بسم الله الرحمن الرحيم

المبحث السادس: جهاد الدعوة إلى الله (150 - 151)

(150)

المبحث السادس: جهاد الدعوة إلى الله

إن المسلم الذي ينعم الله عليه بالفقه في الدين والعمل به في نفسه، ويوفقه لتربية أسرته على مبادئه وأحكامه وأخلاقه، فيذوق حلاوته وينعم بهديه، إن هذا المسلم لا ينبغي أن يستقر له قرار حتى يسعى جاهداً في تبليغ هذا الدين إلى الآخرين، ليتمتعوا به، كما تمتع به هو وأسرته وتطمئن به قلوبهم وأنفسهم كما اطمأن به.

وهل يظن عاقل في الأرض أن رجلاً عاقلاً سليم الفطرة أعمى البصر، له زملاء عمي الأبصار، ثم تيسر له من قام بعلاجه، فأنعم الله عليه بنعمة الإبصار، فرأى عجائب هذا الكون، من سماوات وأرض وحيوان ونبات وجبال وأنهار وغير ذلك مما لم يكن يتوقع أن يراه يوما من الأيام.

هل يظن عاقل في الأرض أن يتردد هذا الرجل الذي أبصر بعد عمى، في أن يدل زملاءه العُمْيَ على ذلك الطبيب ليعالجوا أنفسهم عنده، فينعموا بما نعم به هو؟ كلا.

وهكذا فإن المؤمن الذي ذاق حلاوة الإيمان واستظل في ظلال الإسلام، لا يمكن أن يقر له قرار أو تطمئن نفسه، إلا إذا بلَّغ الناسَ هذا الدين، وشرح لهم محاسنه، وبين لهم مفاسد الكفر وأخذ بأيديهم إلى جنات النعيم.
قال تعالى: (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين) [فصلت: 33].

ولهذا كان الرسل الذين بعثهم الله للدعوة إليه، يجاهدون غاية الجهاد لتبليغ الناس دينَ الله وتحبيبه إليهم، وتنفيرهم من الكفر به، وتخويفهم عذاب ربهم إن هم بقوا على كفرهم: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) [النحل: 36].

والقرآن الكريم مليء بدعوة الرسل وجهادهم في ذلك، من نوح إلى محمد صلى الله عليهم وسلم، والمقام مقام تنبيه على نوع من أنواع الجهاد واضح وهو لا يحتمل التفصيل.
إلا أنه لا بد من الإشارة إلى ما عاناه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجهاد في سبيل نشر الدعوة.

قال ابن كثير رحمه الله:
(قال ابن إسحاق ثم قدم مكة وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه، إلا قليلاً مستضعفين ممن آمن به، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه في المواسم - إذا كانت - على قبائل العرب، يدعوهم إلى الله عز وجل ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين عن الله ما بعثه به) [البداية (3/138].

وبينما كان صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس في المواسم ويدعوهم إلى الله،كانت قريش تحاول صده بكل وسيلة: وسيلة الإغراء بالسيادة والملك، ووسيلة المال، ووسيلة التشكيك في صحة عقله صلى الله عليه وسلم، فقد جاءه وفد منهم فخاطبوه قائلين:
"فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك.... بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه، أو نعذر فيك."

فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بي ما تقولون ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل علي كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت، لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر على أمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم ") [سيرة ابن هشام ـ الروض الأنف (3/123)].

وعندما لم ينفعهم الإغراء، اتبعوا وسيلة التهديد والإيذاء، ولكنهم أيضا باءوا بالفشل كذلك، لأن الرسالة أعظم من أن ينحني صاحبها أمام أي وسيلة، وهكذا كان رجال الدعوة أيضا يقومون بتبليغ رسالة الله، وينالهم ما ينالهم وهم صامدون لا يلتفتون يسرة ولا يمنة عن صراط الله المستقيم.

فهذا أبو ذر الغفاري رضي الله عنه، يفد إلى مكة ليلتقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتدسس حتى يلقاه ويسمع منه، فيسلم وتتحرك مشاعر لا إله إلا الله محمد رسول الله في نفسه، في نفس اللحظة التي نطقت بها لسانه، فخرج إلى مجتمع قريش وهو رجل غريب بينهم بعيد الدار والقبيلة، فصدع بكلمة التوحيد ونال ما نال من الأذى في سبيل الله، ثم عاد مرة أخرى مستعذباً صراخه بها بين أعداء الله وإيذاءهم إياه في سبيلها.

كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما – وفيه -: "حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل معه -أي مع علي رضي الله عنه- فسمع من قوله وأسلم مكانه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارجع إلى قومك فاخبرهم حتى يأتيك أمري).
قال: "والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم قام القوم فضربوه حتى أضجعوه، وأتى العباس فأكب عليه، قال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأنه طريق تجارتكم إلى الشام؟ فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها فضربوه وثاروا إليه فأكب العباس عليه.. " [البخاري رقم 3861، فتح الباري (7/173) ومسلم (4/1923)].

ما سبب هذه السرعة في الصدع بـ(لا إله إلا الله) بين ظهراني المشركين، من رجل دخل تواً في الإسلام، غريبَ الديار بعيدا عن الناصر من القبيلة، ولم يؤمر بما فعل من قِبَلِ الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إنه صلى الله عليه وسلم أمره بالرجوع إلى قبيلته لإخبارهم بالإسلام، حتى يأتيه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه بمجرد إبصاره شمس الإسلام، أخذ يصرخ في العميان ليبصروها كما أبصرها.

هذا هو المسلم الحق الذي لا يقر له قرار، حتى يدعو إلى إسلامه الضالين، دون مبالاة بما يناله منهم، لشدة رغبته في هدايتهم وإشفاقه عليهم، ورجائه ثواب الله على جهاد دعوته.

(151)

تابع لجهاد الدعوة
ومن أعظم أنواع جهاد الدعوة نصح زعماء المسلمين، لا سيما أهل الجور منهم الذين يستضعفون الناس ويظلمونهم ويستبدون بالأمر دونهم، فإن في نصحهم مخاطرة لا يقدم عليها إلا ذوو العزم من الرجال الذين بذلوا نفوسهم لله سبحانه، إذ قد يتعرض الناصح لأذاهم من سجن وتعذيب، بل وقتل وانتهاك عرض واغتصاب أموال وغير ذلك.

وهذا دأب أمراء السوء الذين لا يتقيدون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا جاء عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر) أو (أمير جائر) [أبو داود (4/514)]. والترمذي: [4/471] وقال: " وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"

قال الإمام الغزالي رحمه الله:
(ولما علم المتصلبون في الدين أن أفضل الكلام كلمة حق عند سلطان جائر، وأن صاحب ذلك إذا قتل فهو شهيد، كما وردت به الأخبار قدموا على ذلك موطنين أنفسهم على الهلاك، ومحتملين أنواع العذاب وصابرين عليه في ذات الله، ومحتسبين لما يبذلونه من مهجهم عند الله) [إحياء علوم الدين (2/343)].

وعلى المجاهد في سبيل الله - إذا وقف أعداء الله في طريق دعوته، ولم يستجيبوا له، ومنعوه من إبلاغ الدعوة إلى الناس جهراً - عليه أن يسلك بدعوته مسلك الدعوة السرية في تربية الرجال المستجيبين، وإعدادهم بعيداً عن أعين الصادين المكابرين، حتى لا يشعروا بتربيته وإعداده، قبل أن تنتشر دعوته في صفوف المستجيبين له انتشاراً يجعل أعداء الله عاجزين عن الوقوف في وجهها، بل ليجعل دعاة الخير قادرين على القضاء على أعداء الله وتشتيت شملهم وإسقاط عروشهم، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان يدعو قريشا ويؤذى في سبيل الله ويمتحن هو وأصحابه، ولكنه يعد جنود الجهاد في صمت وسكوت.

