بسم الله الرحمن الرحيم

كوابيس السياسة في إندونيسيا!


النشاط السياسي في هذا البلد يدعو المتتبع له –في أول وهلة-إلى العجب والدهش!
الشعب كله أصبح سياسيا بعد سقوط الحكم الاستبدادي الذي استمر أكثر من ثلاثين عاما! حتى إنني قلت لبعض من التقيتهم من الإندونيسيين: في استطاعتكم الآن أن تعلموا بعض الحيوانات خوض غمار السياسة، كالكلاب والقرود و الدلافين، لأن هذه السياسة، يغلب عليها كثرة الكلام من أعضاء حزب في أعضاء حزب آخر، والتذمر من حالة الفساد، وانخفاض الربية وارتفاعها في اليوم الواحد، بل في بنك دون بنك متجاورين في شارع واحد. وليست هي سياسة التخطيط المدئي للبلاد إداريا واقتصاديا وعسكريا وتعليميا، السياسة التي تحتاج إلى عقول تفكر بروية، ورجال يجتهدون في إخراج البلاد من أزماتها المتوالية التي لا تخفى على أحد.
هذه هي السياسة التي عنيتها في الفقرة السابقة.
والحقيقة أن الذي يعرف القبضة الحديدية في حكم إندونيسيا قبل سقوط الرئيس الأسبق سوهارتو، وما تلا ذلك في عهد الرئيس السابق حبيبي، لا يعجب مما يجري اليوم في هذا الشعب.
فقد مرت اثنتان وثلاثون سنة من القمع والاستبداد(الدكتاتورية) حظرت فيها الأحزاب، وكممت فيها الأفواه، وانفرد بالحكم فيه شخص واحد، يقرب من يشاء ويبعد من يشاء، أذل فيها الحاكم الأعزة، ورفع الأذلة، ووقف في صف الأقلية النصرانية ضد الأغلبية المسلمة- وبخاصة في العشرين عاما الأولى من حكمه-
وعندما أطاح به الشعب، وحل محله نائبه الدكتور بحر الدين حبيبي-وهو مهندس مدني، درس هندسة الطيران في ألمانيا، وبقي بعد تخرجه موظفا فيها فترة من الزمن، قبل أن يستدعيه سوهارتو لإنشاء مصنع الطائرات في باندونغ، واقتنع حبيبي بأن النهج الديمقراطي، هو خير ما يقدمه للشعب الذي ثار على سلفه، ففتح الباب على مصراعيه، وسمح بإنشاء الأحزاب، وفغر كل واحد فاه غير مصدق لما يجرى! أحقا أستطيع أن أكَوِّن حزبا سياسيا، أو أكُوْن عضوا في حزب سياسي بحرية كاملة بدون ملاحقة أجهزة الأمن والمخابرات والجيش؟!
لقد فتح باب السياسة والحزبية لكل من يريد مزاولة السياسية والحزبية، وأطلقت الألسنة المحبوسة في الأفواه مدة طويلة، فطمعت كل جماعة وكل فئة في إنشاء حزب يستقله لتحقيق مأربه، وظن كثير من زعماء الجمعيات والجماعات والأحزاب التي كانت محظورة، أنه سيأخذ نصيب الأسد من أعداد هذا الشعب الهائلة (21,00,000 ) وأخذ كل من عنده مقدرة على الخطابة ودغدغة عواطف الجماهير يعد العدة لإقامة حزب.
وفرقت السياسة بين أعضاء الجمعية الواحدة، والجماعة الواحدة، حتى الجماعات الإسلامية التي بقيت مدة طويلة متحدة، ولو ظاهريا، انقسمت إلى أحزاب، ومنها جمعية نهضة العلماء التي كان يرأسها عبد الرحمن واحد، أصبح فيها أربعة أحزاب، يتزعم أحدها عمه يوسف هاشم.
والمجلس الأعلى للدعوة الإسلامية، الذي كان يرأسه الدكتور محمد ناصر رحمه الله، وهو بديل لحزب ماشومي الذي حظره سوهارتو، انقسم أعضاء هذا المجلس إلى أحزاب، وهكذا انقسم حزب التنمية، وهو من الأحزاب الإسلامية، كما انقسم حزب غولكار وهو الحزب الحاكم في عهد سوهارتو، ووصل عدد الأحزاب إلى أكثر من مائة حزب، وكثير من زعماء تلك الأحزاب لا خبرة لهم في السياسة ولا في تكوين الأحزاب وقيادتها، ولهذا تساقطت كما يتساقط الفراش في النار وسط ليلة مظلمة.

فالرئيس الحالي أصبحت تلهج باسمه جميع الألسنة، في الأسواق والإدارات ووسائل النقل والمطاعم: ( عبد الرحمن واحد.. القُسْدُر ... وهو لقب يطلقه الإندونيسيون على أشراف بلادهم-وليس المقصود بالأشراف هنا المنتسبين إلى أهل البيت، وإنما المقصود ذوو الشرف من أهل البلد-) لسان يقدح فيه ويذمه، ويراه سارقا خائنا فيما ائتمنه عليه الشعب، وخرافيا في معتقده، وعلمانيا في سياسته، وفاشلا في إدارته، ويدعو هذا الفريق إلى الإطاحة به.

وآخر يهزأ به ويسخر منه ويضحك الآخرين بالتنكيت عليه.

وثالث –وهو القليل-يثني عليه، ويراه من أولياء الله الصالحين الذين يخاطبون الأرواح في القبور.
قادة الأحزاب في اتصالات مستمرة، غالبهم يجتمعون للتنسيق في خططهم للإطاحة بالرجل، والبحث عن أسباب قوية تحقق لهم ما يصبون إليه، وهدف غالبهم تحقيق أكبر قدر من المصالح لأحزابهم وأشخاصهم، وإذا تعارضت مصالح الأشخاص مع أحزابهم، انفصل عن حزبه وكون حزبا آخر!
ولجان البرلمان في اجتماعات متواصلة، لتقدم كل لجنة ما يجب تقديمه قبل اجتماع مجلس الشعب الاستثنائية في أقرب فرصة يتفق عليها، أو العادية في شهر أغسطس، لمساءلة الرئيس عن فساده الإداري والاقتصادية والسياسي والمالي والقانوني، وإسقاطه من الرئاسة وإخراجه من القصر الجمهوري، لتحل نائبته محله، ثم يقدر الله بعد ذلك ما يشاء.

عقد الندوات الإعلامية في التلفاز وفي الإذاعة، وفي المؤسسات العامة والخاصة: التعليمية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية، نسائية ورجالية، لمناقشة الأوضاع السياسية وما يجب اتخاذه في هذا الشأن.
والرئيس –القسدر-يتخبط في تصريحاته: مرة يطلب من زعماء الأحزاب وأعضاء البرلمان المصالحة، ويبعث الوسطاء بينه وبينهم تباعا، وتارة يهدد كل من تسول له نفسه بمعارضته ومحاولة إسقاطه بإعلان حل البرلمان و الأحكام العرفية.
ويتسرع في قراراته: فيصدر كل يوم أو يومين قرارا بإبعاد وزراء لا يوافقونه على سياسته، من جميع الأحزاب، وتعيين آخرين قد لا يستمرون معه أسبوعا أو أسبوعين، حتى يظن الظان أن الرجل يصاب بكوابيس في نومه، فيصدر وراء كل كابوس قرارا أو قرارين.
وهو متشبث بالقصر تشبثه بحياته، حتى إنه يقول: لا يمكن أن يغادره إلا بإطلاق الرصاص عليه!
وطالت قرارات الفصل والإبعاد بعض قادة الجيش ورجال الأمن الذين لم يوافقوه على إعلان حالة الطوارئ، ولكن غالب الجيش ورجال الأمن لم يوافقوا على قرارات الفصل والإبعاد، بل تحدوه ولا زالوا يتحدونه، وقاموا باستعراض أمام القصر يشبه المظاهرة، صرح قادتهم فيه أنهم لا يوافقون الرئيس على إبعاد قادتهم-إلا بتصديق البرلمان على ذلك حسب القانون- ولا على حالة الطوارئ.
وقد شبه الناس تصرفاته بحركة الميتة قبل خروج روحها، وهو ما يسميه فقهاؤنا بحركة المذبوح (الدابة التي تتردى من شاهق –مثلا-فلا تقدر على السير، ولكنها لا زالت تتحرك، فيحاول صاحبها تداركها بالذبح، لتكون حلال الأكل، ولكنها أصبحت في حكم الميتة، لأن حركتها شبيهة بحركة الشاة المذبوحة)
وقد قلت لبعضهم: لعل الرئيس يرى رؤى منامية تزعجه فيها كوابيس المعارضين، وكلما رأى شخصا يزعجه في منامه، أمر بفصله منن عمله.
ولهذا أصبح الرجل مكروها منبوذا من غالب فئات الشعب، ما عدا أعضاء حزبه.
بل إن بعض أقاربه لا يرونه أهلا للبقاء في الحكم، ومنهم أخوه صلاح الدين الذي يصرح بذلك لوسائل الإعلام المحلية والأجنبية، وقد قال لي عندما قابلته في جاكرتا يوم الثلاثاء 13/3/1422هـ ـ 5/6/2001م في مكتبه، وكان جوابه عن سؤالي: هل عند عبد الرحمن واحد كفاءة لرئاسة الجمهورية؟ قال: ليس لديه كفاءة لذلك، لأنه لا خبرة له بالعمل الجماعي، وهو قد ألف العمل الانفرادى، وليس سياسيا، ولا يجيد التنظيم، ولا قدرة له على جمع الناس حوله، لذلك كثر أعداؤه، وهو لا يستجيب للنصح.
وكذلك عمه يوسف هاشم، غير راض بتصرفاته، وهو يصرح بمخالفته في وسائل الإعلام، ولهذا كون حزبا آخر غير حزب عبد الرحمن، أعضاؤه من أعضاء جمعية نهضة العلماء. بل قد تكون من هذه الجمعية ثلاثة أحزاب غير حزب الرئيس.
وهذا يدل على أن الرئيس غير مرغوب فيه إلا من بعض أعضاء حزبه.
السارق الجديد يهدد السارق القديم!
ولكن الرئيس عبد الرحمن واحد عرف من أين تؤكل الكتف، فبدأ يهدد باعتقال بعض زعماء الأحزاب المعارضين له ، أو إحالتهم إلى القضاء، وقد صرح بعض أتباع الرئيس أن المتهمين له بالفساد المالي هم متورطون فيه أكثر من الرئيس، لأن كثيرا منهم كانوا مشاركين في وظائف الحزب الحاكم (حزب غولكار) الذي كان يرأسه سوهارتو، ولهؤلاء الزعماء قضايا فساد معروفة عند الإندونيسيين، ولهذا طالتهم الكوابيس، كما طالت عبد الرحمن واحد، وأصبحوا ترتعد فرائصهم من ذلك، ويحاولون الإسراع باجتماع مجلس الشعب للتعجيل بإسقاط الرئيس، لأن في ذلك إنقاذا لهم من تهديداته.
أما الجيش والشرطة ورجال الأمن، فينظرون إلى ما يدور في البلد من فوضى واضطراب، من وراء معسكراتهم ومعداتهم العسكرية بترقب وحذر، ويظهرون أنهم مع الشعب والدستور والقانون، وليسوا مع الرئيس، وهم في حقيقة الأمر القوة التي يحترمها جميع الأحزاب ويهابونها، لما يعلمون من أنها هي التي ستحسم الأمر في آخر المطاف.
وكثير من ضباط الجيش العاملين من ذوي الرتب الصغيرة، ولكن ذوي الرتب الكبيرة من المتقاعدين يديرون الأمور من وراء الجدران، ولكل منهم أتباع في الجيش، وتوجد بينهم خلافات مصلحية، ومن هؤلاء الجنرال ويرانتو الذي أقاله عبد الرحمن واحد بعد توليه رئاسة الجمهورية بفترة قصيرة، فنفس على نفسه بالموسيقا والأغاني أمام الشعب، وهو –كما يقول الإندونيسيون-: موسيقي وضابط قوي.
ويرى بعض المحللين أن كثيرا مما يجري في المقاطعات الأخرى، كآتشيه، وجزر الملوك، وأمبون، وغيرها، أن للجيش أيادي في تحريكها، ليستيقن قادة الأحزاب والحكومة ورئيس الدولة أن السيطرة على الأوضاع في البلد لا يمكن أن تتم إلا عن طريق هذه المؤسسة.

كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل