بسم الله الرحمن الرحيم

حبسهم العذر (21-23)


( 21 )

حبسهم العذر
من رحمة الله بعباده المؤمنين وفضله وإحسانه عليهم ، أنه يكتب للعاجز منهم عن العمل أجره إذا علم من نيته الصدق والإخلاص والنصح ، كما لو كان قام بالعمل ، قال تعالى : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين – غير أولي الضرر – والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم ، وأنفسهم ، فضّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة ، وكلا وعد الله الحسنى ، وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً ) [ النساء : 95 ] .
نفى الله تعالى أن يستوي في القرب منه والحظوة عنده القاعدون والمجاهدون ، واستثنى من القاعدين أولى الضرر ، فجعلهم في عداد المجاهدين ، ويفهم من نفي استواء المجاهدين والقاعدين ، واستثناء أولى الضرر من هؤلاء أن أولي الضرر يستوون هم والمجاهدون في حصول أصل الثواب والمضاعفة .
ورأى بعض العلماء أنهم يستوون في الأصل ، ويزيد المباشرون للجهاد – وغيره من الطاعات – بمضاعفة الثواب .
واحتج أهل الرأي الأول بأمرين :
الأمر الأول : أن المعذورين ما منعهم إلا عجزهم ، ولو لم يكن بهم عذر لكانوا مع المجاهدين ، وفضل الله واسع ، وقد استثناهم هو سبحانه من القاعدين الذين نفي المساواة بينهم وبين المجاهدين ، فالقاعدون بعذر مستثنون من نفي المساواة .
الأمر الثاني : ما ورد في صحيح السنة مؤكداً هذا المعنى ، كما في حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزاة فقال : ( إن أقواماً بالمدينة خلفنا ما سلكنا شِعْباً ولا وادياً إلا وهم معنا ، حسبهم العذر .. ) [ البخاري رقم الحديث 2839 ، فتح الباري ( 6 / 46 ) ] .
وفي حديث جابر : ( كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فقال : ( إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً ، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حسبهم المرض ) [ مسلم ( 3 / 1518 ) .
قال الحافظ ابن حجر : ( قال المهلب : يشهد لهذا الحديث حديث أنس قوله تعالى : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر ) الآية [ النساء : 95 ]، فإنه فاضل بين المجاهدين والقاعدين ، ثم استثنى أولى الضرر من القاعدين ، فكأنه ألحقهم بالفاضلين ، وفيه أن المرء يبلغ بنيته أجر العامل إذا منعه الضرر عن العمل ) [ فتح الباري ( 6 / 46 ) ] .
وقد ورد ما يدل على أن هذا الاستثناء نزل بعد أن شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض من منعهم الضرر عن اللحاق بالمجاهدين ، ونزول نفي المساواة بين المجاهدين والقاعدين ، فالذي شكا من نفي المساواة بين المجاهدين وبينه لقعوده بسبب الضرر إنما شكا راجياً أن يدخل في هذا النفي ، ونزول الاستثناء بعد شكواه يدل أنه استجيب له فأصبح مساوياً للمجاهدين ، كما في حديث البراء بن عازب قال : ( لما نزلت الآية : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين ) ، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا فجاء بكتف فكتبها ، وشكا ابن أم مكتوم ضرارته ، فنزلت : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين – غير أولي الضرر ) [ البخاري رقم الحديث 2831، فتح الباري ( 6 / 45 ) ومسلم ( 3 / 1508 ) .
قال القرطبي في تفسير الآية الكريمة – بعد أن ذكر بعض النصوص المتقدمة : ( فهذا يقتضي أن صاحب العذر يعطى أجر الغازي ، فقيل يحتمل أن يكون أجره مساوياً ، وفي فضل الله متسع ، وثوابه فضل لا استحقاق ، فيثبت على النية الصادقة ما لا يثيب على الفعل ، وقيل يعطى أجره من غير تضعيف فيفضله الغازي بالتضعيف للمباشرة ، والله أعلم . قلت : والقول الأول أصح إن شاء الله للحديث الصحيح في ذلك ( إن بالمدينة رجالاً ) الحديث [ الجامع لأحكام القرآن ( 5 / 342 ) ] .
واحتج أهل الرأي الثاني القائل بأن صاحب العذر الذي أقعده عن العمل وهو حريص على مباشرته يستوي هو والمباشر في الأصل دون المضاعفة بحديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال : ( إن الله كتب الحسنات والسيئات ، ثم بين ذلك ، فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة ، فإن هو همّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، ومن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله له حسنة كاملة ، فإن هو همّ بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة ) [ البخاري رقم 6491، فتح الباري ( 11 / 323 ) ومسلم ( 1 / 118 ) ] .
قال الحافظ : " واستدل بقوله حسنة كاملة على أنها تكتب حسنة مضاعفة لأن ذلك هو الكمال ، لكنه مشكل يلزم منه مساواة من نوى الخير بمن فعله في أن كلا منهما تكتب له حسنة ، وأجيب بأن التضعيف في الآية يقتضي اختصاصه بالعامل ، لقوله تعالى : ( من جاء بالحسنة ) [ الأنعام : 16 ، والنحل : 89 ، والقصص : 84 ] والمجيء بها هو العمل .
وأما الناوي فإنما ورد أنه يكتب له حسنة ، ومعناه يكتب له مثل ثواب الحسنة ، والتضعيف قدر زائد على أصل الحسنة ، والعلم عند الله " [ فتح الباري 11 / 325 ] .
قال ابن رجب رحمه الله : ( فالمضاعفة يختص بها من عمل العمل دون من نواه ، ولم يعمله ، فإنهما لو استويا من كل وجه لكتب لمن هم بحسنة ولم يعملها عشر حسنات ، وهو خلاف النصوص كلها ) [ جامع العلوم والحكم ص 309 ] .
والذي يظهر عدم القطع بالمساواة في كل شيء ، لأن المجاهد المباشر للجهاد قد يستوي هو والقاعد في النية الصادقة والحرص الشديد على مجالدة العدو وقهره ، وعلى الشهادة في سبيل الله ، ثم يزيد المجاهد المباشر ببذل المال ، والتضحية بنفسه في ساح الوغى وتلقي الضرب والطعان بصدره ، ومفارقة أهله وأولاده ، والتعرض لشدة البرد والحر والجوع والعطش ، ويكفي في نفي المساواة بين القاعد بعذر والقاعد بدون عذر أن القاعد بلا عذر لا أجر له مطلقاً ، بل قد يكون آثماً إذا كان الجهاد فرض عين ، وقد يكون قعوده مباحاً إذا كان الجهاد فرض كفاية ، وفي كلتا الحالتين لا يستوي هو والمجاهد في سبيل الله .
أما القاعد بعذر مع النية الصادقة والحرص الشديد فله أجر مثل أجر المجاهد ، ولا يشترط أن يساويه في كل شيء ، بل تكفي المساواة في الجملة ، ومع ذلك فإن فضل الله واسع يؤتيه من يشاء .
ومما يدل على أن من لم يباشر العمل لا يساوي المباشر من كل وجه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : ذهب أهل الدثور بالدرجات العلا والنعيم المقيم ، فقال : ( وما ذاك ) قالوا : يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق ، ويعتقون ولا نعتق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم ، وتسبقون به من بعدكم ، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم ، قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : ( تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة ) قال أبو صالح : فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلناه ففعلوا مثله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) [ البخاري رقم 843 ، فتح الباري ( 2 / 325 ) ، ومسلم ( 1 / 416 ) ] .
وجه الدلالة من هذا الحديث أن فقراء المهاجرين لم يذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليهم تأخرهم في الأجر عن أهل الأموال الذين يشاركونهم في الصلاة والصوم ويفضلونهم في الصدقة والعتق إلا أنهم حريصون على أنهم لو كانوا مثلهم أغنياء لفعلوا مثل فعلهم ، ونيتهم – لا شك – مكتوبة لهم كما مضى ، ولكنهم يريدون ثواباً مساوياً لثواب من باشر التصدُّق والعتق ،فدلهم الرسول صلى الله عليه وسلم على الذكر ، ولا زالوا سابقين في الإنفاق والعتق ، فأجاب الرسول صلى الله عليه وسلم بما يدل أن التفاضل في العمل أمر لا بد منه ، وأن فضل الله يؤتيه من يشاء ، ولو كانت نية الطاعة والحرص عليها كافية في المساواة لبيَّن لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك . والشخصان المستويان في صدق النية والحرص على الطاعة ، ثم يزيد أحدهما بأن رزقه الله مالاً يتصدق منه ويعتق ويجهز الغزاة أو يخرج يجاهد بنفسه ، والآخر لم يتمكن لفقره هما شبيهان بفقراء الصحابة وأغنيائهم الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للفقراء : ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) .
لكن بقي هنا النظر فيما قاله ابن حجر رحمه الله في شرحه هذا الحديث حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، فإنه قال : ( ويظهر أن الجواب وقع قبل أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن متمنِّى الشيء يكون شريكاً لفاعله في الأجر ، كما سبق في كتاب العلم في الكلام على حديث ابن مسعود الذي أوله : ( لا حسد إلا في اثنتين ) فإن في رواية الترمذي من وجه آخر التصريح بأن المنفق والمتمني إذا كان صادق النية في الأجر سواء ، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم : ( من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من يعمل بها من غير أن ينقص من أجره شيء ) فإن الفقراء في هذه القصة كانوا السبب في تعلُّم الأغنياء الذكر المذكور ، فإذا استووا معهم في قوله ، امتاز الفقراء بأجر السبب مضافاً إلى التمني ، فلعل ذلك يقاوم التقرب بالمال ) [ فتح الباري ( 2 / 331 ) ] .
واللفظ الذي في سنن الترمذي من حديث ابن كَبْشة الأنماري هكذا : ( إنما الدنيا لأربعة نفر : عبد رزقه الله مالاً وعلماً ، فهو يتقي ربه فيه ، ويصل به رحمه ويعلم لله فيه حقاً ، فهذا بأفضل المنازل . وعبد رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً ، فهو صادق النية ، يقول : لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان ، فهو بنيته فأجرهما سواء ) [ سنن الترمذي رقم الحديث 2427 ، تحفة الأحوذي ( 6 / 615 ) ] .
والذي يظهر أنه لا فرق بين المساواة في الأجر بين هذين الرجلين وبين المساواة في الأجر بين المجاهد والقاعد المعذور ، وأنهما يستويان في كلّ منهما في أن الفاعل والمتمني الصادق كليهما يؤجران ، فهما سواء في أنهما أثيبا بخلاف من لم يفعل ولم ينو نية صادقة فإنه لا أجر له مطلقاً ، فالذي لم يفعل لعذره وهو ناوٍ الفعلَ لو مُكِّن منه استوى مع من فعل في أنه أجر على نيته ، وليس شرطاً أن تكون المساواة من كل وجه ، بل لعل قوله صلى الله عليه وسلم فيمن أوتي مالاً وعلماً أنه بأفضل المنازل ، وقوله فيمن أوتي علماً ولم يرزقه مالاً : فأجرهما سواء ما يشير إلى التفريق بين الفاعل المباشر وبين الناوي الصادق ، وأن هذا يكتب له أجر نيته فقط وذاك يكتب له أجر نيته وفعله يدل عليه قوله فهو بنيته ، فلا حاجة إذا إلى القول بأن جواب النبي صلى الله عليه وسلم لفقراء المهاجرين كان قبل أن يعلم أن متمني الشيء يكون شريكاً لفاعله في الأجر ، إذ يحمل على أن الجواب كان مراداً به عدم التساوي الكامل بين الناوي الصادق الذي لم يفعل والناوي الصادق الفاعل ، وقد اضطر ابن حجر رحمه الله بسبب عدم جزمه بذلك أن يقرب فقراء المهاجرين بأغنياء إخوانهم بشيء آخر ، وهو أن فقراء المهاجرين سنُّوا سنة حسنة عمل بها الأغنياء ، فهم بذلك ينالون أجراً آخر قال فيه : فلعل ذلك يقاوم التقرب بالمال .
وقد يفهم من كلام ابن تيمية رحمه الله مساواة الناوي الصادق الذي لم يفعل لعذر ، وهو ما يعبِّر عنه بالمريد إرادة جازمة ، بالناوي الصادق الذي فعل ، حيث قال : ( فالمريد إرادة جازمة مع فعل المقدور – مراده مع فعل المقدور لو قدر عليه – بمنزلة العامل الكامل ) ولكنه رحمه الله عبَّر بعد ذلك بما يدل أنه لم يرد المساواة الكاملة ، أو لم يجزم بذلك ، حيث قال : ( فالله تعالى نفى المساواة بين المجاهد والقاعد الذي ليس بعاجز ، ولم يَنْف المساواة بين المجاهد والقاعد العاجز ، بل يقال : دليل الخطاب يقتضي مساواته إياه ، ولفظ الآية صريح استثنى أولو الضرر من نفي المساواة ، فالاستثناء هنا هو من النفي ، وذلك يقتضي أن أولي الضرر قد يساوون القاعدين وإن لم يساووهم في الجميع ) [ الفتاوى ( 10 / 731 ) ، راجع أيضاً الفتاوى ( 14 / 123 ) ] فقوله قد يساوون القاعدين وإن لم يساووهم في الجميع يدل أن المساواة الواردة في كلامه أولاً ليست المساواة الكاملة وإنما هي المساواة في الجملة ، والله أعلم .

( 22 )

إذا نصحوا الله ورسوله
هذا ويجب أن يعلم – هنا – أن هؤلاء الذين يكتب الله لهم الأجر وهم في بيوتهم لعدم قدرتهم على مباشرة الجهاد ، إنما هم الناصحون لله ورسوله ، الذين تكاد قلوبهم تطير من شدة رغبتهم وقوة حرصهم على الجهاد في سبيل الله إلى أرض المعركة ، الذين اشتدَّ ندمهم وظهر حزنهم بسبب عجزهم عن القيام بأمر الجهاد مباشرة ، ولهذا قيَّد الله نفي الحرج عن ذوي الأعذار بقوله : ( إذا نصحوا لله ورسوله ) [ التوبة : 91 ) ] .
وقد ضرب الله لهم مثلاً بالبكائين الذين طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحملهم ليخرجوا معه لجهاد الأعداء ، فاعتذر بأنه لا يجد ما يحملهم عليه ، ، فخرجوا يبكون مغمومين بسبب ذلك ، كما قال تعالى عنهم : ( ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه ؛ تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون ) [ التوبة : 92 ] ، بخلاف من قعد وهو غير عازم ، أو لم ينصح لله ورسوله .
قال ابن كثير : ( فليس على هؤلاء حرج إذا قعدوا ونصحوا في حال قعودهم ، ولم يرجفوا بالناس ، ولم يُثبّطوهم ولهذا قال : ( ما على المحسنين من سبيل ، والله غفور رحيم ) [ تفسير القرآن العظيم ( 2 / 381 ) ]

( 23 )
هتاف الشهادة وريح الجنة .

وعلى الرغم من أن الله تعالى عذر عباده المؤمنين الذين قد تحول الأعذار بينهم وبين مباشرة الجهاد إلا بمشقة ، ككبار السن وصغار السن أو بعض ذوي العاهات ، فإن نفوس أهل الإيمان العميق الحيّ المتحرك الصادق لم ترض بالتخلف عن الجهاد ، بل لقد كان الشيخ الكبير السن ، الأعرج الذي عذره الله ينافس أبناءه الشبان الأقوياء على الخروج للجهاد في سبيل الله حرصاً على أن ينال الشهادة ويدخل الجنة ، كما في سيرة ابن هشام : ( أن عمرو بن الجموح كان رجلاً أعرج شديد العرج ، وكان له بنون أربعة مثل الأسد يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد ، فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه ، وقالوا له : إن الله عز وجل قد عذرك ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( إن بَنِيَّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك فيه ، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هده في الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أما أنت فقد عذرك الله ، فلا جهاد عليك ) وقال لبنيه : ( ما عليكم ألا تمنعوه لعل الله أن يرزقه الشهادة ، فخرج معه فقتل يوم أحد ) [ السيرة النبوية ( 2 / 90 ) ] .
وكذلك كان الغلمان يتنافسون في الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويبذلون كل وسيلة يقدرون عليها لإقناعه صلى الله عليه وسلم بأنهم قادرون على الجهاد معه ، فإذا فاز أحدهم بصفةٍ أذن له بسببها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وثب الآخر محتجاً بصفة أخرى ، قال ابن هشام : ( وأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ – أي يوم أحد – سَمُرة بن جندب الفَزَاري ورافع بن خديج أخا بني الحارثة وهما أبناء خمس عشرة سنة ، وكان قد ردهما ، فلما أجاز رافعاً ، قيل له يا رسول الله فإن سمرة يصرع رافعاً فأجازه ، ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد وعبد الله بن عمر بن الخطاب ) [ السيرة النبوية ( 2 / 66 ) ] .
وروى ابن جرير في تفسير آية : ( انفروا خفافاً وثقالاً ) [ التوبة : 41 ] بسنده عن حبان بن زيد الشرعبي ، قال : ( نفرنا مع صفوان بن عمرو ، وكان والياً على حمص قِبَل الأفسوس إلى الجراجمة ، فلقيت شيخاً كبيراً هَمًّا قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته فيمن أغار ، فأقبلت عليه فقلت : يا عم لقد عذر الله إليك ، قال : فرفع حاجبيه فقال : يا ابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً ، من يحبه الله يبتليه ثم يعيده فيبقيه ، وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر ولم يعبد إلا الله ) [ جامع البيان عن تأويل آي القرآن ( 10 / 138 ) ] .
والخلاصة أن غير القادر على مباشرة الجهاد شرعاً أو طبعاً لا حرج عليه ، بل له ثواب نيته وهو قاعد إذا حسنت نيته ونصح لله ورسوله ، وأن قوة الإيمان تنسي صاحب العذر عذره ، فيكلف نفسه الخروج والقتال طمعاً في الشهادة ونيل رضا الله ودخول جناته .

كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل