اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/almueidi/72.htm?print_it=1

وقفة محاسبة

د.عبد الله بن راضي المعيدي الشمري
جامعة حائل


أيها المسلمون: إن هذه الجمعة هي أول جمعة في هذا العام،: يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ، وقال الله تعالى: وتلك الأيام نداولها بين الناس .
وهذا السير الحثيث يباعد عن الدنيا ويقرب إلى الآخرة، يباعد من دار العمل ويقرب من دار الجزاء.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولاتكونوا من أبناء الدنيا. فإن اليوم عمل و لاحساب، وغداً حساب ولا عمل) أخرجه البخاري.
نسير إلى الآجال في كل لحظة --- وأعمارنا تطوى وهنَّ مراحل
ترحل من الدنيا بزاد من التقى --- فعمرك أيـام وهن قلائــل
معاشر المسلمين: عام مضى، فها قد طوي بساطه، وقوض خيامه، وشد رحاله ((وكل الناس يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها)) .
عام كامل، تصرمت أيامه وتفرقت أوصاله، وقد حوى بين جنبيه حِكماً وعبراً، وأحداثاً وعظات، فلا إله إلا الله، كم شقي فيه من أناس، ولا إله إلا الله كم سعد فيه من آخرين؟ لا إله إلا الله كم من طفل قد تيتم، وكم من امرأة قد ترملت، وكم من متأهل قد تأيم؟ لا إله إلا الله كم من مريض قوم قد تعافى، وسليم قوم في التراب قد توارى، لا إله إلا الله كم من أهل بيت يشيعون ميتهم، وآخرون يزفون عروسهم، لا إله إلا الله دار تفرح بمولود، وأخرى تعزى بمفقود، لا إله إلا الله عناق وعبرات من شوق اللقاء، وعبرات تهلّ من لوعة الفراق، لا إله إلا الله آلام تنقلب أفراحاً، وأفراح تنقلب أتراحاً، أيام تمر على أصفيا أيّها المسلمون، تتعاقَب الأعوامُ، وتتوالى الشّهور، والأعمارُ تُطوى، والآجال تُقضى، وكلُّ شيءٍ بأجلٍ مسمّى. وفي استقبالِ عامٍ وتوديع آخَر فُرَص للمتأمِّلين وموعظةٌ للمتَّعظين وذكرَى للمتدبِّرين وعبرةٌ للمعتبرين، يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ . فالعاقل البصيرُ والحاذق القدير هو من يتَّخِذ من صفَحاتِ الدّهر وانطوائِه وقفاتٍ للمحاسبةِ الجادّة ولحظاتٍ للمُراجعةِ الصّادقة ومحطَّاتٍ للنّظَر في الأحوال والتفطّن في الأوضاع.

أهمية المحاسبة في حياة المر ء .
عباد الله : إنَّ المؤمنَ حينما يودِّع مرحلةً من عمُره ويستقبِل أخرى فهو في حاجَةٍ ماسّة لمحاسَبَة نفسِه وتقييمِ مسارِه، فحقٌّ على الحازِمِ الموقن باللهِ واليومِ الآخر أن لا يغفلَ عن محاسبةِ نفسِه ومراجعة ميزانِ حرَكَاتها وسكنَاتها وتقييمِ مسارها في ماضِيها وحاضرِها ومستقبلها، يقول ابن القيّم رحمه الله: "وهلاكُ القلب من إهمالِ محاسبَتِها ـ أي: النفس ـ ومِن موافَقَتِها واتِّباع هواها".
إِخوة الإسلام، مجامِع الخير ومكامِن السعادةِ في محاسبةِ المؤمن نفسَه، ينهاها عن كلِّ غيٍّ، ويزجُرها عن كلِّ إثم، ويسوقُها إلى مواطِنِ الخير وموارِدِ البرِّ، ويكفُّها عن مواقِع الآثام والشّرورِ. والكيِّس من دان نفسَه وعمِل لما بعدَ الموت، والعاجز من أتبَع نفسَه هواها وتمنَّى على الله الأماني. وربّنا جل وعلا يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ .

هدي السلف في محاسبة النفس :
ذكَر الإمام أحمد عن عمَرَ رضي الله عنه أنّه قال: (حاسِبوا أنفسَكم قبل أن تحاسَبوا، وزِنوها قبل أن توزَنوا، فإنّه أهون عليكم في الحسابِ غدًا أن تحاسِبوا أنفسَكم اليومَ، وتزيَّنوا للعرضِ الأكبر، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ .
وصايا سَلفِ هذه الأمّةِ تذكِّرنا كثيرًا بالحِرصِ علَى انتهازِ الفرَصِ بمحاسبَةِ النفس ومعاهَدَتها في كلِّ وقتٍ وحين، يقول الحسن رحمه الله: "إنّ العبدَ لا يزال بخيرٍ ما كان له واعظٌ من نفسِه وكانت المحاسبةُ من هِمَّته"، "المؤمِنُ قوّام على نفسه لله، وإنما [يخفُّ] الحساب يومَ القيامة على قومٍ حاسبوا أنفسَهم في هذه الدنيا"، ويقول ميمون بن مِهران رحمه الله: "إنّ التّقيَّ أشدُّ محاسبةً لنفسِه من سلطانٍ قاضٍ ومِن شريكٍ شَحيح".

الخطبة الثانية :
أيّها المسلمون، الصوم في شهر الله المحرَّم عبادةٌ جليلة وقربة وفضيلة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم)) أخرجه مسلم.
ويتأكّد صيام يوم عاشوراء وهو اليوم العاشر من المحرم، وكان رسول الله يتحرّى صومه على سائر الأيام، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما رأيتُ النبيَّ يتحرَّى صيام يوم فضَّله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر يعني: شهر رمضان. أخرجه البخاري. وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله سئل عن صيام يوم عاشواء فقال: ((يكفّر السنة الماضية)) أخرجه مسلم.
ويستحبّ أن يصوم التاسع معه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لئن بقيت إلى قابِلٍ لأصومَنَّ التاسعَ)) أخرجه مسلم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (صوموا اليوم التاسع والعاشر وخالفوا اليهود) أخرجه البيهقي. وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "فإن اشتبه عليه أوّل الشهر صام ثلاثةَ أيام، وإنما يفعل ذلك ليتيقّن صوم التاسع والعاشر".
وفقني الله وإياكم لصالح العمل، ووقانا جميعا من الإثم والزلل.
عبادَ الله، إن الله أمَركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه، وثنى بملائكته المسبِّحة بقدسه، وأيّه بكم أيّها المؤمنون من جِنِّه وإنسِه، فقال قولا كريمًا: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].اللهم صل وسلم على النبي المصطفى المختار...

 

عبد الله المعيدي
  • مقالات ورسائل
  • بحوث ودراسات
  • الصائم العابد
  • الصفحة الرئيسية