اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/alhomaid/2.htm?print_it=1

مركب النجاة

الشيخ عبدالكريم بن صالح الحميد

 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد؛
فإن ظهور المعاصي والمنكرات والمجاهرة بذلك ظاهر لكل أحد في الأسواق ومجتمعات كثير من الناس، والوعيد على ذلك شديد والعقاب عليه يعم الواقع فيه والساكت عنه مع القدرة على الإنكار. قال تعالى: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون}.
واللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله، والمطرود من رحمة ربه الشيطان وليه، قال تعالى: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا}.
وهذا البدل {إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير}.
وتأمل الحض على النهي عن الفساد في الأرض وتعليق النجاة بذلك، قال تعالى: {فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا... الآية}.
فتأمل قوله تعالى: {إلا قليلاً ممن أنجينا}، واعلم أن هؤلاء هم الكثير وإن قل عددهم لأن الله معهم، وهؤلاء هم الأعلون وهم أهل العزة والظهور، ولهم حسن العاقبة في الدنيا والآخرة، ولهم التمكين في الأرض ؛ وبالجملة فإن لهم كل وصف جميل في الدنيا والآخرة وبضد ذلك الكفرة والفسقة فلهم كل وصف قبيح في الدنيا والآخرة مع سوء العاقبة.
وما يُؤَمِّن تارك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون شراً من أهل المعاصي الظاهرة.
ولقد قال ابن القيم رحمه الله: (وليس الدين مجرد ترك المحرمات الظاهرة بل بالقيام مع ذلك بالأوامر المحبوبة لله، وأكثر الدينين لا يعبئون منها إلا بما شاركهم فيه عموم الناس.
وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصحية لله ورسوله وعباده ونصرة الله ورسوله ودينه وكتابه فهذه الواجبات لا تخطر ببالهم فضلاً عن أن يريدوا فعلها وفضلاً عن أن يفعلوها.
وأقل الناس ديناً وأمقتهم إلى الله من ترك هذه الواجبات وإن زهد في الدنيا جمعيها.
وقل أن ترى منهم من يحمر وجهه ويمعره لله ويغضب لحرماته ويبذل عرضه في نصر دينه، وأصحاب الكبائر أحسن حالاً عند الله من هؤلاء.
وقد ذكر أبو عمر وغيره: أن الله تعالى أمر ملكاً من الملائكة أن يخسف بقرية فقال: يا رب إن فيهم فلاناً العابد الزاهد، قال: به فابدأ أو أسمعني صوته إنه لم يتمعر وجهه فيَّ يوماً قط!) انتهى.
وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف رحمه الله في رسالة له إلى المسلمين يحذر فيها من المعاصي ومن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال: (وروى ابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه أنه خطب فقال: " يا أيها الناس إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار، فلما تمادوا أخذتهم العقوبات فأمُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم الذي نزل بهم واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقاً ولا يقرب أجلاً ".
وروى الإمام أحمد وابن ماجة بسند حسن عن جرير مرفوعاً: " ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي هم أعز منه وأمنع لم يغيروا عليه إلا أصابهم الله بعذاب من عنده ".
وقال تعالى: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار..}، قال ابن النحاس: " دلت الآية على أن تارك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كمرتكبه ".
وقال القرطبي: " والآية توبيخ للعلماء في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتا لله إنهم لأهل لكل توبيخ فأنى يصلح الناس والعلماء فاسدون؟! أم كيف تعظم المعصية في قلوب الجاهلين والعلماء بأفعالهم وأقوالهم لم ينهوهم عنها؟! أم كيف يرغب في الطاعة والعلماء لا يأتونها؟! أم كيف يتركون البدع والعلماء يرونها فلا ينكرونها؟!... " إلى أن قال: " وأما في زماننا هذا فقد قيَّد الطمع ألسن العلماء فسكتوا إذْ لم تساعد أقوالهم أفعالهم، ولو صدقوا الله لكان خيراً لهم، فإذا نظرنا إلى فساد الرعية وجدنا سببه فساد الملوك، وإذا نظرنا إلى فساد الملوك وجدنا سببه فساد العلماء والصالحين، وإذا نظرنا إلى فساد العلماء والصالحين وجدنا سببه ما استولى عليهم من حب المال والجاه وانتشار الصَّيت ونفاذ الكلمة ومداهنة المخلوقين وفساد النيات والأقوال والأفعال " انتهى.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب كل مسلم، والخطاب في ذلك من الرب عز وجل ومن نبيه صلى الله عليه وسلم عام لجميع المسلمين، والموفق من استجاب لربه ولنبيه.
فلو قيل: إن فيه اليوم من يأمر وينهى لقيل: نعم، ولكن لم يقم بذلك حتى من تحصل بهم عشر الكفاية، والإثم لا يرتفع حتى يقوم بالأمر والنهي من يكفي وتزول المنكرات الظاهرة على الأقل.
فالمتعّين على المسلمين اليوم لدفع البلاء الذي نخشى أنها قد انعقدت أسبابه القيام بما وجب الله عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومع أن في ذلك اندفاع العقوبات والبلاء عن المسلمين ففيه أيضاً استجلاب النعماء لهم التي هي على الحقيقة استعلاء الدين ونصره الذي تكفل به الولي النصير سبحانه وبحمده لمن نصر دينه.
لقد كان المسلمون فيما مضى يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بصدق وعزيمة واهتمام ويدعون إلى الله ويخوفون من حلول النقمات والعقوبات الدنيوية والأخروية مع أنه لانسبة لمنكرات أزمانهم لما نحن فيه اليوم لأن المجاهرة بالمنكرات في زماننا لم يحدث لها نظير، وشؤمها عظيم خطير.
وللتنبيه فليس من شرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر استجابة العصاة لذلك، قال ابن تيمية رحمه الله: (ثم لو فُرض أنا علمنا أن الناس لا يتركون المنكر ولا يعرفون بأنه منكر لم يكن ذلك مانعاً من إبلاغ الرسالة وبيان العلم) انتهى.
كلام الشيخ هذا على تقدير أسوأ الأحوال وإلا فليس خافٍ أن أوقاتنا هذه مختلفة عن أوقاتنا الماضية فالقلوب اليوم متحركة فكم وكم ممن بإذن الله سيستجيب! وكم من منكر سيزول! وكم ممن سوف يشارك ولم يكن له من قبل في هذا الأمر نصيب! وذلك ببركة امتثال أمر الله عز وجل بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عملاً إذْ لا يكفي الكلام في المساجد والملتقيات.
وإنه لا يسعنا أمام الله إلا أن يكون هذا الأمر أكبر همنا لنستدعي بذلك رضى ربنا.
وإننا على يقين أنه لو قام قائم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فستكون له بإذن الله نتائج باهرة وعواقب محمودة من دفع البلاء واستجلاب النعماء وإظهار الدين وتحريك القلوب والشعور بالعزة والكرامة التي أُنيطت بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولأنه سبحانه هو الشكور المحسن المنان فإنه يصنع لأهل الدين ما لم يكن بالحسبان.
إننا بقيامنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نطفئ الحريق الذي أشعلته الذنوب وننقذ الغريق الذي أحاطت به الخطوب والكروب.
فلنراغم الشيطان متوكلين على الرحمن فهذا سبيل النجاة وبه إغاثة الهلكى بالرحمة المهداة، وفيما وصفت الفرج والمخرج من هذه الظلمات بإذن الله تعالى مع ما يُرجى من لطف اللطيف وكرم الكريم مما يصنعه لعباده المؤمنين مما لا يخطر لهم على بال فهو بداية خير بإذن الله.
وتذكروا قول الله تعالى: {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم..}، فمن لم تحدث له هذه الآية الخوف الشديد فليعلم أنه على خطر، وهي خاصة وعامة فاستبدال أفراد بأفراد وجماعات بجماعات لقيام الرب سبحانه بالقسط، وإن نفع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عظيم.
قال ابن عقيل في "الفنون": (ومن أعظم منافع الإسلام وآكد قواعد الأديان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتناصح، فهذا أشق ما تحمله المكلف لأنه مقام الرسل حيث يثقل صاحبه على الطباع، وتنفر منه نفوس أهل اللذات ويمقته أهل الخلاعة، وهو إحياء السنن وإماتة البدع..)، إلى أن قال: (لو سكت المحقون ونطق المبطلون لتعوَّد النشوء على ما شاهدوا وأنكروا ما لم يشاهدوا، فمتى رام المتدين إحياء سنة أنكرها الناس فظنوها بدعة وقد رأينا ذلك) انتهى.
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (أرى أناساً يجلسون في المساجد على مصاحفهم يقرؤون ويبكون فإذا رأوا المعروف لم يأمروا به وإذا رأوا المنكر لم ينهوا عنه وأشوف أناساً يعكفون عندهم يقولون: هؤلاء لِحَىً غوانم، وأنا أقول: إنهم لِحَىً فواين، فقال السامع: أنا ما أقدر أقول: إنهم لِحَىً فواين، فقال الشيخ: إنهم من الصم البكم!!) انتهى.
قال الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله بعد أن أورد هذا الكلام للشيخ محمد. قال: (ويشهد لهذا ما جاء عن بعض السلف أن الساكت عن الحق شيطان أخرس، والمتكلم بالباطل شيطان ناطق، ثم قال: ولو تحقق من بخل بلسانه عن الصدع بأمر الله أنه شيطان أخرس وإن كان صائماً قائماً زاهداً لما تبع مشابهة الشيطان بأدنى طمع) انتهى.
قال الشيخ محمد بن عبد اللطيف رحمه الله: (ومن علامة محبة الله والصدق في معاملته والخوف منه الغيرة عند انتهاك حرماته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام لله والأخذ على أيدي أهل البَطَر والسَّفه والتُّهم وحملهم على طاعة الله وكفهم عن معاصي الله، ورَدْعهم عن ذلك سواء كانوا أقربين أو بعيدين، أقوياء كانوا أو ضعفاء، فإن بالقيام بذلك والمسارعة إليه وإيثار رضا الله على الدنيا والتواصي بالحق والتعاون عليه كل بحسب حاله في ذلك مما يكون سبباً لرضاه وجلب كل خير ودفع كل شر، وبالاغترار بالدنيا وزينتها والغفلة عن الله والإعراض عن الأوامر والنواهي يحصل الهوان والذل والعار في الدنيا والآخرة ويحصل الهم والغم وتنزع البركات وتحل النقمات والمثُلات...)، ثم قال: (وظهور المعاصي وعدم إنكارها والسكوت عن فاعلها والإغضاء عنه مما يوجب سخط الرب وحلول عذابه ونزول عقابه) انتهى.
وفي المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز وأكثر ممن يعملها ولم يغيروا إلا عمهم الله بعقابه).
وفيه أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنهما: (والذي نفسي بيده لا ينفصم الإسلام حتى لا يقال في الأرض الله الله. لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر وإلا سلط الله عليكم المشركين يسومونكم سوء العذاب ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم. لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليبعثن الله عليكم من لا يرحم صغيركم ولا يوقّر كبيركم) انتهى.
إن هذه العقوبة قد انعقدت أسبابها فالنجاة بامتثال أمر الله، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما ظهر الزنا في قرية إلا أذن الله بهلاكها).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال لا إله إلا الله تنفع من قالها وترد عنهم العذاب والنقمة مالم يستخفوا بحقها، قالوا: يا رسول الله: وما الاستخفاف بحقها؟ قال: يظهر العمل بمعاصي الله فلا ينكر ولا يُغيَّر).
وعن أنس أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال لا إله إلا الله تمنع العباد من سخط الله ما لم يؤثروا دنياهم على صفقة دينهم فإذا آثروا دنياهم على صفقة دينهم ثم قالوا : لا إله إلا الله رُدًّتْ عليهم وقال الله: كذبتم). فدل هذا الأثر على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من حقوق لا إله إلا الله بل هو من أشرف مقامات الدين وفرائضه التي افترضها الله على عباده المؤمنين.
وفي الأثر أيضاً: (أن المعصية إذا خفيت لا تضر إلا صاحبها، وإذا ظهرت ولم تُغَيَّر ضرت العامة، وليس معناه أنها تظهر في الأسواق وتشتهر علانية بل إذا تحدث الناس بها وفشا القول فيها بينهم فهذا من ظهورها كما ذكر ذلك العلماء رحمهم الله) انتهى..
وأين الشيخ من زماننا ومنكراته المجاهَر بها والتي لا تعد ولا تحصى!!
ولقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (صلاح العباد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن صلاح المعاش والعباد في طاعة الله ورسوله ولا يتم ذلك إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبه صارت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، قال الله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر..}، وقال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر..}، وقال تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}....) انتهى.
وليعلم أهل الدين أن هذا جهادهم اليوم بلا سيف ولا سوط وأنهم إن استمروا عليه ولم يبالوا بمعارض فسيصنع الله لهم ما ليس في حسبانهم، وليتذكروا ما جرى لأصحاب السبت وأن الله أنجى من نهاهم عن المنكر ومسخ من تعدى حدوده، قال تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون}.
ثم تذكروا أنه لما قدم الباشا بجيشه إلى الدرعية وصار يدك الحصون بمدافعه حتى تساقطت فأخذ الناس قُلّة من القلال التي ترمي بها المدافعُ على الحصون لهدمها فوضعوها في حجر أحد آل الشيخ وهو رجل أعمى وقالوا له: أدع الله لنا ؛ فأخذ يضرب القلة بيده ويقول: هذا زبد المعاصي يا أهل الدرعية!!. انتهى..
ووالله إن لم نتدارك الأمر ليكونن زبد معاصينا هائلاً! وإنه لا نسبة ولا مقارنة ولا مقاربة لما نحن فيه وما عليه أهل الدرعية ذلك الوقت، ولا يقال في يومنا هذا عن أهل الكفريات والمنكرات: إنهم خرقوا السفينة وإنما أغرقوها!
فالنجا النجا باستدفاع سخط الجبار بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر قبل حلول الدمار، وأروا الله من أنفسكم خيراً.
قال الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله: (فالنجاة عند نزول العقوبات هي لأهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء}..). انتهى.

وليكن ختام هذه المذكرة بزيادة بيان لطريق النجاة الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر..} وأن ذلك باتباعه وأن هذا هو طريق المحبة وكل الطرق سواه مسدودة.
وقد وضحه ابن القيم رحمه الله وجلاّه حيث قال في كتابه العظيم "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين": (ومن منازل {إياك نعبد وإياك نستعين}: منزلة " المحبة "، وهي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى عَلَمِها شمّر السابقون، وعليها تفانى المحبوب، وبِرَوْح نسيمها تَرَوّح العابدون، فهي قُوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون، وهي الحياة التي من حُرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فَقَدَه فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حَلَّت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيْشه كله هموم وآلام وهي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال، التي متى خَلَتْ منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه.
تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها، وتُوصِلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبداً واصليها، وتُبَوِّؤهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها، وهي مطايا القوم التي مسراهم على ظهورها دائماً إلى الحبيب، وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب، تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة، إذْ لهم من معيّة محبوبهم أوفر نصيب، وقد قضى الله يوم قدر مقادير الخلائق بمشيئته وحكمته البالغة أن المرء مع من أحب فيالها من نعمة على المحبين سابغة!).
ثم قال رحمه الله: (أجابوا منادي الشوق إذ نادى بهم: حَيَّ على الفلاح، وبذلوا نفوسهم في طلب الوصول إلى محبوبهم وكان بذلهم بالرضى والسماح، وواصلوا إليه المسير بالإدلاج والغدو والرواح، تا لله لقد حمدوا عند الوصول سُرَاهم، وشكروا مولاهم على ما أعطاهم، وإنما يحمد القوم السُّرى عند الصباح:

فحَيَّ هلاَ إن كنت ذاهمة فقد *** حدى بك حادي الشوق فاطْوٍ المراحلا
وقل لمنادي حبهم ورضاهُمُ *** إذا ما دعا: لبيك ألفاً كوامِلا
ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن *** نظرت إلى الأطلال عُدْن حوائلا
ولا تنتظر بالسير رفقة قاعدٍ *** ودَعْهُ فإن الشوق يكفيك حاملا
وخذ منهمو زاداً إليهم وسِرْ على *** طريق الهدى والحب تصبح واصلا
وأحْيِ بذكراهم سُراكَ إذا دَنَتْ *** ركابُك فالذكرى تُعيدك عاملا
وإمّا تخافنّ الكلال فقل لها: *** أمامك وِرْد الوصل فابغي المناهلا
وخذ قبساً من نورهم ثم سِرْ بهِ *** فنورُهمو يهديك ليس المشاعلا
وحي على جنات عدن فإنها *** منازلك الأولى بها كنت نازلا
ولكن سباك الكاشحون لأجل ذا *** وقفتَ على الأطلال تبكي المنازلا
وحي على يوم المزيد بجنة ال *** خلود فجُدْ بالنفس إن كنت باذلا
فدعها رسوماً دارساتٍ فما بها *** مقيل وجازها فليست منازلا
رسوماً غَفَتْ ينتابها الخلق كم بها قتيل *** وكم فيها لذا الخلق قاتلا
وخُذ يمنةً عنها على المنهج الذي *** عليه سرى وفْد الأحبة آهلا
وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعةً *** فعند اللقا ذا الكدِّ يصبح زائلا
فما هي إلا ساعة ُ ثم تنقضي *** ويصبح ذو الأحزان فرحانَ جاذلا

