بسم الله الرحمن الرحيم

المبحث الرابع والخامس: جهاد التقليد و جهاد الأسرة ( 148 -149)

(148)

المبحث الرابع: جهاد التقليد
المقصود بالتقليد هنا التعصب الأعمى أي: اتباع فرد أو جماعة، اتباعاً مطلقا في الحق والباطل على السواء، والوقوف ضد كل مذهب لا يأتي من قبل ذلك الفرد أو تلك الجماعة حقاً كان أم باطلاً، وهذا هو الذي سار عليه أعداء الله الكافرون في كل الأزمان، حيث يتبعون ما جاء عن آبائهم الأقدمين وأعيانهم المعاصرين رافضين ما جاء به الأنبياء والمرسلون.

كما قال تعالى عنهم: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون، قال: أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم، قالوا: إنا بما أرسلتم به كافرون، فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين) [الزخرف: 23ـ25].

وقال تعالى: (وإذا قيل اتبعوا ما أنزل الله قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون) [البقرة: 170].

والتقليد المذموم قد يكون تقليداً في الكفر، كما هو واضح من الآيات السابقة، وكما هو حال كثير من أبناء المسلمين في العصور المختلفة، ولا سيما في هذا العصر الذي وجد فيه من ألحد فكفر، وأنكر وجود الله، وما يتبعه من الغيب كالملائكة والكتب الإلهية والجنة والنار، وكما هو حال من يرى أن الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لم يعد صالحاً لهذا الزمان، مفضلاً على ذلك قوانين الكفر القديمة والحديثة، وغير ذلك من أمثال الدعاة إلى تقليد الغرب في كل شئ دون استثناء في الحكم والقانون والأخلاق والاقتصاد والاجتماع والسياسية والصناعة ويرفضون أن يؤخذ النافع وحده كالصناعات ويترك الضار كالأخلاق السيئة وغيرها مما يخالف أصول الإسلام وفروعه. [انظر الاتجاهات الوطنية للأدب المعاصر (2/288) فما بعدها].

وها هي جيوش أبناء المسلمين يقلدون اليهود والنصارى في كل شيء، وينفرون من الإسلام ومبادئه، ويحاربونه حرباً لا هوادة فيها تقليداً لأسيادهم الأصليين.

وقد يكون تقليداً في الفسق والمعاصي التي لا تبلغ حد الكفر، ولكنها بريده كشرب الخمر والزنا وما يدعو إليه، كالسفور والاختلاط ومنكرات وسائل الأعلام المرئية والمسموعة والمقروءة.

وكل ذلك تجب على المسلمين مجاهدته وصده، والْحَوْل بينه وبين أبناء المسلمين، فإن كان في العقائد والأحكام والقوانين وما أشبه ذلك، فإن مجاهدته تكون ببيان فساد ما يخالف الإسلام وإقامة الحجة على ذلك والإقناع بها، وإن كان تقليداً في الفسق والمعاصي كانت مجاهدته كذلك ببيان مضاره ومخالفته للإسلام ووجوب الابتعاد عنه.

فإن نفع ذلك البيان في الأمرين، وإلا كان واجباً على المسلمين أن يقيموا أحكام الإسلام على المقلد، فإن كان تقليداً في الكفر استتيب المقلد، فإن تاب وإلا قتل كما هو المعروف بحكم المرتد.

وإن كان في الفسق والمعاصي، أقيمت على من يستحق الحد وعزر من لم تتوافر فيه شروط الحدود وهكذا.

وهنالك تقليد في الأحكام الفقهية الإسلامية كحال أتباع الأئمة الأربعة.

وهذا التقليد قسمان:
أحدهما:
تقليد مباح وهو أن يتبع المسلم العامي مذهباً من المذاهب الأربعة، بل هو في الحقيقة يقلد أحد علماء المذهب الذي عاصره، فإذا علم أن هذا العالم مشهور بالتقوى والورع وخشية الله تعالى واشتهر بين الناس بعلمه، فإن له أن يقلده، ولكن ينبغي أن يعلم بأن تقليد هذا المذهب أو هذا العالم ليس واجبا عليه، بل إذا عرف عالماً آخر أغزر علما وأكثر ورعا، فإن تقليده له أولى من تقليده لذاك، وعليه أن يعتقد أن هذا التقليد إنما هو لعجزه عن معرفة حكم الله مباشرة لعدم أهليته، لا لأن اتباع ذلك المذهب أو هذا العالم أمر لازم لذاته.

ثانيهما: تقليد مذموم، وهو أن يعتقد المسلم أنه يجب عليه اتباع مذهب معين يتقيد به على كل حال، ولا يجوز له الخروج عنه كما هو رأى أغلب المتمذهبين من أتباع الأئمة الأربعة، ولاسيما الغلاة منهم حيث يقلدون في الصواب والخطأ على السواء دون أن يجتهدوا في معرفة الحكم بدليله الذي يرجحه مع أن كثيراً منهم مؤهلون للبحث والترجيح.

