اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/alaskar/15.htm?print_it=1

بشائر غزة

 

عبدالله بن محمد العسكر

 
العنوان: بشائر غزة
الملقي: عبدالله بن محمد العسكر
المكان: جامع الملك عبدالعزيز بمحافظة الخرج - السعودية
التاريخ: 12/1/1430هـ

لا تزال شلالات الدم بأرض فلسطين مستمرة، وما برحت صور الأشلاء المتناثرة والجثث المبعثرة والبيوت المهدمة نراها على الشاشات صباح مساء، عربدة صهيونية غادرة وغطرسة يهودية فاجرة، واستخفاف بكل الأنظمة والدساتير، ونقض لكل العهود والمواثيق، وصدق الله العظيم إذ يقول في كتابه {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ}.
أجل إنهم لم يرقبوا في إخواننا إلا ولا ذمة.

فحق ضائع وحمى مباح ** وسيف قاطع ودم صبيب
وكم من مسلم أمسى سليباً ** ومسلمة لها حرم سليب
دم الخنزير فيه لهم خلوق ** وتحريق المصاحف فيه طيب
أمور لو تأملهن طفل ** لطفَل في عوارضه المشيب
أتسبى المسلمات بكل ثغر ** وعيس المسلمين إذا يطيب
أما لله والإسلام جند ** تدافع عنه شبان وشيب
فقل لذوي البصائر أين كانوا ** أجيبوا الله ويحكم أجيبوا

أيها المسلمون: إنه ومع عظم البلاء وشدة اللأواء على إخواننا في غزة لا جريحة فإن هناك مبشرات تلوح في الأفق، تؤذن بميلاد فجر جديد لهذه الأمة.
أجل إننا ومع شديد حرقتنا على ما يلقاه إخواننا من القتل والدمار والظلم والحصار إلا أن هناك من البشائر والأخبار ما يبعث الأمل في النفوس ويحي في الأمة معاني العزة والكرامة }لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ{ إن هذه الأزمة الخانقة قد حملت في طياتها خيرا كثيرا ما كان ليبدو لولا حدوث مثل هذه المحن. ومن هذا الخير الذي حملته هذه الكربة:
* انكشاف الصف وتمايز أهل الحق وأهل الباطل. أجل لقد بان النفاق وظهر المنافقون وأصبحنا نسمع ونقرأ كلماتهم التي تفوح منها رائحة الخبث والمكر لهذا الدين وأهله، ورأينا كيف أن بعضهم فرح بمصاب إخواننا؛ بل وأصبح يحث الصهاينة على ضربهم واستئصالهم.
لقد صاروا يشمتون بهم ويقولون كما قال أجدادهم من قبل: }َلوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ{
إنه النفاق الذي تكشفت أقنعته وبان عواره.
واسمع إن شئت قول ربك {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} وقال {لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.
* إن هؤلاء المنافقين قد كشف الله خبايا نفوسهم وأظهر خبث طواياهم فتراهم يسارعون في اليهود ويقولون {نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}.
ومن البشائر في هذه الحرب الدائرة ظهور جوانب وإلحاق الغدر به، وفي هذا شفاء لصدور المؤمنين وغيظٌ لمرضى القلوب والمنافقين {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
إنه وقع كثرة القتلى في صفوف المؤمنين وعامتهم من الأطفال والنساء والعجزة إلا أن الإثخان في العدو بات واضحاً لكل إنسان، فلقد قتل من اليهود العشرات وجرح ما يزيد على المائة وخمسين.
نقول هذا ونحن جميعاً نعلم التفاوت الرهيب بين سلاح المجاهدين وسلاح اليهود، ولكن من كان الله معه فهو المنصور الغالب لا محالة.

