اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/alkassas/69.htm?print_it=1

ضرورة  التحليل العقدي للأحداث

محمد جلال القصاص
mgalkassas@hotmail.com


يرفض بعضهم التحليل العقدي للأحداث ، ويصف النظرة الشرعية لما يحدث ، أو تفسير الأحداث بخلفيات دينية على أنها ضيقة الأفق ... متزمته .. تثير الجماهير  وأنها حزبية لصالح هذا أو ذاك . وينادي أصحاب هذا الرأي باعتماد البعد ( اقتصادي  ) أو ( عنصري استعماري ) لتفسير ما يحدث من أحداث في بلاد المسلمين عامة والشام خاصة .
ونتساءل :  كيف انفصلتْ في رأسك ؟ أو كيف انحصرتْ في رأسك ؟
 
ما أفهمه ــ ويُقِرُّنِي عليه كل عاقل متدبر بصير بحال الناس ـــ أن الأفعال الخارجية ما هي إلا ترجمة حقيقية صادقة لما تكِنُّهُ الصدور من تصورات ومفاهيم ،  ولا بد .
 ليس هناك من أفعال الناس ما هو اعتباطي أبدا ؛ حتى من يهزئ ويلعب ما فعل ذلك إلا لشيء  في نفسه ، قد يكون ترويحا أو مُدارة لغيره .. الخ ، إلا أن أفعاله الخارجية تحقق أهدافا داخلية .
 
وإذا قلنا أن العقيدة ــ هكذا مطلقا ــ تعني ما انعقد في القلب واشتد وَثَاقُهُ ، فإن الجوارح تسعى ولا بد  لجلب ما ينفع ، ودفع ما يضر ، والنافع والضار يكون بحسب ما انعقد في القلب ، فما آراهُ  نافعا قد يراه غيري ضارا ، وكلٌ حسب ما وقر في قلبه من مفاهيم وتصورات  ، إذا قلنا هذا ــ وهو مُسلم به ــ يتبين  أن كل الأمور عقدية ، وكل التفسيرات عقدية ، ولكن هذا عقيدته حب المال ، انعقد قلبه على حب الدنيا  فراح من أجلها وجاء  ، وهذا مُلئ قلبه بصفات الله فخاف ورجى ، وفعل ما يحب ربه ، وبعد عن ما يسخطه ويغضبه  ، وهكذا .
 
ومعلومٌ أيضا أن تعدد الأهداف أمر  طبعي ، إلا أنها تترتب ، فيكون بعضها أساسيا ويكون بعضها هدف مرحلي  لتحقيق هدف آخر ، ويكون بعضها فرع وبعضها أصل . . .  مجاورا له يأتي تبعا وليس أصلا . ومثال ذلك الجهاد في الإسلام أمر تعبدي من أجل إزالة العقبات التي تحول دون أن يكون الدين كله لله ، وهو أيضا ينطوي على مصالح دنيوية ـ اقتصادية ــ ( وجعل رزقي تحت ظل رمحي ) ،وكان عثمان ــ رضي الله عنه ــ يحمل تجارته معه وهو ذاهب للغزو ،  والزكاة في الإسلام أمر تعبدي ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) ، إلا أن لها أهدافا دنيوية لا تخفى ، ومثال ذلك كثير . فخطاب الشرع أخروي جاء لتعبيد الناس لله ، ثم إقامة العدل بين الناس ، ونشر أسباب الرقي والتمدن لمن شاء أن يأخذ بها من إطار الشرع ، والمقصود أن فصل العقيدة عن الاقتصاد أو السياسة  أو الفخر بالنسب ( العنصرية ) أمر مرفوض ، بل أحدهما ــ وهو العقيدة ــ  يحمل الآخر ويتحكم فيه . فالأول أصل والثاني فرع عليه ، وتوصيف الثاني من حالة الأول وجودا وعدما ، صحة وضعفا .
 
وفي الجهة الأخرى نجد أن القوم يتحركون بخلفيات دينية صليبية متعصبة ، والجوانب الاقتصادية موجودة ولكنها فرع على الجانب العقدي لدى القوم  ، فليست الجوانب الاقتصادية أو العنصرية الاستعمارية  وحدها ، وليست هي الأصل ، ولو كانت وحدها أو كانت هي  المحرك الأصلي  لذهبوا إلى أفريقيا فهناك الماس والذهب وهناك البترول وهناك اليورانيوم بدون جهاد  ، وهناك شعوب تقر بالدونية ولا تفتخر بآبائها وأجدادها  وتصف غيرها بالعجمية والدياسة .. الخ .
 
ومن يرجع للتاريخ ، ويقرأ الحملات الصليبية يجد أن البعد الاقتصادي والعنصري كان موجودا بينهم حتى أنه تسبب أن انحرفت بعض الحملات وغيرت مسارها وأغارت على شواطئ أوروبا طلبا للأجر ، وحدثت بينهم الشحناء أحيانا وتعاونوا مع المسلمين بدوافع عنصرية وخلافات داخلية . وكلنا مجمعون على وصفها بالصليبية . وإذا كان كذلك فلماذا التفريق ( أكفاركم خير من أولئكم ) ؟
 
ويذهب ما في صدرك ــ أخي القارئ ــ حين تعلم أن التدين لدى النصارى  ما هو إلا نوع من الانتماء ... يؤمن الفرد بعدد من القضايا الذهنية المجردة  ( كالصلب والفداء والتثليث وقدسية الآباء ) وما بعد ذلك فضل أو ذنب يكفره الاعتراف عند الراهب أو بينك وبين ربك ، على حسب المذهب  ، فلا يوجد في النصرانية شعائر أو شرائع يمليها عليهم ( الكتاب المقدس ) وكل ما هو موجود باسم الكنيسة إنما هو من قول  ( رجال الدين ) ، وهم يختلفون فيما بينهم اختلافا يذهب بعقلك ، حتى في أصل الأصول ، ولذا من السهل جدا أن يكون المرء علمانيا وهو متدين بل ومتشدد . والمقصود أن الصليبية انتماء ليس إلا .
 
والسياق التاريخي متصل ، فالحملات الصليبية   لم تتوقف ، والأدلة على هذا كثيرة[1] ، فمن يوم خرجت هذه الأمة للناس ، ولا زالت الروم ذات القرون أصحابنا ، وسيبقون ما بقى في الدنيا خير كما أخبر الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ــ .  ومحمد ـ صلى الله عليه وسلم ــ أصدق حديثا .
 
ولم أقصد التدليل على أن القوم يتحركون بدوافع دينية صليبية ، وإنما قصدت أن أبين أن كل شيء عقدي ، عندنا وعند غيرنا ، ومن لا يسلم بهذا نخاطبه بأن للشريعة الإسلامية خصوصية في المفاهيم والتصورات بل والمعاني اللغوية للألفاظ .
فكل شيء عندنا ــ نحن المسلمين ــ له تفسير خاص .
 خصص الشرع كل شيء .والنظرة العقدية لا بد منها لكل شيء ، ولا تعجل ؛ سأضرب الأمثال ليتضح  المقال :
 
 النصر والهزيمة في المعارك الحربية ، ما أسبابه ؟
القوم لهم أسباب ، والشرع يتكلم عن أسباب أخرى مسببة ومتسببة بمفردها ، يقول الله تعالى :  (  إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) ولما انهزموا يوم أُحد جاء التفسير من العليم الخبير : ( قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ) ، بل ـ وتمهل وأنت تقرأ ــ الشريعة الإسلامية لها خصوصية في أفراد المعركة ، فعندنا أن الملائكة تحضر المعركة تثبت الذين آمنوا وتلقي الرعب في قلوب الذين كفروا ( بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ) . ( فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها )  ( إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب )
.
والمصائب و( الكوارث الطبيعية ) لها تفسيرات مادية عند  الآخر وعندنا يتكلم الشرع عن أسباب أخرى مضافة إلى هذه الأسباب ومسببة لها ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير ) ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ) .
 
وسعة الرزق يتكلم الآخر عن أشياء ويجزم بالحصر ، ويتكلم الشرع بصيغة الشرط والمشروط  ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ) .
 
بل واللغة العربية هي الأخرى للشرع استعمال خاص فيها ،  فالصلاة في اللغة غير الصلاة في الشرع  وإن تقاطعت المعاني ، والآذان في اللغة غير الآذان في الشرع وإن تقاطعت المعاني ، والتيمم في اللغة غير التيمم في الشرع وإن تقاطعت المعاني .
 
نعم أحيانا يستعمل الشرع الألفاظ بذات المعاني اللغوية إلا أنها ــ وهي بمعانيها اللغوية ــ  يبقى للشرع فيها خصوصية إذ أنك لا تستطيع أن تجزم بأن المعنى المستعمل هو المعنى اللغوي إلا بعد رجوعك للسياق الذي فيه اللفظة محل النظر .
 
وتدبر  هاتين الآياتين وهما في سياق واحد من سورة النساء .. يقول الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }[ النساء : 59 ]
فجعل  رد كل شيء إلى الله ورسوله  شرطٌ للإيمان ( فردوه ... إن كنتم تؤمنون بالله )  ، وذلك هو الخير في الحال والمآل ( ذلك خير وأحسن تأويلا .
وتدبر هذه الآية وهي في ذات السياق من سورة النساء ، يقول تعالى : {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً }النساء : 83
فمأمورون بأن نرد أي أمر ينزل بنا إلى أولي الأمر ــ وهم العلماء هنا ــ ، خيرا كان أو شرا .
 
أين الخلل إذا ؟
 
الشرع يشترط في الفتيا العلم بالحال ، ومن لا يعلم يسأل ( فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون )  ، ومن لا يعلم لا يتكلم ، فليست هناك دروشة ولا اعتباط في تناول الأحداث ، بل يُرد الأمر  إلى ( الذين يستنبطونه منهم ) وليس إلى أي أحد ، والذي يحدث هو أن بعضا ممن لا  دراية له ولا رواية عنده يتصدر للتكلم باسم الشرع في أحوال الناس ، فيأتي بما يتصيده المتربصون ويلحقونه بالشرع . وهنا الخطأ .
 
 رأي العالم أو المفتي ليس هو رأي الدين ، فقد يخطأ نتيجة لجهلة بمسألة معينة من مسائل الدين أو عدم إلمامه بالمسألة محل  النظر . وليس لأحد أن يسحب هذا الخطأ على ( التحليل العقدي ) ككل ،وبالتالي يزدريه ويطالب بإقصائه أو تحجيمه ، والصحيح أن يطالب بإقصاء من لم يستوفِ شروط الفتوى ، لا إقصاء التحليل العقدي ككل .
فليس لأحد أن يعيب التحليل العقدي ، وليس لأحد أن يتناول الأمور بتحليل غير عقدي ، شاء أم أبى ، ولكن لنا أن نعيب هذا أو ذاك ، نطالب هذا بالتقدم والتكلم ، ونطالب ذاك بالتأخر والتزام الصمت .
 
وأرصد أمرين يحدثان في كل نازلة  بسببهما تحدث هذه البلبلة كل مرة .
 
الأول : استدعاء الجماهير في كل حادث ،ـ وهو ما تفعله وسائل الإعلام وخاصة المرئية ــ  يتكلمون بأهوائهم وآرئهم الشخصية ، وهي لعبة الديمقراطية ، ولا يخفى أنها لعبة موجهه ، فيمكنني أن أستحضر عدد ممن يؤيدون رأي كذا أو رأي كذا ، لأبرز في الأخير  ما أريد أنا  باسم الجماهير ، تتكلم الجماهير بجوار العلماء وكل واحد يحسب بصوت ، وفي الشرع أن الناس تتبع العلماء والأمراء القائمين بالشرع وتصدر  عن أمرهم . فتدبر .
 
الثاني : وهو أخطر من الأول ، أن غالبية من يتكلم من أهل العلم يتجه للجماهير مباشرة بدون أن يشاور إخوانه من المهتمين أو المختصين في المسألة محل النظر . وكل داعي لا بد له من مجيب ، أيا كانت دعوته ، وبهذا يحدث التحزب ، ولا أريد أن أشكك في النوايا ، فما أمرنا بشق الصدور ، ولكن أريد أن أقول إن من دواعي الإخلاص والحرص على وحدة الصف أن يتحاور  أهل الشأن فيما بينهم ثم يخرجون للناس يحدثونهم من منبر واحد ، بكلام واحد ، أما أن يتكلم كل بما يريد ، وتحدث مشاجرة داخلية ... فكرية .. مع كل نازلة فهذا مما يحتاج إلى وقفة تأمل .


----------------------------------------
[1] ذكر جملة من ذلك على لسان المستشرقين الدكتور / أحمد الدعيج ــ الكويت في مقدمة دروسه عن الحملات الصليبية . والكلام منثور وكثير  لا يجهله  مهتم . 

 

محمد القصاص
  • مقالات شرعية
  • في نصرة النبي
  • مقالات في فقه الواقع
  • مقالات أدبية
  • تقارير وتحليلات
  • رسائل ومحاضرات
  • مع العقلانيين
  • صوتيات
  • مقالات تعريفية بالنصرانية
  • رد الكذاب اللئيم
  • اخترت لكم
  • بريد الكاتب
  • الصفحة الرئيسية