صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







عَلمنــة الأحكام الشرعيّة
عدد رمضان 1431هـ

د.فهد بن صالح العجلان
@alajlan_f

 
بسم الله الرحمن الرحيم


ستجهد ذهنك كثيراً حين تريد الوصول إلى أصحّ الأقوال لأصل كلمة (العلمانية) ومفهومها نظراً لأعداد الدراسات المعاصرة المتفرّقة في هذا المضمار، إلا أنّ جميع الدراسات تتفق أن حقيقة العلمانية تكمن في درجة الابتعاد عن (الدين) فبعضها يرفع من درجة الانحراف العلماني ليبعد الدين بالكليّة عن جميع مناحي الحياة، وتقترب عند آخرين فيكون ابتعاد ( الدين) منحصراً في شؤون النظام والحكم.

لا حاجة بنا لأي حديث مع (المفهوم الأول) لأنّه مفهوم استئصالي للدين، ومثل هذا تنكره النفوس بداهة فيكفي أن يفهم المسلم معناه حتى يرفضه وينكره، وإنما تكمن الإشكالية في المفهوم الثاني الذي لا ينكر الدين ولا ينفيه وإنما يقطّعه من أطرافه ويقزّم من عليائه فيؤمن به من تحت سقف الإلزام والنظام والحكم.

ونسجّل هنا بإشادة وإعجاب: أنّ جهود العلماء والمصلحين والباحثين خلال عقودٍ من السنين في التحذير من العلمانية وبيان خطرها وتشديد النكير على أصحابها قد ساهم في خلق حالة من الوعي والإدراك لدى الشعوب المسلمة في التنفير من العلمانية حتى على المفهوم الأقلّ تطرّفاً مما جعل كثيراً من العلمانيين يهربون من مجرّد الانتساب إليها.

إذن، فالوعي المسلم مدرك لخطر العلمانية بمفهومها المتطرّف أو بمفهومها المعتدلّ ( الأقل تطرّفاً) .. والإشكالية التي هي بحاجة إلى وعي وبحث وعناية هو في تسرّب بعض المفاهيم العلمانية إلى الأحكام الشرعية، حيث أصبحت جملة من الأحكام الفقهية تقدّم بصورة جديدة تجعلها مقبولة لدى التفكير (العلماني) ، فالتفكير العلماني يرفض قيام القوانين والأنظمة في الدولة المدنية بناءً على (رؤية دينية) وبالتالي فلا تحفّظ لديه على كثيرٍ من الأحكام الشرعية التي ليس لها تأثير على النظام العام كأداء العبادات واجتناب المحرّمات وأداء الصدقات .. الخ، وإنما الإشكالية في الأحكام التي لها تأثير كالحدود ومنع المعاصي والإلزام بالواجبات فجاءت هذه الخطوة لتتعامل مع هذه الأحكام بطريقة معيّنة تجعلها مقبولة للتفكير العلماني.

هذا ما دفع بعضهم لرفع خاصيّة ( المنع) و ( الإلزام) عن الأحكام الشرعية، فقدّم الأحكام الشرعية على أنّها أوامر ونواهي يطلب من المسلم فعلها أو اجتنابها، ومن يخالف في ذلك فيمكن مراقبته ومحاسبته من خلال النصيحة والموعظة الحسنة من غير أن يكون ثمّ منع لهذه المحرّمات أو إلزام لتلك الواجبات فضلاً عن العقوبات والحدود ، فرسمها في هذه الصورة بحالة مقبولة تماماً لدى التفكير العلماني المعاصر.

وتطبيق الشريعة وما يتبع ذلك من أحكام وآثار هو عند آخرين من آثار تطبيق الديمقراطية واختيار الأكثرية، فالإلزام والقوّة في الحكم ليس راجعاً إلى كونها دين وشريعة من ربّ العالمين وإنما لكونها قانوناً ونظاماً قد تعاقد عليه الناس كما يتعاقدون على أي نظام آخر من أنظمتهم الدنيوية.

وحدّ الردّة في الشريعة الإسلامية ليس هو للمرتدّ عن الإسلام كما كان الفقهاء يقولون، وإنما هو للخارج عن القانون والمتمرّد على الدولة فيكون جزاؤه القتل كما تعتمده النظم المعاصرة فيما يسمّى بـ ( الخيانة العظمى).
والزيادة المحرّمة في الشريعة من الربا الذي يجب منعه ليس هو ما اتفق الفقهاء عليه من الزيادة على الدين وإنما هو الزيادة على الفقراء بما يحصل به ضرر لهم فيتدخّل النظام لمنعه كما يتدخّل لمنع أي ضرر دنيوي.
والجهاد في الشريعة الإسلامية ليس هو الجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى وإنما هو في القتال للدفاع عن الأراضي المحتلّة فقط كما تقرره جميع القوانين المعاصرة في حقّ الشعوب لصدّ المعتدي على أراضيها.

وشرط الإسلام الذي يتفق الفقهاء على ضرورة اتصاف كلّ من يتولى الرئاسة العامة او القضاء أو الإمارة به أصبح أمراً تاريخياً متعلّقاً بظرف معين حين كانت الدول تقوم على التمايز الديني وقد زال سببه مع الدولة المدنية التي تلغي تأثير الدين في التمييز بين المواطنين الذي تشملهم المساواة.

ووصف الأنوثة المؤثّر في (الشهادة) و (الولاية) وفي غيرها كما اتفق عليه الفقهاء أصبح متعلقاً كذلك بظرف زمني معيّن كانت المرأة لا تشارك الرجال ولا تخالطهم وقد زال هذا المعنى في العصر الحاضر فلم يعد لوصف الأنوثة ذي الصبغة الدينية أي تأثير.
كذلك أصبح ( الولاء) و ( البراء) في معاملة غير المسلمين متعلّقاً بظرف زماني كان العداء فيه ظاهراً بين المسلمين ومخالفيهم، فكان لا بدّ من حضور وصف البراءة منهم، ومن لا تكون حاضرة لديه فهو مظنّة تهمة على ميله وتعاطفه مع العدوّ المحارب للدولة وقد زال هذا المعنى مع الدول المعاصرة التي تقوم علاقاتها على المصالح الدنيوية دون اعتبارات أخرى.

والضوابط الشرعيّة التي يلزم النظام حفظها في العلاقة بين الرجل والمرأة هي محاربة الابتزاز وتجريم التحرّش الذي تقرّره القوانين المعاصرة لما فيه من تجاوز وتعدٍ، مع إضعاف أو تغييب للضوابط الدينية المحضة كالخلوة والتبرّج وغضّ البصر والخضوع في القول والمزاحمة وغيرها.

وهكذا .. تبقى الأحكام الشرعية على مسمياتها، بعد أن ينتزع منها الوصف الديني الذي لا يستقيم مع الذائقة العلمانية المعاصرة وتحوّل الأحكام الشرعية إلى كيفيات ومواقع مختلفة لا تتصادم مباشرة مع التفكير العلماني المعاصر.

يا ليتهم علموا أنّ هذه الطريقة في التعامل مع أحكام الشريعة قد تحقق مكاسب سريعة في التخلّص من إحراجات الأسئلة العلمانية المتلاحقة، وربّما ترسم بعض صور الاستحسان والرضا لديهم عن الخطاب الشرعي غير أنّها ستكون صكّ اعتراف منهم بأنّ الأحكام الشرعية بصورتها الحقيقية تعاني من الخلل والقصور، وأن هذا الاجتهاد المعاصر هو سبيل التخلّص من أزمة العيب الذي تلاحق الأحكام الشرعية.

إذن، فما سيكون جوابهم عن المخالف الفطن حين يقول لهم: إنّ القول الذي تفرّون منه هو قول كافّة الفقهاء وهم أعلم بالإسلام وبفقه الشريعة منكم فإن كان في الأمر عيب ونقص وخلل فهو في ذات الشريعة باعترافكم!
إنه تأويل للأحكام الشرعية بطريقة تقرّبها كثيراً من التفكير العلماني وتخفّف من غلواء ضغط الثقافة المعاصرة عليها، غير أنّها تبتعد عن مقاصد التشريع وتخرج عن دائرة التفكير الفقهي بقدر بعدها عن النصّ الشرعي، وربّما دخلت على بعض الأفاضل والأجلّاء لاجتهادٍ وتأويل هم مأجورون ومثابون عليه، وليس هذا حديث إساءة أو تقويم لهم، غير أن مراعاة القائل واعتبار اجتهاده وقصده الحسن لا يحول دون بيان خطأ الرأي وفساده والعوامل المؤثّرة فيه.

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
د.فهد العجلان
  • مقالات
  • السياسة الشرعية
  • سيادة الشريعة
  • محاضرات مفرغة
  • معركة النصّ
  • الفروق الفيسبوكية
  • المؤلفات
  • الصفحة الرئيسية