بسم الله الرحمن الرحيم

أقوال العلماء في كثرة العدو وقلة المسلمين  (12)

( 12 )
 أقوال العلماء في كثرة العدو وقلة المسلمين

كان المسلمون في مبدأ الأمر مأمورين أن يقف الواحد منهم أمام عشرة من الكفار ، وإذا فر في هذه الحالة اعتبر آثما ، ثم خفف الله عنهم بعد ذلك ، فأجاز لهم الفرار من العدو إذا زاد عدده عن ضعفهم ، وأوجب على الواحد منهم الوقوف أمام الاثنين ، لقول الله تعالى : ) يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون ( [ الأنفال 65-66 ]
وللعلماء في هاتين الآيتين رأيان :
الرأي الأول : أن آية الضعف ناسخة للآية التي قبلها ، فيجب على المسلم أن يقف أمام اثنين من الكفار ، ويجوز له الفرار من أكثر م نذلك . ويرى بعض العلماء أن ذلك جائز ، ولكن ليس من قبيل نسخ الآية الثانية للأولى ، وإنما هو من باب التخفيف للحكم .
الرأي الثاني : أن ذكر العدد في الآيتين ليس مقصودا لذاته ، وأن المسلمين إذا وقفوا في الصف لقتال الكفار ، فليس لهم حق الفرار من العدو والتولي عن الزحف مطلقا ، واستدلوا بنهي الله سبحانه عن أن يولي المسلمون عدوهم أدبارهم ، وبحديث أبي هريرة الذي مضى ذكره قريبا ، وفيه عد الرسول صلى الله عليه وسلم التولي يوم الزحف من الموبقات .
قالوا : وآخر الآية التي ادُّعِيَ نسخُها ، وهو قوله تعالى : ) بأنهم قوم لا يفقهون ( يدل على أن انتصار المؤمنين على الكافرين هو بسبب حسن قصدهم واعتمادهم على ربهم ، لأنهم يقاتلون في سبيل الله ، راجين نيل رضاه وإعلاء كلمته والفوزز بالشهادة في سبيله ، وهم بهذا الفقه يقدمون الموت على الحياة ، والله معهم وناصرهم على عدوهم ، بخلاف أعدائهم الكافرين – مهما كثر عددهم – فليس عندهم فقه يجعلهم يثبتون في المعركة ثبات المؤمنين ، والثبات من أهم أسباب النصر ، والله تعالى في صف عباده المؤمنين ، فكثرة الكفار لا تنفعهم ، وقلة المؤمنين لا تضرهم إذا ثبتوا .
وقد أثبتت التجارب التاريخية انتصار العدد القليل الثابت من المؤمنين على العدد الكثير من عدوهم ، كما نص الله تعالى على ذلك في قوله تعالى : ) كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ( [ البقرة 249 ]
ومن ذلك ما حصل في معركة بدر ، حيث كان عدد الكافرين ألفا ، وعدد المسلمين ثلاثمائة يزيد قليلا .
من ذلك ما حصل في معركة مؤتة ، حيث كان عدد المسلمين ثلاثة آلاف مقاتل ، وعدد عدوهم من الروم مائتا ألف .
ومن ذلك ما حصل لجيش طارق بن زياد في الأندلس ، حيث كان عدد المسلمين سبعمائة وألف مقاتل ، وعدد جيش العدو سبعون ألف مقاتل .
وعلى هذا الرأي ابن حزم رحمه الله الذي حمل – كعادته - على من ادعى نسخ الآية الأولى بالثانية وأنه يفهم منها جواز الفرار من العدو الكثير العدد ، فقال : " وأما الآية فلا تعلق لهم فيها ، لأنه ليس لهم فيها نص ولا دليل بإباحة الفرار من العدد المذكور ، وإنما فيها أن الله تعالى علم أن فينا ضعفا ، وهذا حق إن فينا لضعفا ، ولا قوي إلا وفيه ضعف بالإضافة إلى ما هو أقوى منه ، إلا الله تعالى وحده ، فهو القوي الذي لا يضعف ولا يغلب . وفيها أن الله تعالى خفف عنا ، فله الحمد ،وما زال تعالى ربنا رحيما بنا يخفف عنا في جميع الأعمال التي ألزمنا ، وفيه أنه إن كان منا مائة صابرون يغلبوا مائتين ، وإن يكن منا ألف يغلبوا ألفين بإذن الله ، وهذا حق ، وليس فيه أن المائة لا تغلب أكثر من مائتين ولا أقل أصلا ، بل قد تغلب ثلاثمائة ، نعم وألفين وثلاثة آلاف ، ولا أن ألفا لا يغلبون إلا ألفين فقط ، لا أكثر ولا أقل . ومن ادعى هذا في الآية فقد أبطل وادعى ما ليس فيها منه أثر ولا إشارة ولا نص ولا دليل . بل قد قال عز وجل : ) كم من فئة قبيلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ( فظهر أن قولهم لا دليل عليه أصلا .
ونسألهم عن فارس شاكي السلاح قوي لقي ثلاثة من شيوخ اليهود الحربيين هرمى ، مرضى ، رجالة ، عزلا ، أو على حمير ، أله أن يفر عنهم ؟ لئن قالوا : نعم ليأتُنَّ بطامة يأباها الله والمؤمنون وكل ذي عقل ، وإن قالوا : لا لَيَتْرُكُنَّ قولهم " [ المحلى 7/292-293 ]
ويرد على هذا الرأي إشكال ، وهو أن المسلمين قد يرون – أحيانا أن لا طاقة لهم بقتال الكفار ذوي الكثرة العَدَدِية ، أو القوة العُدَدِية ، فما ذا يفعلون ؟ إذ وقوفهم أمام عدوهم قد يكون فيه استئصالهم ، وفيه تكليفهم بما لا يطاق ، وهو خلاف شرع الله ، وإن فروا كانوا آثمين متولين عن الزحف ، وهو كذلك تكليف بما لا يطاق .
والجواب : أن الله تعالى قد جعل لهم مخرجا باتباع أحد أمرين :
الأمر الأول : التحيز إلى فئة منهم ولو بعدت كما مضى . وهذا يشمل رجوع المجاهدين إلى إمام المسلمين لطلب النجدة
الأمر الثاني : التحرف للقتال . وهو الانتقال من مكان إلى مكان آخر يمكنهم فيه التحصن و الثبات ، ولو ولوا العدو أدبارهم في الظاهر ، لأنهم إنما يفعلون ذلك ليتمكنوا من الثبات والمصابرة والمغالبة .
فلا يبقى عذر للمسلم أن يفر من عدوه بدو نية هذين الأمرين . [ راجع بدائع الصنائع 9430 والمحلى 7292 ]
وهذا الرأي قوي ، وهو اللائق بعزة المسلم واستبساله واعتماده على ربه .
وقد يشكل عليه كون الآية كون آية التخفيف قد حدد فيها العدو المغلوب بمائتين ، وعدد المسلمين الغالبين مائة ، وهكذا ألف من المسلمين يغلب ألفين من الكافرين بنسبة واحد إلى اثنين ، والآية التي قبلها فيها مائة تقابل ألفا ، بنسبة واحد إلى عشرة ، مما حمل بعض المفسرين – وعلى رأسهم الإمام ابن جرير – على القول بالنسخ . [ راجع جامع البيان عن آي القرآن 10/41 ] .
ويمكن أن يجاب عن ذلك بما يأتي :
الأول : حمل ذكر العدد على أقصى ما يستطيع المسلمون الثبات أمامه ، سواء في كثرة عدده أو عدده ، مع مراعاة الترف والتحيز المذكورين .
الثاني : حمل الآية الأولى ) إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ( على حال قوة المسلمين ، والآية الثانية : ) فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين … ( على حال ضعفهم .
فهنا حالتان : حالة قوة يثبت فيها الواحد من المسلمين لعشرة من الكفار .
وحالة ضعف يثبت فيها الواحد من المسلمين لاثنين من الكفار . فهو تخفيف وليس بنسخ . [ راجع روح المعاني 10/31 ، في ظلال القرآن 10/1550 ]
الثالث : حمل الآية الأولى على الندب ، وحمل الآية الثانية على الوجوب [ راجع تفسير المنار 10/93 ]
والذي يظهر هو الرأي الثاني الذي قواه ابن حزم رحمه الله . وقد سبق إيراد الإشكال عليه والجواب عنه . والله أعلم .

كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل