أمامهم وخلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ليحول بينهم وبين شكر الله مولاهم.

ثم انظر كيف يحذر الله تعالى آدم وحواء منه، وكيف يتسلل إليهما بوسوسته وتزيين طاعته، ومعصية الله تعالى، ويقلب لهما الحقائق بأن الله لا يريد لهما الملك والخلود ويقسم لهما الأيمان على نصحه لهما! حتى يقعا فيما دعاهما إليه، فإذا هما نادمان على ما حصل، ولولا رحمة الله لكانا مطرودين مثله.

وقال تعالى: (( يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً، ولا تتبعوا خطوات الشيطان، إنه لكم عدوٌ مبين، إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون )) [البقرة: 169].

فالله عز وجل يأمر عباده بأن يختاروا الحلال الطيب، ويفهم منه أنهم لا يجوز لهم أن يختاروا الحرام الخبيث لأكلهم، لأن ذلك مما يدعو له العدو لعنه الله، ولذلك حذر الله تعالى منه ومن اتباعه وطرقه، وأساليبه، وذكر تعالى أنه لا يأمرهم إلا بما يسخط الله من الإثم والفواحش والقول على الله بلا علم، ففي الآية تحذير من الوقوع في الشهوات التي حرمها الله، ومن التشريع الذي لم يأذن به سبحانه، والشيطان يدعو لكل ذلك ويزينه.

وقال تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة، ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوٌ مبين )) [البقرة: 208].

وقال تعالى: (( وكذلك جعلنا لكل نبيٍ عدواً شياطين الإنس والجن، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون )) [الأنعام: 112].

وإذا كان الشياطين ـ شياطين الإنس والجن ـ يتعاونون على الأنبياء بتزيين الباطل والاغترار به، فما بالك بغير الإنبياء؟! إن ما يشاهد الآن من تزيين الباطل والاغترار بشتى الوسائل وفي كل المجالات، وما نتج عنه من آثار سيئة، في العالم كله، ولا سيما العالم الإسلامي، ليعتبر نذيراً من الواقع الذي تعيشه البشرية، ومن الانصياع للشياطين وزخرفهم وغرورهم.

قال الأستاذ سعيد حوا:
"إن كل دعوة تعارض دعوة الأنبياء بردها أو بنقضها أو برفضها، عندما تحقق في مجموع أقوالها تجدها تتصف بهاتين الصفتين الرئيستين: الزخرفة والغرور، فهي تنميق من القول لا طائل تحته، وإن كل دعوة تقطع الطريق على دعوة الأنبياء بتبنيها لبعض مضمونات دعوة الأنبياء ورفضها للبعض الآخر، أو بخلط الحق والباطل، لا تخرج كذلك عن هاتين الصفتين". [من أجل خطوة إلى الأمام على طريق الجهاد المبارك ص 84].

وقال تعالى: (( ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم، فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم )) [النحل: 63].

فوقوف الأمم الطاغية ضد دعوة الأنبياء من أعظم أسبابها تزيين الشيطان لتلك الأمم، مواقفهم من الأنبياء ودعوتهم.

وقال تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان، ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر )) [النور: 31].

وقال تعالى: (( يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور، إن الشيطان لكم عدوٌ فاتخذوه عدوا، إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير )) [فاطر: 5ـ6].

وقال تعالى: (( ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدوٌ مبين، وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم، ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً أفلم تكونوا تعقلون )) [يس: 60 – 62].

وهل بعد هذا الخطر من خطر على النفس البشرية من الشيطان، هذه النفس التي لم يخلقها الله في هذه الحياة الدنيا إلا لعبادته، فيأتي الشيطان العدو المبين، فيحرفها عن الهدف الذي خلقت لتحقيقه، وهو عبادة الله إلى ما يضاد ذلك الهدف، ويباينه، وهو عبادة الشيطان نفسه، ومع ذلك فإن أكثر الناس يطيعونه فينحرفون من عبادة الله إلى عبادته هو، كأنهم لا عقول لهم.

وقال تعالى: (( ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدوٌ مبين )) [الزخرف: 62].

وقال تعالى: (( وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينـزغ بينهم، إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً )) [الإسراء: 53].

فالشيطان هو الذي يسعى بشتى الوسائل والأساليب للإفساد بين الناس، وإحداث الخلاف والفرقة بينهم، وجعل المبطل يقف من المحق موقف المعاند المكابر، وبذلك يصبح الناس في خلاف دائم وشقاق مستمر.

قال ابن جرير رحمه الله:
"(( ينـزغ بينهم )) يقول: يفسد بينهم ويهيج بينهم الشر". [جامع البيان: (15/102)].

وهاهو الشيطان يفرق بين صفوة المجتمع ويفرق كلمتهم، ويحدث الشقاق بينهم، قال تعالى: (( إذ قال يوسف لأبيه يا أبتِ إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين، قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكدوا لك كيداً، إن الشيطان للإنسان عدوٌ مبين )) [يوسف: 4ـ5].

فالشيطان حريص على اتصاف بني آدم بصفاته، وكل صفاته ذميمة، ومنها الحسد الذي يحب أن يتصف به كل إنسان لما فيه من إرواء غليله، وهاهو قد تحقق ما خافه يعقوب من الشيطان من النـزغ بين أولاده.

قال تعالى: (( ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً وقال: يا أبتِ هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً، وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نـزغ الشيطان بيني وبين إخوتي، إن ربي لطيف لما يشاء، إنه هو العليم الحكيم )) [يوسف: 100].

وقال تعالى: (( إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا )) [آل عمران: 155].

فأنت ترى أن الشيطان يغري بالانهزام في معركة النفس البشرية مع معصية الله في حالة السلم، وكذلك يغريها بالانهزام في المعركة الحربية ضد العدو الواضح في حالة الحرب.

والشيطان لا يقنع بما دون التفريق بين أقرب المقربين، كما في حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منـزلةً أعظمهم فتنة، يجئ أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئاً، ثم يجئ أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، قال: فيدنيه منه ويقول: نعم أنت ـ قال الأعمش: فليتزمه ) [مسلم (4/2167)].

فهو كما ترى في حرب دائمة مع بني آدم، ولذلك لا يفتأ ببعث جيوشه المخربة في تلك الحرب الدائمة المفتنة، ولا يحظى بالقرب منه ورضاه إلا من حقق أقصى مبتغاه، وغايته.

وفي حديث عائشة رضي الله عنها ما يدل على أنه لا يخلو أحد من قرين يحاول إضلاله، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أعانه الله على شيطانه فأسلم، وهذا نص الحديث قالت: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من عندها ليلاً، قالت: فغرت عليه، فجاء فرأى ما أصنع، فقال: مالك يا عائشة أغرت؟ فقلت: ومالي لا يغار مثلي على مثلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقد جاءك شيطانك؟ قالت: يا رسول الله أو معي شيطان؟ قال: نعم، قلت: ومع كل إنسان؟ قال: نعم، قلت: ومعك يا رسول الله؟ قال: نعم، ولكن ربي أعانني عليه فأسلم ) [مسلم (4/2168)].

قال النووي رحمه الله:
"وفي هذا الحديث إشارة إلى التحذير من فتنة القرين، وسوسته، وإغوائه فأعلمنا بأنه معنا لنحترز منه بحسب الإمكان" [شرح النووي على مسلم (17/158)].

(140)

الجهاد في سبيل الله المطلب الثاني: محاسبة النفس ومخالفتها
العلماء يبينون خطر الشيطان على النفس

قال ابن القيم رحمه الله:
"قال الله تعالى إخباراً عن عدوه إبليس لما سأله عن امتناعه عن السجود لآدم واحتجاجه بأنه خير منه وإخراجه من الجنة أنه سأله أن ينظره فأنظره، ثم قال عدو الله (( فبما أغويتني لأقعدن لكم صراطك المستقيم، ثم لآتينهم من بين إيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين ))

قلت: السبل التي يسلكها الإنسان أربعة لا غير، فإنه تارة يأخذ على جهة يمينه، وتارة على شماله، وتارة أمامه، وتارة يرجع خلفه، فأي سبيل سلكها من هذه وجد الشيطان عليها رصداً له، فإن سلكها في طاعة، وجده عليها يثبطه، ويقطعه أو يعوقه، ويبطئه، وإن سلكها لمعصية، وجده عليها حاملاً له وخادماً ومعيناً، ولو اتفق له الهبوط إلى أسفل لأتاه من هناك" [إغاثة اللهفان (1/121 ـ 124) وانظر الآيات من سورة الأعراف: 16ـ17].

وما كان ابن القيم رحمه الله يعلم أن الإنسان سيصعد إلى السماء ويهبط على بعض الكواكب، ويهبط من الجو بالمظلات، ويغوص في أعماق ظلمات المحيطات، والشيطان معه أيضاً في تينك الجهتين، العلو والسفل كما كان معه من الجهات الأربع التي ذكرها الله على سبيل الشمول والاستغراق.

وبين ابن القيم رحمه الله، أن خطر الشيطان أعظم من خطر النفس فقال:
"هذا الباب وهو (الباب الثاني عشر في علاج مرضى القلب بالشيطان) من أهم أبواب الكتاب وأعظمها نفعاً، والمتأخرون من أرباب السلوك لم يعتنوا به، اعتناءهم بذكر النفس وعيوبها، وآفاتها فإنهم توسعوا في ذلك وقصروا في هذا الباب.

ومن تأمل القرآن والسنة وجد اعتناءهما بذكر الشيطان وكيده ومحاربته أكثر من ذكر النفس: فإن النفس المذمومة ذكرت في قوله: (( إن النفس لأمارة بالسوء )) [يوسف: 53]. واللوامة في قوله: (( ولا أقسم بالنفس اللوامة )). وذكرت النفس المذمومة في قوله: (( ونهى النفس عن الهوى )) [تعليق: ما ذكره ابن القيم رحمه الله مسلَّم في ذكر النفس بلفظ النفس صراحة، أما إذا نظر إلى معنى النفس كذكر الإنسان أو الناس، أو ذكر أي صفة مذمومة في الإنسان، فإن ذلك لا يحصى كثرةً].

وأما الشيطان فذكر في عدة مواضع، وأفردت له سورة تامة، فتحذير الرب تعالى لعباده منه جاء أكثر من تحذيره من النفس، وهذا هو الذي لا ينبغي غيره، فإن شر النفس وفسادها ينشأ من وسوسته، فهي مَركَبُه وموضع شره، ومحل طاعته.

وقد أمر الله سبحانه وتعالى بالاستعاذة منه عند قراءة القرآن وغير ذلك، وهذا لشدة الحاجة إلى التعوذ منه ولم يأمر بالاستعاذة من النفس في موضع واحد، وإنما جاءت الاستعاذة من شرها في خطبة الحاجة، في قوله صلى الله عليه وسلم: ( ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا .. ) كما تقدم ذلك في الباب الذي قبله.

وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الاستعاذة من الأمرين في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: يا رسول الله علمني شيئاً أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت. قال: ( قل: اللهم عالم الغيب والشهادة ) إلى أن قال: ( أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه ). [إغاثة اللهفان (1/107ـ108)].

وقال سيد قطب رحمه الله:
"وفي أحاديث المعركة التي تصورها القصة بين الإنسان والشيطان، مذكر دائم بطبيعة المعركة، إنها بين عهد الله وغواية الشيطان، بين الإيمان والكفر، بين الحق والباطل، بين الهدى والضلال، والإنسان هو نفسه ميدان المعركة، وهو نفسه الكاسب أو الخاسر فيها، وفي هذا الباب إيحاء دائمٌ له باليقظة وتوجيه دائم له بأنه جندي في ميدان، وأنه هو صاحب الغنيمة أو السلب في هذا الميدان". [في ظلال القرآن: (1/72)].

ومن خبث الشيطان أنه يدرس الإنسان الذي يريد إغواءه دراسة نفسية عميقة حتى يعرف اتجاهاته، فإن رآه مثلاً يميل إلى اللين والرحمة والرأفة، وهي صفات حميدة إذا استعملت في مكانها، حسن له هذا الجانب وتابعه فيه، وبالغ في تعميقه في نفسه، حتى يصل إلى حد الإفراط فيه، فيستعمل هذه الصفات في غير مكانها، إذ قد يكون من الحكمة الشدة في بعض المواضع ولكن الشيطان ينفره من استعمال الشدة ويزين له ما يميل إليه طبعه، فيكون بذلك كأنه غير متصف بتلك الصفات لأنه وضعها في غير موضعها، ووضع في الشئ في غير موضعه جهل وخرق.

وقد يكون عكس ذلك، يميل إلى الشدة، فيحسن له الشدة في كل شئ، فيستعملها في موضع تكون الرحمة هي الجديرة بالاستعمال، فيكون الإنسان في كلتا الحالتين عاصياً وهو يظن أنه مصيب، بسبب تزيين الشيطان له ذلك.

قال ابن تيمية رحمه الله:
"والشيطان يريد من الإنسان الإسراف في أموره كلها، فإن رآه مائلاً إلى الرحمة زيّن له الرحمة، حتى لا يبغض ما أبغضه الله، ولا يغار لما يغار الله منه، وإن رآه مائلاً إلى الشدة، زيّن له الشدة في غير ذات الله، حتى يترك من الإحسان والبر واللين والصلة والرحمة ما يأمر به الله ورسوله ويتعدى في الشدة، فيزيد في الذم والبغض والعقاب، على ما يحبه الله ورسوله، فهذا يترك ما أمر الله به من الرحمة والإحسان وهو مذموم مذنب في ذلك، ويسرف في ما أمر الله به ورسوله من الشدة، حتى يتعدى الحدود، وهو من إسرافه في أمره، فالأول مذنب والثاني مسرف (( والله لا يحب المسرفين )) فليقولا جميعاً: (( ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ))" [مجموع الفتاوى (15/292)].

(141)

الجهاد في سبيل الله المطلب الثاني: محاسبة النفس ومخالفتها
الفرع الثاني: وسائل مجاهدة الشيطان

الوسيلة الأولى:
العلم بخطره ومكره وكونه لا يدعو حزبه إلا لما فيه هلاكهم وخسارتهم، وفيما مضى في هذا البحث تنبيه على ذلك، وعلى المسلم أن يكثر من قراءة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويعلم أن كل خير دعا الله إليه ورسوله صلى الله عليه وسلم مما فيه سعادة المسلم في الدنيا والآخرة، فإن الشيطان يدعو إلى ضده، وسيجد كثيراً من مكر الشيطان وكيده للإنسان.

كذلك على المسلم أن يكثر من قراءة كتب علماء المسلمين، لا سيما الذين عنوا بطب القلوب وعلاجها وبيان أسباب موتها ومرضها، وغير ذلك مما يطول ذكره ويصعب استيعابه.

الوسيلة الثانية:
أن يجاهد المسلم نفسه على أن يسير على صراط الله المستقيم ويكون على حذر من أن يزيغ عنه، لأن الشيطان قد أقسم أنه لا يغادر هذا الصراط، لا ليسلكه ولكن ليضل سالكيه. كما مضى وانظر إلى رحمة الله تعالى بالمسلم، حيث بين له هذا الصراط بياناً شافياً وبين السبل المضلة كذلك، ثم شرع له قراءة سورة الفاتحة في كل ركعة سواء كانت فرضاً أو نفلاً وفيها هذا الدعاء: (( اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين )) [الفاتحة: 6].

الوسيلة الثالثة:
أن يحقق عبوديته لربه سبحانه، فإنه إذا حقق هذه العبودية نجا من عدوه وحال الله بينه وبين الشيطان، لأنه ولي الله والله تعالى لا يجعل لأعدائه إلى أوليائه سبيلاً، قال تعالى: (( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا. قال: أرأيتك هذا الذي كرمت عليّ لئن أخرتنِ إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلاً . قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاءاً موفوراً، واستفزز من استطعت منهم بصوتك، واجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد، وعدهم، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً، إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلاً )) [الإسراء: 61ـ65].

الوسيلة الرابعة:
الاستعانة بالله سبحانه على أداء هذه العبادة، وتحقيق العبودية الكاملة له، فإنه لولا فضله سبحانه ما قدر المسلم على ذلك لكثرة مغريات الشيطان وتهديده وتخويفه، ولذلك جمع الله سبحانه بين إخبار المسلم بأنه يعبده وحده ويستعين به فقال: (( إياك نعبد وإياك نستعين )) وقال تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر، ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً، ولكن الله يزكي من يشاء، والله سميع عليم )) [النور: 21].

الوسيلة الخامسة:
الاستعاذة به سبحانه والتوكل عليه وقوة الصلة به لتقوية الإيمان به، لأن قوة الإيمان به تصد عدو الله عن الطمع في إضلال المؤمن المستعيذ المتوكل على ربه، قال تعالى: (( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون )) [النحل: 98ـ100].

وقال تعالى: (( وإما ينـزغنك من الشيطان نزغٌ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم )) [فصلت: 36].
وقال تعالى: (( قل أعوذ برب الناس.. )) [الناس: السورة].
وقال عن أم مريم: (( وإني سميتها مريم، وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم )) [آل عمران: 36].

الوسيلة السادسة:
أن يتذكر حق ربه عليه، ورحمته به وقدرته عليه، وعذابه الأليم، فإنه من أعظم الأسباب الداعية إلى طرد الشيطان ووساوسه وإضلاله، قال تعالى: (( وإما ينـزغنك من الشيطان نـزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم، إن الذي اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون )) [الأعراف: 200،201].

تأمل قوله تعالى: (( تذكروا فإذا هم مبصرون )) تجد الآية تصور من وسوس لهم الشيطان ودعاهم إلى الضلال كأنهم عمي، ولكنهم إذا تذكروا ذهب العمى عقب التذكرة مباشرة، وانفتح بصرهم، قارن هذا بقوله تعالى: (( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات )) [البقرة: 257].

نعم هذه الآية في الكافرين، وتلك في المؤمنين المتقين، ولكن المعاصي من شعب الكفر، كما أن الطاعات من شعب الإيمان، فالكفر ظلمات كاملة، والكافر أعمى عمىً مطبق، والمعاصي ظلمات، والعاصي يكون في ظلمة بقدر معصيته، فإذا لجأ إلى مولاه، وذكره واستعاذ به انقشعت عنه تلك الظلمة وزال عنه ذلك العمى.

الوسيلة السابعة:
أن يذكر المسلم مواقف الشيطان، بمن يضلهم في الدنيا والآخرة، فإنه قبل استجابة الإنسان لدعوته الضالة، يظهرله النصح والعون والوقوف بجانبه، فإذا استجاب له ضحك عليه وتبرأ منه، كما فعل مع المشركين يوم بدر، قال تعالى عنه: (( وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم، وقال لا غالب لكم اليوم من الناس، وإني جارٌ لكم، فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال: إني برئ منكم، إني أرى ما لا ترون، إني أخاف الله والله شديد العقاب )) [الأنفال: 48].

وقال تعالى: (( كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر، فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين، فكان عقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين )) [الحشر: 16ـ17].

(142)

الجهاد في سبيل الله المطلب الثاني: محاسبة النفس ومخالفتها
تابع لوسائل مجاهدة الشيطان:

ولقد سجل الله لنا في كتابه موقف إبليس من أوليائه يوم القيامة في الوقت الذي يكونون أمام ربهم، قد حاسبهم على أعمالهم وقضى عليهم سبحانه قضاءه العدل، فيندمون على ما فرطوا فيأتي أستاذهم اللعين ليزيدهم ندماً، فيقف بينهم خطيباً مذكراً لهم بأن طاعة الله كانت أولى من طاعته، وأن وعد الله حق ووعده باطل، وأنه لم يكرههم على اتباعه، وإنما دعاهم فاستجابوا له، وأنه في هذا اليوم لا أحد يقدر على نصر أحد، وأن عبادتهم إياه ما كانت إلا باطلاً، ولذلك فهو يكفر بها، قال تعالى: (( وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم، وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي، فلا تلوموني ولوموا أنفسكم، ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي، إني كفرت بما أشركتمونِ من قبل، إن الظالمين لهم عذاب أليم )) [إبراهيم: 22].

الوسيلة الثامنة من وسائل مجاهدة الشيطان:
أن يقارن الإنسان بين ما يعد الله به ويأمر به، وما يعد به الشيطان ويأمر به، قال تعالى: (( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم )) [البقرة: 268].

فالشيطان يعد الفقر ويأمر بالفحشاء، والذي يخاف الفقر يكون بخيلاً شحيحاً لا ينفق من ماله ما يجب أن ينفقه، والذي يفعل الفحشاء يكون بذلك بعيداً عن طاعة الله ورضاه، أما الله سبحانه وتعالى فإنه يأمر بالطاعة والابتعاد عن المعصية، ويعد على ذلك المغفرة، ويأمر سبحانه بالإنفاق، في سبيله ويعد المنفق المزيد من الرزق، فأين هذا من ذاك؟ [انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/321].

الوسيلة التاسعة: أن يملأ المسلم قلبه بخوف الله تعالى.
فإنه إذا امتلأ قلبه بخوف الله، لم يجد الشيطان وأولياؤه إلى قلبه سبيلا،ً لا بخوف منه ولا برغبة فيما عندهم، قال تعالى: (( إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه، فلا تخافوهم وخافونِ إن كنتم مؤمنين )) [آل عمران: 175].

الوسيلة العاشرة:
أن يوطن نفسه دائماً على مخالفة الشيطان، في كل ما يدعو إليه أو يوسوس به، بل ويفكر في كل عمل يقدم على فعله، أو يعزم على تركه، ويعرض ذلك على شرع الله ليعلم أهو مما يرضي الله أم مما يرضي الشيطان، فإن كان مما يرضي الله فِعلُه أقدم على فعله وإن كان مما يرضي الله ترْكُه تَرَكه، وإن كان الفعل أو الترك مما يرضي الشيطان، خالف ما يرضي الشيطان وأقدم على ما يرضي الله تعالى، فإن المعركة مع الشيطان تقتضي منه ذلك، حتى يكون ولياً لله لا للشيطان.

قال سيد قطب رحمه الله:
"وشعور الإنسان بأن الشيطان عدوه القديم هو الذي يأمر بهذا الشرك وتوابعه من الشعائر الوثنية، يثير في نفسه ـ على الأقل ـ الحذر من الفخ الذي ينصبه العدو، وقد جعل الإسلام المعركة الرئيسية بين الإنسان والشيطان، ووجه قوى المؤمن كلها لكفاح الشيطان والشر الذي ينشئه في الأرض، والوقوف تحت راية الله وحزبه في مواجهة الشيطان وحزبه، وهي معركة دائمة لا تضع أوزارها، لأن الشيطان لا يمل هذه الحرب التي أعلنها منذ لعنه وطرده، والمؤمن لا يغفل عنها ولا ينسحب منها، وهو يعلم أنه إما أن يكون ولياً لله وإما أن يكون ولياً للشيطان وليس هنالك وسط، والشيطان يتمثل في نفسه وما يبثه في النفس من شهوات ونزوات، ويتمثل في أتباعه من المشركين وأهل الشر عامة والمسلم يكافحه في ذات نفسه، كما يكافحه في أتباعه.

معركة واحدة متصلة طوال الحياة، ومن يجعل الله مولاه فهو ناجٍ غانم، ومن يجعل الشيطان مولاه فهو خاسر هالك (( ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً )) [في ظلال القرآن: 5/211].

وكما حذر القرآن من الشيطان ودعا إلى جهاده ومخالفته، وبين الأدوية النافعة لطرده فإن السنة كذلك مملوءة بالتحذير منه وبجهاده ومخالفته وبيان ما يصده عن إضلال المؤمن، وقد أورد الإمام البخاري كثيرة تحت عنوان: باب صفة إبليس وجنوده. [الفتح: 6/334]. هذه بعضها:

عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على عقدة مكانها: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها، فأصبح نشطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان ) [البخاري رقم 3269].

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم رجل نام ليلته حتى أصبح، قال: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه ) [البخاري رقم 3270].

عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي  قال: (أما إن أحدكم إذا أتى أهله وقال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فرزقا ولداً لم يضره الشيطان ) [البخاري 3271].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين ) [البخاري 3277].

وعن سليمان بن صردَ قال: كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم، ورجلان يستبان، فأحدهما احمر وجهه وانتفخت أوداجه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد ) فقالوا له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعوذ بالله من الشيطان )، فقال: (وهل بي جنون؟ ) [البخاري رقم 3282].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة فقال: ( إن الشيطان عرض لي فشد عليّ بقطع الصلاة عليّ فأمكنني الله منه ) [البخاري رقم 3284].

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط، فإذا قضي أقبل، فإذا ثوب بها أدبر، فإذا قضي أقبل، حتى يخطر بين الإنسان وقلبه) فيقول: ( اذكر كذا وكذا، حتى لا يدري أثلاثاً صلى أم أربعاً، فإذا لم يدر ثلاثاً صلى أو أربعاً سجد سجدتي السهو ) [البخاري رقم 3285].
وهذه الأحاديث كلها في فتح الباري (6/334)، وما بعدها..
والأحاديث المذكورة واضحة في بيان خطر الشيطان ومكره، وما يجاهد به من الطاعة لله وذكره تعالى والمخالفة لعدوه.

كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل