بسم الله الرحمن الرحيم

السباق إلى العقول (16-18)
تابع لغايات أهل الحق في السباق إلى العقول


رابعا:تحقيق توحيد الله تعالى في الأرض وعدم الإشراك به.
وإذا كان رضا الله تعالى هو غاية الغايات، فإن توحيد الله هو قائد جميع الغايات والوسائل إلى رضا الله، ومهما عمل الإنسان من أعمال ظاهرها الخير والصلاح والنفع العام أو الخاص للبشر، فإن ذلك كله لا يوصل إلى رضا الله بدون التوحيد، وهو ما تضمنته قاعدة القواعد الإسلامية:[لا إله إلا الله] التي يطلق عليها كلمة التوحيد، وكلمة الإخلاص.
وهذه الغاية هي التي أوجد الله من أجلها الكون الذي خلقه بالحق، وهي الحق، ومن أجلها خلق الملائكة والجن والإنس، ومن أجلها أنزل الكتب وأوحى الوحي وأرسل الرسل الذين قاعدة دعوتهم هي التوحيد، وما من رسول بعثه الله تعالى إلى الخلق، إلا كانت كلمة التوحيد هي أول ما يدعو إليه قومه.
قال تعالى: ((ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت)).[النحل: 36]
وقال تعالى: ((فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم أن لا تعبدوا إلا الله)).[فصلت: 13-14)
فسباق أهل الحق-وعلى رأسهم رسل الله-إلى عقول الناس، أهم غاياته أن يصوغوا بسباقهم عقولا موحِّدة لا تشرك بالله شيئا، وتلك هي عبادة الله التي لم يخلق الله الجن والإنس والملائكة-كذلك-إلا من أجلها.
كما قال تعالى: ((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)).[الذاريات: 56]
وبتحقيق هذه الغاية تسعد البشرية كلها في الدنيا والآخرة، ويكون الناس كلهم عبيدَ الله، لا يستعبد بعضهم بعضا، فلا يكون هناك سادة يظلمون ويتكبرون ويستبدون بالأمر كما يشاؤون، ولا عبيد يُظلَمون ويُذَلّون لمخلوقين أمثالهم، وإنما يستوي الناس كلهم في أنهم مخلوقون مربوبون عبيدٌ لله، لا فضل لأحد منهم على أحد إلا بالتقوى، كما قال تعالى: ((يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)).[الحجرات: 13]
لا حرية للإنسان إلا بتوحيد الله.
وبتوحيد الله تعالى يتحرر الناس من عبودية الشيطان والنفس والهوى، ومن كل العبوديات (الْمُذِلَّة) لغير الله تعالى، سواء كانت تلك العبوديات لمال أو جاه أو منصب أو امرأة، أو لأشخاص-أحياءً كانوا أو أمواتا-وتتمحض عبوديتهم لله تعالى وحده، وتلك هي الحرية الحقة التي يبحث عنها الأفراد والأسر والأمم في كل الأزمان، وبخاصة في هذا الزمن الذي أصبح غالب الناس فيه يدعون أنهم أحرار، وهم مستعبدون استعبادا مذلا لغير الله تعالى.
وهل يكون حرا من تستعبده شهوات نفسه فتجعله أسيرا لها، سابحا في مستنقع ملذاتها المادية العاجلة، التي تحطم السدود الحامية لحفظ الدين والعقل والنفس والنسل والعرض والمال؟!
هل يكون حرا من يفقد دينه بالإلحاد والكفر الصريح والردة عن الإسلام؟ وهل يكون حرا من ينسى الله عند الشدائد ويلجأ إلى الموتى في قبورهم يدعوهم ويستغيث بهم؟ وهل يكون حرا من يُذهب عقلَه بتناول المسكرات والمخدرات؟ وهل يكون حرا من يعتدي على الأنفس والدماء، ولا يأمن هو من أن يَعتدِي على نفسه ودمه غَيْرُه دون قصاص أو رَدْع؟ وهل يكون حرا من ينفق ماله فيما يعود عليه وعلى أمته بالضرر ومن لا يأمن من الاعتداء على ماله؟ وهل يكون حرا من يُهلَك نسلُه ويُعتدى على عرضه؟ وهل يكون حرا من يضع له غيُره من البشر مناهجَ متناقضة لحياته، في الاعتقاد والتشريع والحكم و الُخُلق و الاقتصاد والسياسة والإعلام والحرب والسلم ونظام الأسرة والأدب والفن والرياضة... فيخضع لذلك كله، دون أن يكون له اختيار أو انتقاد أو تظلم؟؟!!
إن الحرية الحقيقية هي أن يكون قلب الإنسان عبدا لله وحده، لا يتلقى أمره ونهيه إلا من الله فيتجه بنشاطه وجهة واحدة، من غير تناقض ولا قلق أو اضطراب، متحررا من عبودية كل من سواه، فلا يكون عبدا للشيطان ولا للنفس ولا للهوى، ولا تتنازعه آلهة الشهوات المتشاكسة تنازعا يجعله في حيرة وريب.
ولقد ضرب الله مثلا لمن هو حر حقيقة بعبوديته لله تعالى وحده، ومن استعبده غيره من الآلهة المتعددة، فقال تعالى: ((ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا بل أكثرهم لا يعلمون)).[الزمر: 29]
إن الآية تصور لنا رجلين:
أحدهما عبد مشترك لمالكين متعددين بينهم خلاف ونزاع شديد، كل شريك منهم يأمر ذلك العبد بأمر يخالف أوامر شركائه الآخرين ويصر على أن يطيعه في أمره، وطاعته لأحدهم معصية لأمر كل واحد من شركائه الآخرين، فلا يستطيع أن يرضي كل واحد من هؤلاء الشركاء، بل سيكونون كلهم ساخطين عليه، وسيعيش في حيرة وضنك وشقاء.
وثانيهما: عبد لرجل واحد لا يأمره ولا ينهاه إلا هو.
فأي العبدين أقرب إلى الحرية: الأول الذي فيه شركاء متشاكون، أم الثاني الذي هو عبد لرجل واحد؟!
المثل الأول لمن استعبده غير الله-أيا كان هذا الغير-والمثل الثاني لمن تمحضت عبوديته لله وحده، ولله المثل الأعلى.
وإنك لترى الرجل الضعيف المغلوب على أمره، الذي اعْتُدِيَ على نفسه وماله وعرضه وحرم من التمتع بحقه في الحياة فسجن أو أسر، وقد تمحضت عبوديته لله وحده، ولكنه حر قلبه مطمئن باله، وهو واقف مثل الجبل الراسي أمام الطغاة المعتدين الأقوياء غير مبال، وعنده إرادة قوية على تحرير جسمه من الأسر كما تحرر قلبه، لأنه يأوي إلى ركن شديد.
وترى الرجل الغني ذا السلطة والجند والجبروت، قد خضعت له الرقاب، ودانت له الأمراء ووقف بأبوابه الحجَّاب، فإذا سبرت أمره واختبرت سره، وجدته عبدا ذليلا لنفسه وشهوته وهواه، بل وجدته مستعبدا لبعض من هم في الظاهر عبيده، وهم أعوانه الذين يستند في طغيانه على عونهم، ويستنجد في ملماته بهم، فهو في ظاهره سيد، وفي حقيقته عبد كالعبيد.
وفي معنى الحرية الحقة والعبودية المذلة قال ابن تيمية رحمه الله: (.. فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استُعبِد بدنه واستُرِق، لا يبالي إذا كان قلبه مستريحا من ذلك مطمئنا، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص، وأما إذا كان القلب-الذي هو الملك-رقيقا مستعبدا لغير الله، فهذا هو الذل والأسر المحض.. فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب...-إلى أن قال-: وكذلك طالب الرئاسة والعلو في الأرض، قلبه رقيق لمن يعينه عليها، ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم... فهو في الظاهر رئيس مطاع، وفي الحقيقة عبد مطيع لهم..) [مجموع الفتاوى: (10 / 186-189).]
وبهذا يعلم أن الحرية التي يزعم ساسة الغرب ومفكروه-ومن انخدع بهم من ذراري المسلمين-أنهم أهلها وحماتها والداعون إلى تطبيقها، ليست هي الحرية الصحيحة التي ينشدها العالم اليوم، بل هي في حقيقتها عبودية مذلة لآلهة شتى يصعب حصرها. فهي من إطلاق الأسماء على غير مسمياتها، كإطلاق (المشروبات الروحية) على (الخمر) التي تذهب العقول وتسلب الأرواح والقلوب حياتها، وكإطلاق (النجوم) التي يُشَبَّه بها دعاةُ الخير وهداةُ العالمَ[كقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم).] على من مسخوا الفطر ونشروا المنكر والخنا من المغنين والمغنيات والراقصين والراقصات.. وكإطلاق لفظ (الملهمين) و (الرواد) على رجال السياسة الخرقاء الذين باعوا العباد والبلاد لأعداء الأمة الإسلامية....
تنبيه مهم:
ومع أن العبودية لله هي الحرية الحقة، وعبودية ما سواه عبودية مذلة، فإن الكافر بالله المتصف بالعبودية المذلة لا يُكرَه على الدخول في الإسلام ليتحرر من تلك العبودية المذلة، وإنما يبين له الحق وتقام عليه الحجة، ثم يترك له الخيار بين الحريتين، لأن إكراهه على الدخول في الإسلام-بل في أي دين من الأديان-غير ممكن في الواقع لأن أصل الإيمان في القلب، و لا سلطان لغير الخالق على قلوب العباد، والذي يظهر دخوله في أي دين تحت الإكراه لا يكون مؤمنا في الحقيقة بذلك الدين، ولهذا قال تعالى: ((لا إكراه في الدين)) و (لا) هنا نافية للجنس أي لا إكراه مشروع ولا إكراه واقع، بمعنى أن الإكراه على اعتقاد الدين غير مشروع، ولو حصل إظهار الْمُكرَه دخوله في الدين المكره على الدخول فيه فدخوله غير واقع في حقيقة الأمر، لأن الاعتقاد يكون بالقلب، ومن ذا الذي يقدر على إدخال أي دين إلى قلب أي إنسان لا يريده؟. ولهذا يطلق بعض الكتاب عبارة: (إن حرية الاعتقاد هي أول ,, حقوق الإنسان). ومرادهم بالحرية هنا أن الإنسان يدخل في الدين باختياره ولا يمكن إكراهه على ذلك وليس مرادهم أنه حر القلب والعقيدة بالمعنى الذي شرحناه، ولهذا عذر تعالى من أظهر الكفر مكرها وقلبه مطمئن بالإيمان، كما قال تعالى: ((من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم)).

خامسا: غرس الإيمان بالغيب في النفوس.
إن الإنسان الذي لا يؤمن إلا بما تدركه حواسه، مباشرة أو بالآلات التي يصنعها، لا فرق بينه وبين الحيوان إلا بسعة أفقه، لما ركبه الله فيه من عقل وتصرف بأدوات تعينه على ذلك. وسعة أفقه هذه التي فرقت بينه وبين الحيوان، هي التي أهلته لمعرفة ما ظهر له من الكون القريب.
والذي لا يؤمن بالغيب لا يمكن أن يعبد الله، لأن الله تعالى من الغيب، ولا يعرف تعالى إلا بآثار خلقه المشهودة ووحيه.
والذي لا يؤمن بالغيب لا يمكن أن يؤمن بالوحي الإلهي والكتب المنزلة والرسالة، ولا باليوم الآخر، ولا بالملائكة المقربين، لأن ذلك كله من الغيب.
وعدم الإيمان بالغيب يفضي إلى تسيب الإنسان وعدم التزامه بمنهج الله، واتباعه لهواه، فيتصرف في حياته كما يشاء لا يرده عن هواه إلا القوة المادية القاهرة، فإذا ظن أن تلك القوة-كالشرطة والقضاء والعقوبات الرادعة-لا تناله، أتى على كل ما يقدر عليه دون مراعاة لحقوق غيره، لأنه لا يؤمن بالله حتى يطمع في ثوابه ويخاف من عقابه، وهكذا يدمر ويفسد ولا يبالي شيئا.
ولهذا كان من أهم غايات أهل الحق في سباقهم إلى العقول غرس الإيمان بالغيب في نفوس الناس لتكون عقولهم مؤمنة، فيستجيبون لمراد الله منهم، فيأتون ما يرضاه ويتركون ما يسخطه، سائرين على منهج الوحي والرسالة والشريعة الربانية.
ولهذا كانت أول صفات المتقين الذين يهتدون بهذا الكتاب "القرآن الكريم" الإيمان بالغيب، ولا يهتدي به من لم يؤمن بالغيب، كما قال تعالى: ((الم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب)).[البقرة: 1-3]
وقال تعالى: ((ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون)). [البقرة: 177]
وقال تعالى: ((ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا)).[النساء: 36]

سادسا: تحكيم شرع الله في حياة الناس.
ومن أهم غايات أهل الحق في سباقهم إلى العقول إقناعها أو إقامة الحجة عليها، بوجوب تحكيم شرع الله تعالى في حياتهم لحفظ دينهم، ونفوسهم، وعقولهم، ونسلهم، وعرضهم، ومالهم، لأنه لا تُحفظ هذه الضرورات التي لا حياة للأمم بدون حفظها، ولا يوقى الناس شر الاعتداء عليها، ولا ينفى عنهم الظلم ويقر العدل، إلا بتحكيم شرع الله.
وكلما ابتعد الناس عن شرع الله اقتربوا من الاعتداء على هذه الضرورات، فضلا عن غيرها من الحاجيات والتكميليات، وهذا أمر مشاهد في حياة الناس في كل زمان.
ولهذا كان أهل الحق في سباق شديد مع أهل الباطل إلى عقول الناس بهذه الغاية، ليستقر في تلك العقول ضرورة تحكيم شرع الله، ونبذ حكم الطاغوت، لأن حكم الله لا يحابي أحدا: الغني والفقير، والرجل المرأة، والفرد والجماعة، والحاكم والمحكوم، كلهم أمام شرع الله سواء، يُعطِي الحقَّ صاحبَه ويَقِف صاحبَ الباطل ويمنعه من باطله.
ولهذا كان تحكيم شرع الله والرضا به من الإيمان بالله وتوحيده، وهو من صميم دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام، ومن اعتقد غير ذلك لم يفقه معنى القرآن ولا السنة ولا دعوة الرسل.
والذي يزعم أنه يدعو إلى التوحيد ويهمل دعوة الناس إلى تحكيم شرع الله، أو يجعل ذلك من الموضوعات التي يمكن تأخيرها وتأخير بيان حكمها، لم يفهم معنى لا إله إلا الله، لأن تحكيم شرع الله من توحيد الألوهية، ومن جوهر لا إله إلا الله.
والأنبياء عندما يدعون الناس إلى التوحيد والإقرار بمعنى: "لا إله إلا الله" يعلمون ويعلم أقوامهم أن ذلك يعني تحكيم شرع الله والتسليم المطلق لحكمه، وأنه لا خيار لهم في ذلك أبدا، لأن معنى "لا إله إلا الله" لا يقر حاكما غير الله-إلا من حكم بحكم الله-فالحاكم المطلق الذي لا معقب لحكمه هو الله.
فهذه الكلمة: "لا إله إلا الله" تشمل الاستسلام لله في كل شيء: في الأنفس والعقول والأنسال والأعراض والأموال وغيرها، لا يحكم في ذلك كله إلا الله، وأي حكم صدر من غير الله يخالف حكم الله فهو حكم طاغوت لا بد من الكفر به، ومن أطاع حكم غير الله ورضي به بدلا من حكم الله، لم يؤمن بمعنى لا إله إلا الله.
فالإيمان حكم الله ولا بد من الرضا به، والعبادة حكم الله ولا بد من الرضا بها، والمعاملات الإسلامية الثابتة بنص من الله أو من رسوله صلى الله عليه وسلم حكم الله ولا بد من الرضا بها، والأخلاق حكم الله ولا بد من الرضا بها، والحدود حكم الله ولا بد من الرضا بها، لا بد من التسليم المطلق لله تعالى في كل حكم يحكم به.
ومخطئ من يظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يدع إلى تحكيم شرع الله في العهد المكي، ويخلط هذه المخطئ بين معنى الدعوة إلى تحكيم شرع الله الذي هو من صميم توحيد الله، وبين معنى إقامة دولة تحكم بشرع الله.
فالدعوة إلى تحكيم شرع الله والاستسلام له دعوة إلى الإيمان بالله وإلى الإقرار بمعنى "لا إله إلا الله" وقد قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم عندما دعا الناس إلى الإقرار بلا إله إلا الله.
وأما إقامة الدولة التي تحكم بالإسلام وتنفذه على رعاياها، فقد أخرها الرسول صلى الله عليه وسلم-وما كان له إلا أن يؤخرها-إلى العهد المدني، حيث قويت شوكة المسلمين، وأصبح الرسول صلى الله عليه وسلم هو إمامهم في الصلاة، وقائدهم في الجهاد، وقاضيهم في الخصومات، والآمر الناهي في الدولة.
وإنما لم يسع لإقامة الدولة الإسلامية في مكة، لأن أهلها كانوا أهل القوة المادية والنفوذ، وكان المسلمون ضعافا-ماديا-مضطهدين، يفتنون ويعذبون، ولم يكونوا قادرين على رد العدوان بمثله-وإن كانوا يرغبون رغبة شديدة في ذلك-بل نهاهم الله عن قتال المشركين وأمرهم بالكف عن القتال.
وإذا كان كثير من العبادات والمعاملات والحدود وغيرها من الأحكام الشرعية، قد تأخر نزول الوحي بها إلى العهد المدني، وكان الاهتمام في العهد المكي بالنواحي الإيمانية والسلوكية وبعض العبادات كالصلاة ونحوها، فإن الدعوة في العهد المكي اهتمت بجانب الاستسلام لله في كل شيء وهو معنى الإسلام ومعنى كلمة التوحيد، وذلك أصل التشريع الإلهي.
ومع ذلك فإن بعض الآيات المكية قد نزلت تنعى على المشركين وتنكر عليهم، ما شرعوه لأنفسهم من تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله.
كما قال تعالى: ((فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين، ومالكم ألاّ تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين، وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون، ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون..)).[الأنعام: 118-121]
يدور كلام المفسرين لهذا الآيات على أمرين:
الأمر الأول: أن ما ذكر اسم الله عليه، هو ما ذبحه المسلمون أو أهل الكتاب وما لم يذكر اسم الله عليه هو ما مات حتف نفسه.
وكان المشركون من قريش يحرمون ما ذبح بالسكين ويحلون الميتة، ويرون أن ما ذبح قتله الإنسان، وما مات قتله الله، وأكل ما قتله الله أولى مما قتله الإنسان، سيرا على قياسات الشيطان الذي عصا ربه بها.
الأمر الثاني: أن المراد بما ذكر اسم الله عليه ما سمى اللهَ عليه حين ذبحه، وما لم يذكر اسم الله عليه ما ذُكر عليه اسم الوثن ونحوه، وفي ذلك تفاصيل لا يتسع لها المقام.[ راجع كتب التفسير، ومنها: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/188) وما بعدها، طبع دار الخير، والجامع لأحكام القرآن (7/72) وما بعدها للقرطبي.]
والشاهد منها هو كونهم يحلون ما يريدون ويحرمون ما يريدون من عند أنفسهم، بدون هدي ولا بينة من الله، وهو تشريع يعارض تشريع الله، وتحكيم لهواهم الذي يخالف تحكيم شرع الله.
وإذا عرفنا أن سورة الأنعام من السور المكية، ومنها هذه الآيات تبين لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أُمر بالدعوة إلى تحكيم شرع الله في العهد المكي، وأن تحكيم شرع الله من الإيمان الذي لا تصح شهادة أن لا أله إلا الله إلا به.
ومثل ذلك قوله تعالى: ((وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم، وأنعام حرِّمت ظهورها، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه، سيجزيهم وصفهم بما كانوا يفترون، وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذ كورنا ومحرم على أزواجنا، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء، سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم...)).[ الأنعام: 138-139]
وقد بين الإمام الأصولي العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي المالكي، المشهور بالشاطبي، في كتابه العظيم "الموافقات" أن الأصول الكلية للشريعة قد تضمنها القرآن الكريم في العهد المكي، وأن ما نزل بعد ذلك في العهد المدني من التشريع، إنما هو مكمل لتلك الأصول المكية، وأن ما قد يبدو من التشريع المدني كليا إذا ما تؤمل حق التأمل وجد جزئيا بالنسبة إلى ما هو أعم منه، أو تكميلا لأصل مكي.
قال رحمه الله: (المسألة الثامنة. فنقول: إذا رأيت في المدنيات أصلا كليا فتأمله تجده جزئيا [قال الأستاذ محمد عبد الله دراز في الحاشية: " كالجهاد فهو جزئي من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما سيقرره قريبا...] بالنسبة إلى ما هو أعم منه، أو تكميلا لأصل كلي.[ قال دراز: " كالنهي عن شرب الخمر تكميلا لاجتناب الإثم والعدوان كما سيقول....] وبيان ذلك أن الأصول الكلية التي جاءت الشريعة بحفظها خمسة وهي: الدين والنفس، والعقل، والنسل، والمال.
أما الدين فهو أصل ما دعا إليه القرآن والسنة وما نشأ عنهما، وهو أول ما نزل بمكة.
وأما النفس فظاهر إنزال حفظها بمكة، كقوله تعالى: ((ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق..)). [الأنعام: 151] ((وإذا الموءودة سئلت، بأي ذنب قتلت..)).[التكوير: 9] ((وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم إلا ما اضطررتم إليه.)).[الأنعام: 119] وأشباه ذلك.
وأما العقل فهو، وإن لم يرد تحريم ما يفسده وهو الخمر، فقد ورد في المكيات مجملا، إذ هو داخل في حفظ النفس، كسائر الأعضاء ومنافعها، من السمع والبصر وغيرهما، وكذلك منافعها.
فالعقل محفوظ شرعا في الأصول المكية عما يزيله كسائر الأعضاء ساعة أو لحظة [قال في الحاشية: " لعل الأصل: (لا ساعة أو لحظة) ومعناه أن ما يزيل العقل رأسا هو من الضروري الداخل في حفظ النفس إجمالا، وأما حفظه على أنه يزول ساعة ثم يعود فيكون من المكملات....] ثم يعود كأنه غطي ثم كشف عنه، وأيضا فإن حفظه على هذا الوجه من المكملات، لأن شرب الخمر قد بين الله مثالبها في القرآن، حيث قال: ((إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر...)) [المائدة: 91] فظهر أنها من العون على الإثم والعدوان.
وأما النسل، فقد ورد المكي من القرآن بتحريم الزنا والأمر بحفظ الفروج إلا على الأزواج أو ملك اليمين.
وأما المال، فورد فيه تحريم الظلم وأكل مال اليتيم والإسراف والبغي ونقص المكيال أو الميزان، والفساد في الأرض وما دار بهذا المعنى.
وأما العرض الملحق بها فداخل تحت النهي عن إذايات النفوس.
ولم ترد هذه الأمور في الحفظ من جانب العدم إلا وحفظها من جانب الوجود حاصل، ففي الأربعة الأواخر ظاهر.
وأما الدين فراجع إلى التصديق بالقلب، والانقياد بالجوارح، والتصديق بالقلب آت بالمقصود في الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، ليفرع على ذلك ما جاء مفصلا في المدني فالأصل وارد في المكي. والانقياد بالجوارح حاصل بوجه واحد [قال الأستاذ دراز: أي متى وجد تكليف واحد بدني فإنه يتحقق به معنى كلي الانقياد بالجوارح الذي هو أحد ركني الدين.] ويكون ما زاد على ذلك تكميلا، وقد جاء في المكي من ذلك النطق بالشهادتين والصلاة والزكاة، وذلك يحصل به معنى الانقياد.
وأما الصوم والحج فمدنيان من باب التكميل، على أن الحج كان من فعل العرب أولا، وراثة عن أبيهم إبراهيم، فجاء الإسلام فأصلح منه ما أفسدوا، وردهم فيه إلى مشارعهم، وكذلك الصيام أيضا فقد كانت الجاهلية تصوم يوم عاشوراء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه أيضا حين قدم المدينة صامه وأمر بصيامه حتى نسخه رمضان، وانظر حديث عائشة في صيام يوم عاشوراء [مسلم (2/792).] فأحكمهما التشريع المدني، وأقرهما على ما أقر الله تعالى من التمام الذي بينه في اليوم الذي هو أعظم أيامه حين قال تعالى: ((اليوم أكملت لكم دينكم..)) الآية، فلهما أصل في المكي على الجملة.
والجهاد الذي شرع بالمدينة فرع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو مقرر في مكة، كقوله تعالى: ((يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر..)) وما أشبه ذلك).[ الموافقات (3/ 46-50) بتحقيق الأستاذ عبد الله دراز، والآية في سورة لقمان:]
وإذا علم أن أصول الشريعة الكلية قد نزلت في العهد المكي، وما نزل في العهد المدني فهو متمم أو مفصِّل لها، علم أن الدعوة إلى التشريع الإسلامي والدعوة إلى تحكيم شرع الله، من صميم الرسالة وأنها من الإيمان بالله تعالى وأن من اعتقد أن تحكيم شرع الله ليس من صميم التوحيد والإيمان فهو ضال جاهل لا يعلم دين الله حق العلم ولا يفقه حق الفقه، وفيما مضى كفاية لطالب الحق.
وهكذا كان أنبياء الله السابقون يدعون أقوامهم إلى تحكيم شرع الله تعالى، تطبيقا لمعنى لا إله إلا الله، فشعيب عليه السلام، دعا قومه إلى توحيد الله وإلى تحكيم شرعه الذي هو من التوحيد في الكيل والوزن وغير ذلك من الحقوق المالية، فأنكر عليه قومه تدخله في شؤون حياتهم وبخاصة المالية-وهو نهج العلمانيين في كل زمان، لا يستقر لهم قرار بوجود من يدعو إلى تحكيم شرع الله في حياة البشر، لأن ذلك يحرمهم من اتباع أهوائهم وتحقيق شهواتهم، عن طريق تشريعهم لأنفسهم ما يحقق لهم تلك الشهوات.
قال تعالى: ((وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره، ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط، ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين، بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ، قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد)).[هود: 84-89]]
تأمل ما أمرهم به شعيب: ((اعبدوا الله... ولا تنقصوا المكيال والميزان.. أوفوا الكيل والميزان)).
وتأمل رد قومه عليه: ((أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء..)).
أمرهم نبيهم بالاستسلام الكامل لله في الإيمان والتصرف في الأموال، وكانوا عند ذلك كفارا، ولو كان التشريع من عند أنفسهم في الأموال لا يدخل في الإيمان بلا إله إلا الله، لأخر الدعوة إليه حتى يؤمنوا بالله وحده، ولكن التشريع من الإيمان ولذلك جعله في دعوته قومه إلى الله من أولويات تلك الدعوة، وفهموا منها أن التسليم المطلق لله يقتضي ترك عبادة غير الله والتقيد بشرع الله في تصرفاتهم.
فالتسليم لشرع الله إيمان، ولا إيمان بدون تحكيم شرع الله.
وتأتي بعد ذلك الآيات المدنية، لتوضح توضيحا وافيا شافيا قضايا عملية تقرر فيها أن أعداء الإسلام من المنافقين-وهم الذين يمثلهم اليوم العلمانيون الذين يحاربون الإسلام-لما لم يرضوا بتحكيم شرع الله ورضوا بحكم الطاغوت، حكم الله عليهم بالضلال البعيد مع ادعائهم أنهم مؤمنون، ووصف الضلال بالبعيد يدل على أنه ليس ضلال مؤمن يغفره الله له، كما نص تعالى على أنهم منافقون، ونفى عنهم الإيمان نفيا مؤكدا حتى يستسلموا لشرعه ويرضوا به.
قال تعالى: ((الم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا، فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا، أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم-إلى قوله تعالى-فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما..)). [النساء: 60-65]
وهذه الآية الأخيرة ذكر بعض العلماء أنها نزلت في الزبير بن العوام وخصم له من الأنصار، اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمر، ومعنى ذلك أنها نزلت في ملسمين، وبذلك يكون الإيمان المنفي هو كمال الإيمان الواجب، وليس أصل الإيمان.
وقال آخرون: إنها نزلت في المنافق واليهودي الذين نزلت فيهما الآية الأولى: ((ألم تر إلى الذين يزعمون...)) الآية، وأن اليهودي أراد الاحتكام إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والمنافق أراد الاحتكام إلى غيره.
ويرى ابن جرير رحمه الله أن الآية الأخيرة ينسجم معناها مع الآية لأولى، ولا مانع من أن يكون فيها بيان لقصة الزبير والأنصاري.
قال رحمه الله: (وهذا القول-أعني قول من قال: عُنِي به المحتكمان إلى الطاغوت اللذان وصف الله شأنهما في قوله: ((ألم تر الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك)) أولى بالصواب لأن قوله تعالى: ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم)) في سياق قصة الذين أُسْدِيَ لله الخبر عنهم بقوله: ((ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك..)) ولا دلالة تدل على انقطاع قصتهم، فإلحاق بعض ذلك ببعض ما لم تأت دلالة على انقطاعه أولى.
فإن ظن ظان أن في الذي روي عن الزبير وابن الزبير-من قصته وقصة الأنصاري في شراج الحرة وقول من قال في خبرهما، فنزلت: ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم)) ما ينبئ عن انقطاع حكم هذه الآية من قصة الآيات التي قبلها، فإنه غير مستحيل أن تكون الآية نزلت في قصة المحتكمين إلى الطاغوت، ويكون فيها بيان ما احتكم فيه الزبير وصاحبه الأنصاري، إذ كانت الآية دالة على ذلك، وإذ كان ذلك غير مستحيل كان إلحاق معنى بعض ذلك ببعض أولى، ما دام الكلام متسقة معانيه على سياق واحد، إلا أن تأتي دلالة على انقطاع بعض ذلك من بعض فيعدل به عن معنى قبله).[ جامع البيان عن تأويل آي القرآن (5/159-160).].
وعلى هذا القول الذي رجحه ابن جرير رحمه الله يكون التحاكم إلى الطاغوت والنفور عن التحاكم إلى شرع الله كفرا، وإن كانت دلالة الآية يدخل فيها ما حصل للزبير والأنصاري، فإن ذلك يكون بيانا لنفي الإيمان الواجب وليس لأصل الإيمان.[ لأن الأنصاري وإن حصل عنده شيء من الامتعاض من حكم الرسول صلى الله عليه وسلم للزبير-لم يكن يريد التحاكم إلى الطاغوت، بخلاف المنافق. ].
وعلى هذين المعنيين يمكن تنزيل الآيات الآتية:
((ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون..))
((ومن لم يحكم بما أنزل الله فألئك هم الظالمون...))
((ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون..)).[ المائدة: 44، 45، 47]
فالذي يحكم بغير ما أنزل الله معتقدا جواز ذلك، ولو حكم بما أنزل الله مع هذا الاعتقاد، فكفره كفر أكبر، وظلمه وظلم أكبر، وفسقه فسق أكبر، أي إنه ليس مسلما بل هو خارج عن ملة الإسلام.
والذين فسروا الكفر والظلم والفسق بالكفر الأصغر والظلم الأصغر والفسق الأصغر من السلف، لا بد أن يكون مرادهم بذلك من حكم بغير ما أنزل الله في بعض القضايا-لِهوى أو صداقة أو أخذ مال ونحو ذلك-وهو يعتقد أنه قد عصى ربه بما فعل، وليس من استحل الحكم بغير ما أنزل الله صراحة أو دلت القرائن الظاهرة أنه يفضل حكم الطاغوت على حكم الله، فهذا لا يمكن أن يقصده السلف يكفر دون كفر أو ظلم دون ظلم أو فسق دون فسق، لأنه مؤمن بالطاغوت كافر بالله. والله تعالى يقول: ((ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت)).[ النحل: 36]
قال القرطبي رحمه الله: (قوله تعالى: ((ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون...)) و ((الظالمون)) و ((الفاسقون)) نزلت كلها في الكفار، ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء، وقد تقدم، وعلى هذا المعظم.
فأما المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة، وقيل فيه إضمار أي ومن لم يحكم بما أنزل الله ردا للقرآن، وجحدا لقول الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو كافر، قاله ابن عباس ومجاهد. فالآية عامة على هذا. قال ابن مسعود والحسن: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار أي معتقدا ذلك ومستحلا له، فأما من فعل ذلك وهو معتقد أنه راكبُ جرمٍ فهو من فساق المسلمين، وأمره إلى الله تعالى، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له) [الجامع لأحكام القرآن (6/190)].
وقال ابن القيم، رحمه الله: (والصحيح أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين، الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم، فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصيانا، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا كفر أصغر، وإن اعتقد أنه غير واجب وأنه مخير فيه، مع تيقنه أنه حكم الله [كما يفعله من يسمون بالمشرعين في هذا العصر] فهذا كفر أكبر، وإن جهله وأخطأه، فهذا مخطئ له حسكم المخطئين).[ مدا رج السالكين: (1 / 336).]
وإنما كان تحكيم شرع الله من غايات أهل الحق في السباق إلى العقول، لأن تحكيم شرع الله يعصم الأمم من الزلل والفساد والظلم والطغيان، ويقيم العدل ويعطي كل صاحب حق حقه ويساوي بين الناس، فلا يحابي أحدا على أحد، وبه تستقيم حياة البشر ويحفظ الدين والنفس والعقل والنسل والعرض والمال، كما قال تعالى في فيمن حكَّم شرعه: ((ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور..)).[ الحج: 40، 41]
يضاف إلى ذلك أن حكم الله عبادة يكفر من جحدها وحاربها، ولا يكون الإنسان موحدا لله إلا بإيمانه بذلك.
وأما تحكيم غير شرع الله فهو تحكيم للبشر، والبشر تتحكم في تشريعهم الأهواء والجهل وعدم الإحاطة بالمصالح والغفلة والحسد والحب والكره وغير ذلك.
وبذلك ينتشر الظلم والفساد والفواحش والتناحر بين الناس، لأن قوانين البشر تتعارض بتعارض مصالحهم وأهوائهم وجهلهم وبتصارع الناس على كراسي الحكم، فإذا غلب فرد فردا أو حزب حزبا أو دولة دولةً، شرع الغالب ما يريد من القوانين التي يحكم بها المغلوب، فيظلمه ويسلبه حقوقه ويعيث في الأرض فسادا، لعدم وجود ما يضبطه من شرع الله، وذلك هو حكم الجاهلية.
((أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون..)).[المائدة: 50]
((ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام، وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد، وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم وبئس المهاد..)). [البقرة: 204، 206]

سابعا: تثبيت الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين والبراء من الكافرين.
ويسابق أهلُ الحقِ أهلَ الباطلِ إلى عقول الناس، بغرس الولاء وتثبيته لله ولرسوله وللمؤمنين والبراء من كل من حاد الله ورسوله والمؤمنين، عملا بقوله تعالى: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا-إلى قوله-: وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ والَّذينَ آمَنُوا فَإِن حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُون)).[المائدة: 55-56]
وبقوله تعالى: ((لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون)).[المجادلة: 22]
ولعلمهم بأن هذا الولاء يجعل صاحبه يدور مع الحق حيث دار ولو خالفه في ذلك أقرب المقربين إليه، كأبيه وابنه.. كما هو واضح من آية المجادلة السابقة.
ولأن المنهج الرباني الذي جاء به الرسول من عند ربه هو الحق وكل ما خالفه فهو الباطل، والأصل في المؤمنين بهذا المنهج أن يكونوا على الحق. فالولاء لله ولرسوله وللمؤمنين هو ولاء للحق.
ولأن الحق يقوى ويثبت في الأرض بكثرة الموالين له المتناصرين عليه. فإذا قوي الحق وثبت سعد به أهل الأرض واهتدوا وكثر فيهم الصلاح الذي أساسه اتباع الحق، كما قال تعالى: ((هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق)). [التوبة: 32]
وقال تعالى: ((كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)).[البقرة: 213]
وبثبات الحق يضمحل الفساد الذي أساسه اتباع الهوى، كما قال تعالى: ((ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن..)).[المؤمنون: 71]
ومن أمثال القرآن لثبات الحق وما يترتب عليه من صلاح، واضمحلال الباطل وما يترتب على وجوده من فساد قوله تعالى: ((أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه من النار ابتغاء حلية، أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال)).[الرعد: 17]
وغني عن البيان أن أهل الحق-رعاة ورعية-لا يخشون من الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، اعتداءً من قوي على ضعيف أو خروجا من رعية على راع، بل ولا يخشى أهل الباطل من ولاء المؤمنين لله ورسوله ظلما ولا هضما ولا عدوانا، لأن الله بعث رسوله بالحق الذي يعطي كل ذي حق حقه.[ وليس في جهاد قادة الباطل الذين يحاربون الدعاة إلى ال،له وتبليغ الناس رسالة الله وصدهم عن سماع البلاغ المبين، ومنعهم عن الدخول في دين الله بعد أن يتبين لهم أنه الحق، ليس في ذلك اعتداء على أولئك القادة، بل فيه إخراج للبشر من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وإنقاذ لهم من النار إلى الدخول في جنات النعيم... ]
فالمؤمنون يتعاونون على البر والتقوى وينصر قويهم ضعيفهم: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)).[الحجرات: 10] (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا).[ اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان: (ص: 703 رقم: 1670).] ويقيمون العدل فيما بينهم وفيما بينهم وبين عدوهم، كما مضى في مثل قوله تعالى: ((ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى)).[المائدة: 8]

كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل

صيد الفوائد العلماء وطلبة العلم د. عبدالله قادري الأهدل