اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/aljefri/76.htm?print_it=1

متى ننتصر ؟

الدكتور عصام بن هاشم الجفري


 الحمد لله وعد بنصر عباده المؤمنين ودحر وهزيمة الكافرين والمعتدين ، أحمده سبحانه وأشكره أن جعل الغلبة والنصر والتمكين لهذا الدين ولو بعد حين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له. الملك الحق المبين وأشهد أن نبينا وحبيبنا وسيدنا محمد النبي المصطفى الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الغر الميامين .
أمابعد:فاتقوا الله معاشر الصائمين فالتقوى هي الحصن الحصين والحرز الأمين من كيد الكائدين ومكر الماكرين أخبرنا بذلك ربنا العليم الخبير بقوله : }...وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ{([1]) . أمة النصر والتمكين شهر رمضان شهر له مكانه في نفوس المسلمين تتطلع إليه أمة الإسلام لاسيما إذا كانت تعيش حالة من الذل والهوان كالتي تعيشها اليوم بشوق لأنه شهر ارتبط بمعارك حاسمة وانتصارات عظيمة ؛ ففي شهر رمضان من العام الثاني للهجرة النبوية كانت غزوة بدر الكبرى التي نصر الله فيها الإسلام وأهله وأذل الشرك وأهله على الرغم من التفاوت الكبير بين الفريقين في العدد والعدة لصالح الكفار ، وخلد الله تلك المعركة في آيات تتلى إلى يوم القيامة بقوله جل شأنه : }...إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{(2) . فسماه الله يوم الفرقان ؛ وامتن الله على المؤمنين بذلك النصر بقوله : }وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ{(3) . وفي شهر رمضان من العام الثامن للهجرة كان فتح مكة والقضاء على الشرك وعبادة الأوثان في أرض الجزيرة العربية وتمكين التوحيد فيها ونشر راية الإسلام ، وفي شهر رمضان من العام الثالث عشر للهجرة كانت موقعة البويب على ضفاف نهر الفرات ببلاد فارس وكان قائد المسلمين في تلك المعركة المثنى بن حارثة وجعل الله فيها النصر للإسلام وأهله وأذل الشرك وأهله ، وفي شهر رمضان من العام الثاني بعد التسعين من الهجرة كان فتح الأندلس على يد القائد المؤمن طارق بن زياد وانتصر المسلمون فيها على جيوش القوط بقيادة لذريق ولا زال الجبل المسمى باسم ذلك البطل شاهداً على ذلك الإنجاز ويحكي للتاريخ قصة تلك البطولات الرمضانية ، وفي شهر رمضان من العام الثالث والعشرين بعد المائتين كان فتح عمورية التي كانت تعد في ذلك الزمان أحد أقوى الحصون الرومية؛كان قائد المسلمين في تلك المعركة الخليفة العباسي المعتصم بالله ؛ وكان سبب الغزوة امرأة استنجدت به صائحة وامعتصماه،رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه اليتامى الرضع ...لا مست أذناً ولكن لم تلامس نخوة المعتصم ؛ وفي شهر رمضان من العام الثامن والخمسين بعد المائة السادسة للهجرة دارت رحى معركة عين جالوت على أرض المسرى فلسطين الحبيبة بين المغول الهمجيين الذين عاثوا في الأرض فساداً وبين المسلمين بقيادة الملك المظفر قطز ؛ فجعل الله النصر لعباده المؤمنين بعد أن ذلت الأمة وأصابها ما أصابها ، وفي شهر رمضان من العام السادس والستين بعد المائة السادسة كان فتح إمارة أنطاكية عاصمة الصليبيين في الشام في ذلك الوقت ، وكان قائد المسلمين في هذا الفتح العظيم القائد المملوكي الظاهر بيبرس ، وفي شهر رمضان من العام الثاني بعد المائة السابعة كانت معركة شقحب على مشارف مدينة دمشق بين المسلمين بتحريض من الإمام المجاهد شيخ الإسلام ابن تيمية  وبين المغول،وفي هذه المعركة أقسم شيخ الإسلام على الله أن ينصر المسلمين فأبر الله قسمه ونصر عباد الله المؤمنين ،والسؤال هل جاء هذا النصر للأمة من فراغ؟هل جاءت سلسلة الانتصارات الرمضانية تلك للأمة وهي غافلة لاهية منغمسة في شهواتها؟ هل نزل عليهم النصر وهم يلهثون خلف صور النساء العاريات الراقصات في القنوات أو الشبكات أو المجلات؟هل نزل النصر عليهم وأسواقهم تغص بالنساء المتبرجات وشباب همهم المعاكسات؟هل نزل عليهم النصر وبطونهم مثخنة بالربا؟ هل نزل عليهم النصر وقد استشرى في مجتمعاتهم الزنا ؟ لا . والله وألف لا.لأن الله جل في علاه وضعها قاعدة خالدة تالدة إلى يوم القيامة في قوله عز شأنه : } يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ   {(4). نصروا الله في أنفسهم فنصرهم الله ، نصروا الله في أموالهم فنصرهم الله ، نصروا الله في أسواقهم فنصرهم الله ، نصروا الله في أخلاقهم فنصرهم الله ، نصروا لله في جميع حياتهم فنصرهم الله ، عرف أولئك الرجال معنى تلك القاعدة فطبقوها ، واثبت لهم العزيز الجبار أنها قاعدة مضطردة لاتحابي أحداً ؛ فهذا جيش الإسلام يوم أن عصت فئة قليلة منهم أوامر رسول الله  صلى الله عليه وسلم   فنزلت بهم بوادر الهزيمة وشج فيها وجه رسول الله فداه أبي وأمي والناس أجمعين وكسرت رباعيته ودخلت حلقتا المغفر في وجنتيه الشريفة ولم يشفع لهم أن فيهم رسول الله وبين الله لنا ولهم ذلك في كتابه بقوله : } وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ {(5).فهذا بذنب واحد وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم  ، فكيف بذنوب كالجبال وليس فينا رسول الله  صلى الله عليه وسلم .كلمات بسيطة نطق بها بعض الرجال في يوم حنين لن نغلب اليوم من قلة فماذا كانت الثمرة،تضعضع الجيش المسلم وكادت أن تحل به الهزيمة لولا لطف الله بعباده المؤمنين وقد سطر الله للأمة ذلك في كتابه الخالد لتتعظ وتعتبر فقال العليم الحكيم سبحانه } لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ()ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ()ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {(6) .وكم من الكلمات اليوم تقال ولولا لطف الله بهذه الأمة لخسف بها ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : } يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ()وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ()ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ()أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا()ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ {(7) .
 
الخطبة الثانية
الحمد لله ولي المتقين وناصر المؤمنين ومجيب دعوة المضطرين ، أحمده سبحانه وأشكره بين لنا بفضله وكرمه طريق النصر المبين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد : فاعلموا رحمني الله وإياكم أنه لا يتحقق النصر لأمة الإسلام وتعود أمجادها إلا متى ما أرضينا وأطعنا من بيده النصر ومن عنده النصر من يصرف أحوال الكون كله وقد أخبرنا سبحانه بأنه لا يكون نصراً إلا من عنده بقوله : }...وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ{(8) .فيا أمة تهفو إلى النصر هاهي بين أيديكم الفرصة سانحة لكسب رضوان ربكم في هذا الشهر وفي العشر الأواخر منه على جهة الخصوص والتي بدت نسائمها وستطل علينا في الأسبوع القادم ؛ هذه العشر التي كان نبينا ونبيكم يعتزل فيها الدنيا بأسرها ويعتكف في المسجد في خلوة يناجي ربه ويتلذذ بطاعته تحكي لنا ذلك زوجته الحبيبة أمنا أم المؤمنين عائشة بقولها : (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ)(9) . يفعل ذلك متحرياً ليلة واحدة هي ليلة القدر التي قال الله فيها في محكم التنزيل : } لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ         {  ،الله اكبر ليلة واحدة تقومها تكون خيراً من عبادتك ما يزيد على ثلاث وثمانين عاماً وزيادة ، فما عشر ليالي إلى جوار ثلاث وثمانين عاماً وما شهر وماشهران ، فأين الراغبون أين أصحاب الهمم أين من هم للجنة مشمرون أين الأذكياء الفطناء عن هذا العرض الرباني المملوء رحمة وكرماً ، قوموا تلك العشر إيماناً واحتساباً وتحرياً لليلة القدر وأنا ضمان لكم أجرها بإذن الله ثقة بوعد الله وثقة بقول مصطفاه : ((..مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ..))(10) . فماذا تنتظروا معاشر المؤمنين قوموا ليلة القدر وادعوا ربكم فيها بالنصر .
  
---------------------
([1] ) آل عمران:120.(2) الأنفال:41.(3)آل عمران:123.(4)محمد: (5)آل عمران:152.(6)التوبة:25-27.(7)محمد:7-11.(8)الأنفال:10.(9)البخاري،التراويح،ح(1884).
 

عصام الجفري
  • خطب إيمانية
  • خطب إجتماعية
  • يوميات مسلم
  • خطب متفرقة
  • مناسبات وأحداث
  • رمضانيات
  • خطب ودروس الحج
  • الصفحة الرئيسية