لقد حرك الداعي إلى الله وإلى دار السلام النفوس الأبِيَّة والهمم العلية وأسمع منادي الإيمان من كانت له أذن واعية، واسمع والله من كان حياً فهزه السماع إلى منازل الأبرار، وحدا به في طريق سيره فما حطت رحاله إلا بدار القرار.

أول نقدة أثمان المحبة: بذل الروح، فما للمفلس الجبان البخيل وسوْمها ؟:

بدم المحب يباع وصلهم *** فمن الذي يبتاع بالثمن!!

تالله ما هزلت فيستامها المفلسون، ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون، لقد أقيمت للعرض في سوق من يزيد، فلم يرض لها بثمن دون بذل النفوس فتأخر البطالون، وقام المحبوب ينظرون، أيهم يصلح أن يكون ثمناً! فدارت السلعة بينهم ووقعت في يد {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين}!
لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الْخِليُّ حرقةَ الشَّجيِّ، فتنوع المدّعون في الشهود فقيل لا تُقبل هذه الدعوى إلا ببيِّنة {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعون يحببكم الله..}، فتأخر الخلق كلهم وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأقواله وأخلاقه فطولبوا بعدالة البينة بتزكية {يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ..}، فتأخر أكثر المحبين وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم، فهلموا إلى بيعة {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة..}).
ثم قال رحمه الله: (إذا غُرست شجرة المحبة في القلب، وسُقيت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب أثمرت أنواع الثمار، وآتَتْ أُكُلها كل حين بإذن ربها، أصلها ثابت في قرار القلب، وفرعها متصل بسدرة المنتهى). انتهى باختصار.
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

كتبه فضيلة الشيخ
عبد الكريم بن صالح الحميد
رمضان 1423 هـ

تم نشر الكتاب من خلال
مركز الفرقان للدراسات والبحوث
بالتعاون مع موقع صيد الفوائد
www.frqan.com

 

عبدالكريم الحميد
  • كتب ورسائل
  • بيانات ورسائل
  • قصائد
  • الصفحة الرئيسية