قال ابن تيمية رحمه الله:
(قد ذم الله تعالى في القرآن من عدل عن اتباع الرسل إلى ما نشأ عليه من دين آبائه، وهذا هو التقليد الذي حرمه الله ورسوله، وهو أن يتبع غير الرسول فيما خالف فيه الرسول، وهذا حرام باتفاق المسلمين على كل أحد، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والرسول طاعته فرض على كل أحد من الخاصة والعامة في كل وقت وكل مكان في سره وعلانيته وفي جميع أحواله) [الفتاوى (19/260)].

وقال بعد ذلك:
(وتقليد العاجز عن الاستدلال للعالم يجوز عند ا لجمهور) [المرجع السابق (19/262)].

وقال في موضع آخر:
(ومن نصب شخصاً كائناً من كان فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل فهو (من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً) الآية. [الأنعام: 159].

وإذا تفقه الرجل وتأدب بطريقة قوم من المؤمنين مثل أتباع الأئمة والمشايخ فليس له أن يجعل قدوته وأصحابه هم المعيار فيوالي من وافقهم ويعادي من خالفهم..) [الفتاوى (20/8)].

ومجاهدة هذا التقليد تكون بدعوة أكابر علماء المسلمين من أتباع المذاهب وغيرهم، إلى الاجتماع والتشاور في السبل النافعة المفيدة التي تخفف من حدة التعصب الأعمى، وببيانهم لأتباعهم بأن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هما المرجع والحكم في كل خلاف يحصل بين المسلمين، وأن الأئمة رحمهم الله لم يختلفوا حباً في الخلاف ولا نصب أحد منهم نفسه إماماً ليقلده الناس، وإنما اختلفوا لأسباب تسوغ لهم ذلك الاختلاف، كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالته القيمة: رفع الملام عن الأئمة الأعلام.

قال رحمه الله:
(وأصل الدين أن الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، وليس لأحد أن يخرج عن الصراط المستقيم الذي بعث الله به رسوله، قال الله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله). [الأنعام: 153].

وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خط خطاً وخط خطوطاً عن يمينه وشماله ثم قال: "هذه سبيلي وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل، فتفرق بكم عن سبيله ) الآية. [مجموع الفتاوى (10/388)].

وقد حذر ابن القيم رحمه الله من التقليد المذموم، وبين أنه يخالف الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم،فقال:
(وأما الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم فالقران مملوء به، فرأس الأدب معه كمال التسليم له والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن يحمله معارضة خيال باطل يسميه معقولاً، أو يحمله شبهة أو شكاً أو يقدم عليه آراء الرجال وزبالات أذهانهم، فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان كما وحد المرسِل سبحانه بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل، فهما توحيدان لا نجاة للعبيد من عذاب الله إلا بهما، توحيد المرسِل وتوحيد متابعة الرسول، فلا يحاكم إلى غيره ولا يرضى بحكم غيره، ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه، فإن أذنوا له نفذه وقبل خبره وإلا فإن طلب السلامة أعرض عن أمره وخبره وفوضه إليهم، وإلا حرفه عن مواضعه وسمى تحريفه تأويلاً وحملاً، فقال: نؤوله ونحمله.

فلأن يلقى العبد ربه بكل ذنب على الإطلاق - ما خلا الشرك بالله - خير له من أن يلقاه بهذه الحال... ومن الأدب معه ألا يستشكل قوله بل يستشكل الآراء لقوله، ولا يعارض نصه بقياس، بل تهدر الأقيسة وتتلقى نصوصه، ولا يحرف كلامه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولاً، نعم هو مجهول وعن الصواب معزول، ولا يوقف قبول ما جاء به صلى الله عليه وسلم على موافقة أحد، فكل هذا من قلة الأدب معه صلى الله عليه وسلم وهو عين الجرأة) [مدارج السالكين (2/387،390)].

وقد أفاض رحمه الله في الرد على المقلدين وذم التقليد في كتابه القيم: (أعلام الموقعين عن رب العالمين) في مواضع متفرقة لا سيما في فصل خاص عقده بعنوان: (في عقد مجلس مناظرة بين مقلد وبين صاحب حجة منقاد للحق حيث كان، إذ بلغت أوجه إبطال التقليد أكثر من ثمانين وجها فراجعه) [أعلام الموقعين عن رب العالمين (2/201،279) الناشر مكتبة الكليات الأزهرية].

هذا ومع أنه يجب جهاد التقليد المذموم، ومنه التمذهب المتعصب الجامد، فإنه لا يجوز أن يكون التقليد الفقهي المذهبي مسوغا للخلاف والفرقة كما مضى.

(149)

المبحث الخامس: جهاد الأسرة
ومن أعظم أنواع الجهاد جهاد الأسرة، بتعليم أفرادها أمور دينهم وحثهم على العمل الصالح وحسن الخلق، وطاعة الله ورسوله، والبعد عن المعاصي، كل ذلك بالحكمة واللين والموعظة الحكيمة اللينة، والقدوة الحسنة، وتأديب من يستحق التأديب على مخالفته لشرع الله وآدابه، مع الاستمرار في ذلك وعدم التهاون فيه.

وهذا النوع من أنواع الجهاد شاق وطويل، لأن المجاهد مسئول عن هذه الأسرة في جميع الأوقات، وهي معه في منزله فكل شيء وجب على أي فرد من أفرادها، وجب على المجاهد أن يعلم ذلك الفرد ما وجب عليه، كما أنه كذلك يجب عليه أن يدعو ذلك الفرد إلى العمل بذلك الواجب، وأن يتابعه حتى يطمئن أنه فعله واستمر على فعله.

وإذا لم يفعله فإن عليه أن يزجره ويأمره ويؤدبه بما يليق به، وقد يجب عليه أن يهجره إذا كان الهجر نافعاً، وإذا قصر في شيء من ذلك فإنه مسئول عن تقصيره، معاقب عليه عند ربه سبحانه، ولذلك أمر الله المؤمن أن يقي نفسه نار جهنم ويقي أهله كذلك، فقال سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة، عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) [التحريم: 6].

قال ابن كثير رحمه الله:
وقال مجاهد: (قوا أنفسكم وأهليكم نارا) قال: (اتقوا الله وأوصوا أهليكم بتقوى الله)، وقال قتادة: تأمرهم بطاعة الله وتنهاهم عن معصية الله، وأن تقوم عليهم بأمر الله وتأمرهم به وتساعدهم عليه، فإذا رأيت لله معصية قذعتهم عنها وزجرتهم عنها، وهكذا قال الضحاك ومقاتل حق على المسلم أن يعلم أهله من قرابته وإمائه وعبيده ما فرض الله عليهم وما نهاهم الله عنه، وفي معنى هذه الآية الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها" [تفسير القرآن العظيم (4/391)].

وإذا لم يقم المسلم بجهاد أسرته بحملها على الطاعة وعلى ترك المعصية، فإنه قد يتعرض لقيام الأسرة أو بعض أفرادها بفتنته، إما بوقوعهم في المعصية وسكوته عنهم ثم رضاه بها بعد ذلك، فيكون عاصياً مثلهم ولو لم يقارف المعصية، وإما بحمله على الاستجابة لمطالبهم كلها التي قد يكون منها المحرم الذي لا يجوز له فعله.

ولذلك حذر الله سبحانه المسلم من شر الأسرة ونهاه أن يتلهى بها عن طاعة الله قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله، ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون) [المنافقون: 9].

وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم، وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم، إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم) [التغابن (14/15].

قال ابن كثير رحمه الله في تفسير آية: المنافقين:
(يقول تعالى آمرا لعباده المؤمنين بكثرة ذكره، وناهياً لهم عن أن يشغلهم الأموال والأولاد عن ذلك، ومخبراً لهم بأنه من التلهي بمتاع الحياة الدنيا وزينتها عما خلق له من طاعة ربه وذكره، فإنه من الخاسرين الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة) [تفسير القرآن العظيم (4/373)].

وقال في تفسير آية التغابن:
(يقول تعالى مخبراً عن الأزواج والأولاد أن منهم من هو عدو للزوج والوالد، بمعنى أنه يتلهى به عن العمل الصالح كقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله، ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون ).

ولهذا قال تعالى هنا: (فاحذروهم) قال ابن زيد: يعني على دينكم، وقال مجاهد: (إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم ) قال: يحمل الرجل على قطيعة الرحم أو معصية ربه فلا يستطيع الرجل مع حبه إلا أن يطيعه). انتهى

ومن المشقات التي ينالها المجاهد في هذا الباب، أنه يجب عليه أداء حق الله الذي قد يعاديه عليه بعض أفراد أسرته، وحق أسرته الذي أوجبه الله تعالى عليه، وعليه أن يؤدي هذا وذاك في اعتدال وطاعة لله سبحانه وتعالى، وكثير من الناس إما أن يبالغ في حق الله تعالى ويترك حق الأسرة أو بعض أفرادها، وإما أن يبالغ في إرضاء الأسرة أو بعض أفرادها ويضيع حق الله، والواجب هو اتباع أمر الله وهو قد أمر بطاعته وعدم اتباع غيره فيما يخالف أمره وأمر كذلك بأداء الحقوق وألا يحمله شنآن الأسرة على عدم إعطائها حقها قال تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلى المصير، وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً، واتبع سبيل من أناب إلي، ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ) [لقمان: 14ـ15].

ومن أجل هذه المشقة يجب على المجاهد أن يصبر وأن يحتسب، وأن يسأل الله له العون على تربية أسرته ومجاهدتهم، ولعل شيئا من حكم الحديث الشريف تظهر في هذا السياق، وهو الحديث الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" [الترمذي رقم الحديث 3986، تحفة الأحوذي (10/394) قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح أ.هـ وهو من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم].

فكونه صلى الله عليه وسلم جعل التفاضل بين المسلمين تابعاً لتفاضلهم في معاملة الأهل، يدل على أن الناجح مع أهله رجل عظيم، لأنه لا يكون كذلك إلا إذا أدى كل واجباته من تعليم وتربية وزجر عن معصية الله، وصبر وتحمل على ما يناله من مشقات في سبيل ذلك، مضافاً إلى ذلك طول الصحبة واستمرارها، لأنهم في منزله أو قريبون منه.

فإذا كان المجاهد يعيش في محيط يغلب فيه الفساد والمفسدون في المدارس والجامعات والأندية والمحافل والأسواق وفي المسكن وأماكن العمل وغير ذلك، فإن مشقته تتضاعف، لأن الأسرة لا بد محتكة بالمحيط الفاسد عالق بها شيء منه قل أم كثر، والنفوس تميل إلى التقليد والمحاكاة أو التنافس والمجاراة، فكيف إذا توافرت مع ذلك وسائل الاتصال السمعية والبصرية والسفرية، وكانت الأرض ماخوراً للفساد والشر، فإن الأسرة عندئذ ستكثر أمامها أبواب الفساد في داخل البلاد، بل في داخل البيت عن طريق الأفلام التلفازية والسينمائية والإذاعية، والمجلات المنحطة والجرائد والهاتف والسيارات والطائرات، وهكذا في خارج البلاد لمن يتمكن من الأسفار، وسيكون المجاهد في كل ذلك كمن يسبح ضد التيار، وأن أعداء الله ليعز عليهم أن يروا أسراً نظيفة طاهرة متجهة إلى الخالق سبحانه بعيدة عن المستنقعات الآسنة.

ولذلك تراهم يترصدون لتلك الأسر أو بعض أفرادها، بكل الوسائل ليخرجوهم من النور إلى الظلمات، إما بالعقائد الفاسدة والمذاهب الهدامة، وإما بالشهوات والمحرمات وإما بذلك كله.

وها هي الأرض الآن يرى فيها الابن الفاسق أو الكافر، والبنت الفاجرة والأخ المستهتر المتمرد، لأب صالح وأم طاهرة وأخ ناسك، لا بل أنك لترى الأب والأم والعم والخال وقد يكون الجد والجدة، وكلهم ملحدون أو فاسقون فجار، لابن صالح.

وعلى المجاهد في كل ذلك ألا يكل ولا يمل ولا يفتر، ولا ييأس لأنه ناجح إما بثواب الله وهداية أسرته، وإما بثواب الله وحده، وأمر أسرته إلى ربه، لأنه تعالى أعلم حيث يجعل هدايته، وعليه أن يتأسى إذا فشل في هداية الأسرة أو بعض أفرادها بنوح عليه السلام، أول رسول بعثه الله إلى الناس في الأرض حيث كان ابنه في حزب أعداء الله الكافرين وكذلك زوجته، وبإبراهيم حيث كان أبوه ألد أعدائه عليه، وبلوط حيث كانت زوجته من أعدائه، وبامرأة فرعون حيث كانت صالحة وزوجها من أكبر أعداء الله الكافرين، وبمحمد صلى الله عليه وسلم الذي كان عمه أبو لهب يسبه وينفر الناس من دعوته، بل إن عمه أبا طالب الذي أحاطه وحماه مات على كفره وكان صلى الله عليه وسلم يتمنى لو مات على كلمة التوحيد. (إنك لا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء، وهو أعلم بالمهتدين ) [القصص: 56].

هذا ولو أن أرباب الأسر جاهدوا في إصلاح أسرهم، لكانت مجتمعات المسلمين مجتمعات صالحة متماسكة طاهرة، لأن الأسر تتكون من الأفراد والمجتمعات تتكون من الأسر.

وكل تقصير في جهاد إصلاح الأسرة، يصيب ضرره الأسر الأخرى، وإثم التقصير وإثم ضرره الذي يصيب الأسر الأخرى يتحمله المقصر ويكون عليه وزره إلى يوم القيامة، فكيف بمن سعى في إفساد أسرته وأسر الآخرين بما يملكه من وسائل الإفساد والتدمير؟!

(وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم، وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون) [العنكبوت: 13].

كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل