اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/aljefri/55.htm?print_it=1

وقفات مع المطر (2)

الدكتور عصام بن هاشم الجفري

 
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ، يرحم عباده مع كثرة ذنوبهم وتقصيرهم في جنب جلاله العظيم ،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وعد عباده المتقين جنات النعيم ،وتوعد الكافرين والمعرضين بالعذاب ولو بعد حين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين ، إمام المتقين وقائد الغر المحجلين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد : فأوصيكم يا أمة خير البرية ونفسي بتقوى الله في السر والعلن فهي مفتاح السعادة وسر النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة يقول الله جل جلاله : {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا(2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا(3)}
معاشر الأحبة في الله عشنا خلال الأسبوعين الماضية أجواء ممطرة جميلة ولي مع تلك الأجواء وقفات :
الوقفة الأولى: مع عظيم رحمة الله بنا فكم من أشهر مرت علينا ونحن نتمنى قطرة ماء تنزل من السماء فلم يحدث،ثم إذا بالكريم يمطرنا هذه الأيام المتواليات فصدق الله حيث يقول :{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ(28)}(الشورى) ،وحينما يتأمل المرء ما الذي تغير في المجتمع حتى تنزل هذه النعمة؛هل انتهى المرابون عن أكل الربا؟هل انتهى من يسمعون الغناء عن السماع؟هل انتهى من يتركون الصلوات في الجماعات والمساجد عن تركها وأقبلوا على الصلاة مع الجماعة؟ هل قام أصحاب الدشات إلى دشاتهم فأخرجوها من بيوتهم واستبدلوا فحشها وفجورها بالذكر وتلاوة القرآن؟ هل انتهى المدخنون عن تدخينهم؟هل تحجبت النساء السافرات وسترن عوراتهن؟هل وصل ذو الأرحام أرحامهم؟ هل أحسن الجيران إلى جيرانهم؟هل أدى أهل الزكاة زكاة أمولهم؟فإن كان ذلك أو بعضه فالحمد لله وإن لم يكن فلا حول ولا قوة إلا بالله،ونحمده سبحانه أن لم يمنع عنا بذنوبنا فضله وقطره وهو القائل:{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ(61)}النحل والقائل:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا(45)}فاطر .نحمده سبحانه ونشكره أن جعلها سقيا رحمة ولم يجعلها سقيا هدم ولا غرق وإلا فقوم نوح لما كذبوا مما عذبوا به أن أرسل الله عليهم مطراً عظيماً وتفجرت الأنهار من تحتهم حتى بلغ الماء قمم الجبال فأغرق الكافرين سبحانه بقدرته وأنجى المؤمنين ، ولقد رأينا أحبتي بعضاً من قوة الجبار وقدرته من خلال المطر حيث تعطلت الكهرباء عن جنوب مكة لمدة الساعتين نتيجة بعض الصواعق ، ورأينا الضيق والحرج الذي أصابنا لتعطل الكهرباء ، فكيف لو أصابت تلك الصواعق محطة التوليد الرئيسة وتعطلت الكهرباء لمدة أسبوع كيف يكون الحال؟كم من الأطعمة في البيوت والمحلات التجارية ستفسد؟كم من الأدوية في الصيدليات ستفسد؟كم من مريض في المستشفيات سيعاني ؟ إلى آخر تلك الآثار والضيق في الحياة الذي سيترتب عليها ثم ألم يخشى من امتلأ بيته بأسباب غضب الجبار أن يكون بيته هدفاً لصاعقة من تلك الصواعق فيحترق البيت بمن فيه؟ .فالحمد لله الذي لطف بنا وبكم إنه حليم كريم .
الوقفة الثانية:مع ما تميزت به الأمطار الأخيرة من أصوات قعقعة الرعد الشديدة حتى إن القلب ليهتز والجلد ليقشعر ويفزع الأطفال الصغار من شدة تلك الأصوات،واسمعوا معي إلى أصحاب القلوب الحية كيف ينظرون إلى تلك الحال،خرج عمر بن عبد العزيز مع سليمان بن عبد الملك إلى الحج فأصابهم مطر شديد ورعد وبرق فقال سليمان وكان الخليفة لعمر:هل رأيت مثل هذا يا أبا حفص؟ فقال:يا أمير المؤمنين هذا في حين رحمته،فكيف في حين غضبه؟ واليوم ترى الشاب في وسط تلك الأمطار وأصوات الرعد والصواعق وقد رفع صوت الغناء والموسيقى بسيارته يتنقل بها مستمتعاً بالجو،وترى الأسرة التي اطمأنت إلى جدران بيتها فجلست تتابع فحش القنوات دون أن تؤثر فيها تلك الأصوات شيء،بل لقد رأيت بأم عيني منظراً عجيباً كنت في أحد الأيام الماضية في جنازة وخرجنا بالجنازة قبيل صلاة المغرب والمطر منهمر وأصوات الرعد والصواعق تهز القلوب وإذا بي أرى امرأة بكامل زينتها واقفة في شرفة المنزل دون أي نوع من الحجاب تستمع بالمطر،فقلت في نفسي سبحان الله إذا لم يهتز قلب تلك المرأة لهذه الأصوات المفزعة فأين هي من منظر الموت الذي تمثله الجنازة التي مرت من أمام ناظريها؟ أما خشيت تلك المسكينة أن تسقط عليها صاعقة من السماء فتحرقها وهي على حالها؟ فبأي حجة تقابل ربها؟.المرء المسلم إذا سمع صوت الرعد تذكر قول العظيم سبحانه :{ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ(13)}الرعد،فيعظم الله في قلبه فيترجم ذلك تسبيحاً وتقديساً له .
الخامسة: مع التقلب الذي رأه الإنسان حيث يصبح والدنيا مشمسة مضيئة و الحرارة مرتفعة وفي لحظات إذا بالغيوم تحجب الشمس ، وننتقل من حال الجفاف إلى حال الرطوبة،وإذا بكل ما حولك من أجواء قد تغير،هذا التقلب فيه عبرة لأولي الأبصار ففيه درس أن هذه الدنيا لا تدوم على حال وأنها متقلبة بأهلها وهي عبرة تتكرر يومياً بغير المطر فيأتيك بعد ضوء النهار وحركته هدوء الليل وهجعته ، وفيه درس يومي بانتقال المرء من الدنيا وبهرجها وزينتها للقبر وظلمته ووحشته وقد بين لنا الباري جلت قدرته ذلك في كتابه حيث قال:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(164)}البقرة،فيه درس أن لا يغتر ذا الصحة بصحته ولا ذا المال بماله ولا ذا الجاه بجاهه،فيه درس لكل من يعيش حال رخاء ونعمة أن يستغلها في طاعة المولى جلت قدرته قبل أن يبدل عليه الحال،فيه درس أن لا يغتر العبد المؤمن بهذه الدنيا وبهرجها فهي زائلة لا محالة .أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ(43)}النور.

الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .أما بعد:فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن الله في العديد من آيات كتابه العظيم كان يلفت القلوب والعقول لتتأمل في نعمة الله في المطر وفي دلالات عظمته فيها استمع أخي استمع معي إلى الله وهو يقول :{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(39)}فصلت،ويقول سبحانه :{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِ بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(24)}،نعم أيها الأحباب بدون الماء يموت كل شيء هذه القاعدة التي أخبرنا بها الله بقوله :{.. وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ..(30)}الأنبياء،فتأمل في حالك فأنت بدون الماء تموت عطشاً فأنت تعيش على الماء ، ونتاج النبات الذي تأكله إنما ينبت ويعيش بالماء ، واللحوم التي تتناولها إنما تعيش على الماء ، فبدون الماء يموت كل شيء،فكم نحن بحاجة إلى إدراك نعمة الله علينا في الماء لنحافظ عليها،أيها الأحبة في الله إن العبد المؤمن يستفيد مما يحدث حوله من أحداث في تعظيم الله في قلبه،فهو لا يمر عليه حدث ألا وتجده يتفكر في عظمة الله فيه،وقد بين لنا الله جلت قدرته أن هذا هو دأب المؤمنين كثرة التفكر في آيات الله حيث قال:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ(190)الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(191)}آل عمران،وذم أصحاب القلوب القاسية والميتة التي لا تتفكر ولا تتأثر بآيات الله بقوله:{ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ(105)}يوسف، فليسأل كل منا نفسه كيف هو حاله مع آيات الله ؟
 

عصام الجفري
  • خطب إيمانية
  • خطب إجتماعية
  • يوميات مسلم
  • خطب متفرقة
  • مناسبات وأحداث
  • رمضانيات
  • خطب ودروس الحج
  • الصفحة الرئيسية