من يتق الله يحمد في عواقبه *** ويكفه شر من عزوا ومن هانوا
فالزم يديك بحبل الله معتصماً *** فإنه الركن إن خانتك أركان

إن الله يؤيد أولياءه بمدد من عنده وجند من جنده وما يعلم جنود ربك إلا هو.
يقول أحد الإخوة: جلست في تلك الليلة إلى اجتاح فيها اليهود غزة برياً مهموماً، والله لم أذق طعم النوم حتى السابعة صباحاً، وكان مما هزّني في تلك الليلة وأسبل دموعي أني وبينما كنت أتابع أخبار إخواننا على شاشة إحدى القنوات التي تعرض الصور حية على الهواء وفي الساعة الثالثة فجراً رأيت الصهاينة يهجمون على أحد الأحياء في غزة بدباباتهم ومدرعاتهم وأنا في حسرة وألم من هذا المنظر وما هو إلا قليل حتى اشتبكت فرقة من المجاهدين معهم بالأسلحة يقول وفجأة إذ بي أسماع أصوات الديكة تنبعث من كل مكان بشكل عجيب ولاقت للنظر. قال وعندها اختلطت أصوات الديكة بأصوات الرصاص بنحيبي وبكائي لأني تذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم صياح الديكة فسلوا الله من فضله فإنها رأت ملكاً".
أجل أولائك جند الله وملائكته، ينزلهم على عباده ليناصروهم ويثبتوهم : {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
ولقد تبين في هذه الحرب بجلاء طبيعة اليهود و جبنهم و خورهم و كيف أنهم يختبئون في جوف دبابتهم، بل ذكرت القناة العاشرة في دولة اليهود أن هناك عدداً من الجنود فروا من ساحة القتال و بعضهم يتمارض حتى لا يشارك في المعركة و كل ذلك ذلك خوفاً من الموت { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}، { لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ}.
ومن البشائر في هذه الحرب الدائرة: ما رأيناه من تعاطف المسلمين في مشارق الأرض و مغاربها مع مع إخوانهم المسلمين في غزة مما يشعرك يتضامن الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى و السهر.
لقد رأينا و سمعنا عن أخبار عدد من أبناء هذه البلاد المباركة وغيرها من بلاد الإسلام ما يبعث في صدر كل مسلم الفخر والعزة، و اتضح ذلك من خلال صور كثيرة من أبرزها التوافد الكبير على التبرع بما تجود به الأيدي نصرة لإخوان الدين و العقيدة. فأحد التجار تبرع بـ 25 مليون ريال، و لا يصرح باسمه لأنه يريد ما عند الله وآخر يتبرع بثلاثين سيارة إسعاف.
امرأة تتبرع بمنزلها البالغ قيمته ستمائة ألف ريال، وفقيرة استلمت نصيبها من الضمان الاجتماعي الاجتماعي فتبرعت به كاملاً، وأخرى مريضة تتبرع بكامل أدويتها، ومعاق يتبرع بكرسيه، وأطفال يتزاحمون في أماكن حملات التبرع ليجودوا بما يستطيعون، ورجل يحمل ما كتب الله من مال ليتبرع به فتباغته المنية وهو في سيارته إثر حادث مروري فيوصل أخوه المال بعد وفاته؛ ليلقى الله على هذه النية الطيبة والخاتمة الحسنة إن شاء الله.
إنها صورة مشرقة ونماذج مفرحة تنبئك أن الخير في هذه الأمة باق ولن ينقطع بحول الله ومشيئته.

لئن كان في الإسلام أوس وخزرج *** فلله أوس قادمون وخزرج

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
{وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ * وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}

الخطبة الثانية

إن من أعظم ما يزيد المؤمن ثباتا في وقت تكالب أعداء الإسلام على ديار المسلمين أن يعلم علم اليقين أن هذا الدين محروس بعين الله التي لا تنام ، وأن صناديد الكفر ودهاقنة الباطل مهما عظمت قوتهم وعلت رايتهم وحاربوا هذا الدين وأهله بشتى الوسائل ومختلف الأسلحة فإنهم – والذي لا إله غيره - لن يستطيعوا القضاء على دين الإسلام

أيطفئ نورَ الله نفخةُ فاجر *** تعالى الذي بالكبرياء تفردا

وقول الله أجل وأبلغ {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}
إن هذه المصائب التي يصطلي بنارها إخواننا في فلسطين لم تكن بدعا من تاريخ الإسلام الطويل . فلقد مرت بالمسلمين على مر التاريخ محنٌ ورزايا تفوق الوصف ، ومع هذا كانت العاقبة للمسلمين .
ودعوني أنتقل إلى حقبة من تاريخ المسلمين تعرضوا فيها لأبشع أنواع القتل والتدمير على أيدي همج المغول الذين اجتاحوا بلاد الإسلام قادمين من المشرق فلا يمرون ببلد إلا أبادوا خضراءها وقتلوا رجالها واعتدوا على أعراض النساء فيها وهدموا المساجد وداسوا بخيولهم المصاحف . واسمع إلى ما سطرته يراعة الإمام ابن الأثير الذي شهد بدايات هذا الغزو المغولي المروع يقول رحمه الله : " ثم دخلت سنة سبع عشرة وستمائة ولقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسياً منسياً، إلا أني حثَّني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً، فنقول:هذا الفعل يتضمن الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها ، عمت الخلائق ، وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم وإلى الآن، لم يُبتلوا بمثلها؛ لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها.فهؤلاء ( يعني التتر ) لم يبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" أ.هـ
هذا مع أن ابن الأثير لم يشهد الفاجعة الكبرى والبلية الجلى وهي سقوط بغداد على أيدي هؤلاء الجبارين حيث إن ابن الأثير قد توفي قبل أن يشهد سقوط عاصمة الخلافة ودار الرشيد المفجوعة في الماضي والحاضر ....
قال ابن كثير في البداية والنهاية : "وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة ، فقيل ثمانمائة ألف، وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغت القتلى ألفي ألفِ نفس ...وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم، وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يوما، وقُتِل الخليفة المستعصم بالله ، وكان الرجل يؤخذ من دار الخلافة من بني العباس فيُذهب به مع أولاده ونسائه إلى مقبرة الخلال فيُذبح كما تذبح الشاة، ويؤسر من ي،يـُختار من بناته وجواريه.وقتُِل الخطباء والائمة، وحملةُ القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجُمُعات ، ولما انقضى الأمر المقدر وانقضت الأربعون يوما بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد ، حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.ولما نودي ببغداد بالأمان خرج مِنْ تحت الأرض مَن كان بالمطامير والقنى والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضا فلا يَعرف الوالد ولده ولا الأخُ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى " أ.هـ إلى آخر ما ذكر من الفواجع التي تشيب لها رؤوس الولدان .
ونحن حين نقرأ هذا الوصف من ابن الأثير وابن كثير لا يظن أحد أن تقوم للإسلام قائمة ، ولكن ما الذي حدث بعد ذلك ؟ والله ما هي إلا سنيات معدودة حتى أعز الله المسلمين على يد علماءٍ وأمراءٍ صالحين كشيخ الإسلام ابن تيمية والقائدِ الفذ سيفِ الدين قطز ، فانتصروا على هؤلاء المفسدين في معركتين شهيرتين من معارك الإسلام الخالدة معركة ( شقحب ) ومعركة ( عين جالوت ).بل وأعجب من هذا أن المغول دخلوا في دين الله أفواجا .
وقد يتساءل بعض المسلمين : لماذا يمكّن الله للكافرين ويقدر على المسلمين هذه الابتلاءات مع أنهم على الحق وعدوَّهم على الباطل ؟
أدع الجواب للإمام ابن القيم رحمه اللفه حيث يقول :" إن ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم وقهرهم وكسرهم لهم أحيانا فيه حكمة عظيمة لا يعلمها على التفضيل إلا الله عز و جل
فمنها : استخراج عبوديتهم وذلِّهم لله وانكسارهم له وافتقارهم إليه وسؤاله نصرَهم على أعدائهم . ولو كانوا دائما منصورين قاهرين غالبين لبَطَروا وأَشَروا ، ولو كانوا دائما مقهورين مغلوبين منصورا عليهم عدوُّهم لما قامت للدين قائمة ، ولا كانت للحق دولة فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن صرَّفهم بين غَلَبِهم تارة وكونهم مغلوبين تارة ،فإذا غُلِبوا تضرعوا إلى ربهم وأنابوا إليه وخضعوا له وانكسروا له وتابوا إليه ، وإذا غَلَبوا أقاموا دينه وشعائره وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وجاهدوا عدوه ونصروا أولياءه " أ.هـ.

إن المبشرات بنصر هذا الدين كبيرة ، وبوادر النصر قريبة بحول الله ؛ لأن هذا الدين منصور بقوة سماوية علوية تتضاءل أمام قوى الأرض جميعا .
إن نصر الإسلام ليس مرهونا بشخص ولا بجماعة ولا حتى بدولة كاملة ؛ إنما أمره للذي إذا أراد شيئا قال له كن فيكون . وإلا فهذا رسول الله قد مات وهي أعظم فجيعة أصيب بها المسلمون فهل مات الدين ؟ هل انحسر المد الإسلامي ؟ كلا وألف كلا ، بل بقي الإسلام شامخا عزيزا .وسيبقى كذلك حتى يرث الله الأرض ومن عليها .

أسوق إليكم جملة من المبشرات بنصرة هذا الدين والتمكين له في العالمين ، حتى تكون مطمئنة لنا ن باعثة للرجاء في قلوبنا .وكل هذه المبشرات من كلام الباري جل وعلا وكلام الذي لا ينطق عن الهوى - صلى الله عليه وسلم- :

قال الله تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
وقال أصدق القائلين : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ )
ومما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم- في هذا الباب :
روى مسلم عن ثوبان رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله عز وجل زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها ".
وفي مسند أحمد عن أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والدين والتمكين في الأرض"

وفي صحيح الجامع عن أبي أمامة - رضي الله عنه – قال : قال - صلى الله عليه وسلم- :"إن الله استقبل بي الشام و ولى ظهري اليمن و قال لي : يا محمد إني جعلت لك ما تجاهك غنيمة ورزقا و ما خلف ظهرك مددا ، و لا يزال الإسلام يزيد ، وينقصُ الشركُ و أهله حتى تسير المرأتان لا تخشيان إلا جورا ، و الذي نفسي بيده لا تذهب الأيام و الليالي حتى يبلغ هذا الدين مبلغ هذا النجم ".

وأخرج مسلم عنه - صلى الله عليه وسلم- قال : " لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة و هم على ذلك " . ولا نحسب إلا أن إخواننا الصامدين في أرض غزة الصامدة هم من هذه العصبة المجاهدة الصابرة التي لا يضرها من خالفها وضيَّق عليها وخذلها ورمى أهلها بأبشع التهم والنقائص .

وقد كنت بالأمس القريب أستمع لأحد المداخلين في إحدى الإذاعات وهو يتهم المجاهدين في غزة بأنهم خونة وعملاء !! فيا سبحان إذا كان هؤلاء الذين بذلوا أرواحهم وأموالهم وأولادهم دفاعا عن الأرض المباركة والقدس الشريف هم العملاء فقل لي بربك من هم الشرفاء المخلصون إذا ؟!
إن وعد الله آت وإن طال الزمان فربنا لا يخلف الميعاد وليسمعن المجاهدون الصابرون في أرض الإسراء والمعراج الحجر وهو يناديهم : يا مسلم يا عبدالله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله .
هذا ما أخبر به المعصوم - صلى الله عليه وسلم- فأكثروا من الصلاة والسلام عليه
 

عبدالله العسكر
  • كتب ومباحث فقهية
  • موضوعات علمية
  • رسائل ومقالات
  • خطب
  • مختارات شعرية
  • الصفحة الرئيسية