اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/aiman/153.htm?print_it=1

 خواطر قرآنية" سورة السجدة" ( 6-30 )

أيمن الشعبان
@aiman_alshaban

 
 بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، ومعلمَ العلوم والآداب، خالقَ الناس من تراب، ناصر المؤمنين العزيزِ الوهاب،  والصلاة والسلام على خير من صلى وتاب، وجميع الآل والأصحاب ومن تبعهم إلى يوم المئاب، وبعد:
من يتفكر بعظيم مخلوقات الله، وجميل تدبيره لأوامره؛ يزداد يقينا بقدرته وقوته وأسماءه وصفاته، لذلك قال ( ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم ).
( ذلك ) اسم إشارة للبعيد وهنا للتعظيم، وهي إشارة إلى عظمة الرب سبحانه، الذي رأيتم من صفاته وقدراته الإله العظيم المقدار، هو عالم الغيب والشهادة.
ذلك أي المدبر عالم الغيب أي ما غاب عن العباد وما يكون، والشهادة أي ما علمه العباد وما كان، العزيز: أي الغالب على أمره، الرحيم: أي بالعباد في تدبره الذي أحسن كل شيء خلقه أي أحكم خلق كل شيء.[1]
وفيه إيماء بأنه عزّ وجلّ متفضل فيما يفعل جلّ وعلا.[2]
لا جرم أن المتصرف بذلك الخلق والتدبير عالم بجميع مخلوقاته ومحيط بجميع شؤونها فهو عالم الغيب، أي: ما غاب عن حواس الخلق، وعالم الشهادة، وهو ما يدخل تحت إدراك الحواس، فالمراد بالغيب والشهادة: كل غائب وكل مشهود.[3]
كثير من الناس عند حصولهم على شهادات في الذرة والطب والهندسة وغيرها، يشار لهم بالبنان؛ عالم ذرة وعالم طب، وحتى يعلم كل واحد حجمه ومدى معلوماته قال سبحانه فيهم ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ . يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ )[4].
لكن الله يعلم كل شيء فهو الإله، ولا يكون إلها وهو يجهل شيئا، وهذا مؤهل قوي من مؤهلات الألوهية، يجعلنا نسجد لله خضوعا ونحن راضون موقنون مقتنعون قناعة كاملة.
لقد حظيت صفة العلم في نصوص القرآن مكانة خاصة، لأن الأثر المترتب عليها بالنسبة للإنسان بالغ الأهمية، من خلال مراقبة الله التي تجعل قلب المؤمن مستحضر عظمة الله في قلبه، ما يصرفه عن المعاصي والآثام.
والمقصود هو علم الغيب لأنهم لما أنكروا البعث وإحياء الموتى كانت شبهتهم في إحالته أن أجزاء الأجسام تفرقت وتخللت الأرض، ولذلك عقب بقوله بعده ( وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد ) وأما عطف والشهادة فهو تكميل واحتراس.[5]
وتقدم الغيب على الشهادة: لأن علم الغيب أمدح، لأن الغيب عنا أكثر من المشاهدة، ولأنه تعالى يعلمه قبل أن يكون.[6]
البشر يعلمون ظاهر الأشياء ابتداء، ثم إن تيسر علموا بواطنها ضمن إدراك عقولهم، فلو رأيت نوع من الفاكهة نراه شكلا – ظاهرا- جميلا، لكن ما هو طعمه؟! ننتظر بعد أكله.
فعلومنا تبدأ بالظاهر وربما تصل لشيء من الباطن، لكن من قدرة الله وعظمته أنه يعلم الغيب والشهادة، وأحيانا يذكر الله فقط الغيب ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا ) لأنه لو علم الغيب من باب أولى الشهادة.
فكل ما غاب عنا من أشياء يعلمها الله؛ ما يخفيه بعضنا عن بعض، ما غيبه الإنسان في ضميره، ما سيفعله الإنسان ولم ينوه بعد، ما أسره الإنسان لغيره، كل ذلك يعلمه الله.
( أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ )[7].
( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ )[8].
( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ )[9].
( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ )[10].
فالله سبحانه يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، فعلمه محيط بكل شيء ( أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ )[11].

والعلم الإلهي مراتب:
الأولى: علمه بالشيء قبل كونه.
الثانية: علمه بالشيء وهو في اللوح المحفوظ.
الثالثة: علمه بالشيء حال كونه وتنفيذه.
الرابعة: علمه بالشيء بعد كونه وإنفاذه.
العزيز مناسب لما قبله، فالعليم لا يخفى عليه شيء، فمهما أراد الإنسان إخفاء شيء أو المغالبة في إخفاءه، فالله الغالب الذي لا يُغلَب، والله غالب على أمره، القاهر فوق عباده، إذا قضى أمرا لابد أن يكون على ما قضاه.
ومع ذلك فهو الرحيم اللطيف بعباده جل وعلا، فالرحيم اختصاص بعباده المؤمنين المطيعين المستقيمين على أوامره، والرحمن لكل خلقه.
اليقين بهذه المعاني، يجعل المسلم يخضع لربه فينقاد إليه طائعا ويستسلم إليه مخبتا، ويزداد خوفا من عذاب الله وعقابه، فيستحضر عظمة الله في كل حركاته وسكناته.
ومناسبة وصفه تعالى بالعزيز الرحيم عقب ما تقدم، أنه خلق الخلق بمحض قدرته بدون معين، فالعزة وهي الاستغناء عن الغير ظاهرة، وأنه خلقهم على أحوال فيها لطف بهم، فهو رحيم بهم فيما خلقهم، إذ جعل أمور حياتهم ملائمة لهم فيها نعيم لهم وجنبهم الآلام فيها. فهذا سبب الجمع بين صفتي العزيز والرحيم هنا على خلاف الغالب من ذكر الحكيم مع العزيز.[12]
قول ربنا ( العزيز الحكيم ) وكذلك ( عزيزا حكيما ) وردت في القرآن في أربع وثلاثين موضعا، أما قوله تعالى ( العزيز الرحيم ) وردت ثلاث عشرة مرة.
فمن يأخذه التواضع ويرحم من هو أضعف منه وهو قوي؟! لأنها معادلة صعبة في عالمنا، يندر أن تجد قوي ويرحم، فيصعب على العقل استيعاب هذه الحقيقة في ذات الله، أن العزة تصاحبها رحمة.

هنالك آثار إيمانية وفوائد عملية لتلك الآية العظيمة منها:
- يقين المؤمن الدائم أن الله مطلع على كل ما يقترفه، يدفعه دائما للطاعات ومجانبة السيئات، حتى يرقى إلى مرتبة الإحسان.
- الغفلة عن هذا المعنى، تدفع الإنسان إلى بحر مظلم من الذنوب وظلم النفس وضعف الإيمان.
- يقين المؤمن بأن الله يعلم سره ونجواه، يدفعه لعدم الجرأة على حدود الله، كذلك إتقان الأعمال المكلف بها بما يتعلق بالفرائض أو حتى المهام والوظيفة الدنيوية.
فمهما تكن عند من امرئ من خليقة *** وإن خالها تخفى على الناس تعلم
- ينبغي تربية الأبناء على معاني مراقبة الله، وعظيم علمه، كما في وصية لقمان لابنه.
- أن يقف المؤمن عند حدود ما يدركه عقله، ولا يصدق الكهان والعرافين والمنجمين، أو يذهب عندهم! ومن ذلك معرفة الحظ عن طريق الأبراج وغيرها من الطرق!
- فضيلة العلم والتعلم، فالله العليم يحب العلماء، وما أوتي الإنسان نعمة بعد الإيمان أعظم من العلم.
- ينبغي للقوي كلما ازدادت قوته يتواضع أكثر ويتراحم ويتعاطف مع الآخرين، وهذه أخلاق الكبار، ولا يتكبر أو يترفع عندها سيقع في الظلم.
- الحق سبحانه يُعلِّمنا أن الآمر لا بد أنْ يتابع المأمور.[13]
اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.
 
6- رمضان-1435هـ
 

-------------------------------------------
[1]تفسير القاسمي.
[2]روح المعاني.
[3]تفسير ابن عاشور.
[4]( الروم: 6-7 ).
[5]ابن عاشور.
[6] ابن جماعة.
[7]( البقرة:77).
[8]( البقرة:235).
[9]( المائدة: 99 ).
[10]( غافر:19 ).
[11]( فصلت:54).
[12]ابن عاشور.
[13] الشعراوي.


 

أيمن الشعبان