قال ابن القيم رحمه الله:
"وقال أبو الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لبث عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في الموسم ومجنة وعكاظ: من يؤمنني ومن يؤويني ومن ينصرني حتى أبلغ رسالات ربي فله الجنة؟ فلا يجد أحداً ينصره ولا يؤويه، حتى إن الرجل ليرحل من مصر أو اليمن إلى ذي رحمه فيأتيه قومه فيقولون له: احذر غلام قريش لا يفتنك، ويمشي بين رجالهم يدعوهم إلى الله وهم يشيرون إليه بالأصابع حتى بعثنا الله من يثرب، فيأتيه الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام، وبعثنا الله إليه فأتمرنا واجتمعنا وقلنا: حتى متى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف؟
فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم، فواعدنا بيعة العقبة فقال له عمه العباس: يا ابن أخي ما أدري ما هؤلاء القوم الذين جاءوك؟ إني بمعرفة بأهل يثرب، فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين، فلما نظر العباس في وجوهنا قال هؤلاء قوم لا نعرفهم هؤلاء أحداث.

فقلنا يا رسول الله علام نبايعك؟ قال: "على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على أن تقوموا في الله لا تأخذكم لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة" [زاد المعاد (2/56)].

ولقد ضاق مفهوم الدعوة عند كثير من الناس، فأصبحوا لا يفهمون منها إلا أنها وعظ وإرشاد في المساجد أو في الاجتماعات الطارئة، أو توزيع بعض الكتب والرسائل....
وهذا لا شك من الدعوة إلى الله، وكان يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم، كما مضى من عرضه نفسه على الناس في المواسم، وكذلك بعثه الكتب إلى الملوك والرؤساء يدعوهم فيها إلى الله تعالى، ولكن ذلك كما مضى جزء من وسائل الدعوة وليس كل وسائلها.

ومن تأمل سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، علم أنه كان يتخذ لكل موقف ما يناسبه في دعوته، فإذا كان الموقف يستدعي الحجة والبرهان أعطاه الحجة والبرهان، وإذا كان الموقف يقتضي الموعظة الحسنة أدى ذلك في ذلك الموقف.

ولكنه عليه السلام كان يعلم أن ذلك لا يكفي وحده في كل المواقف، لأن أعداء الله لا يمكن أن يقفوا عن معارضة الدعوة وصد الدعاة وإيذائهم، وأنهم لو قدروا على القضاء عليهم، لما ترددوا في ذلك لحظة من اللحظات، ولذلك كان يواجه تلك المواقف كلها بما يكافئها، وكان في الوقت الذي لا يقدر على المواجهة يعد رجاله للقوة والمبارزة، كما مضى فيما ساقه ابن القيم قريباً عن جابر.

وقال سيد قطب رحمه الله، في قوله تعالى: ((ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)): "هذا هو منهج الدعوة ودستورها، ما دام الأمر في دائرة الدعوة باللسان والجدل بالحجة، فأما إذا وقع الاعتداء على أهل الدعوة فإن الموقف يتغير، فالاعتداء عمل مادي يدفع بمثله، إعزازاً لكرامة الحق ودفعاً لغلبة الباطل، على ألا يتجاوز الرد على الاعتداء حدوده إلى التمثيل والتقطيع.

فالإسلام دين العدل والاعتدال، ودين السلم والمسالمة، إنما يدفع عن نفسه البغي ولا يبغي: ((وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به)) وليس ذلك بعيداً عن دستور الدعوة فهو جزء منه.

والدفع عن الدعوة في حدود القصد والعدل، يحفظ لها كرامتها وعزتها، فلا تهون في نفوس الناس، والدعوة المهينة لا يعتنقها أحد، ولا يثق أنها دعوة الله، فالله لا يترك دعوته مهينة لا تدفع عن نفسها، والمؤمنون بالله لا يقبلون الضيم وهم دعاة لله، والعزة لله جميعاً، ثم إنهم أمناء على إقامة الحق في هذه الأرض، وتحقيق العدل بين الناس، وقيادة البشرية إلى الطريق القويم، فكيف ينهضون بهذا كله وهم يعاقَبُون فلا يعاقِبُون؟ ويُعتَدى عليهم فلا يردون..؟" [في ظلال القرآن (14/2202) الآية من سورة النحل126].

ولعل هذا القدر يكفي في الجهاد المعنوي، وفيما ذكر دلالة على ما لم يذكر.
ولننتقل من القسم الأول من أقسام الجهاد، وهو الجهاد المعنوي، إلى الجهاد العسكري: جهاد القتال.

القسم الثاني: الجهاد العسكري

كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل