صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







خطبةٌ بعنوان: توقير النبي الكريم ﷺ

محمد بن سليمان المهنا
@almohannam
جامع الملك خالد بأم الحمام بالرياض

 
بسم الله الرحمن الرحيم


إنِ الْحَمْدَ لِله، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، ونَعُوذُ بِالله مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وأَنْتمْ مُسْلِمُونَ)
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًايُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).

أما بعد أيها المسلمون:
فإن أصدقَ الكلام كلام الله، وخيرَ الهدي هدي محمد ﷺ، وأجلَّ الاختيار، اختيارُ الواحد القهار (وربك يخلق ما يشاء ويختار).

خَلَق بني آدم وجعلهم من المُكْرَمين، واختار من بينهم الأنبياء والمرسلين، ووصف أولئك الأئمة الأبرار، بالمصطفين الأخيار، وجعل سيدهم وإمامهم، وخيرهم وأفضلَهم، نبينا محمداً ﷺ، فهو خيارٌ من خيارٍ، اجتباه الله لهداية الناس أجمعين، فقال وهو أصدق القائلين: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).

جمّل الله خَلْقه وكمّل خُلُقه، وأتم عليه النعمة إتماما، وجعله للناس كلهم إماماً، ووصفه بأحسن الصفات، ونعته بأطيب النعوت والكمالات، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيرا.

أحبَّه سبحانه وما جفاه (ما ودعك ربك وما قلى).
ووعده فوفّاه وأوفاه (ولسوف يعطيك ربك فترضى).
وعَصَمه من الكافرين (والله يعصمك من الناس).
وجعله أَمَنَةً للمؤمنين (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم).
وصلى عليه هو وملائكته الكرام ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.

ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم: أن الله تبارك وتعالى نادى الأنبياء على جلالتهم وحُبه لهم وإعظامه لشأنهم، ناداهم بأسمائهم.
(يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة)
(يا نوح اهبط بسلام منا وبركات)
(يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا)
(يا داود إنا جعلناك خليفة)
(يا زكريا إنا نبشرك بيحيى)
(يا يحيى خذ الكتاب بقوة)
(يا موسى إني اصطفيتك)
(يا عيسى إني متوفّيك ورافعك)

فلما خاطبَ نبيَّنا محمداً ﷺ، خاطبه بصفته رسولاً نبياً فقال:
(يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك).
(يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين).

أيها المسلمون :
حقوق النبي ﷺ على أمته أجلُّ الحقوق وأجلاها، وأولاها بالأداء والوفاء، ومن أعظمها ما أوجبه الله له من التعظيم والإكرام، والتوقير والاحترام، كما في قوله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) ومعنى تعزِّروه: أي تنصروه، ومعنى توقّروه: أي تعظّموه وتفخّموه.
وقال تبارك وتعالى في وصف أمة محمد ﷺ: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

وقد امتثل الصحابة الكرام أمر ربهم، قال مروان في صفتهم رضي الله عنهم: (كان الصحابة إذا أَمَرَهم النبي ﷺ ابتدروا أمرَه، وإذا تكَلَّم خَفَّضُوا أصواتَهم عندَه، وإذا توضأَ كادوا يَقْتَتِلون على وضوئِه، وما يُحِدُّون إليه النظرَ؛ تعظيمًا له) رواه البخاري.
وفي صحيح مسلم: قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: (ما كان أحدٌ أحبَ إليَّ من رسول الله ﷺ ولا أجلَّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سُئلتُ أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه).
ولما ناقش عمرُ رضي الله عنه رسولَ الله ﷺ في شأن صلح الحديبية، ندم على ذلك مع أنه كان يريد عِزّ الدين ونُصرة المسلمين، قال رضي الله عنه: (فعملتُ لذلك أعمالاً) أي عملتُ أعمالاً صالحة تُذهب تلك الخطيئة.

وفي حديث الهجرة، قال أبو بكر رضي الله عنه: (فأتينا ظل صخرة فنزلنا عندَهُ، وسوَّيْتُ للنبيِّ ﷺ بيدي مكانًا ينامُ عليهِ، وبسطتُ فيهِ فروةً، وقلتُ: نَمْ يا رسولَ اللهِ، ثمّ انطلقت إلى راعي غنم فحلب لي كُثبة من لبن، فبرّدته للنبي ﷺ، ثم أتيتُ فوجدتُه قد استيقظ وهو عَطِش، فقلت: اشرب يا رسولَ الله، فشرب حتى رضيت) رواه البخاري.

هكذا كان الصحابة الكرام، يحبون النبي ﷺ أشد الحب، ويوقرونه أعظم التوقير، وأخبارهم في ذلك أكثر من أن تُحْصى أو تُسْتقصى.

قال إسحاق التجيبي: كان أصحاب محمد ﷺ بعده، لا يذكرونه إلا خشعوا واقشعرّت جلودهم وبكوا .

وعلى منهاجهم سار التابعون رحمهم الله ورضي عنهم.
هذا الإمام مالك رحمه الله يتحدث عن شيخه أيوب السختياني رحمه الله، فيقول: حججت معه حجتين، وكان إذا ذكر النبي ﷺ بكى حتى أرحمه، قال: فلما رأيتُ ما رأيت منه من إجلال للنبي ﷺ كتبتُ عنه الحديث .
وقال مالك رحمه الله أيضاً: ولقد كنت أرى محمد بن المنكدر -وكان سيد القراء- لا نسأله عن حديث إلا يبكي حتى نرحمه.
قال: ولقد كنت أرى جعفر بن محمد -وكان كثير الدعابة والتبسم- فإذا ذُكر عنده النبي ﷺ اصفرَّ وجهه.
قال: ولقد كان عبدالرحمن بن القاسم يَذْكُر النبيَّ ﷺ فيُنْظَرُ إلى لونه كأنه نزف منه الدم وقد جف لسانه في فمه هيبة لرسول الله ﷺ.
قال: ولقد كنت آتي عامر بن عبدالله بن الزبير، فإذا ذُكر عنده الرسول ﷺ بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع.
قال: ولقد رأيت الزهري -وكان من أهنا الناس وأقربهم- فإذا ذُكر عنده النبي ﷺ فكأنه ما عرفك ولا عرفتَه.

وكان مالك رحمه الله وهو الذي يحدثنا عن تلك الأحوال عن شيوخه، كان رحمه الله من أشد الناس تعظيماً للنبي ﷺ ولسنته ولحديثه، كان لا يُحدِّث بأحاديث النبي ﷺ إلا وهو على طهارة، وكان ربما ذُكر عنده الحديث فيتغير لونه خشوعاً وإجلالا، ولقد لدغته مرةً عقربٌ وهو يُحدّث، فما قطع التحديث مع أن لونه كان يمتقع من شدة الألم، إجلالا لحديث النبي ﷺ.
(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)

اللهم اجعلنا من المتقين الموفقين، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية



الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد أيها المسلمون:
إذا تمكن توقير النبي ﷺ من قلب المؤمن، أثمر ذلك التوقير أعمالا صالحة تظهر على الجوارح والأركان.

فمن ذلك احترام اسمه عند ذكره، فلا يذكره الذاكر إلا بألفاظ التوقير والاحترام، والصلاة والتسليم، كما قال تعالى (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا).

ومن ذلك الحرص على تعلم هديه والتفقُّه في سنته، والسعي إلى نشرها بين الخلائق، والتفاني في ذلك، كما قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ياليتني عملت فيكم بكتاب الله وعملتم به، فكلما عملت فيكم بسُنَّة وقع مني عضو، حتى يكون آخر شيء منها خروج نفسي.
وقال بعض السلف : وددتُ أن الخلق اطاعوا الله، ولو أن لحمي قُرِض بالمقاريض.

ومن وسائل نشر السُنة: تأليف الكتب النافعة وطباعتها ونشرها بين الناس، وترجمتها إلى اللغات المختلفة، فإن حاجة المسلمين إلى ترجمة السُنة حاجة ماسة شديدة، ومع ذلك فإننا نرى قلة من يُعنى بها من الدعاة ومن المحسنين، والله المستعان.

ومن مظاهر توقير النبي ﷺ: الغضب له والغيرة عليه عندما يُذْكر اسمه بسوء أو يُمس جنابه بأذى، فإن جنابه أعظم جناب، فمن حام حوله بسوء فهو المجرم الملعون، وهو الآثم الظالم المأفون، لا خير فيه، ولا حق له ولا احترام ولا كرامة، كما قال عز وجل ( إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا).
فالواجب على أتباع النبي ﷺ أن يذبوا عنه، وأن يدافعوا عن جنابه وأن يقوموا لله دفاعاً عن نبي رسول الله، فما في الدنيا أجلّ ولا أشرف ولا أعظم حقا منه.

ذكر العالِمُ المصري الجليل الشيخ أحمد شاكر في كتابه "كلمة الحق" أن أحد الحُكّام قام بتكريم شاب أعمى فأعطاه جائزة التفوق العلمي، فأشاد الناس بصنيعه وأكثروا من مديحه والثناء عليه.
قال الشيخ أحمد رحمه الله: وفي يوم الجمعة صلى ذلك الحاكم مع أحد الخطباء، فأشاد الخطيب بالحاكم ومدحه، وشكره على إكرام ذلك الطالب الأعمى، ثم قال كلمة شنيعة، قال "جاءه الأعمى فما عبس ولا تولى" نسأل الله العافية!
إنها كلمة شنيعة جداً، كأنه يقول: إن النبي ﷺ (عبس وتولى أن جاءه الأعمى) وهذا الحاكم جاءه الأعمى فما عبس ولا تولى!!
قال الشيخ أحمد: وكان والدي موجوداً "وكان وكيل الأزهر" فانتفض غضباً، وقام بعد الصلاة فتكلم في الناس وأنكر صنيع الخطيب إنكارا شديداً.
قال الشيخ أحمد: ولكن الله لم يَدَعْ لهذا المجرم جُرمه، فأُقْسِمُ بالله العظيم، لقد رأيته بعينيَّ بعد بضع سنين، وبعد أن كان عالياً منتفخاً، مستعزّاً بمَن لاذ بهم من العظماء والكبراء، رأيتُه مهيناً ذليلاً، على بابِ مسجدٍ من مساجد القاهرة، يتلقى نعال المصلين يحفظها في ذلة وصغار، نسأل الله عفوه وعافيته.

اللهم ارزقنا توقير نبيك ﷺ وتعظيمه، واتباع سنته، والذب عن جنابه الكريم.
اللهم ارزقنا شفاعته وأوردنا حوضه وأكرمنا بجيرته في جنات النعيم.
اللهم صلّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
محمد المهنا
  • مقالات
  • كتب
  • تغريدات
  • خطب
  • الصفحة الرئيسية