بسم الله الرحمن الرحيم

الأعذار التي تبيح التخلف عن الجهاد في سبيل الله (13-20)

( 14 )
=== الأعذار التي تبيح التخلف عن الجهاد في سبيل الله ===

مقدمة
لم يكلف الله تعالى الناس هذا الدين لإنزال الحرج بهم ، أو تحميلهم مالا يطيقون من الأعمال ، بل كلفهم الله هذا الدين رحمة بهم ، ولإتمام نعمته عليهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور ، كما قال تعالى : ) ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون ( [ المائدة 6 ] وقال تعالى : ) الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( [ البقرة 257 ]
وقد مضى أن الجهاد معناه بذل الجهد والطاقة والوسع ، فما لم يكن داخلا في جهد الإنسان وطاقته ووسعه لا يكلفه الله إياه ، وقد نفى الله عن المؤمنين الحرج في سياق أمرهم بالجهاد بمعناه الشامل الذي يتضمن كل أنواعه ، كما قال تعالى : ) وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ( [ الحج 78 ]
وكل نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله فيه حرج ، على الفرد أو الأمة ، فإن تكليفهم إياه منتف عنهم .
قال تعالى : ) لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ( [البقرة 232 ، الأنعام 152 ]
وقال تعالى : ) لا تُكَلَّف نفس إلا وسعها ( [ البقرة 232 ]
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : ) لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير ( [ البقرة 284 ]
قال : فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم بركوا على الكب ن فقالوا : يا رسول الله ، كلفنا من الأعمال ما نطيق : الصلاة والصيام والجهاد والصدقة ، وقد أنزلت عليك هذه الآية ، ولا نطيقها . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا ؟ ( بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ( [ في سورة البقرة 93 : ) قالوا سمعنا وعصينا ( وفي سورة النساء 46 : ) ويقولون سمعنا وعصينا ( قالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير . فلما اقترأها القوم ذلت بها ألسنتهم ، فأنزل الله في إثرها : ) آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ( [ البقرة 285 ]
فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى ، فأنزل الله عز وجل : ) لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ( قال : نعم ) ربنا ولا تحملنا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ( قال : نعم ) ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ( قال : نعم ) واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ( قال نعم . [ الآية من سورة البقرة 286 ] والحديث في صحيح مسلم 1/116 ]
والقائل : " نعم " هو الله تعالى يحكيه عنه الرسول صلى الله عليه وسلم . ومعناه : استجبتُ دعاءكم ، فلا تؤاخذون بما نسيتم أو أخطأتم ، ولا تحملون إصرا ، ولا تُحَمَّلون ما لا طاقة لكمم به ، وسأغفر لكم وأرحمكم ، وأنصركم على القوم الكافرين .
وفي رواية لابن عباس : " قال : قد فعلت " مكان " نعم " التي في رواية ابي هريرة .
بل إن الله تعالى نهى عباده على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، أن يأتوا من الأعمال ما يشق عليهم ، كما في حديث ابي هريرة رضي الله عنه : ( إياكم والوصال ) قالوا : فإنك تواصل يا رسول الله ، قال : ( إنكم لستم في ذلك مثلي غني أبيت يطعمني ربي ويسقيني ، فاكلفوا من الأعمال ما تطيقون ) [ البخاري مع فتح الباري 4/ 206 ومسلم 2/774 ]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " الأمر والنهي الذي يسميه العلماء : [ التكليف الشرعي ] هو مشروط بالممكن من العلم والقدرة ، فلا تجب الشريعة على من لا يمكنه العلم ، كالمجنون والطفل ن ولا تجب على من يعجز ، كالأعمى والأعرج والمريض في الجهاد ، وكما لا تجب الطهارة بالماء والصلاة قائما ، وغير ذلك على من يعجز عنه " [ مجموع الفتاوى 10/344 ]
وهذا المعنى واضح في كثير من الكتاب والسنة .
وسبق أن الجهاد فرض كفاية ، وقد يكون فرض عين في بعض الأحوال .
وهناك أعذار تسقط عن صاحبها وجوب مباشرة الجهاد ، سواء كان النفير عاما أم لا ، وأعذار أخرى تسقطه إذا لم يكن فرض عين ، وسيأتي الكلام على هذه الأعذار في الفقرة الآتية .

( 15 )
 الكفر مانع من صحة العبادة ، وليس بعذر

الكفر لا يعتبر عذرا يسقط التكليف بالعبادة عن الكافر ، وإنما هو مانع عن صحة الأداء ، بمعنى أنه لا يترتب على أداء الكافر أيَّ عبادة إسقاط فريضة وقبول عمل و ثواب ،كما قال تعالى : ) وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ( [ القرقان 23 ]
ويبحث علماء أصول الفقه هذا الموضوع في مبحث : هل يخاطب الكافر بفروع الشريعة ؟
وهذا يشمل جميع الأعمال التي يؤديها الكافر ، ظنا منه أنها تنفعه عند الله ، ولو كانت من أعمال البر ، كالصدقة وبر الوالدين وغيرها ، لأن الإيمان أساس لقبول الأعمال وترتب الأجر والثواب عليها ، ولهذا قيد الله دخول من عمل صالحا الجنة بكونه مؤمنا ، كما قال تعالى : ) ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فألئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ( [ النساء 124 ]
وقال تعالى : ) من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم آجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ( [ النحل 97 ]
والجهاد من أعظم الأعمال الصالحة التي لا تصح من كافر ، وهو – أي الجهاد – ملازم لهذا القيد [ في سبيل الله ] الذي لا ينطبق على عمل الكافر .
وقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأعمال التي ظاهرها الصلاح ، الصادرة من الكافر : هل تنفعه ؟ فأجاب أنها لا تنفعه بسبب كفره ، كما في حديث عائشة رضي الله عنها ، قالت ك قلت : يا رسول الله ، عبد الله بن جدعان ، كان في الجاهلية يصل الرحم ، ويطعم المسكين ، فهل ذلك نافعه ؟ قال : ( لا ينفعه . إنه لم يقل يوما : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ) [ مسلم 1/196 ] أي إنه لم يؤمن بالله واليوم الآخر .
ومنع الرسول صلى الله عليه وسلم الرجل المشرك الذي تردد عليه مرتين يستأذنه في القتال معه ، ليصيب من المغنم وهو على شركه ، ثم إذنه له بعد أن دخل في الإسلام ، دليل واضح على عدم صحة الجهاد من الكافر ، كما في حديث عائشة رضي الله عنها ، أنها قالت : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَلَ بدر ، فلما كان بحرة الوَبَرة ، أدركه رجل قد كان يدرك منه جرأة ونجدة ، ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه ، فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : جئت لأتبعك وأصيب معك ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تؤمن بالله ورسوله ؟ ) قال : لا . قال : ( فارجع فلن أستعين بمشرك ) قالت : ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل ، فقال : كما قال أول مرة . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال له أول مرة ، قال : ( ارجع فلن أستعين بمشرك ) قال : ثم رجع فأدركه بالبيداء ، فقال له كما قال أول مرة : ( تؤمن بالله ورسوله ) قال : نعم . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فانطلق ) [ مسلم 3م1449 ]
هل يجوز الاستعانة بالكفار في الحرب ؟
وقد اختلف العلماء في التوفيق بين حديث عائشة المذكور ، وأحاديث أخرى حصلت فيها الاستعانة بمشركين . قال الإمام النووي رحمه الله : " وقد جاء الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بصفوان بن أمية قبل إسلامه ، فأخذ طائفة من العلماء بالحديث الأول – أي حديث عائشة – على إطلاقه ، وقال الشافعي وآخرون : إن كان الكافر حسن الرأي ، ودعت الحاجة إلى الاستعانة به ، استعين به ، وإلا فيكره ، وحمل الحديثين على هذين الحالين "[ شرح النووي على صحيح مسلم 12/198 وما بعدها ]
وهناك وجوه أخرى في الجمع بين الحديثين .
والذي يظهر أن الأصل عدم مشروعية الاستعانة بكافر ، إلا في حالات نادرة يعلم فيها من حال الكافر – أو تدل القرائن – على صدقه وعدم خيانته ، وتكون الحاجة إلى الاستعانة به شديدة ، لعدم وجود من يستعان به من المسلمين في تلك الحالة : " وإن كان في الاستعانة به مصلحة للمسلمين ، كما استعان الرسول صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أريقط ، إذ كان دليله في الهجرة إلى المدينة ، زكما استعان بصفوان بن أمية في غزوة حنين " [ فتح الباري 6/129 وراجع سيرة ابن هشام 1/491 ، 2/440 ]
هل يجوز الاستعانة بالمسلم الفاجر ؟
أما الاستعانة بالرجل الفاجر الذي يظهر الإسلام ، فقد دلت السنة على جوازها ووقوعها ، في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، الذي ترجم له الإمام البخاري رحمه الله بقوله : [ باب إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر ] ونص الحديث كما يأتي : " شهدنا مع رسول الله عليه وسلم ، فقال لرجل ممن يدعي الإسلام : ( هذا من أهل النار ) فلما حضر القتال قاتل الرجالَ قتالا شديدا ، فأصابته جراحة ، فقيل : يا رسول الله ، الذي قلت : إنه من أهل النار ، فإنه قاتل اليوم قتالا شديدا ، وقد مات ، فغال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إلى النار ) قال : فكاد بعض الناس أن يرتاب ، فبينما هم على ذلك ، إذ قيل : إنه لم يمت ، ولكن به جراحا شديدا ، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح ، فقتل نفسه . فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقال : ( الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله ) ثم أمر بلالا فنادى في الناس : ( إنه لا يدخل الجنة غلا نفس مؤمنة ، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ) [ صحيح البخاري بفتح الباري 6/179 ، وصحيح مسلم 1/105 ]
وقال ابن تيمية رحمه الله : " ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة الغزو مع كل بر وفاجر فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم ، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه إذا لم يتفق الغزو إلا مع الأمراء الفجار ، أو مع عسكر كثير الفجور ، فإنه لا بد من أحد أمرين : إما ترك الغزو معهم ، فيلزم من ذلك استيلاء الآخرين الذين هم أعظم ضررا في الدين والدنيا ، وإما الغزو مع الأمير الفاجر ، فيحصل بذلك دفع الأفجرين ، وإقامة أكثر شرائع الإسلام ، وإن لم يُمكن إقامة جميعها ، فهذا واجب هذه الصورة وكل ما أشبهها ، بل كثير من الغزو الحاصل بعد الخلفاء الراشدين ، لم يقع إلا على هذا الوجه " [ مجموع الفتاوى 28/506 ]
وذكر بعض الكتاب المعاصرين الإجماع على جواز الاستعانة بالمنافق والفاسق ، لخروج المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال . [ كتاب المؤتمر الرابع لمجمع البحوث الإسلامية ، صفحة 226 وما بعدها ] .

( 16 )
الأعذار المبيحة للتخلف عن الجهاد إجمالا وتفصيلا .

أما الأعذار المبيحة للتخلف عن الجهاد إجمالا ، فهي : الجنون ، والصبا ، والضعف ، والمرض ، وعدم سلامة الأعضاء ، كالعمى والعرج الشديد ، وعدم إذن الوالدين أو أحدهما ، والدين الذي لم يأذن صاحبه للمدين بالجهاد ، وعدم الراحلة والمال أو أحدهما ، والرق .
وأما تفصيلا فكما يأتي :
أولا : الجنون .
المجنون ليس أهلا للتكليف ، لأن من شرط التكليف قدرة المكلف على العلم بما يُكَلَّف أداءه ، والخطاب إنما يوجه إلى العاقل ، فالمجنون معذور في أصول الإسلام وفروعه ، والقلم مرفوع عنه .
قال الآمدي رحمه الله " اتفق العقلاء على أن شرط المكلف أن يكون عاقلا فاهما للتكليف ، لأن التكليف خطاب ، وخطاب من لا عقل له ولا فهم محال ، كالجماد والبهيمة " (1)
وقال صدر الشريعة الحنفي : " باب المحكوم عليه ، وهو المكلف ن ولا بد من أهليته للحكم ن وهي لا تثبت إلا بالعقل … " (2)
ثانيا : الصبا :
والصبي – أيضا – غير مكلف بجميع العبادات ، وإن كان مشروعا تمرينه على بعضها ، كالصلاة والصوم ، بعد أن يميز . قال في الهداية : " ولا يجب الجهاد على صبي " (3)
وقال الكاساني : " ولا جهاد على صبي " (4)
وقال النووي : "ولا جهاد على صبي ومجنون " (5)
وقال في المهذب : " ولا يجب على الصبي والمجنون " (6)
ومن أدلة ذلك حديث عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ( رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن المبتلى حتى يبرأ ، وعن الصبي حتى يكبر ) وفي حديث ابن عباس عن علي رضي الله عنهم : ( عن المجنون حتى يبرأ ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يعقل " (7)
============
(1) الأحكام في أصول الأحكام (1/138)
(2) شرح التوضيح على التنقيح .
(3) فتح القدير لابن الهمام (5/442)
(4) بدائع الصنائع (9/4301)
(5) حواشي تحفة المحتاج (9/231)
(6) تكملة المجموع (18/52)
(7) الحديثان في سنن أبي داود (4/558) ، وراجع التمهيد لابن عبد البر (1/107-110) ورمز السيوطي للحديثين في الجامع الصغير بالصحة . وقال الحاكم : " عللا شرطهما " (4/35) وأوردهما شيخنا الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير (3/179)

( 17 )

ثالثا: الأنوثة
والمرأة معذورة أيضا، فلا يجب عليها الجهاد، لضعفها. قال الكاساني: "ولا جهاد على الصبي والمرأة" [بدائع الصنائع (9/4301)]
وقال النووي: "ولا جهاد على صبي ومجنون وامرأة" حواشي تحفة المحتاج (9/231)
وذكر ابن قدامة من شروط وجوب الجهاد "الذكورية". [المغني (9/197)]
وقد دلت السنة على أن المرأة لا جهاد عليها . فقد استأذنت إحداهن من الرسول صلى الله عليه وسلم في الجهاد، فقالت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ فقال صلى الله عليه وسلملكن أفضل الجهاد: حج مبرور) [البخاري (رقم الحديث : 2784، وهو في فتح الباري (6/4)]
والمعروف من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن عمل الصحابة من بعده، أنهم كانوا يخرجون معهم بعض نسائهم في الغزوات والمعارك، وكن يشاركن في مداواة الجرحى وسقيهم وخدمتهم، وقد تشترك المرأة في الدفاع عن نفسها، أو عن غيرها-وهذا قليل-
ولم يقف الباحث على نص يدل على استنفارهن مثل الرجال.
وسورة التوبة التي كان النفير فيها عاما، انصب اللوم فيها على المتأخرين من الرجال، ولو كن داخلات في النفير العام لوجب على كل قادرة أن تخرج مع الرسول صلى الله عليه وسلم: الزوجة مع زوجها، والبنت مع أبيها، والأخت مع أخيها، وهكذا ...
بل قد ورد في السنة في هذه الغزوة نفسها ما يدل بوضوح على أن الأصل في النساء عدم الاستنفار ، كما في حديث سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، قال: " خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في غزوة تبوك، فقال: يا رسول الله تخلفني في النساء والصبيان؟! فقال أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبي بعدي) [البخاري، رقم: 4416، وهو في الفتح (7/71) ومسلم (4/1780)
هذا هو الذي ظهر للباحث من الواقع التاريخي، في عصر النبوة والخلافة الراشدة.
ولكن العلماء رحمهم الله نصوا على أن المرأة تدخل في النفير العام ، مستدلين بآية النفير، وفيها: {انفروا خفافا وثقالا...} التوبة: 41
قال الكاساني: "فأما إذا عم النفير بأن هجم العدو على بلد، فهو –أي الجهاد-فرض عيني، يفترض على كل واحد من آحاد المسلمين، ممن هو قادرعليه، لقوله سبحانه وتعالى: {انفروا خفافا وثقالا} فيخرج العبد بغير إذن مولاه، والمرأة بغير إذن زوجها، وكذا يباح للولد أن يخرج بغير إذن والديه..." [بدائع الصنائع (9/4301)]
ولكن العدو هجم على المسلمين في غزوة أحد، وفي غزوة الأحزاب، ولم يعلم أن النساء خرجن كلهن مع الرجال، بل النصوص تدل على أنه يخرج منهن إلا عدد قليل. ففي غزوة أحد ذكر منهن عائشة وأم سليم وفاطمة وأم سليط، رضي الله عنهن، وإن وردت أحاديث تدل على مطلق المشاركة مع الرجال في بعض الأعمال [راجع فتح الباري (6/75-81)
وقصة صفية بنت عبد المطلب وحسان تدل على النساء كن في الحصون. [السيرة النبوية لابن هشام (2/228)]
والذي يظهر أن المرأة لا يتعين عليها الجهاد إلا إذا نص على النساء في النفير العام، أو هجم العدو على البلد وهي في بيتها، فعليها حينئذ المشاركة في الدفاع عن نفسها وعن غيرها في حدود قدرتها.
وقد قال كبير المنافقين عبد الله بن أبي يوم أحدلرسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فوا لله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط، إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم" [السيرة النبوية لابن هشام (2/63)]
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرى رأي ابن أبي هذا قبل أن يعزم على الخروج بعد مشاورة أصحابه.
فقوله: "وإن دخلوا قاتلهم الرجال ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم" يظهر منه أنهن يشاركن الرجال في هذه الحالة، غير أن مشاركتهن محدودة، ليست كمواجهة الرجال للأعداء، هذا هو الأصل، فإذا وجدت امرأة قوية عندها جرأة على قتال العدو عند الضرورة، فلا تمنع من ذلك، كما فعلت نسيبة بنت كعب المازنية يوم أحد، من الذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف والرمي بالقوس، حتى خلصت إليها الجراح.[ السيرة النبوية لابن هشام (2/18)]
وفي مصنف الإمام عبد الرزاق الصنعاني: " عن معمر، عن إبراهيم-وسئل عن جهاد النساء؟-فقال: كن يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيداوين الجرحى، ويسقين المقاتلة، ولم أسمع معه بامرأة قتلت، وقد قاتلن نساء قريش يوم اليرموك حين رهقهم جموع الروم، حتى خالطوا عسكر المسلمين، فضرب النساء يومئذ بالسيوف في خلافة عمر رضي الله عنه" [المصنف (5/2908)]
وقد يفهم من كلام المفسرين لآية النفير العام دخول النساء فيه، ولو لم ينص عليهن.
ففي تفسير ابن جرير الطبري رحمه الله: "قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك ندنا بالصواب، أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر المؤمنين بالنفر لجهاد أعدائه في سبيله خفافا وثقالا، وقد يدخل في الخفاف كل شيء كان سهلا عليه النفر، لقوة بدنه على ذلك وصحة جسمه وشبابه، ومن كان ذا تيسير بمال وفراغ من الاشتغال، وقادرا على الظهر والركاب، ويدخل في الثقال كل من كان بخلاف ذلك، من ضعيف الجسم وعليله وسقيمه، ومن معسر من المال، ومشتغل بضيعة ومعاش، ومن كان لا ظهر له ولا ركاب، والشيخ ذو السن والعيال، فإذا كان قد يدخل في الخفاف والثقال من وصفنا من أهل الصفات التي ذكرنا، ولم يكن الله جل ثناؤه، خص من ذلك صنفا دون صنف في الكتاب، ولا على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نصب على خصوصه دليلا، وجب أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمر المؤمنين من أصحاب رسوله بالنفر للجهاد، خفافا وثقالا، مع رسوله على كل حال من أحوال الخفة والثقل" [جامع البيان عن تأويل آي القرآن (10/140)]
ونص الفقهاء على شمول النفير العام للمرأة، كما قال الكاساني: "فإذا عم النفير لا يتحقق القيام به إلا بالكل، فبقي فرضا على الكل عينا، بمنزلة الصوم والصلاة، فيخرج العبد بغير إذن مولاه، والمرأة بغير إذن زوجها: [بدائع الصنائع (9/4301)]
وعلى كل حال فالضرورة تقدر بقدرها، فإذا دعت الضرورة إلى مشاركة المرأة في المعركة، وجب أن تشارك بما تقدر عليه، وإن كان في النفس شيء من دخول النساء في النفير العام، لما ذكر من الوقائع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا إذا نص ولي الأمر عليهن، أو هجم العدو على الديار، فإنه يتعين عليها الجهاد بالدفاع عن نفسها وعن غيرها في حدود طاقتها [راجع المؤتمر الرابع لمجمع البحوث الإسلامية، ص 106، 219 وما بعدها

( 18 )

خامسا : الرق .
العبد المملوك مأمور بطاعة سيده ، ولا يجوز له أن يعصيه ن ما لم يأمره بمعصية ، وطاعة العبد سيده شبيهة بطاعة الولد أبويه أو أحدهما ، وقد ثبت للعبد المملوك الذي يجمع بين طاعة ربه وطاعة سيده أجرين ، كما في حديث أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( للملوك الذي يحسن عبادة ربه ويؤدي إلى سيده الذي له عليه من الحق والطاعة أجران ) البخاري بفتح الباري %/177
وقد حفز هذا الأجر المضاعف أبا هريرة رضي الله عنه على التطلع إليه ، حتى كان يود أن يكون عبدا لولا أن ذلك يحول بينه وبين حريته الكاملة في أداء طاعة الله وطاعة أمه ، فقد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وللعبد المملوك الصالح أجران ) والذي نفسي بيده لولا الجهاد في سبيل الله ، والحج ، وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك. البخاري بفتح الباري ( 5/175) ومسلم (3/1284) قوله : " والذي نفسي بيده … " من كلام أبي هريرة ، كما ذكر الحافظ في الفتح .
وفي كلامه هذا دليل على أن العبد لا يجوز له أن يجاهد إلا بإذن سيده ، قال الحافظ : " وإنما استثنى أبو هريرة هذه الأشياء ، لأن الجهاد والحج يشترط فيهما إذن السيد .. " ولو لم يكن إذن استئذان العبد سيده في حضور الجهاد واجبا ، لما قال أبو هريرة ذلك ، ما دام الرق لا يمنعه من الجهاد متى شاء .
ومما يستدل به على استئذان العبد سيده ، حديث عمير مولى آبي اللحم ، قال : " شهدت خيبر مع سادتي ، فكلموا فيَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر بي فقُلِّدت سيفا ، فإذا أنا أجره ، فأخبر أني مملوك ، فأمر لي بشيء من خرثى المتاع " رواه أبو داود (3/171)
قال ابن الأثير في النهاية : " والخرثى أثاث البيت ومتاعه . وقال المحشي على سنن أبي داود : وأخرجه الترمذي والحاكم وصححه . وقال الترمذي : حديث حسن صحيح .
وراجع : فتح القدير (5/442) لابن الهمام ، وحاشية ابن عابدين (4/125) ، وحواشي تحفة المحتاج (9/231) ، والمغني (9/197) لابن قدامة .

( 19 )

سادسا : الدَّين
والمدين الذي ليس عنده ما يتركه لقضاء دينه الحال ، ليس له أن يخرج إلى الجهاد في بسبيل الله بدون إذن دائنه ن بل عليه أن يبقى ليعمل ويقضي دينه ما لم يأذن له صاحب الدين ، لأن خطايا المجاهد الذي يقتل في سبيل الله تكفر ما عدا الدين ، كما في حديث قتادة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قام فيهم ، فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال ، فقام رجل ، فقال : يا رسول الله : أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي ؟ فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب ، مقبل غير مدبر " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كيف قلت " ؟ قال : أريت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر ، إلا الدين ، فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك ) رواه مسلم (3/1501)
أما إذا كان عنده ما يتركه لقضاء دينه ، فلا يدخل في ذوي الأعذار الذين يجوز لهم التخلف عن الجهاد ، أو يجب عليهم التخلف .
ومما يدل على ذلك ما ورد عن أبي الدرداء رض ي الله عنه ، أنه كان يقف حين ينتهي إلى الدرب ، وفي ممر الناس إلى الجهاد ، فينادي نداء يُسمِع الناس : أيها الناس ، من كان عليه دين ، ويظن أنه إن أصيب في وجهه هذا لم يدَعْ له قضاء ، ولا يتعنىَّ ، فإنه لا يعود كفافا " جامع الأصول (2/580)
ومثل الدين في عدم التكفير للخطايا جميع حقوق الآدميين ، فإن الجهاد وغيره من الطاعات لا تكفرها ، وإنما تكفر حقوق الله تعالى . يراجع شرح النووي على مسلم (13/29)
هذا ، ولا يلزم من عدم تكفير الجهاد في سبيل الله الدين ونحوه ، أنه لا يكتب للمجاهد أجر جهاده وشهادته ، فذاك شيء وهذا شيء آخر ، بل يرى بعض العلماء جواز خروج المدين بدون استئذان صاحب الدين ، إذا كان رضي ببقاء ذنب الدين عليه ، كما قال الشوكاني رحمه الله : " وغاية ما اشتملت عليه أحاديث الباب هو أن الشهيد يغفر له جميع ذنوبه إلا ذنب الدين ، وذلك لا يستلزم عدم جواز الخروج إلى الجهاد إلا بإذن من له الدين ، بل إن أحب المجاهد أن يكون جهاده سببا لمغفرة كل ذنب ، استأذن صاحب الدين في الخروج ، وإن رضي بأن يبقى عليه ذنب واحد جاز له الخروج بدون استئذان " نيل الأوطار (7/251) ويراجع تكملة المجموع (18/56) وحواشي تحفة المحتاج (9/232) وروضة الطالبين (10/210) وحاشية ابن عابدين (4/126).

( 20 )

سابعا : ومن الأعذار الضعف البدني والعجز المالي
مما عذر الله تعالى به عبده المؤمن عن الخروج للجهاد في سبيل الله ، فقدُه القدرة على ذلك ، سبب ضعف في بدنه ، من مرض ، وعمى ، وعرج ، وشلل ، وقطع يد أو رجل ، وشيخوخة ، ونحوها ، مما لا يقدر معه على مباشرة الجهاد .
وكذلك الفقر الذي لا يتمكن معه على الإنفاق على نفسه ، ذهابا وإيابا ، وأثناء المعركة ، ولا شراء ركوب وسلاح ، أو النفقة على العيال ، فإن في ذلك عذرا له في تخلفه عن الجهاد .
ويشترط في ذلك – أي في كون الضعف البدني والعجز المالي عذرا له – أن يكون المتخلف ناصحا لله ولرسوله وللمؤمنين ، نادما أشد الندم على تخلفه ، عازما على الخروج لو زال عذره ، طالبا من الله تعالى نصر إخوانه المجاهدين وهزيمة أعدائهم من الفار والمشركين ، فإن لم يكن كذلك ، بأن كان مسرورا بعدم خروجه للجهاد ، متخذا عذره الظاهر ذريعة لذلك ، مرجفا وراء المجاهدين ، غر مبال بنصر المؤمنين ، أو متمنيا نصر أعداء الله الكافرين على أوليائه المؤمنين ، فإنه آثما بذلك .
قال تعالى : ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه
تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون ) [ التوبة 91-92 ]
قال ابن كثير رحمه الله : " ثم بين تعالى الأعذار التي لا حرج على من قعد معها عن القتال ، فذكر منها ما هو لازم للشخص لا ينفك عنه ، وهو الضعف في التركيب الذي لا يستطيع معه الجلاد في الجهاد ، ومنه العمى والعرج ونحوهما ، ولهذا بدأ به . ومنها ما هو عارض بسبب مرض عنّ له في بدنه شغله عن الخروج في سبيل الله ، أو بسبب فقر لا يقدر على التجهيز للحرب ، فليس علة هؤلاء حرج إذا قعدوا ونصحوا في حال قعودهم ، ولم يفرجوا بالناس ، ولم يثبطوهم ) [ تفسير القرآن العظيم ( 2 / 381 ) ] .
وقال الكاساني : ( وأما بيان من يفترض عليه فنقول : إنه لا يفترض إلا على القادر عليه ، فمن لا قدرة له لا جهاد عليه ، لأن الجهاد بذل الجهد وهو الوسع والطاقة بالقتال أو المبالغة في عمل القتال ، ومن لا وسع له كيف يبذل الوسع والعمل ؟! فلا يفترض على : الأعمى ، والأعرج ، والزّمِن ، والمقعد ، والشيخ الهرم ، والمريض ، والضعيف ، والذي لا يجد ما ينفق . قال سبحانه وتعالى : ( ليس على الأعمى حرج ) الآية [ النور : 61 ] وقال سبحانه : ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ) [ التوبة : 91 ] فقد عذر الله جل شأنه هؤلاء بالتخلف عن الجهاد ورفع الحرج عنهم ) [ بدائع الصنائع ( 9 / 4301 ) ] .
وقال في المهذب : ( ولا يجب على الأعمى لقوله عز وجل : ( ليس على الأعمى حرج ، ولا على الأعرج حرج ، ولا على المريض حرج ) [ الفتح : 17 ) ] ولا يختلف أهل التفسير أنه في سورة الفتح أنزلت في الجهاد ، ولأنه لا يصلح للقتال فلم يجب عليه. ولا يجب على الأعرج الذي يعجز عن الركوب والمشي ، لأنه لا يقدر على القتال ، ولا يجب على الأقطع والأشل لأنه يحتاج قي القتال إلى يد يضرب بها ويد يتقي بها . ولا يجب على المريض الثقيل للآية ، ولأنه لا يقدر على القتال .
ولا يجب على الفقير الذي لا يجد ما ينفق في طريقه فاضلا عن نفقة عياله لقوله عز وجل : ( ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج ) [ المجموع ( 18 / 53 ) والآية من سورة التوبة 91 ] .
وآية النور التي استدل بها الكاساني رحمه الله استدل بها كثير من العلماء على نفي الحرج عمن ذكر فيها ، لكن منهم من رأى أنها عنت التخلف عن الجهاد ، ومنهم من استدل بعموم النفي وإن كان السياق بظاهره يدل على نفي الحرج عن هؤلاء في أكلهم في بيوتهم من سمّى الله في الآية [ راجع تفسير ابن جرير الطبري ( 18 / 167 ) وما بعدها .
وقال القرطبي رحمه الله : ( قوله تعالى : ( ليس على الضعفاء ) الآية ، أصل في سقوط التكليف عن العاجز ، فكل من عجز عن الشيء سقط عنه ، ولا فرق بين العجز من جهة القوة ، أو العجز من جهة المال . ونظري هذه الآية قوله تعالى : ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ) [ البقرة : 268 ] وقوله : ( ليس على الأعمى حرج ولا على المريض حرج ) [ الجامع لأحكام القرآن ( 8 / 226 ) والآية من سورة النور : 61 ] .
ولاختلاف المفسرين في تفسير آية النور : أعنت التخلف عن الجهاد بذاته أم يستدل بعموم نفيها؟ ، وعدم اختلافهم في آية الفتح ، قال في المهذب : ( ولا يختلف أهل التفسير أنها في سورة الفتح أنزلت في الجهاد ) كما مضى قريباً .
هذا وقد جمعت بعض النصوص الفقهية تلك الأعذار كلها بعبارات وجيزة ، منها ما قاله أبو الضياء خليل بن إسحاق المالكي في مختصره : ( وسقط بمرض ، وصبا ، وجنون ، وعمى ، وعرج ، وأنوثة ، وعجز عن محتاج له ، ورقٍ ، ودين حلّ ، كوالدين في فرض كفاية .. ) [ حاشية الدسوقي ( 2 / 175 ) وراجع الكتب الفقهية الآتية : فتح القدير لابن الهمام الحنفي ( 5 / 442 ) حواشي تحفة المحتاج في الفقه الشافعي ( 9 / 231 ) وروضة الطالبين للنووي ( 190 / 208 وما بعدها ) ] .
وهذا سرد للأعذار بدون ذكر أدلتها ، كما هو الغالب في المتون الفقهية . أما ذكرها مع أدلتها من الكتاب والسنة فقد عني بها ابن قدامة رحمه الله ، فقال : ( ويشترط لوجوب الجهاد سبعة شروط : الإسلام ، والبلوغ ، والعقل ، والحرية ، والذكورية ، والسلامة من الضرر ، ووجود النفقة ) .
فأما الإسلام والبلوغ والعقل فهي شرط لوجوب سائر الفروع ، ولأن الكافر غير مأمون في الجهاد ، والمجنون لا يتأتى منه الجهاد ، وقد روى ابن عمر قال : عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربعة عشرة فلم يجزني [ البخاري رقم الحديث 4097، فتح الباري ( 7 / 492 ) ومسلم ( 3 / 1490 ) .
وأما الحرية فتشترط لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبايع الحر على الإسلام والجهاد ، ويبايع العبد على الإسلام دون الجهاد [ قال المحشي على المغني : " ذكر ابن حجر في تلخيص الحبير 4/91،92 أن النسائي أخرجه ، وانظر تحفة الأشراف اهـ ] ، ولأن الجهاد عبادة تتعلق بقطع مسافة فلم تجب على العبد كالحج .
وأما الذكورية فتشترط لما روت عائشة ، قالت : قلت : يا رسول الله ، على النساء جهاد؟ فقال : ( جهاد لا قتال فيه : الحج والعمرة ) [ راجع ما سبق في ص : 87 ] ، ولأنها ليست من أهل القتال لضعفها وخورها ، ولذلك لا يسهم لها . وأما السلامة من الضرر فمعناه السلامة من العمى والعرج والمرض ، وهو شرط لقول الله تعالى : (ليس على الأعمى حرج ، ولا على الأعرج حرج ، ولا على المريض حرج ) [ راجع الصفحة التي قبل هذه ] ، ولأن هذه الأعذار تمنعه من الجهاد . وأما وجود النفقة فيشترط لقوله تعالى : ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ) [ سبقت في ص : 95 ] ، ولأن الجهاد لا يمكن إلا بآلة فيعتبر القدرة عليها ) [ المغني ( 13 / 8 ] .

كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل