بسم الله الرحمن الرحيم

السباق إلى العقول (69-74)
نتائج البحث


تمهيد وتلخيص.
ذلك هو الحق، وهذا هو الباطل، وأولئك هم أهل الحق، وهؤلاء هم أهل الباطل، وتلك غايات أهل الحق الذي من أجله يسابقون إلى العقول، وتي وسائلهم التي يتخذونها لهذا السباق، وهذه هي غايات أهل الباطل التي من أجلها يسابقون إلى العقول، وذي هي وسائلهم التي يسابقون بها لإبلاغ باطلهم إلى العقول.
وبقى أن نبين بعض النتائج المترتبة على هذا السباق الأزلي الأبدي، لعل معرفة هذه النتائج تحفز أهل الحق على التشمير عن ساعد الجد، ليسبقوا أهل الباطل بما عندهم من الحق إلى عقول الناس، أداء للواجب الذي كلفهم الله إياه، وإنقاذا للعالم من آثار الباطل الذي جد أهله-ولا زالوا يجدون-للسبق به إلى العقول، والحجر عليها من أن يصل إليها الحق الذي لا نجاة لهذا العالم في الدارين إلا به.
ولعل معرفة هذه النتائج توقظ ضمائر بعض أهل الباطل، وتنفض غباره عن فطرهم، فيعزموا على الأوبة إلى الله والرجوع إلى الحق، ليكفروا عن سيئاتهم التي دمروا بها العالم بسبب سباقهم الشديد إلى عقول الناس بباطلهم، والدخول في صف أهل الحق ليصبحوا من رواد السباق به إلى العقول بدلا من السباق إليها بالباطل، ولعل كثيرا من سكان هذا الكوكب يدركون خطر تضليل عقولهم من قبل أهل الباطل، وما ترتب على هذا التضليل من مصائب ومحن دمرت العالم، وحرمتهم من الحق الذي ينير العقول، إذا وصل إليها فيخرجها من الظلمات إلى النور، فإذا أدركوا هذا الأمر أعملوا عقولهم ودربوها، لتقف موازِنَةً بين دعاة الحق ودعاة الباطل، سَبَّاقة إلى استقبال الحق ورفض الباطل.
يتضح مما سبق أن لكل أمة، أو جماعة، أو دولة غايات تسعى للوصول إلى تحقيقها بالوسائل الممكنة التي ترى في اتخاذها ما يحقق لها تلك الغايات، وأن من أعظم مجال تلك الغايات والوسائل، العقول البشرية التي تحاول كل أمة أو جماعة أو دولة استقطاب أصحابها بإقناعهم بصحة مبادئها أو رجحانها، لما تحققه-في زعمهم-تلك المبادئ من فوائد تعود إلى من يلتزم بها ويناضل من أجلها، لتكون لها الهيمنة على ما سواها من مبادئ.
ولهذا كان السباق إلى العقول بالغايات والوسائل، دأب كل أمة وشغلها الشاغل.
وإذا تأمل الباحث أو الناظر في غايات المتسابقين إلى العقول ووسائلهم على مر الدهور، من يوم خلق الله الخلق وإلى أن تقوم الساعة، وجد المتسابِقِين-قسمين:
القسم الأول: هم أهل الحق الذين يكون الحق محور سباقهم، لإيصاله إلى عقول البشر، ووقاية تلك العقول من أن يصل إليها الباطل، أو اجتثاث ما وصل منه إليها وإزالته منها.
والقسم الثاني: هم أهل الباطل الذين يكون الباطل محور سباقهم، لإيصاله إلى عقول البشر، ووقاية تلك العقول من أن يصل إليها الحق،أو تضليل العقول التي وصل إليها شيء من الحق والتلبيس عليها، بأن ما وصل إليها باطل أو لا جدوى منه.
ولكل قسم غاياته التي يسعى لتحقيقها بالسباق إلى العقول، ووسائله التي يتخذها لذلك.
وبالمقارنة بين غايات أهل الحق ووسائلهم، وغايات أهل الباطل ووسائلهم تظهر النتائج الآتية:

النتيجة الأولى: غايات السباق إلى العقول بالحق ربانية.
إن غايات السباق إلى العقول بالحق كلها ربانية، بمعنى أن الذي حدد تلك الغايات وأمر بها، هو الله تعالى، وأن غايات السباق إلى العقول بالباطل كلها شيطانية، بمعنى أن الذي حدد تلك الغايات، ودعا إليها، هو الشيطان الرجيم.
وهذه النتيجة وحدها كافية للفرق بين غايات الفريقين، إذ مُحَدِّدُ غايات أهل الحق هو رب العالمين الرحمن الرحيم الذي يريد لعباده سلوك الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم، والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما، يريد الله ليخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا، يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} .
ومُحَدِّدُ غايات أهل الباطل هو الشيطان الرجيم، العدو المبين الذي يأمر بالفحشاء والمنكر ويدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير: {يا أيها الذين آمنوا كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين، إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} .
{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}

النتيجة الثانية: منتهى غايات أهل الحق رضا الله.
ورضاه إنما يكون باتباع منهجه، الذي أنزله في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه الغاية تتحقق بها سعادة البشرية كلها في الدنيا والآخرة، لأن تطبيق منهج الله تكمن فيه هذه السعادة، وإذا سعى أهل الحق سعيا يحقق رضا الله عنهم تحقق لهم هم أنفسهم الرضا والطمأنينة، ولذا تجد أهل الحق دائما في سعي حثيث لتحقيق كل ما يرضي الله، والبعد عن كل ما يسخطه، ومن ذلك سباقهم إلى العقول بالحق لإسعاد أصحابها في الدارين.
أما منتهى غايات أهل الباطل فهي التمتع بكل ما في الحياة الدنيا من أكل وشرب وثراء ومسكن ومركب ومنكح على أي حال من الأحوال، دون نظر إلى حلال أو حرام، ودون نظر إلى ما يرضي الله أو يسخطه، ولذا تجدهم في سعي حثيث لما يشبع شهواتهم ويرضي أهواءهم ويحقق مآربهم، وإن كان في ذلك شقاؤهم وشقاء البشرية كلها في الأرض، اتباعا لمنهج الشيطان وبعدا عن منهج الله، كما قال تعالى: {قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو، فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى، وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى} .
وقال تعالى: {ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم}
وقال تعال: {إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم}

النتيجة الثالثة الحق الإلهي منحصر في الإسلام.
وهو الذي تضمنه كتاب الله وسنة رسوله، و كل ما خالف ذلك من الأديان السابقة سماوية أو غير سماوية، أو المذاهب والأفكار اللاحقة فهو الباطل.
ولذلك فإن المسلمين وحدهم هم الذين يملكون الحق والوسائل المشروعة المؤدية إلى تحقيق غايات السباق إلى العقول بالحق. وأما غير المسلمين فلا يملكون مما يخالف دين الله إلا الباطل، ولهذا فإن المكلفين السباقَ إلى العقول بالحق هم المسلمون الذين يملكون هذا الحق.
فقد بعث الله الأنبياء والرسل عليهم السلام يدعون إلى الحق ويحذرون من الباطل، كما قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} . وقد فصل الله تعالى قصص الرسل مع قومهم وما قاموا به من البلاغ المبين الذي دعوا فيه إلى الحق ونهوا عن الباطل، وختمهم برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، الذي قال عنه وعن أمته المتبعة لمنهجه: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين}
وقد قام أهل الحق من الأنبياء وأتباعهم، وآخرهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام ومن تبعهم بإحسان، فسابقوا أهل الباطل بالحق إلى العقول وحققوا كل الغايات التي حددت لهذا السباق، واتخذوا كل وسيلة متاحة مشروعة لهذا السباق، حتى رفرفت راية الحق في كل أنحاء الأرض التي استطاعوا الوصول إليها، وسعد الناس بالحق سعادة شاملة في كل مناحي حياتهم: الإيمانية، والعبادية، والتشريعية، والسياسية،والاقتصادية، والتعليمية، والجهادية، والأسرية، والمالية وغيرها.
والواجب على الأمة الإسلامية اليوم أن تقوم بهذا الواجب الذي لا يملكه غيرها، وهو السباق إلى العقول بالحق ووقاية تلك العقول من وصول الباطل إليها، وتطهيرها مما وصل إليها منه فأفسد حياتها، وكل قادر على القيام بهذا الواجب من المسلمين-كل في موقع مسئوليته وقدرته-آثم إذا لم يقم به.

النتيجة الرابعة: سبق الحق إلى العقول يحفظ ضرورات الحياة.
إن من ثمرات سبق الحق إلى العقول يحقق توحيد الله في الأرض وإقامة شريعة الله، ونشر العدل، وغرس الإيمان والأخلاق الحسنة في النفوس ومطاردة الشرك، ونبذ حكم الطاغوت، ومحاربة الظلم والقضاء عليه أو التخفيف منه، وبالجملة: حفظ الضرورات الخمس، التي هي الدين والنسل والعقل والنفس والمال، وكل ما يخدم حفظها من الحاجيات والتحسينيات.
ومن ثمار سبق أهل الباطل بباطلهم إلى العقول، إهدار هذه الضرورات وما يخدمها.
أي إن البشرية تفسد حياتها إذا سبق أهل الباطل بباطلهم أهل الحق إلى العقول، وتستقيم حياتها وتسعد إذا سبق أهل الحق أهل الباطل بالحق إلى العقول.
وإنا لنرى آثار هذه النتيجة اليوم واضحة في الأرض، فقد اعْتُدِيَ على ضرورات الحياة وما يخدمها، فأفسد أهل الباطل على الناس دينهم، واعتدوا على نسلهم، وعقلهم، ونفسهم، ومالهم، ونشروا الظلم والفحشاء والمنكر، وحكموا بالطاغوت ونبذوا حكم الله، ولم يبق في الأرض صلاح إلا حورب، ولا فساد إلا نشر ودعم.

النتيجة الخامسة: في سبق الحق إلى العقول تكثير أنصاره.
إن سبق أهل الحق بحقهم إلى العقول، يكثر سواد المسلمين في الأرض فيكثر الأعوان والأنصار وينتشر الحق، ولهذا دخل الناس في دين الله أفواجا عندما قام الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالدعوة إلى الله، وتبعهم على ذلك التابعون بحق، فوصل الحق إلى عقول الناس في مشارق الأرض ومغاربها من بكين إلى لشبونة، ومن جاكرتا وما نيلا إلى نواكشوط، ومن موسكو إلى الحبشة وعدن، وأصبح العلماء-في جميع العلوم والتخصصات-والأدباء والمفكرون والقواد والساسة في بلدان العالم كلها، من أنصار الحق وحماته.
وإن سبق أهل الباطل بباطلهم إلى العقول يكثر سواد أهل الكفر في الأرض، فيكثر بذلك أنصار الباطل وأعوانه فينتشر في الأرض ويطارِد الحقَّ وأهله ويسلبهم مجدهم وعزهم، ويهجم عليهم في عقر دارهم.
وهذا ما نشاهده اليوم، حيث جد أهل الباطل في السباق به إلى العقول جدا لم يسبق له نظير، فحققوا بذلك غاياتهم المدمرة، واتخذوا كل ما أتيح لهم من الوسائل لإبلاغ الباطل إلى عقول الناس، فكثر بذلك سوادهم في بلاد الكفر وبلاد الإسلام، حتى فسدت عقول كثير من أبناء المسلمين الذين وقفوا محاربين لدينهم في صف أعدائه الذين سبقوا بباطلهم إلى عقولهم.
وخلاصة هذه النتيجة أن سباق أهل الحق به إلى العقول ينشره ويثبته ويكثر أنصاره، ويجتث الباطل ويذل أهله ويجفف منابعه، وأن سباق أهل الباطل به إلى العقول ينشره ويثبته ويكثر أنصاره ويضيق دائرة الحق ويفتن أهله.
فليعِ ذلك أهل الحق وليجدوا في السباق به إلى العقول امتثالا لأمر الله وحفاظا على سعادتهم وسعادة البشرية بسعادتهم.

النتيجة السادسة: سبق الحق يقيم حجة الله على خلقه.
إن سبق أهل الحق بحقهم إلى عقول الناس، يقيم الحجة على الناس ويوضح لهم المحجة ويظهر الحقائق ويزيل اللبس والزيف، فيحيا من حيي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة، لأن الألفاظ توضع لمعانيها والمصطلحات تطلق على ما وضعت له، فلا يلتبس الحق بالباطل، إذ يعرف معنى الإيمان والبر والتقوى والإحسان والمعروف والطاعة والصدق، والمؤمن والبر والمتقي والمحسن، وفاعل المعروف والمطيع الصادق، كما تعرف معاني الكفر والفجور والفسق والإساءة والمنكر والمعصية والكذب والكافر والفاجر والفاسق والمسيء وفاعل المنكر والعاصي والكاذب، ويعرف من يقاتل في سبيل الله "المجاهد" الذي يستحق أن يكون شهيدا إذا قتل، والمعتدي الظالم المحارب لله ولرسوله، الذي يستحق نار جهنم إذا قتل: {الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشطان كان ضعيفا} .
و سبق أهل الباطل بباطلهم إلى عقول الناس، يؤدي إلى فقد إقامة الحجة على الناس، ويوقعهم في اعتقاد الباطل حقا والحق باطلا، أو في التباس الحق بالباطل.
وإنك إذا أنعمت النظر في هذه النتيجة اليوم تبين لك أن كثيرا من المسلمين فضلا عن سواهم، قد التبس عليهم الحق بالباطل، وأصبح كثير من المصطلحات الشرعية عندهم تطلق على غير حقائقها أو على بعض حقائقها دون بعض، وانبنى على ذلك انحراف في الاعتقاد وانحراف في السلوك وانحراف في العمل.

ولتوضيح ذلك إليك بعض الأمثلة:
المثال الأول: الإيمان.
ورد الإيمان في الكتاب والسنة مرادا به الاعتقاد الجازم فيما أخبر الله به من الغيب، من الإيمان به إيمانا مبنيا على ما وصف به نفسه في القرآن والسنة من أنه الخالق المدبر الإله المعبود الموصوف بصفات الكمال والجلال...
والإيمان بكتبه وملائكته ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره، وأن كتابه هو المهيمن على سائر الكتب التي نزلت فحرفت، وأن رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء لا نبي بعده، وأن من مقتضى الإيمان به إتباعه، ومن مقتضى الإيمان بالقرآن تحكيم ما شرع الله فيه... وأن من الإيمان القول باللسان كالنطق بالشهادتين.... ومنه العمل بالجوارح كالصلاة المفصلة صفتها في السنة النبوية.... أي أن الإيمان اعتقاد وقول عمل، وأن هذا الاعتقاد والقول والعمل لا بد أن يكون موافقا لما أراده الله، والذي أراده لا يوجد إلا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
هذا هو معنى الإيمان باختصار شديد (1) ، وهو في غاية الوضوح لمن تتبع الكتاب والسنة وما فهمه علماء الأمة قديما وحديثا.
ولكن هذا المعنى التبس على كثير من الناس-أعني المسلمين فضلا عن غيرهم-ولهذا ترى بعضهم يطلق لفظ "المؤمنين" على المسلمين واليهود والنصارى، بناء على أنهم كلهم أهل كتب سماوية يؤمنون بالله... مع أن القرآن الكريم قد وصف اليهود والنصارى بالكفار ووصفهم بالمشركين-وإن كانوا في الأصل أهل كتاب-كما وصفهم بأنهم حرفوا كتبهم وبدلوها، ووصف القرآن بأنه مهيمن على الكتب التي سبقته، فلا يصح إطلاق الإيمان الشرعي الذي يقبله الله ويثيب أصحابه بدخول جنته وينجيهم من عذابه، إلا على الإيمان الذي أراده الله وبينه في كتابه وسنة رسوله، ولا يصح إطلاق المؤمن إلا على المسلم الذي اتصف بذلك الإيمان الذي أراده الله، فليس اليهودي بمؤمن ولا النصراني-فضلا عن غيرهما-بمقتضى المصطلح الإسلامي بل هما كافران مشركان.
وهناك غبش آخر عند كثير من المسلمين في معنى الإيمان فالإيمان إذا أطلق في الكتاب والسنة هو الإيمان الذي سبق التعريف به، وعلى وجوده بذلك المعنى تترتب آثاره، فإذا وعد الله المؤمنين بالنصر-مثلا-فالمراد بهم المؤمنون المتصفون بالإيمان الذي أراده، فقد قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}
والمسلمون-اليوم-وقد ابتعد غالبهم عن معنى الإيمان الذي أراده الله إما بتركه كلية كحال الملحدين من أبناء المسلمين، أو بمحاربة كثير مقتضياته كتحكيم شرع الله الذي لا إيمان بدونه، أو بالإكثار من ارتكاب المعاصي كالزنى وشرب الخمر، أو بموالاة أعداء الله من اليهود والنصارى والوثنيين والملحدين والمنافقين-ومنهم العلمانيون-
هؤلاء الذين يدعون الإسلام والإيمان و جلهم على هذه الصفة يتساءلون: أين نصر الله الذي وعدنا به على عدونا وقد أصبحوا سادة لنا يأمروننا وينهوننا، وتفوقوا علينا في الإدارة والصناعة والسياسة والاقتصاد وغيرها؟! ظنا منهم أن المؤمنين الذين أرادهم الله هم أمثالهم، وهذا خطأ فاحش أوقعهم فيه الجهل بالمصطلحات الشرعية الواردة في الكتاب والسنة.
ولقد تساءل المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا على نهج الله مطيعين لله ولرسوله محكمين شرعه، فأدال عليهم عدوهم من المشركين يوم أحد، بسبب مخالفة وقعت منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، تساءلوا: كيف ينتصر علينا المشركون ونحن مسلمون نجاهد في سبيل الله؟ فأجابهم الله تعالى أن ذلك إنما كان بسببٍ من عند أنفسهم، كما قال تعالى: {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير}
وإذا كانت هذه هي إجابة الله للمسلمين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلك كانت حالهم، فكيف بنا اليوم وهذه هي حالنا؟!
إن سبب هذا الغبش هو عدم وضوح حقائق الأمور وسوء تصورها، لأن أهل الحق قصَّروا في السباق بها إلى العقول، وجد أهل الباطل فسبقوا إلى تلك العقول بباطلهم، فالتبس الحق بالباطل.
وقل مثل ما عرفت عن معنى الإيمان في المعاني الأخرى كالشهادة (2) التي يوصف بها الشيوعي الملحد والعلماني المحارب لشريعة الله. والرشد الذي يوصف به السفيه. والصلاح الذي يوصف به الفاسد، وهكذا...
ويتحمل وزر ذلك كل قادر على بيان الحق والباطل للناس والسبق بذلك إلى عقول الناس فلم يفعل، ومن باب أولى من كان كذلك فلبس الحق بالباطل مشتريا بآيات الله ثمنا قليلا، كما قال تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون} .

المثال الثاني: الأمن.
إن الأمن في المصطلح الإسلامي يقصد به كل ما يحقق للإنسان الطمأنينة والرضا والعيش الهنيء في الدنيا، بحيث تحفظ له الضرورات الخمس، وهي: دينه، وعقله، ونفسه، ونسله، وماله، وكل ما يخدمها من الحاجيات والتكميليات. وفي الآخرة بالفوز برضا الله ونيل ثوابه والخلود في نعيمه في الجنة التي فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وأساس تلك الضرورات وما يخدمه أكلها حفظ الدين الذي إذا حفظ حفظت مصالح الإنسان، ودفعت عنه المفاسد، وإذا لم يحفظ ضاعت مصالحه، وتناوشته المفاسد من كل جانب. هذا هو مفهوم الأمن في المصطلح الشرعي باختصار شديد، وبفقده يحل بالإنسان الخوف في الدارين.
وإذا تأملنا آيتين وردتا في القرآن الكريم اجتمع فيهما أساس الأمن وأساس الخوف، وجدنا أن أساس"الأمن" الشامل لحياة الناس-أفرادا وأسرا ودولا-في الدنيا والآخرة، هو الإيمان بالله وتوحيده واتباع ما جاء به رسله، وأن أساس "الخَوَف" الشامل لحياة الإنسان-فردا وأسرة ودولة-في الدنيا والآخرة، هو الشرك بالله والصد عنه وعن اتباع ما جاء به رسله عليهم الصلاة والسلام.
فقد بين الله تعالى ذلك على لسان أبي الأنبياء وقدوتهم خليله إبراهيم، الذي خوفه قومه، وقد أصر على دعوتهم إلى توحيد الله وطاعته وترك الشرك به وغلبهم بحججه وبراهينه، خوفوه من أن تصيبه آلهتهم التي يعبدونها من دون الله بسوء، فرد عليهم ببيان أن المؤمن بالله جدير بالأمن وأحق به لما حباه الله به من الهداية، ولا يليق به أن يخاف من الأرباب المزيفة، وأن غير المؤمن بالله المشرك به هو الجدير بالخوف وعدم الاطمئنان لاستناده إلى ما لا ينفع ولا يضر من دون الله، كما قال تعالى: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَ مْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}
كما بين تعالى أن المشركين به الصادين عن سبيله ليسوا أهلا للأمن من مكره وبأسه وعقابه لهم في الدنيا في مبيتهم نائمين، أو في نهارهم لاعبين عابثين، قال تعالى: { أَفَأَمِنَ أهل الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أو أمن أهل الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}
وقال تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمْ الأَرضَ أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ}
ولهذا كان عباد الله المؤمنون-وفي طليعتهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم-يخافون على أنفسهم من عذاب الله في الآخرة فينالون بذلك الخوفِ الأمنَ فيها، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّين وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ(28)} إلى قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ}
وهؤلاء الذين يخافون من عذاب الله في الآخرة وينالون فيها الأمن، هم الذين يخافون في الدنيا من أسباب ذلك العذاب، فيتخذون الوسائل للبعد عنها، ولذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع شدة طاعتهم لله ولرسوله وتمسكهم بدينهم، يخافون على أنفسهم من النفاق. كما قال البخاري رحمه الله: (بَاب خَوْفِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلاَّ خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَدْرَكْتُ ثَلاَثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، وَيُذْكَرُ عَنِ الْحَسَنِ مَا خَافَهُ إِلاَّ مُؤْمِنٌ وَلاَ أَمِنَهُ إِلاَّ مُنَافِقٌ وَمَا يُحْذَرُ مِنَ الإِصْرَارِ عَلَى النِّفَاقِ وَالْعِصْيَانِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
وفي بعض أدعية الرسول صلى الله عليه وسلم: [أَسْأَلُكَ الأَمْنَ يومَ الْوَعِيدِ]  (3)
فإذا حقق الإنسان هذا الأساس، وهو توحيد الله وطاعة رسله كان جديرا بالأمن، ولا يحول بينه وبين الأمن تمتعه بما يروح به عن نفسه من اللهو المباح، كما يظهر ذلك من حديث عائشة رضي الله عنها أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِي اللَّهم عَنْهم دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ فِي أَيَّامِ مِنَى تُدَفِّفَانِ وَتَضْرِبَانِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَغَشٍّ بِثَوْبِهِ فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ فَكَشَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ: (دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ أَيَّامُ مِنًى وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتُرُنِي وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعْهُمْ أَمْنًا بَنِي أَرْفِدَةَ) يَعْنِي مِنَ الْأَمْنِ.
والذي يتأمل أنظمة الشريعة الإسلامية الشاملة للعقيدة، والعبادة، والأخلاق، والتعليم والتزكية، والمعاملات، والسياسة الشرعية، والفروسية والجهاد، والقضاء وديوان المظالم، والحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، و العقوبات من الحدود والقصاص والتعازير، والاقتصاد، والأسرة، والأطعمة والأشربة، وغير ذلك من أبواب الإسلام... الذي يتأمل تلك الأبواب مجتمعة أو أي باب منها، لا يفوته إدراك تحقيقها للأمن الذي تنشده البشرية أمس واليوم وغدا... (4)
الأسس التي يتحقق بها الأمن في الدارين.
ويتحقق الأمن في الإسلام بثلاثة أسس رئيسة:
الأساس الأول: فقه كل مسلم بدين الله في ما يزاوله من عمل.
سواء منه ما، تعلق بالله، أو ما تعلق بنفسه، أو ما تعلق بغيره من المخلوقين.
الأساس الثاني: العمل بما علم من دين الله.عمل الفرد، وعمل الأسرة، وعمل الأمة مجتمعة...
الأساس الثالث: إقامة ولي الأمر أحكام الله الواردة في القرآن والسنة، بحيث يلزم من شذ عن تطبيق شرع الله به بالوسائل الشرعية التي قررها الإسلام...
هذا المفهوم الشامل للأمن في الإسلام، لم يعد هو المفهوم عند عامة المسلمين، بل أصبح مصطلح: "الأمن" يعني في قواميس الكتاب، والإعلاميين،والعسكريين، والساسة، وكثير من المفكرين والمؤرخين والأدباء والفنانين... يعني الوقاية من الجريمة-المحددة عند هؤلاء-قبل وقوعها، وضبط المجرم-بالمفهوم المحدد عندهم كذلك-وعقابه بعد وقوعها.
وأكثر ما تعني أمن الدولة ورجالها من الاعتداء. ويدخل في ذلك-تبعا-حماية نفوس الرعايا وأموالهم، وما يخل بالأمن-في مفهومهم-من الأعراض (5).

منهجان ونتيجتان:
انبنى على المفهوم الشرعي للأمن العناية-تعبدا-بالإنسان من وقت ولادته إلى أن يلقى ربه عناية شرعية: العناية بجسمه، والعناية بعقله، والعناية بروحه وعاطفته، وتوجيهه تعليما وتربية وتدريبا على أن يؤدي إلى غيره من الناس حقوقهم، وألاَّ يأخذ منهم ما لاحق له فيه، وأن يأتي إليهم بما يحب أن يأتوا هم إليه. أي أن يطبق في صلته بالله وبالناس شريعة الله التي لا يتحقق الأمن بدونها.
فكانت النتيجة أمن الناس على دينهم، وعقلهم، ونفسهم، ونسلهم، ومالهم، بحيث يلتزم كل منهم بحفظ ذلك للآخرين كما يحفظها لنفسه، فإن خرج أحد عن هذا الالتزام الذاتي واعتدى على غيره ردعته الأمة-عن طريق ولي أمرها-بالزواجر الشرعية من حد أو قصاص أو تعزير... وأصبح كل واحد من الأمة: حاكما أو محكوما، سيدا أو مسودا، خادما أو مخدوما، متمتعا بالأمن الذي كفله له دين الله.
وانبنى على مفهوم الأمن غير الشرعي (6) عنايةُ أهله بالوقاية من الجرائم التي أثبتوها في قواميسهم، أو العقوبة عليها، وقد يكون كثير مما سموه جرائم طاعات وعبادات ومصالح للأمة، وليست جرائم في حقيقة الأمر.
فكانت النتيجة جعل ما هو صلاح وبر وإحسان جريمة، وجعل من هو صالح وبار ومحسن مجرما، وجعل ما هو جريمة حقيقة خيرا وبرا وإحسانا، وجعل من هو مجرم فعلا، صالحا وبارا ومحسنا. فَحَرَّموا كثيرا من الواجبات والمندوبات والمباحات، وأحلوا كثيرا من المحرمات والمكروهات...
الأمثلة على المفهوم الأول تجسدها أبواب الشريعة الإسلامية التي تضمنها القرآن والسنة، وعلامتها تطبيقها، فما طبقت الشريعة في زمان أو مكان إلا تمتع جيلهما بالأمن... وفي تاريخ الإسلام في عصوره المفضلة خير شاهد.
وإننا نرى في زمننا هذا فرقا شاسعا بين الأمن في دولة تطبق كثيرا من شرع الله، وأخرى تحارب تلك الشريعة!. (7)
والأمثلة على المفهوم الثاني لا تخفى على من يتتبع تاريخ المسلمين الطويل، فما ابتعد المسلمون عن الإسلام، إلا نزل بهم من الخوف وارتفع عنهم من الأمن ما يناسب ابتعادهم، والذي يعيش في عصرنا هذا يرى ذلك عيانا.
فقد حَرَمَتْ الدول العلمانية المحاربة لشرع الله رعاياها من الحكم بما أنزل الله، وقتلت وسجنت وشردت آلاف العلماء والدعاة إلى الله، بسبب دعوتهم إلى تطبيق هذه الشريعة، وعطلت حد الردة الذي يحمي كيان الأمة الإسلامية من الانهيار، وعطلت فريضة الجهاد في سبيل الله، وهو الدرع الواقي للدعوة إلى الله، والسد المنيع من اعتداء أعداء الله على بلدان المسلمين وأعراضهم وأموالهم التي أصبح يسيطر عليها أراذل خلق الله من اليهود، وفي ذلك اعتداء على إحدى ضرورات الحياة، وهي دين الأمة.
وعطلت الحدود، ومنها حد القصاص، وفي ذلك إهدار لإحدى ضرورات الحياة، وهي النفس...
وأحلت الزنا والوسائل المؤدية إليه، وحاربت وسائل الوقاية منه كالحجاب، وعطلت عقوبة الزنا، وفي ذلك إهدار لإحدى ضرورات الحياة، وهي النسل والعرض.
وأحلت الخمر الذي يفقد العقول وظيفتها، وفي ذلك إهدار لإحدى ضرورات الحياة، وهي العقل.
وبنت اقتصاد الأمة على مبادئ تخالف مبادئ الاقتصاد الإسلامي، ومن أخطر تلك المبادئ المعاملات الربوية التي حرمها الله وجعل متعاطيها محاربا له تعالى... وعطلت حد السرقة، وفي ذلك إهدار لإحدى ضرورات الحياة، وهي المال.
وإذا كانت النتيجة هي إهدار ضرورات الحياة، فما بالك بما يخدمها من الحاجيات و والتكميليات؟!.
لذلك ترى من الفسق والمنكر والعدوان على كل شعائر الله وحقوق عباده في البلدان الإسلامية، ما يثبت لك اعوجاج مفهوم الأمن لدى قادة الباطل...

المثال الثالث: الإجرام والمجرمون.
إن المراد بالإجرام في المصطلح الإسلامي هو كسب الإنسان السوء والمعصية والمنكر والاعتداء على حقوق الله وحقوق عباده، يشمل ذلك الكسب الاعتقادي كالشرك، والعملي كالسرقة والزنا وقتل النفس التي حرم الله بغير الحق والظلم بكل أنواعه، ومنه أكل أموال الناس بالباطل.
والمراد بالسوء والمعصية والمنكر والحقوق المعتدى عليها هنا، ما اعْتُبِرَ عند الله في دينه كذلك، لا ما اعتبره البشر كذلك وهو عند الله غير معتبر، والإنسان الذي يكسب هذه الأمور المعتبرة عند الله جريمة، هو المجرم ولا يستوي عند الله الإجرام والإسلام، والإفساد والإصلاح، ولا المسلم والمجرم، ولا المفسد والمصلح.
وإذا تأمل الباحث إطلاق لفظ: المجرمين في كتاب الله تعالى ألفاه
-غالبا-يقابل المسلمين، وهو يشمل الكافر والمنافق.
من ذلك قول الله تعالى: {ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون} .
وقوله: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون} .
وقوله تعال: {ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا، ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا} .
وقوله تعالى: {تالله إن كنا لفي ضلال مبين، إذ نسويكم برب العالمين، وما أضلنا إلا المجرمون} .
وقوله تعالى: {يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام، فبأي آلاء ربكما تكذبان، هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون} .
وقوله تعالى: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين} .
هذا هو المصطلح الإسلامي للمجرم، ولكن أعداء الحق وأنصار الباطل كثيرا ما يطلقون هذا المصطلح اليوم على علماء الإسلام ودعاته، الذين ينادون بتحكيم شرع الله في الشعوب الإسلامية.
ولما كان الحكام الذين يحاربون شرع الله يعلمون أن لأولئك العلماء والدعاة، تأثيرا على نفوس تلك الشعوب، وأن نتيجة هذا التأثير هي الاستجابة لدعوة العلماء ونصرة الحق الذين يدعون إليه، فقد اعتبروا دعاة الإسلام وحداة الحق مجرمين، لأنهم يريدون-في زعمهم-قلب أنظمة الحكم الطاغوتية.
لذا سلطوا عليهم أجهزة إعلامهم لتكرر وصفهم بالإجرام، وأنشئوا لهم محاكم عسكرية أو مدنية طاغوتية تعتبرهم-قبل إعلان الحكم عليهم-مجرمين، إجراما يرقى إلى درجة الخيانة العظمى التي يستحق صاحبها القتل، وإذا فر العالم الداعية إلى الحق وإقامة شرع الله، إلى بلد يحكمه طاغوت آخر تعاون طاغوتا البلد ين بناء على اتفاقات تسمى تبادل تسليم المجرمين، مع أن المجرم الحقيقي هو أولئك الطغاة الذين يحاربون تطبيق شرع الله ويسومون أولياء الله سوء العذاب باعتبارهم مجرمين.
ولذلك يجب على كل قادر على بيان الحق أن يكون سباقا بذلك البيان إلى عقول الناس، ليكونوا على بصيرة بحقيقة الإجرام والمجرمين، فلا تخدع عقولهم دعايات الضلال والمضللين، فيسوء بذلك تصورهم ويؤيدون بسببه أهل الباطل المجرمين على أهل الحق المسلمين.

المثال الرابع: معنى الدين.
الدين في المصطلح الإسلامي يعني الإسلام الشامل، الذي يدخل فيه الإيمان بالقلب والقول باللسان والعمل بالأركان، وتدخل فيه الشعائر الدينية والشرائع العملية، من معاملات مالية واقتصادية وقضائية وسياسية واجتماعية، وبالجملة يدخل فيه كل ما ورد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو ما قال الله عنه: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}
ولكن أنصار الباطل، وأعداء الحق المحاربين لشريعة الله، خططوا لإزالة هذا المفهوم من عقول أبناء المسلمين، بحيث جعلوا الدين لا يتجاوز معنى العبادة بمفهومها الضيق، وهو أنها صلة بين العبد وربه فقط، وكل إنسان حر في أداء تلك العبادة واعتقادها أو عدم ذلك، فمن أراد أن يتطهر ويصلي فليفعل ومن لم يرد فهو أمير نفسه.
أما شؤون الحياة الاجتماعية-عدا بعض أحكام الأسرة-والاقتصادية والسياسية والتعليمية والإعلامية والعسكرية وغيرها، فلا تدخل في الدين ولا للدين فيها حَلٌّ ولا ربط.
ولهذا حُصِر الدين في مناهج التعليم والإعلام والفتوى ونحوها، في أبواب الطهارة والصلاة والحج والصوم، وخصصت له وريقات في المدارس الابتدائية يدرسها الطالب الصغير دراسة ممسوخة، وتسمى مادة:"الدين" التي تجعل الطالب وأسرته ومجتمعه لا تفهم من الدين إلا ذلك. (8)
وهكذا شأن الإعلام الذي تقدم فيه فتاوى مشابهة لما في مناهج التعليم، إذ الغالب أن تكون الفتاوى تتعلق ببعض أبواب الفقه الإسلامي، كالطهارة من وضوء وغسل وحيض ومسح على الخفين، وصلاة وحج وصوم، ونحو ذلك مما هو جزء من الدين، وبنشره يأذن قادة الباطل لوسائل الإعلام، مما لا يعارض مصالحهم معارضة مباشرة كبعض أحكام الأسرة....
أما ما يعتبره قادة الباطل متعارضا مع مصالحهم، كأبواب الاقتصاد والسياسة الشرعية، والولاء والبراء، والجهاد في سبيل الله، والشورى، والعلاقات الدولية ونحوها، فلا تكاد تذكر في أجهزة إعلام أعداء الحق المحاربين للإسلام، خشية من أن يسبق الحقُّ الباطلَ إلى عقول الناس. والذي تهتم به وسائل الإعلام من هذه الأبواب هو ما يخدم مصالح قادة الباطل مما يخالف كثير منه دين الله وشريعته...
وبسبب ذلك أصبحت عقول كثير من أبناء المسلمين غير إسلامية على الحقيقة، لأنها لم تفقه حقيقة الإسلام الشامل، بل صُوِّر لهم أن دين الإسلام يعني التأخر والرجعية، وأنه يخالف روح العصر والتقدم، وأنه شبيه بالحكومة الإلهية التي حاربها الغرب عندما كانت الكنيسة تتدخل في كل شيء، وتزعم أنها تمارس نشاطها نيابة عن الله، وأنه لا يمكن أن يتقدم المسلمون ويتحضروا إلا إذا حاربوا دينهم من الناحية التشريعية، كما فعل الأوربيون مع الكنيسة ومنعوها من التدخل في حياتهم.
ولهذا تجد أجهزة أعداء الحق تشن غارتها على أي بلد يطبق شيئا من أحكام هذا الدين(9)، كالقصاص والحدود...
ومن هنا لبسوا عقول أبناء المسلمين مناظير مضللة غير مناظير الإسلام، فأصبح بذلك الحق عندهم باطلا والباطل حقا، وانقلبت عليهم الموازين، وتغيرت الجهات، فأصبح العلو سفلا والسفل علوا، والأمام وراء والوراء أمامَ، فاحتاجوا إلى من يشمر عن ساعد الجد وينبههم على هذا الخطر الذي أحاط بهم وهم لا يعلمون، لأن أعداء الحق سبقوا بباطلهم إلى عقولهم وحالوا بينهم وبين وصول الحق إليها.
فلْيَحْدُ حادي الحق تلك العقول المضَلَّلَة، ليربأوا بأنفسهم عن البقرة التي لبسها صاحبها نظارة خضراء، لترى العشب اليابس أخضر، فيكثر درها، وليقل لأصحاب تلك العقول ناصحا:

فتح عينيك يا راجي *** تبصر في الليل الساجي
والبس دوما منظارك *** يهدي فيه (10) أبصارك
هل تدري ما المنظار *** وحيَ الله تختار
واسلك نهجا يرضاهُ *** للمخلوقينَ اللهُ
وافتح أذنك يا راجي *** واتبع من يحدو الناجي
نحو الفردوس العالي *** والزم خير الأعمال
حرِّكْ عقلَك يا راجي *** تفقه قصد المنهاجِ
واحذر شؤم التقليدِ *** نهج الأعمى المنكودِ
واصحب قوما صلاحا *** منهم مسكٌ قد فاحا
أهــل التـقوى والــسنَّـهْ  *** والــرضـوان والجــــنَّهْ

وإن من أعظم المصائب أن يقع في هذا التقليد من يزعم أنه مجتهد يحارب التقليد، بحيث إذا خالف بعضَ كبار الأئمة-كالأئمة الأربعة-بدون تمحيص في مسألة شرعية، وإذا طلب منه التأمل في آرائهم وأوجه استدلالهم، صعر خده وأشار بيده إلى صدره قائلا: نحن رجال وهم رجال! وإذا سمع قولا يهواه من زميل له أو متعالم صغير، أسرع في الأخذ به ونشره والدفاع عنه، دون تمحيص-أيضا-ولم يشعر بأنه قلد من لا يستحق التقليد، ونسي أن يقول: نحن رجال وهم رجال!
وإذا لم يتدارك دعاة الحق عقول الناس بسبق الحق إليها، فإن أهل الباطل يتربصون بها، وقد أحاطوا بها من كل جانب ليضلوها، ويقودها إلى دمارها أوغاد جهلة لا يألون جهدا في إهدار ضرورات حياتها:

هل قد علمت بما جرى *** أو أنت سائل من درى
أرباب أحلام صغار *** صاروا رؤوسا للورى
وإذا سبرت عقولهم *** بانت أقل وأحقرا
وهي التي ألقت بهم *** في قعر بحر لا يرى
وهناك في ظلماته  *** ظنوا الأمام هو الورى
وبــنوا عـلى الظـن الـردي  *** سـيرا حــثيثـا مـنكــرا

النتيجة السابعة: وفرة إمكانات سباق أهل الحق المعنوية.
لقد منح الله تعالى أهل الحق من الإمكانات المعنوية، ما يستطيعون بها سبق أهل الباطل بحقهم إلى عقول الناس.
من تلك الإمكانات توافق منهاج هذا الدين، الذي هو الحق والذي لا يملكه إلا المسلمون، مع الفطرة، ولو تراكمت عليها أتربة الباطل ردحا من الزمن.
فأصول منهاج هذا الدين من الإيمان والرسالة والوحي تُقِرُّبها الفطر وتتجاوب معها، كما تخضع لها العقول وتستقبلها، مُسلِّمةً بالحجج والبراهين التي تكمن فيها من جهة ويتضافر معها الكون كله علويه وسفليه من جهة، وبخاصة إذا اجتهد أهل الحق فسبقوا أهل الباطل بتلك الأصول-مع الحجج والبراهين-إلى عقول الناس.
يتضح ذلك بالمقارنة بين أصول هذا الدين وبين العقائد الأخرى، كاليهودية والنصرانية المحرفتين، والوثنيات المنتشرة في الأرض، كالهندوسية والبوذية وغيرهما.
وعلى سبيل المثال، فإن الإله المعبود في دين الإسلام قد حسم معناه حسما لا يتطرق إليه الشك في قاعدة قواعد الإسلام: [لا إله إلا الله] وجميع نصوص القرآن تدل عليه.
مثل قوله تعالى: {هل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد}.
ومثل قوله تعالى: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}
وقوله تعالى: {الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة}
فهو خالق الكون وحده وهو المعبود وحده، وهو منزه عن صفات المخلوقين: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}. وكل مخلوقات الله تدل على ذلك.
فإذا رجع الباحث إلى عقيدة اليهود وتصورهم للإله، وجدهم يصفونه بأوصاف ينزهون أنفسهم عنها كقولهم-تعالى الله عنه-: {إن الله فقير ونحن أغنياء}. وقولهم: {يد الله مغلولة... غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا}. وما يصفونه تعالى به في التوراة الموجودة بين أيدي الناس اليوم، يصعب على الباحث إيراده تنزيها لمداد قلمه من أن يسطره في جناب الله سبحانه وتعالى.
أما النصارى فقد جعلوا الإله الواحد ثلاثة، والثلاثة واحدا.
وأما الوثنيون فكل حجر عندهم إله وكل شجرة إله وكل حيوان إله.
فإذا قارن العاقل بين ما جاء في قاعدة قواعد الإسلام: [لا إله إلا الله] وما يفسرها من نصوص الكتاب والسنة، وبين هذه العقائد الفاسدة، مالت فطرته السليمة إلى تلك القاعدة، ونفرت من هذه العقائد الفاسدة، مقتديا بخليل الله إبراهيم عليه السلام الذي حاول اليهود والنصارى وغيرهم صرف الناس عن ملته، فأبى الله لهم إلا ملته، كما قال تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ}
وقال تعالى: {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين}
وتلك هي فطرة الله التي أمر بها رسولَه محمدا صلى الله عليه وسلم ودعا إليها الأنبياء والمرسلين، قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}
فما تضمنته أصول هذا الدين من حق وما أودعه الله في نفوس الخلق من الفطرة، يرجحان كفة سبق أهل الحق بحقهم إلى عقول الناس، إذا جدوا في ذلك واجتهدوا.
فإذا انتقلنا إلى فروع هذا الدين من شريعة الله الشاملة، وجدناها كذلك تناسب الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وتحقق لهم مصالحهم في الحياة الدنيا والآخرة، بخلاف القوانين البشرية التي يكتنف واضعها الجهل والظلم والغفلة، والتي تغلب مفاسدها ما قد يوجد فيها من مصالح، لأن مصدر شريعة هذا الدين هو الله المتصف بالعلم المحيط بكل شيء، والعدل الثابت الذي لا يتغير، المنزه عن الجهل والظلم والغفلة {لا تأخذه سنة ولا نوم}.
فتَوَافُقُ منهاج هذا الدين وفطرة الناس من أهم ما يعين دعاة الحق على السبق بحقهم إلى عقول الناس، بخلاف أهل الباطل، فإن باطلهم يحمل في ذاته ما يعطل سيره، أو يبطئه، كما أن الفطرة السليمة تنفر منه، والفطر التي فسدت باجتيال الشياطين، تتيقظ لخطره إذا انُفض عنها غباره، بدعوة أهل الحق وسبقهم إلى عقول أصحابها به.
ومناهج التعليم-لو بنيت على أساس المنهج الرباني-في بلدان المسلمين، لكان لها أثر عظيم في السباق إلى عقول الناس الوافدين إلى هذه البلدان من بلدان غير المسلمين، وهم يمثلون كل المستويات التعليمية، ومن أهل الديانات المتنوعة من مشارق الأرض ومغاربها، من يهود ونصارى ووثنيين وملحدين، إضافة إلى تحصين تلك المناهج عقولَ أبناء المسلمين من سبق أهل الباطل بباطلهم إليها، كما هو الحال اليوم، حيث يؤثر الوافد من أهل الباطل بباطله في ذرية أهل الحق!.
هذه إشارة عابرة إلى ما منح الله به أهل الحق من الإمكانيات المعنوية التي تمكنهم من غلبة أهل الباطل في سباقهم إلى العقول.
وهي لا توجد عند غير أهل الحق من المسلمين، وهي أساس الإمكانات وأعظمها تأثيرا في النفوس.
يضاف إلى ذلك أن منهاج الحق الذي لا يملكه إلا المسلمون، وهو: الكتاب والسنة، محفوظ من التغيير والتبديل بإذن الله إلى يوم القيامة، فهو ثابت دائم لا ينقطع تأثيره في الخلق ما اجتهد المسلمون في تطبيقه ودعوة الناس إليه: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.

النتيجة الثامنة: وفرة إمكانات سباق أهل الحق المادية.
وإن لدى المسلمين من الإمكانات المادية الهائلة للسباق بالحق إلى عقول الناس، ما يعينهم على ذلك، لو بذلوا جهدهم في استغلالها-مع ما اختصوا به من الإمكانات المعنوية السابقة-ولتركوا دعاة الباطل وراءهم بمسافات يلهثون دون أن يتمكنوا من سبقهم بباطلهم إلى العقول.
الامتداد المكاني.
فالرقعة الأرضية التي يسكنها المسلمون تمتد من المحيط الأطلسي غربا إلى حدود الصين شرقا، ومن المحيط الهندي إلى حدود روسيا شمالا، ولا يوجد بلد غير إسلامي إلا وقد وجد فيه مسلمون قلوا أم كثروا.
وهذا الامتداد المكاني يوفر لهم فرصة عظيمة للوصول إلى عقول الناس الذين يعيشون فيه، كل منهم في موقعه بدون اضطرار إلى الانتقال من مكان إلى مكان آخر بعيد.
فكل صاحب باطل يعيش بين غالبية من أهل الحق سيكون المسلمون أكثر سبقا إلى عقله بالقدوة الحسنة-لو وجدت فيهم-، ثم بالدعوة والبلاغ المبين، وكل صاحب حق وجد من المسلمين بين غالبية من أهل الباطل، سيؤثر فيهم ويسبق إلى عقولهم بمقدار القدوة الحسنة التي يحملها وبمقدار قيامه بالدعوة إلى الله بالوسائل الشرعية المتاحة المناسبة لكل بلد.
الكثرة العددية.
والكثرة العددية للمسلمين، وهم فقط الذين يملكون الحق الإلهي الرباني، تؤهلهم، لو استقاموا على نهج الله واتخذوا الوسائل المتاحة الشرعية للسباق إلى العقول، من سبق غيرهم من أهل الباطل إلى تلك العقول.
الثروات الكثيرة المتنوعة.
والثروات الهائلة التي تحتوي عليها أراضيهم، من طاقات ومعادن وزراعة وحيوان وغيرها تعينهم-لو استغلوها استغلالا سليما-على إيجاد وسائل لا حصر لها للسباق بالحق إلى العقول.
العلاقات العالمية.
وصِلاتُهم بالعالم: الاقتصادية، والثقافية، والدبلوماسية، والإعلامية، وغيرها، تسهل عليهم اقتحام الحواجز التي تحول بين الحق وبين وعقول الناس في العالم كله، لو كان المسلمون جادين في سباقهم بالحق إلى تلك العقول.
المواصلات والاتصالات.
ووسائل المواصلات والاتصالات التي يملكها المسلمون-سواء كانت برية أو بحرية أو جوية، هاتفية أو إعلامية-تخدمهم خدمة عظيمة في السباق إلى العقول بالحق الذي يملكونه.(11)

النتيجة التاسعة: تعاون أهل الحق يحقق لهم السبق إلى العقول.
إن المسلمين-وهم أهل الحق-لجد يرون بالسبق بالحق إلى عقول الناس، ولو تعاونوا فيما بينهم وبذل كل منهم-أفرادا وجماعات-وسعه في حدود تخصصه للسباق بالحق إلى العقول، لكانت لهم الغلبة على أهل الباطل.
فقهاء الإسلام
فالفقهاء في الدين عندهم القدرة على إبلاغ الحق الرباني، إلى عقول الناس بالدعوة والتعليم بكل وسيلة تتاح لهم من الوسائل ة الكثيرة.
أغنياء الأمة الإسلامية.
وأغنياء الأمة الإسلامية-وقد لا يكونون علماء-قادرون على تمويل مشروعات السبق إلى العقول التي يقوم بها فقهاء الإسلام ودعاته، من الدعوة، والتعليم في المساجد والمدارس أو الجامعات أو التجمعات، أيا كان نوعها، كما أنهم قادرون على إنشاء مطابع وطبع نشرات أو كتب أو مصاحف، أو إقامة مؤتمرات أو ندوات متنوعة، هدفها كلها السبق بالحق إلى العقول.
ولاة أمور المسلمين.
وولاة المسلمين وحكامهم قادرون على تسخير كل ما يملكون من وسائل، للسباق إلى العقول بالحق-مع تحقيق تلك الوسائل لما وضعت له من مصالح الدول-والحكام أكثر قدرة من غيرهم في هذا المجال، لأنهم يملكون إمكانات الشعوب وطاقاتها ومرافقها.
ومما يؤسف له أن غالب حكام الشعوب الإسلامية قد نصبوا أنفسهم لدعم سباق أهل الباطل بباطلهم إلى عقول الناس، وللحجر على تلك العقول من أن يصل إليها الحق!
جيوش الأمة الإسلامية.
وجيوش المسلمين قادرة على ردع من وقف في صف الباطل، ليسبق به إلى عقول الناس، ولإعانة أهل الحق في أن يسبقوا بالحق إلى عقول الناس.
وهكذا كل صنف من أصناف المسلمين يعين أهل الحق في سباقهم به إلى عقول الناس بما يقدر عليه بحسب موقعه، تحقيقا للتعاون على البر والتقوى الذين أمر الله بهما.

النتيجة العاشرة: دور الجماهير في سبق الباطل إلى العقول.
إن قادة الباطل وطغاته لا يحققون السباق بالباطل إلى عقول الناس إلا بحشد الجماهير المؤيدة لهم، جاهلة كانت أو مؤْثرة لمصالح مادية زائلة، ولو لم تستجب لهم تلك الجماهير لما استطاعوا أن يحققوا غاياتهم الفاسدة.
المشرعون والمنفذون.
فمن تلك الجماهير من يُشَرِّع لقادة الباطل وطغاته القوانينَ التي تحارب الحق وتؤيد الباطل، كعلماء القانون.
ومن تلك الجماهير من يقر تلك التشريعات والقوانين، كأعضاء البرلمان.
ومن تلك الجماهير من ينفذ تلك القوانين كالوزراء والمحافظين والشرطة.
رجال القضاء.
ومن تلك الجماهير من يحكم بتلك القوانين كالقضاة.
الإعلاميون.
ومن تلك الجماهير من يضلل عقول الناس بالثناء على تلك القوانين كالإعلاميين.
أساتذة الجامعات.
ومن تلك الجماهير من يدرس تلك القوانين ويؤصلها في عقول الناس، كأساتذة الجامعات.
الجيوش.
ومن تلك الجماهير من يرغم الناس على قبول تلك القوانين كالجيوش. (12)

اللاهون وأهل المجون.
ومن تلك الجماهير من يفسد أخلاق الناس ومجتمعاتهم بما يشغل عقولهم عن التفكير في الحق والباطل وترجيح الحق على الباطل، كالمغنين والرقاصين والمبالغين في بعض أنواع الرياضة...
وهكذا كل فئة من جماهير الشعوب الإسلامية، يستغلها دعاة الباطل وقادته وطغاته في الحجر على عقول الناس من أن يصل إليها الحق، أو في سبق الباطل إليها.
ولو أن تلك الجماهير عرفت حقيقة مقاصد قادة الباطل، والأضرار المترتبة على استغلالها لتحقيق تلك المقاصد، لوقف عقلاؤهم في صف أهل الحق لوقاية العقول من الباطل وإمدادها بالحق.
فلو فكر مشرعو القوانين الوضعية المخالفة لحكم الله وشرعه في المظالم المترتبة على قوانينهم، وأن ذلك محاربة لله تعالى ولتطبيق شريعته، وأنهم سيقفون بين يدي الله يوم الحساب، ليجازيهم على محادتهم له، لما شرعوا تلك القوانين التي أعانوا بتشريعها أنصار الباطل على أنصار الحق.
ولو فكر من يسمون بالنواب، الذين أرادت تلك الأمة منهم تحقيق مصالحها التي تسعدهم في الدنيا والآخرة، لما وافقوا على قوانين الطواغيت التي تستغل لهدم الضرورات التي يجب حفظها.
ولو فكرت السلطات التنفيذية، من وزراء الأمة ومحافظيها وأجهزة أمنها من شرطة وغيرها، في الوزر الذي يتحملونه أمام الأمة وأمام الله، لما كانوا أداة قهر وإذلال للأمة بتنفيذ تلك القوانين الظالمة.
ولو فكر الإعلاميون، بكل فئاتهم في تلك العقول التي خلقها الله، لتفرق بين الحق لتتبعه، وبين الباطل لتجتنبه، فكانوا سببا في تضليلها حتى غدا الحق عندها باطلا والباطل حقا، لما وقفوا في صف قادة الباطل ضد الحق وأهله إلا من أضله الله على علم.
ولو فكر نجوم الفن والرياضة-كما يسمون!-في شغل عقول الناس عن الحق، وقارنوا بين فعلهم الذي شغلوا به عقول الجماهير-مباحا كان أو محرما-عن أهداف الأمة الإسلامية العليا، كالجهاد في سبيل الله الذي هي أحوج إليه في هذا الزمن من غيره، لما يلقاه المسلمون من الإذلال والقهر والقتل، والإخراج من بيوتهم وتشريدهم في الأرض، وانتهاك أعراضهم، لو فكروا فيما يفعلون وفي هذه المآسي لتخلوا عن قادة الباطل، وانضموا إلى صفوف أهل الحق، لإنقاذ أمتهم مما حل بها من مصائب وفتن، ولسخر الفنانون فنهم في السباق إلى العقول بالحق، وسخر الرياضيون رياضتهم إلى فروسية للجهاد في سبيل الله.
ولو فكرت جيوش المسلمين في ذلك كله، وتذكروا الواجب الملقى على أكتافهم وهو رفع راية الإسلام في الأرض، لكان لهم شأن آخر مع الباطل وقادته!

النتيجة الحادية عشرة: أثر التنازع في السباق إلى العقول.
إن من أهم العقبات التي وقفت في طريق سباق أهل الحق به إلى العقول تنازعهم فيما بينهم، التنازع الذي مزقهم شر ممزق وجعل بعضهم يشغل نفسه ببعض، بسبب من الجهل والهوى وتقديم حظوظ النفس على المصالح العامة، وإرضاء أعداء الحق الذين استغلوا تنازع أهله، ليكون السبق إلى العقول بالباطل أسرع من السبق إليها بالحق.!
تنازع بين الدول.
فأصبحت كل دويلة من دويلات المسلمين، تكيد لجارتها سرا وعلنا، وتنفق وقتها ومالها وطاقات أبنائها للكيد المذكور، وبذلك ضللت كل دويلة عقول أبناء شعبها، حتى من يُظَن أن لديهم حظا من الثقافة الدينية وغير الدينية، تجدهم منساقين لمعاداة الدويلة الأخرى والحقد على حكامها ومحكوميها على السواء، بدون دليل واضح-غالبا-لمشروعية تلك المعاداة وذلك الحقد، إلا التضليل الإعلامي الذي تتعمده دويلتهم.
تنازع بين الأحزاب في كل دولة.
ومن جهة أخرى فقد تصدع كل شعب على حدة، بسبب كثرة الأحزاب التي زرعها أعداء الحق من المستعمرين وملئوا أدمغتهم وعقولهم، بأفكار ومذاهب أجنبية كلها باطلة، فشغل كل حزب نفسه بما معه من الباطل، ليسبق باطل غيره من الأحزاب الأخرى إلى عقول الناس، وليقي أعضاءه من أن يصل إليها باطل الأحزاب الأخرى، فأصبحت الأحزاب تتصارع بالباطل ضد الباطل.
تعاون قادة أحزاب الباطل ضد الحق وأهله.
ومن جهة ثالثة فإن أحزاب الباطل المتصارعة فيما بينها تجتمع كلها، لتسابق بباطلها أهل الحق إلى عقول الناس.
‎تنازع أهل الحق فيما بينهم.
ثم من جهة رابعة تجد أهل الحق يتنازعون فيما بينهم تنازعا يندى له الجبين، إذ يصل إلى أن تشغل كل جماعة نفسها بالجماعة الأخرى، وقد تكون الجماعتان متفقتين في الأهداف والوسائل-إلا فيما فيه متسع للاجتهاد-وقد تكونان-في الأصل جماعة واحدة، ولكن الهوى وحظوظ النفس والشيطان، زينت لبعض قادتها سلوك السبل المؤدية إلى التنازع والخلاف.
وبذلك تشغل كل جماعة نفسها بالأخرى وتسابق كل جماعة أختها بما تزعم أنه الحق عندها، لاستقطاب عقول أكبر عدد من الناس لتقوية جماعتها، فإذا رأى الناس هذا السلوك نفروا من الطائفتين معا، اتقاء للفتنة وشكا في النوايا التي تكمن وراء ذلك التمزق والتفرق.
ولو سلم المسلمون من هذا التمزق والتنازع ومن شغل بعضهم نفسه ببعض، لاجتمعت طاقاتهم كلها لسبق ما عندهم من الحق، إلى عقول الناس بدلا من سبق أهل الباطل بباطلهم.
قدوة سيئة منفرة.
ولقد كان هذا السلوك المشين من المسلمين من أهم الأسباب التي حجبت عقول غير المسلمين عن البحث عن الحق والالتفات إليه، فكان ذلك فتنة لغير المسلمين الذين يصرحون بأن المسلمين لو كان ما عندهم حق قابل للتطبيق، لطبقوه في مجتمعاتهم قبل أن يدعوا غيرهم إليه، وهذه هي القدوة السيئة التي تنفر الناس من الحق الذي يملكه المسلمون!

النتيجة الثانية عشرة: أثر العنف في سبق الحق إلى العقول.
إن إصرار أهل الباطل على تثبيته بالقوة، ترتب عليه رد فعل عرقل سبق أهل الحق بالحق إلى العقول.
كثير من دعاة الإسلام الذين حرصوا على السبق بالحق إلى العقول، اجتهدوا في سباقهم إلى العقول، أن يصلوا إلى هدفهم بالتعليم والتزكية، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، واتخذوا ما يقدرون عليه من الوسائل البعيدة عن الشدة والعنف.
ولكن أنصار الباطل صدوا عن الحق بأنفسهم، وصدوا عنه غيرهم، واتخذوا كل الوسائل للسباق إلى الباطل، بما في ذلك وسائل العنف، من سجن وتعذيب وتشريد وتقتيل.
وترتب على شدة أهل الباطل في سباقهم إلى العقول بباطلهم، والحجر على العقول من وصول الحق إليها، ردُّ فعل عنيف من قبل بعض شباب المسلمين فقابلوا الشدة والعنف بمثلهما، فحملوا السلاح، ضد الحكومات العلمانية التي حاربت تطبيق الشريعة الإسلامية في شعوبها، وقاموا باغتيالات أنصار تلك الحكومات من العسكريين وغيرهم، بل بلغ الأمر ببعض أولئك الشباب، أن قتلوا الأبرياء، من الأطفال والنساء والعُزْل من الرجال، بزعم أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وهو تصرف منكر لا يقره شرع الله، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يشترط فيهما العلم بأن هذا معروف يؤمر به، وذاك منكر ينهى عنه،وأن لا يترتب على الأمر والنهي مفاسد أعظم.
وكثير من الشباب الذين يتصرفون تلك التصرفات العنيفة لا يتوافر فيهم هذا الشرط، لأن الطريقة التي سلكوها في أمرهم ونهيهم، ترتبت عليها مفاسد أعظم من المفاسد التي زعموا أنهم أرادوا إنكارها، إذ ازداد أهل الباطل عنادا وإصرارا على محاربة الإسلام، بل أعطتهم تلك التصرفات مسوغا لمحاربة الدعوة الإسلامية، حيث كمموا أفواه دعاة الحق من علماء المسلمين ومفكر يهم، الذين لو تمكنوا من الاتصال بجماهير الشعوب-وبخاصة شبابهم-لفقهوهم في الدين، ولتمسك هؤلاء الشباب بدينهم وطبقوا ما أمكنهم تطبيقه بهدوء، وبدون استعمال عنف ولا شدة، ولما أطلقوا رصاصهم على أنصار الباطل، بل سيسلكون سبيل التربية على هذا الدين والدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى تتمكن دعوتهم من الوصول إلى عقول الناس، فمن استجاب لها حمدوا الله على هدايته، ومن أبى فعليه ذنب إبائه.
ولو أن قادة الباطل أعطوا دعاة الحق من علماء الإسلام، فرصة للدعوة إلى ما عندهم من الحق بالوسائل المتاحة لهم سلميا، لما حصل هذا العنف الذي قام به هذا الشباب.
فإذا أصبح أي شعب من الشعوب الإسلامية قابلا لتطبيق الإسلام بمعناه الشامل، واختار أن يحكم بهذا الدين، فهذا هو ما يسعى إليه دعاة الحق في سباقهم إلى العقول، وهذا حق للشعوب الإسلامية لا يجوز لأحد أن يحرمها منه.
وإذا تاب أهل الباطل من باطلهم واستجابوا لرغبة هذه الشعوب، فطبقوا حكم الله فيها، فإن دعاة الحق الذين اجتهدوا في السبق به إلى العقول سيكونون هم وأتباعهم من شباب الأمة الإسلامية، سباقين إلى طاعتهم في المعروف، وأعوانا وأنصارا لهم في تنفيذ شرع الله الحنيف.
وإن تولى أولئك الحكام وأعرضوا عن الحكم بشريعة الله ولم يرضوا حكم الله، فليكن الْحَكَم بينهم وبين دعاة الحق أهلُ الحل والعقد من تلك الشعوب المسلمة، وسينتقل الحكم من الطغاة إلى الصالحين عن طريق السلم والاختيار دون عنف ولا شدة.
ولكن قادة الباطل فتحوا الأبواب لأحزاب الباطل كلها، أن تنشر باطلها وتسابق به إلى عقول الناس، وحرمت على دعاة الحق ومفكري الإسلام أن يوصلوا الحق إلى عقول الناس، بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والتعليم والتربية، وزجوا بكثير من علماء الإسلام ودعاة الحق ومفكريه في السجون والمعتقلات، بل أذاقوهم أشد العذاب وأزهقوا أرواحهم بدون حق.
وتلفت شباب الإسلام ليجدوا من يرشدهم ويفقههم في الدين، من العلماء والمفكرين تفقيها صحيحا ليس فيه تحريف ولا كتمان للحق، فلم يجدوا-في الغالب-إلا موظفين لدى قادة الباطل وطغاته الذين يحاربون شرع الله والدعاة إليه، وكثيرا ما يفتي بعض أولئك العلماء بفتاوى تؤيد أنصار الباطل، بالحق وبالباطل متبعين في ذلك أساليب متنوعة من التأويلات الفاسدة، ووجدوا-أي الشباب-العلماء والمفكرين الذين يصدعون بكلمة الحق ويبلغون دين الله للناس على حقيقته، في السجون وعلى أعواد المشانق، والذي لا زال في منزله محجور عليه لا يتصل بالناس ولا يتصلون به إلا نادرا وخفية، فأخذت أولئك الشبابَ الغيرةُ وذهبوا يقلبون الكتب القديمة والحديثة ويقرءون تلك الكتب بأنفسهم، وبخاصة آيات القرآن والسنة، وليس عندهم قواعد التفقه في الدين، لا من أصول الفقه، ولا من أصول الحديث، ولا من أصول التفسير، ولا إلمام بقواعد اللغة العربية وأساليبها، ولا اطلاع على أقوال علماء الأمة المعتبرين…
وعندما يقرءون النصوص، يقرؤونها وهم يبحثون عن أدلة تؤيد ما قد وقر في أذهانهم سابقا، من أن هؤلاء الحكام ظلمة، وأنهم يحاربون دعاة الحق ويحاربون تطبيق الشريعة، وأن من يحارب ذلك فهو كافر، والكافر لا يجوز أن يحكم المسلمين، بل يجب الخروج عليه، تحقيقا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن من يعين الكافر على كفره فهو مثله، وأن نصر المظلوم واجب، وإقامة شرع الله فرض، فيجدون في النصوص التي يقرؤونها من الكتاب والسنة، ما يؤيد فهمهم في الظاهر، ولا يثقون في العلماء الذين هم موظفون مع قادة الباطل-وليس كل عالم توظف مع قادة الباطل مؤيدا لباطلهم-حتى يصححوا لهم بعض تصوراتهم، ويبينوا لهم المصالح الراجحة من المرجوحة، أو المفاسد الراجحة من المرجوحة.
لذلك انطلقوا حاملين السلاح موجهين رصاصهم إلى صدور كل متعاون مع أهل الباطل، من جنود وعلماء وأدباء وغيرهم، من أهل البلد أو الأجانب، فأحدثوا في تلك البلدان فتنة واضطرابا، وشل بذلك الاقتصاد وتعطلت المصالح، بل إنهم قد قتلوا بعض دعاة الحق الذين يظنون أنهم يؤيدون قادة الباطل، وقد ينال قتلُهم النساءَ، وهم يعتقدون أن ذلك كله مشروع لهم حسب فهمهم، كما فهم بعض الخوارج ذلك في السابق.
هذه التصرفات من بعض شباب المسلمين، التي كان السبب الأساسي لوجودها تصرفات قادة الباطل الذين كمموا أفواه العلماء والدعاة والمفكرين، كانت سببا في تشويه الإسلام والنفور من سماعه أو البحث عن حقائقه ومحاسنه.
واستغل ذلك أعداء الإسلام من اليهود والنصارى والعلمانيين وأخذوا ينفرون من الجماعات الإسلامية ودعاة الإسلام عامة، فكان ذلك من أهم العقبات التي بطأت بالسباق بالحق إلى العقول!
ولذا ينبغي للشباب المسلم الذي يريد رفع راية الإسلام في الأرض، أن يهتم بالتفقه في الدين، ويأخذ الحق ممن وجده من العلماء، فليس كل العلماء الموظفين في الحكومات من المؤيدين للباطل، بل يوجد فيهم من يبين الحق في حدود طاقته، وعلى هذا الشباب أن يتجه-بعد أن يتربى ويتعلم على أيدي العلماء-إلى تربية نفسه وتربية غيره على حقائق الإسلام، حتى تصبح الشعوب الإسلامية قادرة على إيجاد من يحكمها بالإسلام إما بالطرق السلمية، وإما بتنحية من يحارب الإسلام بأسهل الطرق وأخفها ضررا.

النتيجة الثالثة عشرة: دور القوة في السباق إلى العقول.
إن من أهم وسائل السباق بالحق إلى العقول القوة العسكرية الجهادية التي تقتضي توفير الجيش المسلم-الجيش بمختلف فئاته-الكافي الذي يستطيع أن يحمي بلاد المسلمين، ودينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، في داخل بلادهم، من الاعتداء عليها ممن انحرفوا من أبناء المسلمين، كالشيوعيين وكل فئات العلمانيين الذين يتربصون بالإسلام والمسلمين شرا، ويتخذون كل الوسائل السلمية لتضليل عقول أبنائهم والسبق إليها بما عندهم من الباطل، فإذا لم ينجحوا في تحقيق أهدافهم بتلك الوسائل السلمية، تآمروا فيما بينهم ليجهزوا على الحق بالقوة العسكرية التي منها الانقلابات، ومنها إنزال الجيش لضرب دعاة الحق إذا نجحت دعوتهم ورأوا بدو ثمارها، وفي هذه الحالة لا بد للمسلمين من قوة رادعة تقف أمام قوة أعداء الحق، فلا يفل الحديد إلا الحديد.
ولا بد من إعداد جيش إسلامي قوي كذلك يحمي بلدان المسلمين وضرورات حياتهم، من اعتداء أعداء الحق وقادة الباطل من غير المسلمين الذين يتربصون الدوائر بالإسلام والمسلمين من خارج بلدانهم، حيث يتعاونون هم وأعداء الإسلام من المنتسبين إلى الإسلام في بلاده، لضرب قادة الحق ودعاته بالقوة، فإذا لم يكن لقادة الحق ودعاته قوة أعظم من قوة العدو أو مساوية لها، فإن أعداء الحق سوف يسحقونه ويسحقون قادته ودعاته، وهذا ما نشاهده اليوم في كل بلدان المسلمين، وبخاصة فلسطين التي استولى عليها اليهود واستولوا على أجزاء أخرى من بلدان المسلمين، ولا زالوا يطمحون إلى المزيد من بلداننا.
ولما كان هدف اليهود من إعداد جيشهم هو ضرب الحق ودعاته في داخل فلسطين وخارجها، فقد أعدوا جيشا هجوميا أخافوا به قادة البلدان الإسلامية، وجعلوهم يستسلمون لهم واحدا بعد الآخر.
ولما كان هدف غالب حكام الشعوب الإسلامية من إعداد جيوشهم هو حماية كراسيهم، فقد اقتصروا على إعداد جيوشهم لهذه المهمة، ولذلك ترى أعداد المسلمين في البلدان العربية (13) وحدها تزيد عن مائتي مليون، وعدد اليهود قد لا يصل إلى أربعة ملايين، ومع ذلك ترتعد فرائص كثير من الحكام العرب من الجيش اليهودي الذي أرهبه وزلزل أقدامه أطفال الحجارة الذين صدقوا الله ما عاهدوا عليه!
وتقتضي القوة الجهادية توفير السلاح وما يخدمه، بحيث يكون عند دعاة الحق من السلاح ما يماثل سلاح قادة الباطل أو يزيد في الكم والنوع. ويجب ان تكون عندهم وسائل تغنيهم عن الحاجة إلى عدوهم في كل شيء من أنواع السلاح وتوابعه، وهذا يستلزم إقامة مصانع للسلاح بتعاون بين قادة الحق من المسلمين، كل يؤدي ما يملكه لإقامة تلك المصانع من مال وخبراء وغير ذلك.
ومما لا شك فيه أن صاحب القوة أقدر على سبق من لا قوة عنده إلى العقول، من حيث إنه يمنع الضعيف من الوصول بمبدئه إلى عقول الناس بالقوة، وهو قادر على الوصول بمبدئه إلى العقول بالقوة، كما أنه قادر على حماية عقول الناس من وصول مبدأ غيره إليها.
ليس الهدف من إعداد القوة الإكراه على الدخول في الإسلام.
وليس المراد من هذه النتيجة أن يستعمل أهل الحق القوة لإكراه الناس على قبول الحق الذي عندهم واعتقاده بدون اختيار منهم، وإنما المراد اتخاذ قادة الحق وأتباعهم هذه القوة لإزالة السدود التي تعترض وصول الحق إلى عقول الناس، فإذا وصل الحق بحججه وبراهينه إلى تلك العقول، فأهلها بالخيار بين أن يستجيبوا لذلك الحق فيقبلوه، أو يرفضوه ويتحملوا نتائج رفضهم التي منها عذاب الله الأليم لهم، لرفضهم الحق بعد أن قامت عليهم الحجة به.
وكذلك يتخذ أهل الحق القوة لوقاية عقول الناس من إكراه أهل الباطل لأهلها، بقبول باطلهم بدون اقتناع منهم بذلك (14) .

النتيجة الرابعة عشرة: تدريب من يسابق بالحق إلى العقول
أهداف التدريب.
إن الواجب على أهل الحق أن يقيموا مؤسسات تدريب تمكن المتدربين منهم من ثلاثة أهداف:
الهدف الأول: فقه الغايات.
يجب على من يريد القيام بالسباق بالحق إلى العقول، أن يفقه الغايات التي يسابق بالحق من أجلها، حتى يسعوا إلى تحقيقها وهم على علم بحقيقتها وبأولويات تلك الغايات، فإن فقه صاحب المبدأ لمبدئه شرط أساسي في وصوله إليه، وهذا ما أشار إليه قول الله تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} .
وما أرسل الله تعالى رسوله إلى الناس إلا بهداه الذي أنزله إليه ليدعو الناس إلى دينه-وهكذا بقية الرسل عليهم الصلاة والسلام-وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يفقه أصحابه هذا الدين ويثني على من فقهه الله فيه، ويدعو لهم بذلك: [اللهم فقهه في الدين..] [من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين].
وكان يبين لدعاته الذين يبعثهم لدعوة الناس غاياتهم التي يدعون الناس إليها، كقوله لمعاذ رضي الله عنه: [إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله..] الحديث.

الهدف الثاني: فقه الوسائل.
ولا بد لمن يسابق بالحق إلى العقول، من فقه الوسائل التي يجب اتخاذها للسبق إلى العقول بتلك الغايات كل في موقعه، بحيث تكون فئات أهل الحق كلها ساعية في السباق إلى العقول بالحق في مجال عملها: المدرسون، والخطباء، والأدباء والكتاب والمفكرون، والقضاة، والأطباء والمهندسون والفلكيون، والإعلاميون، وعلماء الاجتماع وعلماء النفس، والاقتصاديون والتجار والعمال، والطيارون-مدنيين كانوا أو عسكريين-والرياضيون وغيرهم.
كل فئة من هذه الفئات تدرب على ما ينقصها من الوسائل التي يجب اتخاذها للسبق بالحق إلى العقول، حتى يتمكنوا من إبلاغ الحق إلى عقول كل من لهم به علاقة، في أسرهم وجيرانهم وزملاء عملهم من المسلمين وغير المسلمين.
وبذلك تتسع دائرة السباق إلى العقول بالحق، فلا توجد فئة من المسلمين ولا فرد منهم إلا وهو ساع في إيصال الحق إلى عقول الناس في موقعه وفي حدود قدرته، وبالوسائل التي يجيدها.

الهدف الثالث: إقناع المتدرب بأداء واجبه في هذا السباق.
ويجب أن يبين للمتدرب أن الواجب عليه أن يقوم بالعمل الجاد في السباق بالحق إلى العقول، وأنه مسؤول أمام الله عنه، لا يجوز له التقصير فيه لأمرين:
الأمر الأول: أنه واجب عليه يثاب على القيام به، ويعاقب على تركه إن لم يقم به غيره قياما كافيا.
الأمر الثاني: أن ذلك حق للناس الذين اتبعوا الباطل، بسبب سبق أهله به إلى عقولهم، فلا بد من إبلاغ هذا الحق إلى عقولهم، لإنقاذهم من الباطل الذي اتبعوه، أو لإقامة الحجة عليهم.

النتيجة الخامسة عشرة: تقصير أهل الحق في السباق إلى العقول.
إن تقصير أهل الحق في السبق به إلى العقول من أهم الأسباب لنزول الفتن والمصائب بالأمة الإسلامية، وهاهي الفتن والمصائب تتابع على المسلمين في كل مكان، حتى أصبحوا مع كثرتهم أذلة، ومع توافر وسائل غناهم فقراء، ومع إمكانات وجود عوامل قوتهم ضعافا، مزقهم الله شر ممزق وجعل بأسهم بينهم، يقتل بعضهم بعضا، ويكفر بعضهم بعضا، ويستعين بعضهم بعدوهم على بعض، يعيشون في وضع شاذ بين الأمم. هذا الوضع الشاذ تأبى حكمة الله أن يستمر طويلا، وإذا لم يغيروا ما بأنفسهم فإن الله لا بد أن يستبدل بهم غيرهم سنة الله في خلقه: {يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل، إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير} . {فلولا كان من القرون من قبلكم أُولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين، وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون} {ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه.

وسبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك. (15)

-----------
[1]-وقد فصلت القول فيه في مجلد مستقل بعنوان: ,, الإيمان هو الأساس،، وقد طبع في هذا العام: 1418ه-.
[2]-أي إطلاق لفظ الشهيد على من قتل في معركةٍ مّا.
[3]-جملة من دعاء طويل ذكره الترمذي. وقال في آخره: حديث غريب.
[4]-وهو كما ترى شامل لأمن الفرد والأسرة والدولة، لأن كلا منهم عليه حقوق وله واجبات، إذا أدى ما عليه من واجبات، وأعطي ما له من حقوق تمتعوا جميعا بالأمن ونجوا من الخوف.
[5]-الاعتداء على الأعراض-كالزنا-ليس جريمة في قوانين أكثر الحكومات في الشعوب الإسلامية، إلا في حالات نادرة، كأن تزني المرأة على فراش الزوجية...!
[6]-أعني الأمن الوضعي الذي سبق التعريف به. 
[7]-راجع التشريع الجنائي الإسلامي (2 / 708-716) لعبد القادر عودة رحمه الله.
[8]-هذا في غالب البلدان الإسلامية.
[9]-مثل المملكة العربية السعودية.
[10]-في الليل، والمقصود ظلمة الجهل.
[11]-ولا تزال هذه الوسائل التي تعين المسلمين على سبقهم بالحق إلى العقول تزداد يوما بعد يوم، ومنها: وسيلة (الإنترنت) التي استغلها أهل الباطل أعظم استغلال في سبقهم بباطلهم إلى العقول...
[12]-وفي الجيش التركي مثال!.
[13]-أما عدد المسلمين في العالم فقد تجاوز المليار!.
[14]-يراجع في هذه النتيجة كتاب: (الجهاد في سبيل الله حقيقته وغايته).
[15]-كان الفراغ من كتابة هذا السفر في اليوم الثاني من شهر ربيع الأول من عام 1415هـ للهجرة في الساعة الثالثة إلا عشرين دقيقة بعد منتصف ليلة الثلاثاء في المدينة المنورة في حي الأزهري.
وكان الفراغ من تصحيحه الأول، في: اليوم السابع والعشرين من شهر جمادى الأولى، لعام: 1418هـ-في نفس الحي.
وكان الفراغ من تصحيحه الثاني في الساعة الثالثة بعد منتصف ليلة الإثنين السابع من شهر رمضان المبارك من نفس العام المذكور.
وكان الفراغ من تصحيحه الثالث وتنسيقه في الكمبيوتر في: 22/2/1419هـ في الساعة السابعة من صباح يو الثلاثاء. والحمد لله على توفيقه.
وكان الفراغ من تصحيحه الرابع في الساعة الرابعة والنصف عصرا من يوم الخميس الموافق للثاني عشر من شهر ربيع الأول من نفس السنة، في مدينة: "جاكرتا" عاصمة إندونيسيا، في فندق:(GRAN MELIA).

كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل

صيد الفوائد العلماء وطلبة العلم د. عبدالله قادري الأهدل