بسم الله الرحمن الرحيم

وقاية المجتمع من تعاطي المسكرات والمخدرات

للحصول على نسخة من البحث منسق على ملف ورد


المقدمة
غرس الإيمان في النفوسوتربية المجتمع على تطبيق الإسلام في الحياة.
تمهيد في بيان معنى الإيمان:
الإيمان بالله:
غرس الإيمان بقدرة الله التامة على كل شيء:
غرس الإيمان بكتاب الله في النفوس:
غرس الإيمان باليوم الآخر في النفوس:
المبحث الثاني: تربية المجتمع على تطبيق الإسلام.
الفصل الثاني: الاهتمام بتربية الأسرة
المبحث الأول: يتعلق بالأسرة نفسها.
المبحث الثاني: عناية أولياء أمور المسلمين بالأسرة.
الفصل الثالث: وجوب السعي لتحقيق الأهداف العليا التي تحيا بها الأمم، وتوجيه الشباب إليها
المبحث الأول: حفظ الدين.
المبحث الثاني: حفظ النفس.
المبحث الثالث: حفظ النسل.
فإن متعاطيها لا يسلم من الأمور الآتية:
المبحث الرابع: حفظ العقل.
وسائل حفظ العقل:
وعندئذ تكون صيانة الناس وعقولهم من المسكرات والمخدرات – وكذلك التدخين تكون بالطرق الآتية:
المبحث الخامس: حفظ المال.
الفصل الرابع : صرف الشباب إلى ميادين التزكية والجهاد
المراد بالتزكية:
المبحث الثاني: صرف الشباب إلى ميادين الجهاد.
الفصل الخامس: إقامة قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع:
المبحث الأول: في منزلة قاعدة الأمر بالمعروق والنهي عن المنكر في الإسلام.
المبحث الثاني: ما يترتب على قيام المجتمع الإسلامي بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو عدم قيامه بذلك.
الفصل السادس: جهل مناهج التعليم والإعلام محققة لمقاصد الإسلام:
المبحث الأول: في مقاصد التعليم والإعلام في الشعوب الإسلامية.
المبحث الثاني: إعداد الأكفاء.
المبحث الثالث: الصفاء الإعلامي.
الفصل السابع: الحكم بما أنزل الله.
المبحث الأول: وجوب اتخاذ الوسائل الواقية من ارتكاب المعاصي كلها:
المبحث الثاني: إقامة الحدود والتعزيرات.
الخلاصة:
لمراجع:


المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
)يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون( [آل عمران: 102]
)يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيباً( [النساء: 1].
)يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً( [الأحزاب: 70-71].
أما بعد فإن المسلم لا يشك في أن تطبيق منهج الله في الأرض، كما أراد الله، يحقق لمن طبقه السعادة والرضا والاطمئنان في الدنيا، وينيله رضا الله وثوابه والفوز بنعيمه المقيم في الآخرة، وفي البعد عن تطبيق منهجه الشقاء في الدنيا والآخرة.
ويقين المؤمن بهذا يدل عليه أمران:
الأمر الأول: قول الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فقوله صدق ووعده حق، وقد قال تعالى: )قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشرهم يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى( [طه: 123-127].
الأمر الثاني: الواقع التاريخي الذي دل على ما دل عليه كتاب الله فإنه ما طبق منهج الله أمة إلا كانت عزيزة الجانب سعيدة الحياة سليمة من القلق والاضطراب ولا فقد تطبيق ذلك المنهج في أمة إلا أذلها الله وأنزل بها من المصائب والويلات ما يقلقها وينغص حياتها وإن بلغت ما بلغت من الغنى والتمتع المادي بأنواع المتع وها هي أمم الأرض الآن تذوق وبال أمر بعدها عن الله.
وما مؤتمرنا هذا [المؤتمر العالمي الثاني لمكافحة المسكرات والمخدرات الذي انعقد في مدينة إسلام أباد في جمهورية باكستان الإسلامية في 27 شوال سنة 1409هـ وافتتحه رئيس الجمهورية وقد أعد هذا البحث للمشاركة فيه وقدم المؤلف خلاصة له في المؤتمر] إلا أحد الأدلة على مرض واحد من الأمراض الفتاكة التي شملت الأرض عامة، وشعوب المسلمين خاصة وقد عجزت عن مقاومته والوقاية منه وعلاجه أجهزة الدول العالمية: كبراها وصغراها، فضلاً عن الأمراض الأخرى التي يصعب حصرها وحصر مؤتمراتها وندواتها والجهود المبذولة لمقاومتها.
واعتراف المريض بمرضه واهتمامه به خطوة طيبة في سبيل علاجه، وعليه أن يفكر في أسباب وجود هذا المرض فقد يكون أهم أسبابه تقصيره في الوقاية منه فيجب أن يتلافى ذلك التقصير، وهو إذ يبحث عن علاج له عليه أن يعرض نفسه على الطبيب المختص الذي عنده المقدرة على تشخيص الدواء ووصف الدواء فإذا تمكن من ذلك فيجب أن يتناول الدواء الذي وصفه له ذلك الطبيب.
وها نحن نعترف بالمرض وهو تعاطي المسكرات والمخدرات ونبحث عن الطبيب الذي يشخص الداء ويصف الدواء ولعلنا نعترف هنا جميعاً أن طبيبنا هو شرع الله الذي لم يغادر صغيرة ولا كبيرة مما يحتاج الناس فيه إلى هداية إلا بينها وجلاها كما أنه لم يغادر صغيرة ولا كبيرة من أسباب الفساد في الأرض إلا حذر منها وعراها، وإذا كانت هذه أو تلك قد تخفي على من بعد عن التفقه في هذا الدين، فإنها غير خافية على فقهائها، ولكل مجال رجال.
هذا وقد اخترت الكتابة في هذا الموضوع – وهو وقاية المجتمع من تعاطي المسكرات والمخدرات – لأن الأصل هو الوقاية من المرض، كما أن الوقاية قد تكون العلاج الحاسم للمرض بعد وقوعه.
وهذا البحث من هذا القبيل، إذا طبق ما تضمنه فإنه وقاية وعلاج، وقاية للمريض وغيره، وعلاج للمريض وما يكون وقاية وعلاجاً خير مما يكون علاجاً فقط.
هذا وقد اشتمل على سبعة فصول:
الفصل الأول: غرس الإيمان في النفوس، وتربية المجتمع على تطبيق الإسلام في الحياة.
الفصل الثاني: الاهتمام بتربية الأسرة.
الفصل الثالث: وجوب السعي لتحقيق الأهداف العليا التي تحيا بها الشعوب.
الفصل الرابع: صرف الشباب إلى ميادين التزكية والجهاد.
الفصل الخامس: إقامة قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الفصل السادس: جعل منهاج التعليم والإعلام محققة لمقاصد الإسلام.
الفصل السابع: الحكم بما أنزل الله.
وإني لأرجو أن يكون هذا البحث نافعاً للوقاية من كل الأمراض الوبيئة التي تفشت في مجتمعاتنا الإسلامية وفي غيرها.
وإذا كانت التجربة كما يقال خير برهان فليجرب من يريد للشعوب الإسلامية السعادة والنجاة من كل شر تطبيق ما تضمنه هذا البحث.
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وهو حسبي ونعم الوكيل.

الفصل الأول
غرس الإيمان في النفوس وتربية المجتمع على تطبيق الإسلام في الحياة.

وفي هذا الفصل مبحثان:
المبحث الأول: غرس الإيمان في النفوس.
تمهيد في بيان معنى الإيمان:
الإيمان في اللغة: التصديق [ينازع بعض العلماء في أن المراد بالإيمان في اللغة التصديق ولكن المقام لا يتسع لمناقشة ذلك، راجع الفتاوى لابن تيمية (7/123)]، ويتعدى باللام كقوله تعالى: )وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين( [يوسف: 17] أي وما أنت بمصدق لنا.
وأما الإيمان في الشرع فالراجح أنه: (تصديق بالقلب وقول باللسان، وعمل بالجوارح) فإذا أطلق شمل ذلك كله.
فالمراد بالإيمان ما عناه الله تعالى في القرآن الكريم والسنة وفهمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم من السلف الصالح وهو التصديق الجازم بكل ما أخبر الله به من الغيب، وهو يشمل أصول الإيمان الستة: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، وما تفرع عنها مما ورد به الكتاب والسنة الصحيحة وليس المراد بالإيمان مجرد ما تعرف عليه أهل الأديان المنحرفة الذي مضمونه علاقة شخصية بين الإنسان وربه لا شأن له بنشاطه في الحياة.
فإن هذا ليس هو الإيمان الذي جاء به القرآن، إذ الإيمان الذي نزل به لا ينفك عنه العمل الصالح المبني على العلم النافع، كما قال تعالى: )إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون( [الحجرات: 15].
هذا ولست أريد أن أطيل هنا الكلام على أصول الإيمان الستة كلها، فضلاً عما يتفرع منها، وإنما أريد أن أضرب أمثلة فقط يتضح بها أن غرس الإيمان في النفوس هو أعظم واق من أمراض المعاصي، ومنها تعاطي المسكرات والمخدرات، وهذه الأمثلة تتعلق بالإيمان بالله، والإيمان بكتاب الله الذي هو القرآن، والإيمان باليوم الآخر.
الإيمان بالله:
ولست أيضاً بمطيل في الكلام عن الإيمان بالله بذكر كل ما يتعلق بذاته تعالى من كونه خالقاً ورباً وإلهاً، وإنما أضرب لذلك مثالين:
أحدهما: يتعلق بعلمه الشامل المحيط بكل شيء.
والثاني: يتعلق بقدرته التامة على كل شيء.
غرس الإيمان بعلم الله المحيط بكل شيء وأثره في الوقاية من إرتكاب المعاصي وبخلاصة المسكرات والمخدرات.
لقد كثر في القرآن الكريم ذكر علم الله المحيط بكل شيء بأساليب شتى، والمقصود منها إشعار الإنسان بأن أعماله لا تخفى على الخالق، وأنها محفوظة مكتوبة محاسب عليها صاحبها، كما قال تعالى في أهل الكتاب الذين حذر بعضهم بعضاً من الاعتراف بما في كتبهم مما يوافق القرآن الكريم ويؤيد صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لئلا يكون اعترافهم بذلك حجة للمسلمين عند الله، قال تعالى عنهم: )وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون، أَوَلا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون( [البقرة: 76-77].
وقال تعالى: )إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء( [آل عمران: 5].
وقال تعالى: )قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير، يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه واله رؤوف بالعباد( [آل عمران: 29-30].
تأمل هاتين الآيتين الأخيرتين: هل تجد شيئاً يمكن إخفاؤه على الله الذي أحاط علمه بما في السماوات وما في الأرض، وما يخطر للمرء في صدره، وهل يقدر الإنسان أن ينكر شيئاً مما عمل في الدنيا عندما يلاقي الله فيجد عنده كل عمل خير أو سوء؟.
إن الإنسان ليقدر أن يحتال على الناس وعلى كل الوسائل التجسسية في الدنيا ويفلت منها، وكذلك يقدر أن يحتال على القضاء والقوانين، وعلى المحامين وأساليبهم وعلى الشرطة ووسائلهم وسجونهم ويخرج من عندهم جميعاً بريئاً، وهو في الواقع غير بريء، ولكنه لا يقدر على ذلك بالنسبة للخالق، كما قال تعالى: )إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً، واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً، ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً، يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطاً، ها أنتم هؤلاء جادلتم عنه في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً، ومن يعمل سواءً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً، ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليماً حكيماً، ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً( [النساء: 105-112].
قل لي بربك لو أن مريد مخالفة القانون في أي بلد يعلم أن آلة التصوير مسلطة عليه في منزله وفي سيارته وفي الشارع وفي بيت الخلاء وفي أي مكان تحرك أو سكن فيه، وأن صورته تظهر على حقيقتها على مرآة التلفاز أمام مراقبين يتابعونه هل تراه يستطيع أن يخالف القانون ويفعل ما سيعاقب عليه من قبل السلطة القادرة على القبض عليه وعلى معاقبته؟.
فكيف إذا علم العبد وآمن أن الله محيط به يعلم كل حركاته وسكناته وخطرات قلبه في كل لحظة من لحظات حياته؟
فلو أن الإنسان يربى على العلم بهذه الصفة الإلهية والإيمان بها وما يترتب على ذلك من صغره فنشأ على ذلك لما كان يجترئ أغلب من رُبِّي على ذلك على ارتكاب المعاصي والاعتداء على الحقوق سواءً كانت حقوق الله أو حقوق عباده ولكان المؤمن بهذه الصفة يحقق الإحسان الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) [مسلم (1/36-37)].
وقال الأستاذ أبو الأعلى المودودي رحمه الله في هذا المعنى: (وأهم شيء وأجدره في هذا الصدد أن الإيمان بلا إله إلا الله يجعل الإنسان مقيداً بقانون الله ومحافظاً عليه، فإن المؤمن يكون على يقين بسبب اعتقاده بهذه الكلمة أن الله خبير بكل شيء، وهو أقرب إليه من حبل الوريد، وأنه إن أتى بعمل في ظلمة الليل، أو حالة الوحدة فإن الله يعلمه، وأنه إن خطر بباله شيء جميل فإن علم الله محيط به، وأنه إن كان من الممكن له أن يخفي أعماله على كل واحد في الدنيا فإنه لا يستطيع إخفاءها على الله عز وجل، وإن كان يستطيع أن يفلت من بطش أي كان فإنه لا يستطيع أن يفلت من الله عز وجل.
فعلى قدر ما يكون هذا الإيمان راسخاً في ذهن الإنسان يكون متبعاً لأحكام الله قائماً عند حدوده، لا يجرؤ على اقتراف ما حرم الله ويسارع إلى الخيرات والعمل بما أمر الله ولو في ظلمة الليل أو حالة الوحدة والخلوة، فإن معه شرطة لا تفارقه حيناً من أحيانه، وهو يتمثل دائماً أمام عينيه تلك المحكمة العليا التي لا يكاد الإنسان ينفذ من دائرة حسابها) [مبادئ الإسلام ص98 طبع الاتحاد الإسلامي للمنظمات الطلابية].
فإذا فقد الإنسان العلم والإيمان بهذا المعنى فإنه سيرتكب كل ما يهواه عندما يشعر أنه لا يعلم به القادر على تأديبه وسيكون الموظف المسئول عن متابعة المجرمين مجرد ما يتعاطى هو بنفسه المسكرات والمخدرات أو يخفي جرائم المتاجرين في ذلك والذين يتعاطونه إذا نال منهم فائدة مادية، وهذا أمر يعرفه أهله أما من علم هذا المعنى وآمن به فأمانته يعرفها ذوو الخبرة في هذه الأمور.
غرس الإيمان بقدرة الله التامة على كل شيء:
إن المجرم إذا علم أن أحداً يعلم جريمته إذا ارتكبها، ولكنه يعلم أن هذا العالم بجريمته عاجز عن متابعته وعقابه فإنه يستطيع أن يرتكب تلك الجريمة وينجوا من عقاب ذلك العالم بجريمته ولو كان يبغضها غاية البعض، لكنه إذا اجتمع عنده العلم والإيمان أن أحداً يعلم بما يرتكبه من معصية ويقدر على متابعته ومحاسبته وعقابه لا يقدر أبداً على الإفلات منه فإنه لا يقدم على ارتكاب المعصية التي يعلمها ويعاقبه عليها.
ولهذا جمع الله سبحانه بين علمه المحيط بكل شيء، وقدرته التامة على كل شيء في قوله تعالى: )قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير( [آل عمران: 29].
وقال تعالى: )أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، كانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً( [فاطر: 44].
فمن أراد أن يوجد من يجتنب ما يضره ويضر مجتمعه من الجرائم، بل من أراد أن يكون الشعب كله حارساً على مصالحه في السر والعلن فليرب من أراد منه ذلك على العلم والإيمان بقدرة الله التامة على كل شيء مع إحاطته تعالى علماً بكل شيء.
ولعل هذا يبين حكمة أمر الله تعالى عباده أن يعبدوه بأسمائه الحسنى التي تملأ القلب المؤمن حباً لله وخوفاً ورهبة منه فيقدم على ما يحب ويبتعد عما يكره، كما قال تعالى: )ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها( [الأعراف: 180].
لأن كل اسم من أسمائه تعالى يحمل من المعاني ما لو فقهه المؤمن وثبت في قلبه لازداد تقرباً إلى الله بطاعته بأداء حقوقه وحقوق عباده، وترك معصيته بعدم الاعتداء على حقوقه وحقوق عباده.
ولهذا كان المكثر من حفظ أسماء الله الحسنى المتعبد بها جديراً بوعد الله أن يدخله الجنة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)) [البخاري (3/185) ومسلم (4/2062) وفي مسلم زيادة في رواية: (من حفظها)].
وقال ابن القيم رحمه الله: (ولو شهد بقلبه صفة واحدة من أوصاف كماله لاستدعت منه المحبة التامة عليها، وهل مع المحبين محبة إلا من آثار صفات كماله فإنهم لم يروه في هذه الدار، وإنما وصل إليهم العلم بآثار صفاته وآثار صنعه فاستدلوا بما علموه على ما غاب عنهم) [طريق الهجرتين وباب السعادتين ص:561-562 طبع قطر].
غرس الإيمان بكتاب الله في النفوس:
إن هذا القرآن لم ينزل إلا لهداية البشر وإقامة الحجة عليهم، قال تعالى: )ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين( [البقرة: 1-2]، وقال تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} [الإسراء: 9]، وقال تعالى: )وهو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون( [الصف: 9].
فإذا ربي الإنسان على الإيمان بأن هذا القرآن كلام الله وانه لا اهتداء إلا به في هذه الحياة، وأن ما شرعه الله فيه يجب أن يطاع أمراً كان أو نهياً، وأنه لا يجوز أن يطاع أحد في معصيته وأنه يجب أن يُتَعلم حلاله وحرامه، ويُطَبق في واقع الحياة أن الإنسان إذا ربي على ذلك فسيكون إنساناً صالحاً يحب الخير ويدعوا إليه ويأمر به، ويبغض الشر ويحذر منه وينهى عنه، ومن ذلك المسكرات والمخدرات التي حذر الله تعالى منها.
وإذا لم يرب المسلم على ذلك فأي قانون قادر على قيادته بسهولة ويسر غير هذا القرآن؟
لقد كان لهذا القرآن أثره في نفوس الذين أخذوه علماً وإيماناً وعملاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت لهم بذلك السعادة والعزة والأمن والاستقرار والإيثار والمودة والإخاء، وهذه المعاني هي التي ينشدها العالم اليوم، لفقدها أو ضعفها التي يكاد يكون كالفقد، ولا يمكن أن تعود هذه المعاني إلى الأرض إلا إذا سلك المسلمون مسلك سلفهم الصالح في تعلم كتاب الله والإيمان به وتطبيقه في حياتهم.
قال ابن كثير رحمه الله: (قال الأعمش: عن أبي وائل عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن، وقال عبد الله السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرؤننا أنهم كانوا يستقرؤن النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً) [تفسير القرآن العظيم (1/3) وانظر الفتاوى لابن تيمية رحمه الله (13/331)].
هكذا كان تأثير القرآن على النفوس التي آمنت به، كانوا يقفون عند آياته تلاوة وتفهماً لمعانيها وتطبيقها لأوامرها ونواهيها.
وسنة رسول الله صلى اله عليه وسلم وسيرته كالقرآن في التكليف ووجوب الإيمان بها، فهي وحي مثله في ذلك، والواجب الإيمان بما صح منها والعمل بها كالقرآن، لأن الله قد أمر بطاعة رسوله كما أمر بطاعته، قال تعالى: )قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين( [النور: 54].
فإذا غرس الإيمان بالكتاب والسنة في نفوس الناس تغيرت نفوسها من الجنوح والفسوق إلى الإقبال إلى الله والطاعة.
وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لشدة إيمانهم بهذا القرآن قال لهم الله عز وجل: )فهل أنتم منتهون( [المائدة: 91، تفسير القرآن العظيم (2/92)] قالوا: انتهينا يا رب، وكان ذلك في أم الخبائث كلها وهي الخمر.
غرس الإيمان باليوم الآخر في النفوس:
إن علم الإنسان وإيمانه أنه سيموت فقط غير كاف في تربيته على فعل الخير وترك الشر، لأنه لا يوجد عاقل في الأرض إلا وهو يعلم علم اليقين أهن سيموت، فلا بد لتربية الإنسان على فعل الخير وتر الشر من غرس الإيمان باليوم الآخر في نفسه وتعليمه ما يكون فيه من أهوال وجزاء، وإلا فالذي لا يؤمن باليوم الآخر كلما ذكر الموت ازداد ضراوة وشراهة في التمتع بالشهوات وازداد تمرده على القوانين وحقوق الناس ما لم يتيقن من وجود رادع له بالمرصاد.
ولهذا تجد الإيمان باليوم الآخر يقترن بالإيمان بالله تعالى في الإثبات وما يترتب عليه وفي النفي وما يترتب عليه في القرآن والسنة معاً.
كما قال تعالى: )ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين( [البقرة: 8] وقال تعالى: )إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجر عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون( [البقرة: 62] وقال تعالى: )وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن بالله واليوم الآخر قال فمن كفر فأُمتِّعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير( [البقرة: 126] وقال تعالى: )ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين …( [البقرة: 177] وقال تعالى: )ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر( [البقرة: 232] وقال تعالى: )ليسوا سواء، من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهمن عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين( [آل عمران: 113-114] وقال تعالى: )يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً( [النساء: 59] وقال تعالى: )إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين( [التوبة: 18].
وقال تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة: 29]، وقال تعالى: )لا يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون( [التوبة: 44-45]، وقال تعالى: )وماذا عنهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقكم اله وكان الله بهم عليماً( [النساء: 39].
هذه الآيات واضحة أنه يترتب على الإيمان بالله واليوم الآخر العمل الصالح في الدنيا والجزاء الحسن في الآخرة، ومعنى هذا أن الذي يغرس في نفسه الإيمان باليوم الآخر فيؤمن به حقاً لا يرتكب معصية الله تعالى خوفاً من عذابه في ذلك اليوم، ويسارع إلى طاعة الله طمعاً في ثوابه ورضاه في ذلك اليوم.
وقد أجمل الله سبحانه وتعالى رحلة الإنسان وأطوارها خاتماً بالبعث بعد الموت فقال: )ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة، فخلقنا المضغة عظاماً، فكسونا العظام لحماً، ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين، ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون( [المؤمنون: 12-16].
فالتذكير باليوم الآخر بما فيه من أهوال البعث والحشر والجزاء من أهم ما يوقظ الغافلين، والذي يؤمن بذلك حق الإيمان لا بد أن يطلب رضوان الله بفعل أوامره وترك نواهيه، كما أنه لا بد أن يفر من سخطه كذلك، ولهذا عني القرآن الكريم بذلك، كما قال تعالى: )ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد( [الحج:1-2]، وقال تعالى: )اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون( [الأنبياء: 1-3].
فالذي لا يؤمن بالآخرة أو يغفل عنها لا يرجى منه خير ولا إقلاع عن الشر والفساد في الأرض.
قال المودودي رحمه الله: (فإنكار الإنسان للحياة الآخرة أو الإقرار بها له تأثير في حياته، فإن الذي فطر عليه الإنسان أن يصبوا إلى عمل أو يعرض عنه إلا على قدر ما يرى فهي لنفسه فائدة أو ضرر، فأنى للذي لا يغدوا نظره فائدة هذه العاجلة وضررها أن ينشط لعمل صالح لا يرجوا منه فائدة في هذه الدنيا، أو يجتنب عملاً سيئاً لا يخاف منه على نفسه ضرراً في هذه الدنيا؟ أما الذي ينفذ بصره إلى نتائج الأعمال ولا يقف عند ظواهرها، فلا يرى نفع هذه العاجلة أو ضررها إلا شيئاً عارضاً، فيؤثر الحق على الباطل والخير على الشر، نظراً إلى فائدة الآخرة أو مضرتها الأبدية ولو كان الخير يعود إلى نفسه بأقدح ضرر والسيئة بأعظم منفعة في هذه الدنيا.
فانظر إلى ما بين هذين الرجلين من الفرق العظيم والبون الشاسع، فالخير في نظر الأول ما يحصل نفعه في هذه الحياة الفانية … والشر عنده ما ينتج أو يخشى أن ينتج شيئاً مكروهاً في هذه الدنيا … بينما الخير في نظر الرجل الثاني ما يرضي الله والشر ما يسخطه، وهو يرى أن الخير في كل حال وإن لم ينفعه في هذه الحياة الدنيا … وأن الشر في كل حال وإن لم يذق، أو لم يخف أن يذوق وباله في هذه الحياة الدنيا) [مبادئ الإسلام ص:115-117].
فإذا ما أردنا الأمن والسعادة وانقياد الناس للخير وابتعادهم من الشر، ومن ذلك تعاطي المسكرات والمخدرات فعلينا أن نغرس في نفوسهم الإيمان بالله وبكتابه وباليوم الآخر، وغيرها من أصول الإيمان وفروعه، فإن الإيمان يغير النفوس من شريرة إلى خيرة، ولا يمكن لغير الإيمان أن يغير تلك النفوس ذلك التغيير.

المبحث الثاني: تربية المجتمع على تطبيق الإسلام.
إن الإيمان الصادق لا بد أن يثمر العمل الصالح، والعمل الصالح هو أصول الإسلام الخمسة وما تفرع عنها: الشهادتان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام وكلما أوجب الله على المسلم عيناً أو كفاية وكذلك اجتناب ما حرمه الله تعالى عليه، بل إن المؤمن الحق هو الذي يفعل المندوبات ويترك المكروهات ويترك المباحات التي يخشى أن تؤدي به إلى ما فيه بأس.
ويجب أن يربى المجتمع المسلم على القيام بالعمل الصالح من فعل واجب أو ترك محرم، كما يستحب أن يربى على فعل المندوبات وترك المكروهات، وأن يكون العمل الصالح هذا هو المسيطر على هذا المجتمع وأن يكون ولاة أمور المسلمين وهم الحكام والعلماء قدوة حسنة في ذلك للمجتمع فإن تطبيق معاني الإسلام في المجتمع تجعل الخير فيه مألوفاً وتجعل الشر منكراً.
يشعر المجتمع المسلم عندما يطبق فيه الإسلام بالارتياح والطمأنينة لكل عمل مشروع ويحب صاحبه ويقدره، كما يشعر هذا المجتمع بالنفور من أي عمل سيء ويبغض صاحبه، فيظهر بذلك الخير والخلق الحسن ويختفي الشر والخلق السيء فلا يوجد في هذا المجتمع سوق نافقة للمعاصي والمنكرات فلا زناً ولا رباً ولا قتل ولا قتال ولا ظلم ولا خمر ولا مخدرات ولا غيرها.
وهذا بخلاف ما إذا اختفى تطبيق الإسلام أو ضعف فإن المجتمع لا يغضب لمنكر ولا يتأذى منه، بل إنه يستسيغه وقد يؤيده كثير من أفراده.
التطبيق للإسلام يدفع المجتمع المسلم إلى التعاون على البر والتقوى، وعدم تطبيقه يدفع إلى التعاون على الإثم والعدوان، أو على السكوت عن الإثم والعدوان، والسكوت في النتيجة تعاون على الإثم والعدوان.
وأرى أن أقتصر في هذا المبحث عل ما مضى، لأنه سيأتي في الفصول والمباحث الآتية ما يمكن أن يغني عن الإطالة هنا في هذا الموضوع.

الفصل الثاني: الاهتمام بتربية الأسرة
الأسرة هي نواة المجتمع فإذا حصل اهتمام بتربية أفرادها تربية صالحة صار المجتمع كله صالحاً، لأن الأسرة تتكون من أفراد، والمجتمع يتكون من أسر.

المبحث الأول: يتعلق بالأسرة نفسها.
وذلك بأن يجتهد أفراد هذه الأسرة بتربية أنفسهم وتربية بعضهم بعضاً على الإسلام بأداء حقوق الله وحق بعضهم على بعض وأداء حقوق المجتمع وحق الله تعالى.
ويبدأ ذلك باختيار الزوج الصالح الزوجة الصالحة، والزوجة الصالحة الزوج الصالح، فإن صلاح الزوجين هو أساس التربية الطيبة للأسرة.
ثم قيام كل من الزوجين بواجبه المستطاع في تربية الأولاد على المعاني الإسلامية وغرس حب الله وحب رسوله وحب الخير في نفوسهم وبغض كل ما يبغضه الله ورسوله من المنكر والفساد، حتى ينشأ الأولاد وهم ملتزمون برضى الله مبتعدون عما يسخطه فيكونوا أعضاء نافعين في المجتمع المسلم.
وتربية الأسرة على هذا المعاني شاقة تحتاج إلي جهد متواصل وصبر طويل وتحتاج أن يجاهد الأخوان أنفسهما أن يكونا قدوة حسنة إذا أمر أولادهما بخير يفعلانه وإذا نهياهم عن شيء يتركانه وإلا كان الأمر الذي يخالف الفعل أو النهي الذي يرتكبانه وبال على الأولاد لأنهم يتأثرون بالفعل أكثر من القول [راجع كتاب منهج التربية الإسلامية (2/118) لمحمد قطب].
كما أنه يجب على الأسرة أن تحذر من جلساء السوء فلا تتيح لهم الفرصة ليختلطوا بها بل يجب أن يكون جلساؤها هم أهل الصلاح والخير الذين هم قدوة حسنة في العلم والعمل الصالح لتتعاون معهم على البر والتقوى وليس على الإثم والعدوان.
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم الأثر الصالح المترتب على مصاحبة الجليس الصالح كما بين الأثر السيء المترتب على مصاحبة الجليس السوء.
كما في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحاً خبيثة)) [البخاري (6/231) ومسلم].
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا قام به أفراد الأسرة فيما بينهم ولم يسمحوا للمنكر أن يستقر في أحد منهم يكون له أثر كبير في الاستقامة، لأن الطفل ينشأ على ذلك من صغره فيكبر وقد اصطبغ بذلك ويصبح ما يخالف مألوفه عنده غير مستساغ فإذا يسر الله له أن يكون المجتمع خارج البيت كذلك كان ذلك نوراً على نور.
أما إذا كانت الأسرة غير صالحة – أي لم ترب على الإسلام – فإن الشر يستقر فيها ويكون المعروف منكراً والمنكر معروفاً يتعاون الأفراد على الإثم والعدوان ولا يتعاونون على البر والتقوى، وأولاد هذه الأسرة يغلب عليها الشقاء وحب الشر بدلاً من حب الخير ويصعب على المجتمع أن يؤثر فيهم بالخير والصلاح إلا من شاء الله.
فإذا قامت الأسرة بواجبها في تربية أفرادها على الإسلام فإن ارتكاب الجريمة ومنه تناول المسكرات والمخدرات لا بد أن يقل لعدم قبول الأسرة له ومقاومتها له وإن لم تقم الأسرة بتربية نفسها على الإسلام فإن المسكرات تتفشى في الأسرة ويكثر ارتكاب المعاصي والإعانة عليه وهناك يكمن الخطر.
ولهذا أمر الله أولياء أمور الأسر بأن يقوا أنفسهم وأهليهم النار فقال تعالى: )يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون( [التحريم: 6].


المبحث الثاني: عناية أولياء أمور المسلمين بالأسرة.
الأسرة تستطيع أن تقوم بواجب تربية أفرادها على الإسلام في محيطها، ولكنها لا تستطيع أن تحمي أفرادها من أوبئة الفساد المنتشرة في الدولة، فالمدارس والأسواق والنوادي والمنتزهات وأجهزة الإعلام وغيرها من مرافق المجتمع العامة تشرف عليها الدولة وليست الأسرة.
والأسرة مضطرة إلى تعليم أولادها في المدارس، والمدارس أغلبها تحت إشراف الدولة، والأسرة تضطر إلى شراء حاجاتها من السوق والخروج إلى الشارع، والسوق والشارع تشرف عليهما الدولة، والأسرة تحتاج أن تمشي في مناكب الأرض وتمتع نفسها بالمناظر الجميلة في البساتين العامة والغابات وشواطئ البحار، وهذه وتلك إنما تشرف عليها الدولة فإذا قاما الدولة بواجبها من حماية الأسرة والمجتمع من الفساد الإعلامي والتعليمي والاجتماعي كان ذلك تعاوناً مع الأسرة على المزيد من الخير وإلا هدمت الدولة كل ما تبنيه الأسرة، ونحن نعرف أن بعض الدول المسئولة في بعض الشعوب الإسلامية تحاول هدم الإيمان في النفوس واتخذت كل الوسائل لاقتلاع الأخلاق الإسلامية ونشر الرذيلة والفساد بين الشباب، حتى أصبح المسلم يأمن على نفسه وعرضه وأولاده في المجتمعات الكافرة أكثر من أمنه في بلاد المسلم الذي هو مسقط رأسه.
وولاة الأمر الذين هذا دأبهم لا يرجى منهم إلا تقوية المنكر وإفشائه، فهل يحق لأمثال هؤلاء أن يستعينوا بالإسلام على محاربة بعض الفساد الذي اضطروا لمحاربته لا إرضاء لله ولكن لأغراض أخرى قد تكون اقتصادية؟ كلا.

الفصل الثالث: وجوب السعي لتحقيق الأهداف العليا التي تحيا بها الأمم، وتوجيه الشباب إليها
المسلم له هدف عام يجب أن تكون كل أهدافه متفرعة عن ذلك الهدف ومحققة له، وهذا الهدف العام هو رضا ربه تعالى عنه بقيامه بعبادته التي تشمل كل تصرفات الإنسان في هذه الحياة كما قال سبحانه وتعالى: )وما خلقت الجو والإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين( [الذاريات: 56-58]، وقال تعالى: )أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية، جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه( [البينة: 7-8].
ولهذا يبشر الله المؤمنين بدوام رضوانه عنهم ويذكرهم بذلك بعد أن يدخلوا الجنة فينالوا نعيمها لا يفكرون في سواه فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير في يدرك، فيقول: هل رضيتم؟، فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، فيقول: ألا أعطكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك، فيقول: أحل عليكم رضواني فلا سخط عليكم بعده أبداً)) [مسلم (4/2176)].
هذا هو الهدف العام الذي يجب أن يوجه كل نشاط للفرد المسلم والأسرة المسلمة والمجتمع المسلم إلى تحقيقه.
وهناك أهداف تنفرع عنه وتعتبر – نسبياً – وسائل لتحقيقه، وقد أطلقتُ عليها: الأهداف العليا، ويطلق عليها الضرورات الخمس، أو الست، ولهذا جعلت هذا الفصل خمسة مباحث كل مبحث يتعلق بإحدى هذه الضرورات، وهي: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال، وقبل أن أذكر كل مبحث على حدة أورد بعض النصوص من القرآن والسنة الدالة على عناية الإسلام بحفظ هذه الضرورات.
قال تعالى: )قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً، ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم، ولا تقربوا الفواحش، ما ظهر منها وما بطن، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم بع لعلكم تعقلون، ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط، لا نكلف نفساً إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى، وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون، وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلك وصاكم به لعلكم تتقون( [الأنعام: 151-153].
فقد اشتملت الآيات على وجوب حفظ الدين في نهيه سبحانه عن الشرك، وفي قوله: )وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله( وعلى حفظ النفس في قوله تعالى: )ولا تقتلوا أولادكم(، )ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق( كما اشتملت على وجوب حفظ النسل بقوله تعالى: )ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن( [ويدخل في حفظ العرض الذي يعده بعض العلماء ضرورة سادسة]، واشتملت على حفظ المال في قوله تعالى: )ولا تقربوا مال اليتيم( )وأوفوا الكيل والميزان بالقسط(وأما حفظ العقل فإنه يؤخذ من التكليف بحفظ هذه الضرورات وكل الأوامر والنواهي الإلهية، ولعل في قوله تعالى في آخر الآية الأولى: )ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون( ما يدل على ذلك ويشير إليه.
وهذه الضرورات اتفقت على وجوب حفظها جميع الملل والأمم وإن اختلفت في طرق حفظها وتفاصيلها، والفرق بين الإسلام وغيره من ملل الأرض الموجودة إلا أن الإسلام يعتبر حفظ هذه الضرورات ديناً وعبادةً لله عليها ثواب وعقاب، بخلاف الملل والقوانين الأخرى، ولهذا قال تعالى هنا في آخر هذه الآيات: )ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون( وقال قبل ذلك: )وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله(.
وقد فصل الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة وجوب حفظ هذه الضرورات ويصعب أن يتتبعها الباحث هنا، ولكن أشير باختصار شديد إلى بعضها:
فمن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال: ((الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم وأكل الربا، والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)) [البخاري (3/195) ومسلم (1/92)].
فالنهي عن الشرك بالله والسحر، والتولي يوم الزحف يدل على وجوب حفظ هذا الدين إيماناً وعملاً، والنهي عن قتل النفس يدل على وجوب حفظ النفس، والنهي عن أكل مال اليتيم وأكل الربا يدل على وجوب حفظ المال، والنهي عن قذف المحصنات الغافلات المؤمنات يدل على وجوب حفظ النسل والعرض وحفظ العقل يدل عليه التكليف بهذه الأمور وغيرها كما يدل عليه تحريم شرب المسكرات وتعاطي المخدرات.
هذه هي الأهداف العليا التي تحيى بها الأمم ويجب على ولاة الأمور من حكام وآباء وعلماء وغيرهم أن يوجهوا الشعوب إلى تحقيقها، فإن الشباب إذا وجه إلى تحقيقها وفقه معانيها وشغل نفسه بها فسوف لا يخاف منه تعاطي المعاصي والمنكرات، ومنها المسكرات التي تهدم هذه الضرورات والأهداف هدماً.
وقد عني علماء المسلمين بهذه الضرورات، وبينوا أنها أقوى المراتب في مصالح العباد وأنها هي مقصود الشرع [راجع الموافقات للشاطبي (2/4) بتحقيق محمد محي الدين والمستصفى للغزالي (1/286-288)].
وبعد هذا نذكر المباحث الخمسة وخلاصة في كل مبحث لبيان أن كل واحدة من هذه الضرورات لابد من حفظها وتوجيه الشباب إلى تحقيق ذلك الحفظ لها.

المبحث الأول: حفظ الدين.
ويدل على ضرورة حفظه وجوب العمل به بعد الدخول فيه والإيمان به، وأن من لم يدخل فيه ولم يعمل به فهو خاسر في الدنيا والآخرة، ومن دخل فيه ومن آمن به فهو فائز في الدنيا والآخرة، والحد الأدنى للعمل بهذا الدين هو التزام فرائضه واجتناب نواهيه.
قال تعالى: )والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر( [سورة العصر].
فإذا ما اشتغل المسلم بحفظ هذا الدين بالعمل بالحد الأدنى منه فقط كان عضواً صالحاً في المجتمع وكان بعيداً عن تناول ما حرم الله ورسوله عبادةً لربه وليس خوفاً من الناس فقط وسلم من الخسران، ومثل هذا لا يخشى منه أن يتعاطى المسكرات والمخدرات.
ومن حفظ هذا الدين: الدعوة إليه، كما قال تعالى: )قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا من اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين( [يوسف: 108].
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يبعث أصحابه لإبلاغ الناس هذا الدين بالرسائل أو بالبقاء بينهم لتعليمهم ودعوتهم وهكذا أصحابه من بعده [راجع البخاري (2/125) ومسلم (1/5)].
ومن يوجه لدعوة الناس من الشباب ويشغل بها فسيكون قدوة حسنة للعمل بالإسلام والاستقامة والخلق ومثله سيكون مجتنباً لكل المحرمات وبخاصة تلك التي لا يتعاطاها إلا أرذال الناس كالمسكرات والمخدرات.
ومن وسائل حفظ هذا الدين: الجهاد في سبيل الله الذي يكون فرض عين على كل مسلم عندما لا توجد طائفة قائمة به كافية.
والشباب الذي يهتم به فيوجه إلى التدريب على وسائل الجهاد في سبيل الله والاستعداد لمقارعة الأعداء ليس مثل الشباب الفارغ الذي تكون أهدافه هابطة ينظر إليها تحت أقدامه، فالأول يذكر اله في كل أحيانه ويعلم أن سبيل الله معناه دينه الذي يجب أن ينصر وترفع رايته، والآخر لا يفكر في غير الأكل والشرب والتمتع بالحياة، وإذا هم بشيء من التدريب فإنما يهتم بتقوية عضلاته تقوية ليس وراءها شيء.
وقد أمر الله تعالى بحفظ هذا الدين بإعداد المستطاع للقوة التي ترهب أعداء هذا الدين، كما قال تعالى: )وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم( [الأنفال: 60].
وهل يفكر الشاب المشتغل بالجهاد في سبيل الله في أن تهبط نفسه إلى ما يقتل روح الجهاد في نفسه وبخاصة المسكرات والمخدرات؟

المبحث الثاني: حفظ النفس.
أوجب الله تعالى حفظ النفس بأساليب شتى في النصوص والتشريع.
فقد ثبت الوعيد الشديد لمن اعتدى على النفس في الكتاب والسنة، بل أن بعض العلماء من السلف ذهبوا إلى عدم توبة من قتل نفساً محرماً بغير حق [راجع الإسلام وضرورات الحياة للكاتب ص:49-53].
ولم يبح الشارع القصاص ممن ادعي عليه أنه اعتدى على النفس إلا بإقامة البينة، وأوجب الله تأخير تنفيذ الحد أو القصاص إذا كان في ذلك ضرر على غير الجاني حتى يزول الضرر، وربط الشارع إقامة الحدود والقصاص بالإمام ونائبه حتى لا يستعجل في إزهاق النفوس البريئة [نفس المرجع ص:54-57 وراجع رسالة الحدود والسلطان للمؤلف].
ولم يجز الشارع قتل غير المؤلف ولو أتى ما يبيح به قتل المكلف [نفس المرجع ص:59] وأباح للمضطر – بل قد يجب عليه – أن يتناول ما هو محرم عليه في الأصل لإنقاذ حياته [نفس المرجع ص:61].
وفرض سد الذرائع الموصلة إلى قتل النفس [نفس المرجع ص:64].
والشباب الذي يربى على هذه المعاني التي تمتع الاعتداء على النفس وتوجب حفظها بعد أن يتعاطى المسكرات والمخدرات التي هي من أهم وسائل الاعتداء على النفوس.

المبحث الثالث: حفظ النسل.
ولو لم يحفظ الجنس لانقرض الجنس، وهذا أمر لا يختلف فيه البشر، وقد جبل الله عليه المخلوقات فحافظت عليه بالتزاوج، ويمتاز الإسلام عن غيره بأنه يوجب للمحافظة على النسل أن يكون عن طريق النكاح المشروع ولا يجيزة عن طريق غير مشروع.
ولهذا جاءت نصوص كثيرة في الكتاب والسنة تبين محبة الله ورسوله لحفظ النسل وتكثيره والترغيب في النكاح والتحذير من التبتل، وبيان المصالح العائدة على الآباء في الدنيا والآخرة من النسل ورتبت الشريعة على حفظ النسب أحكاماً كثيرة [راجع كتاب المؤلف: الإسلام وضرورات الحياة ص67-104].؟؟؟؟
والذي يربى على حفظ النسل بالطريقة المشروعة فلا يرتكب الزنا، وإنما يحافظ على النسل من طريق النكاح المشروع يكون بعيداً عن الأسباب التي تدفعه إلى إتيان الفاحشة التي يترتب عليه انتهاك الأعراض واختلاط الأنسب والإنجاب بطرق غير مشروعة، ومن أهم الوسائل المؤدية إلى ذلك تعاطي المسكرات والمخدرات.
فإن متعاطيها لا يسلم من الأمور الآتية:
1 ) إتيان الفاحشة التي يترتب عليها ما ذكر.
2) عدم الغيرة على عرض نفسه مما قد يتسبب عند وجود منكرات في أسرته واختلاط الأنساب فيها.
3 ) بعض الأمراض التي تقتل نسله في حال الحمل أو أولاده وأفراد أسرته بسبب الآثار التي تحذر له من تناول المسكرات والمخدرات.
فالشباب الذي يقتنع بوجوب حفظ النسل بل بضرورته ويعلم أنه يترتب على تعاطيه المسكرات والمخدرات ما يخل بحفظ النسل سيبتعد عن تعاطي ذلك.

المبحث الرابع: حفظ العقل.
العقل من أكبر نعم الله على الإنسان، جعله الله فرقاً بينه وبين الحيوان بما أودع فيها من طاقة للحكم على الأمور واستخلاص النتائج من مقدماتها والغوص إلى معرفة الحقائق الكونية والاستدلاد بها على عظمة الخالق … والواجب أن يشكر الإنسان ربه على هذه النعمة التي لولاها لما كان هناك فرق بينه وبين الحيوان.
لذلك يذكر الله آياته الكونية وما فيها من نعم الله على الإنسان ويعقب على ذلك التذكير بأن في ذلك آيات لذوي العقول، كقوله تعالى: {هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون، ينبت لكم به الزرع والزيتون والتخيل والأعناب ومن كل الثمرات في ذلك لآية لقوم يتفكرون، وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر، والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} [النحل: 10-12].
وكذلك جعل الله تعالى آياته الشرعية حياة لذوي العقول التي توصلهم عقولهم على تقوى الله، كما قال تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} [البقرة: 179].
ومما يدل على ضرورة حفظ العقل أنه تعالى جعله مناط التكليف، لأن العاقل هو الذي يكون قادراً على فهم خطاب الله، بخلاف المجنون، أو ناقص التصور بسبب نقص إدراكه لضعف عقله، كالصبي فإن الله لا يكلفهم في تلك الحال، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق)) [أبو داود (4/558) وراجع صحيح البخاري (8/21) والتمهيد لابن عبد البر (1/109) وفتح الباري (9/393) والأحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/138-139)].

وسائل حفظ العقل:
ويمكن تلخيص وسائل حفظ العقل في ثلاثة أمور عامة:
الأمر الأول: توجيهه إلى المجالات النافعة – أي تفكيره في المصالح التي تعود على صاحبه ومجتمعه بالخير في الدنيا والآخرة، وتغذيته بالمعاني السليمة الصافية سواء ما يتعلق منها بالمغيبات أو المحسوسات: في أمور الدنيا والآخرة.
وقد وردت نصوص كثيرة لتوجيه العقل إلى هذا الأمر وحث العقل على التفكير في المحسوسات الهدف منه الوصول على ما يترتب عليها من الانقياد لصانع تلك المحسوسات ولهذا يعبر عنها بالآيات، أي العلامات التي تدل العاقل على أن الانقياد لصانعها هو الشيء الطبيعي.
من ذلك قوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون} [البقرة: 164].
ففي هذا دعوة إلى استعمال العقل في هذا المجال وهو الاستدلال ببديع صنع الله على وجوب الانقياد له وذلك أصل مصالح الدنيا والآخرة.
ومن ذلك دعوة العقل إلى التفكير في كتاب الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم الذي اشتمل على كل ما فيه مصلحة للناس فإن ما فيه من الهداية إلى الخير والتحذير من الشر لا يتردد العقل السليم في الإقرار به كما قال تعالى: {إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون} [يوسف: 2].
فإذا لم يهتد الإنسان بعقله إلى ما فيه مصلحته مما جاء من عند الله فقد أضاع عقلة ولم يستفد منه، فأصبح بمنزلة من لا عقل له، لذلك ينفي القرآن الكريم عن مثل هذا الصنف من الناس العقل، أو ينكر عليه عدم العقل للأمور النافعة أو الضارة كالمشركين الذين يرفضون اتباع ما أنزل الله ويقلد الأبناء منهم الآباء، كما قال تعالى: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون، ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون} [البقرة: 170-171].
ومن الآيات التي تعرضت لهذا المعنى، وهو حفظ العقل على التفكر فيما ينفع فيتعاطاه وما يضر فيجتنبه هذه الآية الكريمة المتعلقة بحفظ العقل نفسه مما يفسده {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون} [البقرة: 219].
كانت هذه الآية قبل أن ينزل تحريم الخمر البات في سورة المائدة تلفت عقول شاربي الخمر إلى أن النفع الذي قد يحصل منها بيعاً وشراءً وشرباً في جانب مضارها العظيمة يقتضي أن ترجح العقول السليمة البعد عنها بدلاً من تعاطيها.
فإذا وجهت عقول الشباب إلى المقارنة والموازنة بين المصالح والمفاسد وما ينبغي فعله وما ينبغي تركه فإن ذلك وسيلة من وسائل حفظ عقولهم من الضياع.
الأمر الثاني: صيانة العقل من المفسدات المعنوية وذلك يشمل العقائد والأفكار والمعارف كلها، سواء كانت دينية أو اجتماعية أو سياسية أو عسكرية أو اقتصادية، فإن العقل إذا غذي بعقائد وأفكار ومعلومات فاسدة يسوء تصوره ويفسد ويضل ويصبح أخطر من العقل الخالي من المعلومات لأن هذا الأخير يمكن أن يهيأ له من يغذيه بالعقيدة السليمة والفكر الصحيح والمعلومات الصادقة فيكون قبولها لها سهلاً بخلاف العقل الذي يغذى بالمعاني الفاسدة ويؤكد له صدقها فإن انتزاع تلك المعاني الفاسدة منه وإحلال معاني صحيحة محلها ليس سهلاً بل قد يكون في غاية الصعوبة، وهذا واضح في أهل الملل المختلفة والأفكار المتشعبة في كل العالم.
والعقل الذي يصان من المفسدات المعنوية يسهل أن يصان من المفسدات الحسية بخلاف العقل الذي تفسده المعاني الفاسدة فإنه من السهل أن يستجيب لما يفسده حسياً.
ويمكن أن أضرب لذلك مثالاً يمس ما نخن بصدده في هذا المؤتمر، وهو أن نجد شخصين، أحدهما يقول: إن الدين غل في عنق الإنسان يمنعه من تناول ما يريد مما تشتهيه نفسه بكامل حريته، مادام متعلقاً بشخصه، وآخر يقول: إن الحرية الحقة هي حرية الإنسان الذي لا يعبد إلا الله، أما الذي لا يعبد الله وحده فليس بحر بل هو عبد لكل شيء مما تشتهيه نفسه، لأنه لا يقدر على مقاومة هذه الشهوات التي قد تهلك في النهاية.
فالأول يرى أن له الحق أن يتناول المسكرات والمخدرات لأنه حر في نفسه وليس لأحد عليه سلطان، والآخر يرى أنه ليس له حق تناول ذلك لما فيه من مخالفة أمر الله الذي يعلم ما يصلح الإنسان وما يضره، الأول غذي عقله بمعنى فاسد والثاني صين عقله من ذلك المعنى فكان سليماً.
ولقد كان للجن صولات وجولات في إفساد العقول قبل الإسلام، بسبب ما كانوا يحصلون عليه من استراق السمع من السماء وكانوا يضيفون إلى الكلمة الصادقة الواحدة تسعاً وتسعين كلمة كاذبة فيصدقهم الناس، فلما جاء الإسلام حرس السماء بالشهب التي كانوا يرمون بها لتحفظ العقول من فسادهم، إضافة إلى تغذية العقول بالوحي المنزل من السماء، كما قال تعالى: {وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهبا وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً، وإنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً} [الجن: 8-10].
وقد وردت أحاديث صحيحة تبين ذلك.
وإذا كان الله تعالى قد تولى حفظ الناس من خرافات الجن وكذبهم فمنعهم من استراق السمع فإن الأرض مليئة بالخرافات التي يتولى نشرها بعض الإنس وكذلك الأفكار الفاسدة التي يطلق عليها الآن الغزو الفكري وقد حمل الله تعالى المسؤولية علماء الإسلام وحكام الشعوب الإسلامية – الناجين من ذلك الغزو – فإنهم يجل عليهم أن يرموا من خالف الإسلام بشهب الحجة والحديد كما رمى الله الجن بشهاب السماء، قال تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله إن الله قوي عزيز} [الحديد: 25].
فإذا تمت صيانة العقل من المفسدات المعنوية سهل كما سبق صيانته من المفسدات المادية المحسوسة.
ولكن المؤسف أن أكثر ولاة أمور الشباب المسلم من حكام وعلماء وآباء لا يهتمون بعقول الشباب وصيانتها مما يفسدها معنوياً، ولكن كثيراً منهم لا يحاولون أن يصونوها من المفسدات المادية وهم بذلك شبيهون بمن يرمي الشخص الذي لا يجيد السباحة في البحر ثم يرمي له حبلاً قصيراً لا يصل إليه بل من أجل إنقاذه من الغرق.
بل من عجائب المسلمين أن ينعكس الأمر عندهم عما هو عليه عند غيرهم فيكون أكثر من المدمنين في الغرب من الطبقات الدنيا التي ليس عندها أعمال تملأ فراغهم أو من الذين عندهم قصور عقلي وتخلف ذهني، ولكن أغلب المدمنين في بلدان المسلمين هم من الذين يتولون أمور الشعوب من الساسة والأغنياء، بخلاف عامة الشعوب الإسلامية فإن الإدمان فيهم أقل من زعمائهم، بسبب بعد الصنف الأول عن دينه أكثر من الصنف الثاني، لأن الصنف الأول قد ملئت عقوله بالمفسدات المعنوية وهي ثقافة أهل الغرب السامة [راجع كتاب: الخمر بين الطب والفقه للدكتور محمد على البار، الذي نص على أسماء بعض زعماء الشعوب الإسلامية ممن عرف عنهم تعاطي الخمر ص:95-96].
الأمر الثالث: صيانة العقل من المفسدات المادية، وتندرج تلك المفسدات كلها في كلمة واحدة عني بها القرآن والسنة والفقه الإسلامي، وهي الخمر التي هي أم الخبائث كلها، لأنها تجمع بين التفتير والسكر الذي هو قمة الإضرار بالعقل، فالسكر لا يحصل إلا بعد التخدير والتفتير، وهذا ما أشار إليه علماء اللغة، كما قال الإمام مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري المشهور بابن الأثير: (وفي حديث عمر أنه رزق الناس الطلاء فشربه رجل من فتخدر) أي ضعف وفتر كما يصيب الشارب قبل السكر ومنه خدر الرجل والديه [النهاية في غريب الحديث (2/12)].
وفي ترتيب اللسان: (وقد خدرت الرجل، تخدر والخدر من الشراب والدواء فتور يعنري الشارب وضعف … والخدر الكسل والفتور …) [ترتيب السان (2/797)]، (وخدر العضو خدراً، من باب تعب: استرخى فلا يطيق الحركة) [المصباح المنير (مادة:خدر) لأحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي].
والأصل في تحريم الأشياء في الشريعة الإسلامية كون المحرمات خبائث عند الله الذي يعلم خبثها سواء ظهر ذلك للناس أو له يظهر، كما قال تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} الآية [الأعراف: 157].
ومن ضمن هذه الخبائث الخمر التي حرمها الله تعالى في كتابه وحرمها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته وأجمعت الأمة على تحريمها، كما قال ابن قدامة رحمه الله: (الخمر محرم بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} إلى قوله {فهل أنتم منتهون} [المائدة: 90].
وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل مسكر خمر، وكل خمر حرام)) رواه أبو داود، والإمام أحمد [مسلم بلفظه (كل مسكر خمر وكل مسكر حرام) وأبو داود (4/85) والترمذي (4/290) وأحمد (2/16،31،105،134،137)]، وروي عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الله الخمر وشاربها وساقيها، وبائعها ومبتاعها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه)) رواه أبو داود [أبو داود (4/82) وراجع الترمذي (3/580)]، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تحريم الخمر بأخبار تبلغ بمجموعها رتبة التواتر، وأجمعت الأمة على تجريمها…) [المغني (5/158)].
وقال ابن حزم رحمه الله: (كل شيء أسكر كثيره أحد من الناس فالنطفة منه فما فوقها إلى أكثر المقادير خمر، حرام ملكه وبيعه وشربه واستعماله على كل أحد …) [المحلى (7/488)].
فإذا كان الله تعالى إنما حرم على الناس أم الخبائث، والخمر أم الخبائث كما نص على ذلك السلف وعلى رأسهم عثمان بن عفان رضي الله عنه وقد حرمت بالكتاب والسنة والإجماع وقد لعن الله كل من شارك في الحصول عليها ومعنى ذلك أن مبيحها – أي الذي يبيح للناس أن يبيعوها ويشتروها ويصدروها ويستوردوها يكون أولى باللعن من غيره بل إن الذي يحل شيئاً علم تحريمه من الدين بالضرورة لا يكون مسلماً بل هو كافر، وهذا الصنف من الناس يكون محارباً لله ولرسوله وللمؤمنين ويكوم واقفاً ضد الحكم بما أنزل الله، فلا يليق أن يلجأ إلى الإسلام ليستعين به في وقاية شعبه مما يرى هو فيه مضرة كالمخدرات، لأنه يستعين بشيء يرى الناس أنه عدو له، فلا يمكن أن يستجيبوا له ولكن الذي يحرم ما حرم الله ويحل ما أحل الله ويحكم بشرع الله له الحق أن يستعين بأحكام الإسلام على مطاردة المنكرات كلها والناس يصدقونه عندما يذكر الإسلام ويستدل به [ليس في هذا تثبيط لمن يحاربون الإسلام عن الاستفادة من تطبيق أحكامه وإنما المراد الحض على التطبيق الكامل لأحكام الإسلام].
وعندئذ تكون صيانة الناس وعقولهم من المسكرات والمخدرات – وكذلك التدخين تكون بالطرق الآتية:
الأولى: منع صناعتها في داخل البلاد منعاً باتاً وإنزال العقوبة المناسبة بكل من تعاطى ذلك.
الثانية: منع إدخالها إلى البلاد عن طريق التجارة أو الاقتناء دون تفريق بين الناس، وإنزال العقوبة المناسبة بكل من حملها معه أو حاول إذخالها بأي وسيلة.
الثالثة: الحكم على من ضبط متعاطيها لها بما في شرع الله دون تعاون.
وقبل هذا كله تربية الشعب كله فرداً وأسرة ومجتمعاً على أنها من الخبائث التي حرم الله وأن الله يعاقب من ارتكبها كما مضى في الفصول والمباحث السابقة.
والإسلام وحده هو القادر على صيانة العقل من المفسدات المعنوية والمادية معاً ولا يستطيع أي دين أو أي قانون أن يصونه كما يصونه الإسلام وسيأتي ما يؤكد هذا في الفصل السابع إنشاء الله.

المبحث الخامس: حفظ المال.
المال مال الله استخلفه في عباده، فهو سبحانه المالك الحق، ولا يجوز لخلقه الذين استخلفهم فيه أن يحرزوه أو ينفقوه إلا من حيث هو مشروع.
قال تعالى: {آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} [الحديد: 7].
قال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: (دليل على أن أصل الملك لله سبحانه وأن العبد ليس له فيه إلا التصرف الذي يرضي الله، فيثيبه على ذلك الجنة) إلى أن قال: (وقال الحسن: (مستخلفين فيه) بوراثتكم عمن كان قبلكم، وهذا يدل على أنها ليست بأموالكم في الحقيقة، وما أنتم فيها إلا بمنزلة النواب والوكلاء، فاغتنموا الفرصة فيها بإقامة الحق قبل أن تزال عنكم إلى من بعدكم) [الجامع لأحكام القرآن (17/238) وراجع كتابنا الإسلام وضرورات الحياة ص:129-183].
ولا شك أن الذي يتعاطى المسكرات والمخدرات لا يؤمن على حفظ ماله ومال غيره في حال سكره وحال صحوه، فهو لا يبالي أن يجمع المال بأي أسلوب مشروعاً كان أو غير مشروع، بل إنه يتعدى على حقوق الناس من أموالهم وأنفسهم وأعراضهم فكيف يؤمن على حفظ المال.
ومن هنا يعلم أن الذي يتعاطى المسكرات والمخدرات بالبيع أو الشراء أو الصنع أو النقل أو الإباحة ليس مؤتمناً على حفظ الضرورات والأهداف العليا التي يجب على المسلمين أن يسعوا إلى تحقيقها في الحياة بل كل الأمم لا حياة لهم بدونها، وهي: الدين والنفس والنسل والعقل والمال.

الفصل الرابع
صرف الشباب إلى ميادين التزكية والجهاد

وفي هذا الفصل مبحثان:
المبحث الأول: صرف الشباب إلى ميادين التزكية.
المراد بالتزكية:
تطهير النفس من الآثام والمعاصي وإلزامها بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا الأمر بعث الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الناس وأنزل كتابه، والذي يتزكى يكون مهتدياً صالحاً، والذي لا يتزكى يكون ضالاً شقياً.
فإذا أريد لأي مجتمع أن يكون مجتمعاً صالحاً تظهر فيه الفضيلة وتختفي فيه الرذيلة فعلى ولاة الأمور فيه أن يقوموا بتزكيته وتطهيره ويصرفوا شبابه إلى كل ميدان يحقق فيهم تلك التزكية التي لا يفلح إلا من منّ الله بها عليه، قال تعالى: {كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} [البقرة: 151].
وكان بعث الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الأمة استجابة لدعاء إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام ربهما أن يبعث فيها هذا الرسول ليعلمهم ويزكيهم كما قال تعالى: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم} [البقرة: 129].
وأكد سبحانه وتعالى امتنانه على المؤمنين ببعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم لتعليمهم وتزكيتهم، فقال: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} [آل عمران: 164]، وقال تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} [الجمعة: 2]، وقال تعالى: { قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} [الشمس: 9] وقال: {قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى} [الأعلى: 14-15]، وقال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم} [التوبة: 103].
ظاهر من هذه الآيات القرآنية أن الله تعالى بعث رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن ليتلوه على الناس ويعلمهم هذا الدين ويزكيهم ويطهرهم به، وأن من تزكى أفلح ومن لم يتزك ضل.
وبناء على ذلك فإن من أراد أن يقر في الأرض الخير والصلاح ويحارب الشر والفساد فلا يد أن يقوم بتعليم الناس دينهم بالكتاب والسنة وأن يجتهد في تزكيتهم بتوجيههم إلى الأعمال الصالحة، وإذا لم يفعل ذلك فترك الناس يرتكسون في حمأة المعاصي والشهوات ويبتعدون عن التزكية والتطهير اللذين يغيران النفوس ويقودانها إلى الطاعة فلا ينتظر من الناس أن ينقادوا له إذا طلب منهم الابتعاد عن بعض المنكرات التي يرتكبونها، مثل الابتعاد عن المسكرات والمخدرات، فإنه قد ترك لهم الحبل على الغارب في الابتعاد عن طاعة الله والوقوع في معاصيه، وكثير من حكام الشعوب الإسلامية يبيحون الخمر فتباع وتشترى في بلادهم، بل إنها تتعاطى على مرأى ومسمع منهم وقد يتناولها بعض كبار رجال الدولة، ثم يطلبون من أفراد شعبهم أن يجتنبوا المخدرات وهذا غريب ومنطق معكوس، فالخمر أم الخبائث كما سماها بذلك سلفنا الصالح وعلى رأسهم عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد نهى الله تعالى عنها في كتابه وحرمها كما نهى عنها الرسول صلى الله عليه وسلم وحرمها وعاقب عليها ولعن كل من اشترك في تحضيرها وشربها ومع ذلك يبيحها قانون بعض البلدان الإسلامية وتوضع للتجارة فيها لوائح وأنظمة وتجبى منها الضرائب.
فعلى ولاة الأمور أن يزكوا أنفسهم أولاً من إباحة ما حرم الله وعليهم أن يوجدوا الأسباب التي تزكي شعوبهم حتى يتركوا ما حرم الله بدافع إيماني، وإلا فليتحملوا مسئولية تقصيرهم، بل وتعمد كثير منهم الابتعاد عن تزكية الشعوب وتطهيرها.
وميادين التزكية التي يمكن أن يوجه إليها الشباب كثيرة جداً، وأولها القيام بأصول الفرائض وفروعها، كإقامة الصلاة وصوم رمضان وإيتاء الزكاة وحج بيت الله الحرام وغيرها.
وقد دلت نصوص القرآن والسنة أن هذه الفرائض تزكي صاحبها وتوصله إلى التقوى وترك المنكرات.
ولأذكر أمثلة لهذه النصوص تدل على ما ذكر بدون تطويل فقد أثبت الله تعالى للمصلي الفلاح، لأنه تزكى بها وبغيرها، قال تعالى: {قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى} [الأعلى: 14-15] وأكد تعالى أن الصلات تكف صاحبها – إذا أداها على وجهها- عن الفواحش والمنكرات، فقال تعالى: {أتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلات تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون} [العنكبوت: 45].
فإذا كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولم يهتم بها ولاة الأمور فيحملوا الناس عليها بالترغيب والترهيب كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل، وكثير من المنتسبين إلى الإسلام لا يقيمون الصلاة فكيف نطلب منهم أن يتركوا بعض المنكرات.
وذكر سبحانه أن إخراج المسلم زكاة ماله يطهره الله به ويزكيه، كما قال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم} [التوبة: 103].
وأكثر الأغنياء في الشعوب الإسلامية لا يأخذ أولياء أمور المسلمين منهم زكاة أموالهم بل يخجلون أن يأخذوها باسمها ويأخذون منهم ضرائب وهم غير راضين بها، ولو أنهم أقاموا حكم الله فحثوا الناس على عبادة ربهم بإخراج الزكاة من أموالهم لكان في ذلك تطهير للأغنياء بأداء ركن كم أركان هذا الدين، وفرق كبير بين إخراج شيء عبادةً لله وإخراج ذلك الشيء أو أكثر منه ضريبة لا صلة له بالدين، ثم لو أخذت الزكاة وقسمت بين مستحقيها لاستغنى كثير من الفقراء عم ارتكاب المحرمات في سبيل الحصول على الرزق، من سرقة واختلاس وخيانة وتجارة في الخمور والمخدرات والدخان وغيرها.
وقال تعالى في تطهير الصيام للصائم: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة: 183]، فالصيام يؤدي إلى تقوى الله، لما فيه من إلزام الإنسان نفسه طاعة ربه واجتناب المباحات التي أصبحت محرمة عليه بعد شروعه في الصيام امتثالاً لأمر الله … فكون الإنسان يدع ما تشتهيه نفسه من المباحات – في الأصل – والطيبات طاعة لربه، فإنه يكون أكثر بعداً عما هو محرم عليه في الأصل، فإذا كان الصون يؤدي إلى هذا المعنى من التزكية التطهير فإن واجب ولاة أمور المسلمين حمل الناس عليه كغيره من فرائض العبادات، فإذا تركوا كثيراً من المسلمين في شعوبهم يعصون الله جهاراً فلا يقومون بهذا الركن من أركان الإسلام الذي يؤدي إلى تقوى والتقوى هي امتثال أمر الله واجتناب نهيه فكيف يطلبون من هؤلاء الفسقة العصاة أن يقلعوا عن المخدرات، بل إن بعض من ولاهم الله قَدَراً أمور المسلمين أفتى بجواز الفطر في رمضان من أجل التّقَوِّي على القيام بأعمال الدولة.
وقال تعالى عن الحج: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب} [البقرة: 197].
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه))، وقال: ((الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) [البخاري بشرح فتح الباري (3/597) (4/20) ومسلم (2/983)].
وكثير من الشباب المسلم يحرم من أداء فريضة الحج الذي هو ركن من أركان الإسلام وله هذا الأثر العظيم على النفوس في تطهيرها وتزكيتها.
ومن الصعب جداً أن يتتبع الباحث أثر بقية الواجبات والمندوبات وترك المحرمات والمكروهات في النفوس البشرية وتزكيتها وتطهيرها وكفها عن المعاصي عامة وهي غير خافية في واقع الناس ويعرف ذلك من احتاج من الناس إلى الرجل الأمين الذي لا يخونهم في أعراضهم وأموالهم، فإنهم يبحثون عن الرجل الملتزم بالدين وإن كانوا هم غير ملتزمين بذلك، والسبب هو علمهم أنه يبتعد عن ظلمهم وخيانتهم خوفاً من الله وليس خوفاً من مراقبتهم.
ومن ميادين التزكية المساجد وحلقات الذكر وتلاوة القرآن وتعليم مبادئ الإسلام، فإن الأثر الذي تحدثه المساجد في نفوس الناس قلما يوجد في ميدان آخر، اللهم إلا ميدان الجهاد في سبيل الله.
لذلك يجب على ولاه أمور المسلمين أن يعنوا بالمساجد، وبالترغيب في حضور صلاة الجماعة وحلقات الذكر وأن يوظفوا بها أئمة أكفاء قادرين على التزكية والتطهير والتعليم فإنه لا يمكن أخذ العلم النافع والعمل الصالح على الوجه الصحيح إلا عن طريق العلماء العاملين كما حصل ذلك للصحابة رضي الله عنهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وللتابعين مع الصحابة وهلم جر، ولهذا فإن العلماء العاملين يتحملون مسئولية عظيمة في تعليم الناس وتزكيتهم وتطهيرهم [راجع في هذا كلام نفيس للإمام أبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي رحمه الله في كتابه القيم: الموافقات (1/91-95) بتحقيق محمد عبد الله دراز – وللمؤلف كتاب في وظيفة المسجد التربوية بعنوان: دور المسجد في التربية، وهو مطبوع]، وحكام المسلمين يتحملون مسئولية عظيمة في عدم حمل العلماء على ذلك، فكيف إذا صدوهم عن القيام به؟.
ومن ميادين تزكية النفوس القيام بخدمة الضعفة والعجزة ومساعدة الأرامل والمحتاجين، وإنصاف المظلومين ومساعدة المنكوبين بالكوارث، كالأعاصير المدمرة والزلازل والبراكين والفيضانات والمجاعات وغيرها مما لا يأتي عليه الحصر والناس في كل مكان وزمان يحتاجون إلى هذه المساعدات فلو اهتم ولاة أمور المسلمين بتوجيه الشباب إلى القيام بهذه الأمور لكان ذلك أجدى عليهم من التسكع والتشرد والاشتغال بأمور تافهة لا تتحقق لهم مصالح لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل تجر عليه وعلى أمتهم الوبال والانحطاط.
إنه لا شك يوجد شباب منصرف إلى هذه الميادين النافعة التي تزكي النفوس وتطهرها ولكن هناك أعداداً هائلة من الشباب ضائعة عندها من الفراغ مما يجعلها بأسوأ الأخلاق وتوافه الأمور، بل وأكثرها ضرراً عليهم وعلى مجتمعاتهم.

المبحث الثاني: صرف الشباب إلى ميادين الجهاد.
الأصل في الجهاد في سبيل الله أنه فرض كفاية إذا قامت به طائفة أو طوائف في الأرض كافية لنشر الإسلام ورفع رايته وإعزاز أهل الإسلام وإذلال أهل الكفر وحماية ديار الإسلام من غزو الأعداء، بل وغزو الأعداء في عقر دارهم بحسب ما شرعه الله ورسوله ودرج عليه السلف الصالح فإنه إذا قامت به تلك الطائفة أو الطوائف يسقط عن الباقين، وليس فرض عين بهذا الاعتبار.
ولكن إذا لم تقم به طائفة أو قامت به طائفة غير كافية لرفع راية الإسلام في الأرض فإنه يكون فيض عين على كل مسلم بهذا الاعتبار.
واليوم لا يشك عاقل من المسلمين أن الجهاد فرض عين على كل المسلمين، لأنه لا يوجد في الأرض طائفة قائمة بالجهاد كافية لغيرها، مع أن كثيراً من أراضي المسلمين قد هجم عليها الأعداء واحتلوها وشردوا أهلها، ويتحفز أولئك لغيرها، وكذلك كثير من المسلمين مضطهدون في العالم: يعذبون ويشردون ويحرمون من حقوقهم، بل ويخرج كثير من أبنائهم من هذا الدين إلى دين النصارى والوثنيين والشيوعيين، ولست في حاجة إلى الإكثار من ضرب الأمثلة فالقدس وشعب فلسطين تحت اليهود وكل الدول النصرانية يؤيدونهم وكذلك الدول الشيوعية، والنصارى يهددون السوادن بالانقسام من سنوات طويلة، والحبشة شردت المسلمين في أرتيريا، والفلبين تقتل المسلمين وتشردهم والروس يحتلون أفغانستان ويهددون باكستان، وبعض الشعوب الإسلامية يحكمها من لا يؤمن بدين الإسلام، فهل يشك عاقل مسلم في كون الجهاد في سبيل الله اليوم فرض عين على كل المسلمين؟
وإذا كان الأمر كذلك فإن كثيراً من الشباب الذي لم يجد من الأعمال مما يملأ بها أوقاته الفارغة إلا التشرد والفساد وتعاطي المحرمات كالمسكرات والمحرمات وارتكاب الفواحش وكثير من هذا الباب إذا لم يجد ما يشبع رغبته من الفساد حزم حقيبته وانطلق إلى بلدان الكفر في الشرق أو في الغرب أو إلى بعض الشعوب الإسلامية التي لا تختلف كثيراً عن بلاد الكفر في إباحة حكامها المنكرات والمعاصي التي حرمها الله ورسوله ويأباها المؤمنون فيتناول ذلك الشباب كل ما تشتهيه نفسه ويعود إلى بلاده حاملاً معه جراثيم الأخلاق الفاسدة والأمراض المعدية وقد يعود وهو يحمل هدايا من المسكرات والمخدرات لأترابه ورفقائه أو عناوين في تلك البلدان، فيجر الشاب الواحد إلى ذلك الفساد شباناً كثيرين … وهكذا.
ولو أن أولياء الأمور حببوا إليهم الجهاد في سبيل الله وجمعوهم في معسكرات لتدريبهم وإعدادهم ثم توزيعهم على وحدات الجيوش الإسلامية ليحموا أوطانهم من غزو الأعداء والاعتداء على بلدانهم، وبعث بعضهم إلى ميادين الجهاد في سبيل الله: الجهاد القائم فعلاً في أفغانستان وغيرها لينالوا شرف الشهادة أو النصر على الأعداء فإذا عادوا إلى أوطانهم عادوا وهم رجال يحبون الخير ويبغضون الشر يدعون زملاءهم وأترابهم إلى بذل المال النفس في سبيل الله بدلاً من أن يعودوا وأدمغتهم قد ملئت بالسكر والتخدير وقد يكتشف شرهم فتملأ بهم الشجون وترمل نساؤهم ويتبعهم في التشرد أبناؤهم.
إن الجهاد في سبيل الله من أعظم الوسائل التي تقرب الشباب من الوقوع في تعاطي المسكرات والمخدرات والتدخين وغيرها من المنكرات، ولا يمكن أبداً أن يحل محله شيء من المشاغل الأخرى، كالنوادي الرياضية ونحوها، لأن الجهاد في سبيل الله يربط الشاب بربه وبالحياة الأبدية التي ينتظرها لو استشهد في سبيل الله، بخلاف غيره من الأعمال التي لا هدف لها إلا تحريك البدن.
وإذا كان ولاة الأمور في الشعوب الإسلامية وكذلك المجتمعات الإسلامية تريد الخير والسعادة لشبابها وتريد صرفهم عن المنكر والفساد فعليهم أن يصرفوا هذا الشباب إلى ميادين الجهاد في سبيل الله [وللمؤلف كتاب كبير في الجهاد بعنوان: الجهاد في سبيل الله حقيقته وغايته، وهو مطبوع في مجلدين].

الفصل الخامس: إقامة قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع:
المسلمون بشر كغيرهم، وليسوا بمعصومين من الزلل إلا أن يكونوا أنبياء، فكون بعضهم تصدر منهم بعض المعاصي والمنكرات ليس غريباً، وإنما الغريب أن تصدر من المسلم المعاصي ويصر عليها ويستمر في تعاطيها، وتشتد الغرابة أكثر عندما يصر المسلم على المعصية ثم لا يوجد من ينكرها، لأن المنكر عندئذ يستقر ويتفشى في الأمة فيصبح عادة يكثر بسببها الانحراف ويقتدي اللاحق بالسابق.

وفي هذا الفصل مبحثان:
المبحث الأول: في منزلة قاعدة الأمر بالمعروق والنهي عن المنكر في الإسلام.
لقد جعل القرآن الكريم والسنة النبوية استقرار الإيمان بأصوله وفروعه في المجتمع الإسلامي ملازماً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما جعل الولاء الحق بين المسلمين معتمداً على تآمرهم بالمعروف وتناهيهم عن المنكر، فقال تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله، إن الله عزيز حكيم} [التوبة: 71].
فإذا ما فقد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مجتمع، أصبح ولاء بعض هذا المجتمع قائماً على النفاق، وليس على الإيمان، وكان العصيان شعارهم والفسق قائدهم إلى لعنة الله وأليم عقابه، بدلا من تلك الرحمة المبنية على الطاعة والولاء الصادق الذي لا ينفك عنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون، وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم} [التوبة: 67-68]، وقال تعالى: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا ينتاهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} [المائدة: 78-79].
وعندما يفقد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع يكون شبيهاً بركاب سفينة اتخذوا بأيديهم أسباب غرقها بهم وهلاكهم في البحر، كما أن المجتمع الذي تقوم فيه قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون عكس ذلك، وهو أنه اتخذ كل الوسائل والأسباب المؤدية إلى سلامة سفينتهم وسلامتهم من الغرق، كما بين ذلك حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلها وبعضهم أسفلها، فكان الذي في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)) [البخاري (3/111)].

المبحث الثاني: ما يترتب على قيام المجتمع الإسلامي بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو عدم قيامه بذلك.
وفي هذا المبحث فرعان:
الفرع الأول: قيام ولاة أمور المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لقد جعل الله رسوله صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة للمسلمين في كل شيء، إلا ما نص على اختصاصه به، ومن ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً} [الأحزاب: 21]، وقال تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث …} [الأعراف: 157].
وقال في ولاة أمور المقتدين به صلى الله عليه وسلم: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} [الحج: 41].
وقد شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم لولاة الأمور أن يقوموا في رعاياهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السفر والحضر والمسجد والمنزل والشارع والسوق وعلى كل حال من الأحوال لما يترتب على ذلك من مطاردة المنكر بكل أنواعه في كل مكان حتى لا يجد له مأوى في المجتمع الإسلامي يستقر فيه.
فمن أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر في المسجد ما رواه جابر رضي الله عنه أن رجلاً مر في المسجد بأسهم قد أبدى نصولها فأمر أن يأخذ بنصولها لا يخدش مسلماً، وفي حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا مر أحدكم في مسجدنا أو في سوقنا ومعه نبل فليمسك على نصالها … أن يصيل أحداً من المسلمين منها شيء)) [البخاري (8/90)] .
ومن أمره صلى الله عليه وسلم بالمعروف ونهيه عن المنكر ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً، فقال: ((ما هذا يا صاحب الطعام؟)) قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: (( أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غش فليس منا)) [مسلم: (1/99)] .
ومن أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر في السفر وعلى مرأى من جموع كبيرة من البشر في وقت عبادة من أعظم العبادات ما رواه جابر رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((استنصت الناس)) ثم قال: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)) [البخاري (8/91)].
ومن ذلك قصة الفضل بن عباس الذي كان راكباً خلفه صلى الله عليه وسلم في هذه الحجة، فمرت نساء يسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ الفضل ينظر إليهن فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل ليحول بينه وبين النظر إلى النساء، فحول الفضل وجهه ينظر من الشق الآخر فحول الرسول صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر ليحول بينه وبين النظر إليهن [راجع صحيح مسلم (2/891)].
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع لأولياء أمور المسلمين منهاجاً يسيرون عليه، وهو أن يبذلوا وسعهم في اتخاذ الأسباب التي تحول بين الشباب ووصوله إلى معصية الله، حتى لو اقتضى الأمر أن يقوم ولي الأمر بنفسه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو قارنا بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعه وبين ما يحصل اليوم في أكثر الشعوب الإسلامية من منكرات يسمح بها ولاة أمور المسلمين إما صراحة وإما ضماناً في الأسواق والنوادي والمسارح وأجهزة الإعلام من إذاعة وتلفاز وفيديو وجريدة ومجلة وغيرها، حتى أن التلفاز يعرض ما هو منكر ويدعوا إلى المنكر في كل بيت، فيرى الشاب مغازلة الرجال للنساء ومنا هو أعظم ويرى عرض أفلام تدعوا إلى الجرائم الخلقية والجنائية ومن ذلك تناول المسكرات والمخدرات، وهذه الأخيرة يقال: إنها تعرض للتنفير من عواقبها ولكن لو تتبع المسئولون فقراتها بدقة لرأوا أنها تدعوا إلى العكس في كثير من الأحيان، إذ يكون الفوز في المسلسلة لبائعي المخدرات ومروجيها حيث يصبحوا أغنياء وإن كان فيها ضحايا من غيرهم، وهل يأمن ولاة الأمور من أن يتفق الممثلون اتفاقات سرية مع تجار المخدرات لتكون المسلسلات في حقيقة الأمر من وسائل ترويج المخدرات؟
قارن أيها العاقل بين تغطية الرسول صلى الله عليه وسلم وجه الفضل بن العباس من أن ينظر إلى ما حرم الله عليه وبين سماح كثير من ولاة الأمور لشاشة التلفاز أن يعرض فيها هذا المنكر وغيرها على الأسر وفيهم السباب والشابات، ثم نرى بعد ذلك الاستنجاد بالإسلام لوقاية الشباب من بعض المنكرات أترى هذا منطقاً مستقيماً أم هو مكب على وجهه؟
إن المنكرات يجر بعضها إلى بعض، فالخمر تدعوا إلى الزنا والاعتداء على الأنفس والأموال، والزنا يدعوا إلى غيره، والواجب على ولاة الأمور أن يتخذوا كل الوسائل المشروعة لمحاربة كل الموبقات ليتطهر المجتمع من أرجاسها.
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إن من خصائص الأمة الأمر بكل معروف والنهي عن كل منكر، لكل أحد من البشر [كتاب الاستقامة (2/200-203)].
فالمعصية التي تتمكن من الإنسان تجره إلى غيرها، والإنسان الذي يصر على معصية ينقلها لغيره، وإقبال النفوس على المعاصي أكثر من إقبالها على الطاعات وهذا يوجب الاستمرار واليقظة من ولاة الأمور لمتابعة المنكران ومطاردتها وكف الناس عنها بكل الوسائل المشروعة والمتاحة.
الفرع الثاني: قيام المجتمع كله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد أوجب الله تعالى على كل فرد من أفراد المسلمين أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، كما ورد في الحديث: ((من رآى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) [مسلم (1/69)].
ولفظه: (من) تفيد العموم فلا يخرج أي فرد من أفراد المسلمين من هذا العموم ولكن لما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية التي إذا قام بها أحد قياماً كافياً سقط عن الباقين فإن الفرد إذا رأى منكراً ورأى من يغيره فقد سقط عنه، لأن الهدف هو إزالة المنكر، لكن لا نخرج من هذا العموم أي مسلم فيما يتعلق ببغض المنكر بالقلب فالذي لا يبغض المنكر آثم ولو لم يتعاطاه هو أو أنكره غيره فكفاه.
وأمر الرسول صلى اله عليه وسلم الأسرة أن تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينها كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع)) [أبو داود ، وهو في شرح السنة للبغوي (2/406) قال المحشي: وإسناده حسن].
وأمر صلى الله عليه وسلم المجتمع بتغيير المنكر في الشارع والنادي والسوق، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إياكم والجلوس في الطرقات)) فقالوا: ما لنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها، قال: ((فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقه)) قالوا: وما حق الطريق؟ قال: ((غض البصر وكف الأذى ورد السلام وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر)) [البخاري (3/103)].
وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدعون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى في أشد الحالات عليهم في مرض الموت، ومن أمثلة ذلك أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه وجع وجعاً فغشي عليه، ورأسه في حجر امرأة من أهله، فصاحت امرأة من أهله، فلم يستطع أن يرد عليها شيئاً، فلما أفاق قال: أنا بريء مما برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة [مسلم (1/100) والصالقة: التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة: التي تحلق شعرها عند المصيبة، والشاقة: التي تشق ثوبها عند المصيبة].
وينبني على قيام ولي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكذلك الأفراد والأسر وكل المجتمع أن يكون أهل المنكر في وحشة يعتبرون نشازاً في المجتمع لأنهم يرون المجتمع ينبذ منكرهم ولا يرضى به، فلا يفشوا المنكر وإنما يختفي الأفراد الذين يصرون عليه ولا يجاهرون به، فالمجتمع في هذه الحالة مجتمع نظيف يرفض الدنس ويحارب الأمراض ويقي نفسه من انتشارها، والعصاة يشعرون بأنهم مرضى يحتاجون إلى علاج ينالون به الشفاء حتى يعودوا إلى المجتمع أسوياء أصحاء مقبولين.
أما إذا تركت المعاصي تنتشر ولم يغير المنكر فإن تلك المعاصي تشب في المجتمع كما تشب النار في الهشيم وعندئذ يصعب إطفاء تلك النار الشاملة.
ولعل هذا يوضح لنا السبب في انتشار المسكرات والمخدرات بشكل مخيف في كثير من بلدان المسلمين التي أُقِرَّت فيها المنكرات الكثيرة وبدأ ولاة الأمور يشعرون بالخطر من المخدرات فأخذوا يحاولون محاربتها ولكن بأساليب شبيهة يقطع أغصان الأشجار المتدلية التي تزيدها قوة وجمالاً ولم يحاولوا اجتثاث الشجرة من أصلها وذلك بتربية الشعوب على الإيمان والعمل الصالح ونشر الأخلاق الفاضلة ومحاربة الأخلاق السيئة الفاسدة كلها.
إن الاستعانة بالإسلام عند الحاجة لمحاربة بعض المنكرات وعدم أخذه وتطبيقه كاملاً هي شبيهة باستنجاد دول الغرب بالإسلام في محاربة الشيوعية فقط في بعض بلدان المسلمين فهل يليق بالمسلمين أن يكونوا كذلك؟

الفصل السادس: جهل مناهج التعليم والإعلام محققة لمقاصد الإسلام:
التعليم يربي الأجيال ويصوغهم صياغة عقدية وفكرية وسلوكية واجتماعية وسياسية واقتصادية خاصة، بحيث يسير الجيل المتعلم حسب أسس معينة وأهداف محدد بوسائل معدة لتحقيق ذلك كله.
لهذا ترى كل دولة مهما كبرت أو صغرت تحاول أن تضع لمناهج تعليمها أهدافاً معينة وتوجد لتحقيق ذلك الوسائل الممكنة المؤدية إلى تحقيق تلك الأهداف من كتاب ومدرس ونشاط منهجي أو غير منهجي، وكذلك وسائل الإعلام فإنها كالتعليم في الهدف وإن اختلفت في الوسيلة والتأثير.
وفي هذا الفصل ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: في مقاصد التعليم والإعلام في الشعوب الإسلامية.
إن مقاصد التعليم والإعلام يجب أن يتجه لتحقيقها التعليم والإعلام في بلاد المسلمين هي مقاصد الشريعة الإسلامية وعلى رأسها الضرورات الخمس السابقة: حفظ الدين، وحفظ النسل، وحفظ العقل، وحفظ المال بالطرق الشرعية التي وردت في الكتاب والسنة وما استنبطه منهما علماء المسلمين المجتهدين وحيث أنه سبق أن ذكرت خلاصة لهذه المقاصد في مباحث لكل واحد منها فإني أكتفي بذلك في هذا المبحث، ولكني أنبه على شيء مهم جداً، وهو أن تحقيق هذه المقاصد والأهداف يحقق كل ما يصبو إليه المجتمع من الخير والرفاه والقوة والعزة فماذا يريد المجتمع بعد تحقيق حفظ دينه ونفسه وعقله ونسله وماله؟
إن هذا الحفظ لهذه الأمور لا يأتي إلا بتوجيه جهود الأمة كلها، كل في تخصصه إلى تحقيق الأسباب المؤدية إلى ذلك ومحاربة كل وسيلة أو سبب يؤدي إلى الاعتداء عليها أو الضرر بها أو إهمالها.

المبحث الثاني: إعداد الأكفاء.
فإذا وضع المنهج على أساس تحقيق تلك المقاصد فإنه يجب أن يعد الرجال الأكفاء الذي يضطلعون بتطبيق ذلك المنهج: الأكفاء الإداريون والفنيون والمعلمون والمؤلفون وغيرهم، بحيث يكونون مؤمنين بتلك المقاصد ووجوب تحقيقها عندهم علم وخبرة يستطيعون أن يحققوا بها تلك المقاصد، أمناء على مصالح الأمة، حتى يكونوا قادرين على صياغة الأجيال صياغة علمية وعملية تطبيقية.

المبحث الثالث: الصفاء الإعلامي.
إن أجهزة الإعلام في أكثر الشعوب الإسلامية تهدم أكثر مما تبني، لأن موادها الإعلامية لا تخلوا من الدعوة المباشرة إلى الاعتداء على تلك الأهداف العليا التي لا حياة للمسلمين بدونها، ليس معنى هذا إن الإسلام لا يذكر في تلك الأجهزة، بل يذكر الإسلام وتلقى فيها مواعظ وخطب وندوات ولكن المواد الإعلامية المشوقة التي يقبل عليها الأطفال والأسر كالمسلسلات والتمثيليات، غالبها يحمل المنكر والفساد الذي ينغرس في نفوس المستمعين والمشاهدين والقراء بدون شعور منهم، ومن ذلك المسلسلات الغرامية الداعرة المفضوحة والرقص الفاجر والغناء الداعي إلى الفواحش، والصور العارية وجرائم الخطف والسرقات والاعتداء على النفوس وتناول المحرمات كالخمر والتدخين، والاستهزاء بالقيم والأخلاق الفاضلة وأحكام الإسلام.
والواجب على ولاة أمور المسلمين أن يحرصوا على وقاية شعوبهم من هذه المنكرات الضارة التي حطمت الأفراد والأسر والمجتمعات وشغلتهم عن التفكير في مصالحهم ومعالي الأمور.
وقد استند المسؤولون عن أجهزة الإعلام في الشعوب الإسلامية في بث المنكرات التي قد يسمونها بغير أسمائها على زعم أن الشعوب ترغب في ذلك وأنهم يريدون إرضاء كل الأذواق، وكثيراً ما نسمع المذيع وهو يقول بعد أن ينتهي برنامجه ولو كان فاسداً: "لعلكم استمتعتم مهنا بهذا البرنامج ونال إعجابكم".
والحقيقة أنه لا يجوز لأولياء أمور المسلمين أن يستجيبوا لأهواء الناس في شعوبهم – قلوا أو كثروا – فيبيحوا لهم ما حرم الله، والمصلحة والمفسدة في الشريعة الإسلامية إنما يحددها الله وليس الحكام ولا الشعوب، إلا ما لم يرد فيه نص ولا قاعدة شرعية عامة فإنه يجتهم فيه أهل الاختصاص من علماء الشريعة وغيرهم كل في اختصاصه، وأما ما مضرته واضحة أو منفعته واضحة فيجب اجتناب المضرة وفعل المنفعة [مجموع الفتاوى لابن تيمية (28/364)].
فالواجب على ولاة أمور المسلمين تصفية مناهج الإعلام ومواده من كل ما يؤثر على الأهداف العليا التي سبق بيانها بل الواجب أن يكون كل ما ينشر في أجهزة الإعلام محققاً لتلك الأهداف أو معيناً على تحقيقها حتى تنتشر الأخلاق الفاضلة وينغرس في نفوس الشباب حب الصلاح وبغض الفساد ومن ذلك تعاطي المسكرات والمخدرات.

الفصل السابع: الحكم بما أنزل الله
وفي هذا الفصل مبحثان:
المبحث الأول: وجوب اتخاذ الوسائل الواقية من ارتكاب المعاصي كلها:
سبق أن الإسلام يعتمد في تطبيقه على الإيمان به وأنه إذا غرس الإيمان في نفس الإنسان استجاب لأمر الله تعالى وأن هناك مقاصد يجب على المسلمين تحقيقها، وهذه المقاصد محاطة بأخلاق ثابتة لا يجوز التساهل فيها، وفساد تلك الأخلاق يؤدي إلى فساد المجتمع، لذلك تجد أن الجرائم والمعاصي التي فيها ضرر على المجتمع توجد وسائل كثيرة حض عليها الإسلام وأوجبها وهي واقية من الوقوع في تلك المعاصي، فمثلاً: جريمة الزنا، حرم الإسلام الوسائل التي تفضي إليها، كالخلوة بالأجنبية واختلاط الرجال والنساء الأجنبيات لغير حاجة، وإيجاب الحجاب على المرأة، وعدم جواز خضوعها في صوتها للأجنبي، ولزوم بيتها إلا لحاجة، والحض على الزواج والأمر بغض البصر … [راجع البخاري (6/117) ومسلم (2/891، 1018، 1019)].
وجريمة قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق شرع الله وسائل كثيرة تحول دون ذلك، كنهيه صلى الله عليه وسلم عن التساهل في حمل السلاح تساهلاً قد يؤي إلى إصابة الناس بدون قصد، والنهي عن الترويع، وإباحته للمسلم أن يدافع عن نفسه إذا أراد أحد الاعتداء عليه والنهي عن السباب، والبعد عن أسباب الخلاف [البخاري (8/38)].
وجريمة السرقة اشترط لإقامة الحد فيها صون المال في حرز، وأمر الأغنياء بإخراج الزكاة للفقراء والإحسان إليهم، وأمر القوي المكتسب أن يعمل حتى لا يحتاج إلى تناول ما حرم الله عليه، وأمر بالإنفاق على المحتاج: فينفق القريب على قريبه والزوج على زوجته، وبيت المال ينفق على من لا يوجد من ينفق عليه.
وجريمة القذف بالزنا نهى الشارع عن كل ما قد يؤدي إليها: أمر بحفظ اللسان بحيث أن المسلم يقول خيراً أو يسكت ونهى عن السباب.
وجريمة السكر نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن كل وسيلة توصل إليها فلعن عاصر الخمر ومعتصرها وساقيها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومشتريها، ونهى عن تناول القليل منها.
وهكذا تجد كل معصية حذر منها الإسلام ونهى عنها وعن الوسائل المؤدية إليها.
وعد الله سبحانه وتعالى بالثواب الجزيل كل من أطاعه فامتثل أمره واجتنب نهيه، وتوعد بالعقاب كل من عصاه فترك أمره وارتكاب نهيه.
وأمر المجتمع كله بالتآمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باتخاذ هذه الوسائل ولم يتساهل فيها.
وقد يفسق بعضهم عن أمر الله ويخرج عن طاعته فيصر على مقارفة الفساد ومحاولة نشره فلا بد له من رادع يردعه ويطهر المجتمع من فساده.

المبحث الثاني: إقامة الحدود والتعزيرات.
فالذي لاي يقومه كتاب الله وسنة رسوله والترغيب والترهيب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من قبل المجتمع فإن في قوة السلطان ما يقومه ويردعه كما قال ابن تيمية رحمه الله: (فالمقصود من إرسال الرسو وإنزال الكتب أن يقوم الناس بالقسط في حقوق الله وحقوق خلقه، كما قال تعالى: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب} [الحديد: 25]، فمن عدل عن الكتاب قوم بالحديد، ولهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف، وقد روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ((أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضرب بهذا – يعني السيف – من عدل عن هذا، يعني بالمصحف)) [مجموع الفتاوى (28/263-264)].
فالواجب على ولاة أمور المسلمين أن يحكموا بما شرع الله كاملاً وينهوا عن كل معصية نهى الله عنها ويأمر بكل طاعة أمر الله بها فإن في ذلك وقاية للمجتمع من الفساد وصونها له من الانهيار، وعليهم أن يقوموا في المجتمع بحدود الله التي أمر بها بدون تهاون ولا تأخر إذا ما توفرت شروطها لأنها العلاج الحاسم لأمراض المجتمع والتساهل في إقامتها أكثر إجراماً من ارتكاب الفسقة للجرائم لأن في ذلك تمكيناً للجريمة في الأرض وإقرارها خلافاً لأمر الله تعالى.
وبهذا يعلم أنه لا يوجد دين في الأرض ولا قانون عنده قدرة على منع المنكر والمعاصي في الأرض مثل دين الإسلام وذلك لأمور ثلاثة:
الأمر الأول: ما فيه من التربية الإيمانية التي تكون حارساً لتصرفات المؤمن في قلبه لا تفارق لحظة من لحظات حياته، فإذا فارقته قليلاً ذكر الله فتاب ورجع إلى الله.
الأمر الثاني: ما فيه من الشمول للأخلاق الفاضلة التي يجب أن يتحلى بها المسلم وكذلك ما فيه من الشمول للنهي عن الأخلاق السيئة التي فيها ضرر على الفرد والأسرة والمجتمع بتفاصيل دقيقة ونصوص واضحة سواء فيما يتعلق بالأخلاق الحسنة المأمور بها أو الأخلاق السيئة المنهي عنها.
الأمر الثالث: ما فيه من الحسم الكامل في تطبيق حكم الله على من ارتكب ما نهى الله عنه سواء فيما يتعلق بالحدود والقصاص أو بقية المعاصي التي فيها التعزير، والمسلمون يطبقون ذلك كله: إيماناً وسلوكاً وزجراً، عبادة لله تعالى.

الخلاصة:
1 ) إن غرس الإيمان بالله واليوم الآخر وبكتاب الله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم في النفوس هو أساس الصلاح والوقاية من الفساد، فيجب على المسلمين كل في موقعه الاجتهاد في غرس هذا الإيمان في نفوس الأفراد والأسر والمجتمع لتخليص الشعوب الإسلامية من اقتراف المنكرات والمخدرات.
2 ) الاهتمام بتربية الأسرة على الإيمان والعمل الصالح والبعد عن المنكرات أساس في صلاح المجتمع واستقامته، وإهمال الأسرة أو إشاعة المنكرات في أفرادها أساس في فساد المحتمع الذي يتكون من الأسر.
3 ) فرض على كل مسلم أن يجعل هدفه الأول هو رضى الله سبحانه وتعالى وأن تكون أهدافه العليا المتفرعة عن هذا الهدف هي مقاصد الإسلام التي في مقدمتها الضرورات الخمس: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ العقل، وحفظ المال، فكل نشاط الأمة الإسلامية يجب أن يخدم تحقيق هذه الأهداف لأن هذه الأهداف إذا اتجه إليها سعي الشباب كان جديراً بالوقاية من المنكرات والجرائم، ومنها المسكرات والمخدرات.
4 ) يجب صرف الشباب إلى ميادين التزكية والأعمال الجادة والجهاد في سبيل الله لما في ذلك من ملئ الفراغ بما يرض الله ويخدم مصالح المسلمين العامة ويبعد الشاباب عن الهبوط إلى هاوية الفسوق والملذات العاجلة القاتلة ومنها المسكرات والمخدرات.
5 ) يجب أن تقام قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن كل المعاصي والجرائم حتى يتطهر المجتمع من أرجاسها ويجب أن يقوم بهذه القاعدة كل من تتوفر فيه شروطها وكل بحسب قدرته: العلماء بالبيان والحكام بالقوة عند الحاجة وكل واحد في موقعه كما يجب الأمر بكل الفرائض والواجبات والتقصير في واجب واحد يؤدي إلى التقصير في غيره كما أن التساهل في معصية واحدة يؤدي إلى إشاعتها وإشاعة غيرها.
6 ) يجب على المسؤولين عن التعليم أن يصوغوا مناهجه صياغة يتحقق بها حفظ الضرورات الخمس، وما يخدمها كما يجب أن يشتمل على ربط المسلمين بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً.
7 ) يجب على ولاة الأمور تحكيم شرع الله وعدم إهمال شيء منه لما في تحكيمه من طاعة لله ورسوله وإصلاح الأمة وتجنبها الفساد.
8 ) كل ما يحدث في الشعوب الإسلامية من مشكلات سواء كانت عقدية أو اجتماعية أو سياسية، فسببه بعد المسلمين عن دينهم وعدم تطبيق شرع الله تعالى.
9 ) عدم الحكم بما أنزل الله لا يقل إجراماً عن ارتكاب الجرائم التي تهدد أمن الأمة وسلامتها ولا أمن للمسلمين بدون الحكم بما أنزل الله.

المراجع:
1 – كتب التفسير:
تفسير القرآن العظيم لابن كثير.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.
2 – كتب الحديث وشروحه:
سنن أبي داود
سنن الترمذي
صحيح البخاري
صحيح مسلم
التمهيد لابن عبد البر.
فتح الباري
3 - كتب الفقه وأصوله:
مجموع الفتاوى لابن تيمية.
المغني لابن قدامة.
الإحكام في أصول الأحكام
المستصفى للغزالي.
الموافقات للشاطبي.
4 – كتب السلوك:
الاستقامة لابن تيمية.
طريق الهجرتين لابن القيم.
5 – كتب اللغة:
ترتيب لسان العرب نديم الجسر والمرعشلي.
المصباح المنير لابن المقري.
النهاية في غريب الحديث لابن الأثير.
6 – كتب حديثة:
الإسلام وضرورات الحياة للمؤلف.
الجهاد في سبيل الله حقيقته وغايته للمؤلف.
الحدود والسلطان للمؤلف.
الخمر بين الطب والفقه لمحمد البار.
دور المسجد في التربية للمؤلف.
مبادئ الإسلام للمودودي.
منهج التربية الإسلامية لمحمد قطب.

كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل