بسم الله الرحمن الرحيم

حكم تصرف المرأة في مالها بدون إذن زوجها.


روى أبو هريرة رضي الله عنه، قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي النساء خير؟ قال: (التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره) [النسائي (6/56) قال المحشي على جامع الأصول (6/498): ورواه أحمد، وإسناده حسن].
ذكر هذا الحديث في إحدى حلقات: "أثر التربية الإسلامية في أمن المجتمع الإسلامي، وسألتني إحدى الأخوات، عن حكم تصدق المرأة من مالها: هل يشترط فيه إذن الزوج؟ فأجبتها آنذاك باختصار، ورأيت أن هذا الأمر في حاجة إلى إيضاح للحاجة إليه، ولهذا جمعت ما تيسر في ذلك من مذاهب العلماء وأدلتهم وأوجه استدلالاتهم، مع بيان الراجح في ذلك.
قوله: ( ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره )

قد يفهم منه أن المرأة لا تتصدق من مالها، إلا إذا رضي الزوج بتصرفها، وفي هذه المسألة خلاف بين العلماء، ونوجز آراءهم وأدلتهم فيما يأتي:

الرأي الأول: أنه لا يجوز لها التصرف في مالها مطلقا، إلا بإذن من زوجها، وعلى هذا الرأي الليث وطاووس، رحمهما الله، واستدل لهذا الرأي بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (لا يجوز لامرأة عطية، إلا بإذن زوجها) [سنن البيهقي الكبرى (660) وله صيغ متعدد] وقال في سبل السلام: "رواه أحمد وأصحاب السنن، إلا الترمذي، وصححه الحاكم.

وبحديث واثلة بن الأسقع، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس لامرأة أن تنتهك من مالها شيئا، إلا بإذن زوجها، إذا ملك عصمتها) [قال في مجمع الزوائد (4/315): "رواه الطبراني، وفيه جماعة لم أعرفهم]

ورويت في ذلك أحاديث أخرى تدل على نفس المعنى، منها ما روي عن رجل من ولد كعب ابن مالك، عن أبيه عن جده، "أن جدته "خيرة" امرأة كعب بن مالك، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحلي لها، فقالت: إني تصدقت بهذا. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يجوز للمرأة في مالها، إلا بإذن زوجها، فهل استأذنت كعبا)؟ قالت: نعم. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كعب بن مالك زوجها، فقال: (هل أذنت لخيرة أن تتصدق بحليها)؟ فقال: نعم. فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها" [رواه ابن ماجه (2/798]

الرأي الثاني: أنه يجوز لها التصدق من مالها قل أو كثر، لزوجها خاصة، أما تصدقها لغير زوجها فلا يجوز بدون إذنه، إذا زاد عن الثلث، وعلى هذا الرأي الإمام مالك رحمه الله، وقد فصل مذهبه في المدونة، ويستدل لجواز إعطائها زوجها ما تشاء، بحديث: (تنكح المرأة لأربع- وإحدى الأربع-: لمالها) أما التقييد بالثلث فمادون لغير الزوج، فلم أجد له دليلا خاصا يدل عليه، ولكن جرت عادة المالكية، الاستدلال بحديث: (الثلث والثلث كثير) على كثير من الأحكام التي يقيدونها بالثلث، لأنهم يعتبرون الثلث كثير، وما فوقه أكثر، فيغتفرون الثلث فما دونه، لذلك استثنوا هنا الثلث فما دونه من الحظر الذي دلت عليه أدلة أهل الرأي الأول.

الرأي الثالث: جواز تصدق المرأة في مالها وتصرفها فيه، بدون إذن من زوجها، ولا فرق بينها وبين الرجل في ذلك.
وعلى هذا جماهير أهل العلم، ولهم في ذلك أدلة كثيرة من القرآن والسنة.

أما أدلتهم من القرآن، فهي ثلاثة أقسام:
القسم الأول: دخول المرأة في أي خطاب أو وصف أو حكم يوجه إلى الناس، أو إلى المؤمنين بصيغة التذكير، مثل قوله: ((يا أيها الذين آمنوا)) ((يا أيها الناس)) و ((كونوا قوامين)) ((أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة)) ((هدى للمتقين)) و((قد أفلح المؤمنون..)) ((وما تقدموا لأنفسكم من خير)) و غيرها مما لا يحصى في الكتاب والسنة... وأبواب الشريعة الإسلامية كلها: أمور الإيمان والأخلاق والمعاملات.
سواء قيل بدخول النساء مجازا أو تغليبا، فالنتيجة واحدة، وهي أنهن داخلات في العرف الشرعي، ولا تخرج النساء عن أي حكم يخاطب به الرجال إلا بدليل خاص، كقوله تعالى: (اقتلوا المشركين)) استثني النساء المشركات غير المقاتلات بما ورد من النهي في السنة عن قتلهن.

القسم الثاني: صيغ العموم المعروفة، مثل أسماء الشرط، والأسماء الموصولة، والمعرف بـ"أل" الاستغراقية، مثل قوله تعالى: ((إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)) ومثل قوله تعالى: ((فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره))

وقد فصل ذلك علماء أصول الفقه: "( وَ ) لأصَحُّ ( أَنَّ مَنْ الشَّرْطِيَّةَ تَتَنَاوَلُ لإِناثَ ) وَقِيلَ تَخْتَصُّ بِالذُّكُورِ وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ نَظَرَتْ امْرَأَةٌ فِي بَيْتِ أَجْنَبِيٍّ جَازَ رَمْيُهَا عَلَى الْأَصَحِّ لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ { مَنْ تَطَلَّعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ } وَقِيلَ لا يَجُوزُ لأنَّ الْمَرْأَةَ لا يُسْتَتَرُ مِنْهَا ( وَ ) لأصَحُّ ( أَنَّ جَمْعَ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ ) كَالْمُسْلِمِينَ ( لا يَدْخُلُ فِيهِ النِّسَاءُ ظَاهِرًا ) وَإِنَّمَا يَدْخُلْنَ بِقَرِينَةٍ تَغْلِيبًا لِلذُّكُور،ِ وَقِيلَ يَدْخُلْنَ فِيهِ ظَاهِرًا، لِأَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ فِي الشَّرْعِ مُشَارَكَتُهُنَّ لِلذُّكُورِ فِي الْأَحْكَامِ، لا يَقْصِدُ الشَّارِعُ بِخِطَابِ الذُّكُورِ قَصْرَ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِمْ" [حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع]


القسم الثالث: مساواة المرأة بالرجل في غالب الأحكام، ومنها التصدق، ((فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض)) [آل عمران 195]
((ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا)) [النساء (124)]
((من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)) [النحل(97)]
((ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب)) [غافر(40)]
ومن العمل الصالح إنفاق المال فيما يرضي الله.

أما أدلة أهل الرأي الثالث من السنة، فقد وردت أحاديث صحاح كثيرة، تدل دلالة واضحة، على مشروعية تصدق المرأة من مالها، بدون إذن زوجها.

منها قصة إعتاق ميمون زوج الرسول صلى الله عليه وسلم وليدتها بدون علمه، بدون علمه، وإقراره لها على ذلك، قالت ميمونة بنت الحارث، رضي الله عنها: إنها أعتقت وليدة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك) [صحيح البخاري (2/)915 وصحيح مسلم2 (/)694]

ومنها قصة أم الفضل بنت الحارث، قالت: "إن ناسا تماروا عندها يوم عرفة في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم هو صائم وقال بعضهم ليس بصائم، فأرسلت إليه، بقدح لبن، وهو واقف على بعيره بعرفة، فشربه" [صحيح البخاري (2/701)و مسلم(2/791)]

فقد تصرفت أم الفضل في هذا اللبن، وهو من مالها، فأرسلت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فأقرها وشربه، ولو كان تصرفها غير شرعي، لبين ذلك.
قال النووي رحمه الله – وهو يعدد بعض فوائد هذا الحدبث- "ومنها أن تصرف المرأة في مالها جائز، ولا يشترط إذن الزوج، سواء تصرفت في الثلث أو أكثر، وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وقال مالك: لا تتصرف فيما فوق الثلث، إلا بإذنه، وهو موضع الدلالة من الحديث أنه صلى الله عليه وسلم، لم يسأل: هل هو من مالها ويخرج من الثلث، أو بإذن الزوج أم لا؟ ولو اختلف الحكم لسأل [شرح النووي على صحيح مسلم (8/3)]

ومن الأحاديث الواضحة الدلالة على حق المرأة في تصرفها في مالها، بدون إذن زوجها، حث الرسول صلى الله عليه وسلم النساء على الصدقة، واستجابتهن لذلك، وتصدقهن بحليهن، كما روى ذلك جابر رضي الله عنه، قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم قام يوم الفطر، فصلى فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، ثم خطب الناس، فلما فرغ نبي الله صلى الله عليه وسلم، نزل وأتى النساء فذكرهن وهو يتوكأ على يد بلال، و بلال باسط ثوبه، يلقين النساء صدقة، قلت لعطاء: زكاة يوم الفطر؟ قال: لا ولكن صدقة يتصدقن بها حينئذ، تلقي المرأة فتخها ويلقين" [صحيح مسلم (2/603) وروى البخاري نحوه من حدبث ابن عباس البخاري (2/525)] ويراجع شرح النووي على صحيح مسلم (6/173)]

وأجاب أهل الرأي الثالث عن أدلة أهل الرأيين الأول والثاني، بأربعة أجوبة:
الجواب الأول: ضعف الأحاديث الواردة في منع المرأة من التصرف في مالها، بخلاف أدلتهم التي لا مطعن في ثبوتها ولا دلالتها.

الجواب الثاني: أنه لو فرض أن الأحاديث الواردة في المنع صالح للاستلال، لا يمكن أن تعارض الأدلة المبيحة، لقوتها ثبوتا ودلالة، والقاعدة أنه إذا تعارض دليلان ولم يمكن الجمع بينهما قدم أقواهما، واجتماع دلالة القرآن والسنة الصحيحة على حق المرأة في التصرف في مالها، لا بقوى على معارضتها أحاديث ضعيفة، أو مختلف في ثبوتها.

الجواب الثالث: حمل أحاديث المنع – لو صحت – على أحد أمرين:
الأمر الأول: أن ذلك محمول الأدب والاختيار، و حسن العشرة واستطابة نفس الزوج، وليس على سبيل التحريم.

الجواب الرابع: حمل المنع على المرأة السفيهة، التي تتصرف في مالها تصرف السفهاء، فتكون محجورا عليها حجر سفه، ولا فرق بين الصغيرة والكبيرة على الصحيح من أقوال العلماء، لأن السفه هو علة الحجر، عملا بقوله تعالى: ((ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا)) [النساء (5)]

ولقوله تعالى في اليتامى: ((وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم)) [النساء (6)] فقد أمر الله باختبار اليتيم بعد بلوغه، وقيد دفع المال إليه برشده، ومعنى هذا أن غير الرشيد، لا يدفع ماله إليه، ولو كان جاوز سن البلوغ [يراجع كلام المفسرين لهذه الآيات، كتفسير القرطبي وابن كثير وغيرهما، وكذا كتاب الحجر في كتب الحديث وكتب الفقه]

واختار هذا المعنى الإمام البخاري رحمه الله، فقال في صحيحه: "باب هبة المرأة لغير زوجها وعتقها، إذا كان لها زوج فهو جائز، إذا لم تكن سفيهة، فإذا كانت سفيهة لم يجز، قال الله تعالى ((ولا تؤتوا السفهاء أموالكم)) [وساق الأحاديث الصحيحة الدالة على مشروعية تصرف المرأة في مالها البخاري (2/915) ويراجع فتح الباري فتح الباري (5/218)]

وأشار الإمام الشافعي رحمه الله إلى ضعف أحاديث المنع، أو حملها عن صحت على معنى حسن الأدب والعشرة، قال البيهقي رحمه الله بعد أن ساق أحاديث المنع: .... أنبأ الربيع قال: قال الشافعي: "يعني في هذا الحديث سمعناه، وليس بثابت فيلزمنا نقول به، والقرآن يدل على خلافه، ثم السنة، ثم الأثر، ثم المعقول" وقال في مختصر البويطي والربيع: "قد يمكن أن يكون هذا في موضع الاختيار كما قيل ليس لها أن تصوم يوما وزوجها حاضر إلا بإذنه، فإن فعلت فصومها جائز، وإن خرجت بغير إذنه فباعت فجائز، وقد أعتقت ميمونة رضي الله عنها قبل أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعب ذلك عليها".[سنن البيهقي الكبرى[ 6/60]
وبهذا يعلم أن للمرأة الحق في تصرفها في مالها، مالم تكن سفيهة، وأنه لا فرق بينها وبين الرجل في ذلك.

كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل