بسم الله الرحمن الرحيم

خامسا : توضيح ما اعتمدوا عليه من كلام البيهقي رحمه الله


وقبل ذكر كلام البيهقي والتعليق عليه ، أرى ضرورة التعريف بمنهج البيهقي في أبواب الاعتقاد الأخرى، فقد يُظن من خلال استشهاد بعض " السلفيين " بكلامه في الإيمان أنه سلفي المعتقد . والحقيقة أنه أحد أئمة الأشاعرة الذين كان لهم جهود عظيمة في خدمة ودعم المذهب الأشعري ، وقد (
تحولت معرفته في الحديث وإمامته فيه إلى خدمة أهل التأويل - كما يقول الشيخ الدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود حفظه الله - لا إلى خدمة مذهب أهل الحديث والسنة ، وهذا في باب العقائد دون الأحكام). ( موقف ابن تيمية من الأشاعرة 2/585).
وقد تحدث الشيخ عبد الرحمن المحمود حفظه الله عن البيهقي حديثا مختصرا جامعا في كتابه السابق ، واعتبر أن البيهقي والقشيري والجويني يمثلون مرحلة زمنية تطور فيها المذهب الأشعري ، على نحو من تطوره على يد الباقلاني وابن فورك والبغدادي .
( فالبيهقي مجدد المذهب الشافعي في الفقه ، وأحد أعلام المحدثين ، كان له دور في ربط المذهب الأشعري بالفقه الشافعي ، ثم في دعم الأشاعرة من خلال حرصه على الحديث وروايته ، ولبيان أن ذلك لا يخالف منهج الأشاعرة الكلامي.
والقشيري أدخل التصوف في منهج وعقائد الأشاعرة.
والجويني خطا خطوات بالمذهب نحو الاعتزال ) . موقف ابن تيمية من الاشاعرة 2/580.
وقال حفظه الله (2/584) : ( وعلى هذا فالبيهقي ألف كتابه [ الأسماء والصفات ] استجابة لطلب أستاذه خدمة للمذهب الأشعري - الذي كان أحد أعلامه - ولذلك حشاه بالنقول من أقوالهم وتأويلاتهم إضافة إلى تأويلاته هو ، وما أدري ما قصد البيهقي بقوله السابق : " لما في الأحاديث المخرجة فيه من العون على ما كان فيه من نصر السنة وقمع البدعة " ، وهل يقصد بدعة التعطيل أو بدعة الإثبات ورفض التأويل التي يسمونها تجسيما أو تشبيها ؟!
الذي يترجح من خلال معرفة حال شيخ الجميع ابن فورك ، وتلميذه أبي منصور الأيوبي [ الذي أوصى البيهقي بتأليف كتابه] وحال البيهقي في تأويلاته في كتابه هذا
أنه قصد قمع بدعة الإثبات التي يزعمون أن فيها تشبيها، والله أعلم).
وقد ضرب الشيخ أمثلة بين من خلالها سير البيهقي على منهج المتكلمين في التعامل مع جملة من الأحاديث الصحيحة المثبتة للصفات ، وخروجه عما يليق به كمحدث ، وأشار إلى اعتماده على أقوال جماعة من كبار الأشاعرة ، ودفاعه عن علم الكلام ، ومشاركته العملية في الفتنة التي وقعت على الأشاعرة ، ولخص موقف الأشعري من جمل اعتقاد السلف بقوله ( 2/589) :
(
ومما ينبغي ملاحظته أن البيهقي مع أقواله الموافقة لمذهب الأشاعرة في مسائل حدوث الأجسام ، وحلول الحوادث ، وتأويل الاستواء والنزول والمجي والضحك والعجب ، ونفيه للعلو ( الجهة ) وتأويله للقدم والأصابع وغيرها ، إلا أنه قال بإثبات الوجه واليدين والعين بلا تأويل ، فهو بذلك قد خالف شيخه البغدادي ).
وقد قام الدكتور أحمد بن عطية الغامدي حفظه الله بدراسة وافية عن البيهقي وموقفه من الإلهيات نال بها درجة الدكتوراة من جامعة الملك عبد العزيز ، خلص فيها إلى نتائج مهمة ، منها :
(
3- أنه سلك في الاستدلال طريقة السلف ، وخالفهم في كثير من المسائل عند التطبيق لذلك الاستدلال .
4- انه اختار في استدلاله على وجود الله تعالى طريقة القرآن الكريم وهو أمر اتفق فيه مع السلف ، إلا أنه وافق أصحابه الأشاعرة في الاستدلال بالجواهر والأعراض على حدوث العالم زاعما صحة هذا الاستدلال لأنه في نظره استدلال شرعي وأيده بطريقة إبراهيم عليه السلام ، فبينت مخالفة ذلك لمذهب السلف ، وفساد تصورهم أنها طريقة إبراهيم عليه السلام.
7- انه اتفق مع السلف في إثبات الصفات العقلية بنوعيها [ صفات الذات العقلية كالحياة والقدرة والعلم والسمع، وصفات الفعل العقلية كالخلق والرزق والإحياء ] وفي طريقة الاستدلال على ذلك الإثبات.
8- عدم موافقته للسلف في القول بحلول الحوادث بذات الله تعالى بمعنى أنه سبحانه يفعل متى شاء كيف شاء ،
لذلك قال بقدم جميع صفات الذات العقلية وعدم حدوث شيء منها ، وأوضحت أن الصحيح في ذلك ما ذهب إليه السلف من القول بأنها قديمة النوع حادثة الآحاد.
9- مخالفته للسلف في نفيه تسلسل الحوادث في جانب الماضي ، ولذلك رأيناه
يقول بحدوث صفات الفعل العقلية ، إلا أنني بينت خطأه فيما ذهب إليه ، وصحة مذهب السلف القائل بأن الله فعال لما يريد أزلا وأبدا.
10- ان البيهقي وافق السلف فيما أثبته من صفات الذات الخبرية
وخالفهم في تأويل ما بقي منها ، حيث أثبت اليدين والوجه والعينين وأول ما سوى ذلك. [ كاليمين والكف والأصابع والساق والقدم ، لأنها ثابتة بخبر الآحاد وظاهرها يفضي إلى التشبيه !!!].
11-
مخالفته للسلف في صفات الفعل الخبرية ، حيث ذهب إلى تأويل بعضها ، وتفويض بعضها الآخر ، زاعما أن التفويض في ما فوض فيه هو مذهب السلف. وقد بينت فساد قول من نسب التفويض والتأويل إلى السلف ، مبينا أن مذهب السلف هو الإثبات الحقيقي لجميع الصفات إثباتا لا تأويل فيه ولا تفويض ولا تشبيه.
12- ان البيهقي يختلف مع السلف في جميع ما يتعلق بصفة الكلام التي أثبتها ،
من القول بأن الكلام نفسي قديم وأنه بدون حرف ولا صوت وأنه معنى واحد . وقد ناقشته في جميع هذه المسائل وبينت خطأ ما ذهب إليه وصحة مذهب السلف. وبينت أن رأيه في كلام الله تعالى هو عين مذهب أصحابه الأشاعرة ، وأن حقيقة مذهبهم في القرآن لا يختلف عن مذهب المعتزلة إلا بنفيهم أن يكون هذا القرآن الذي نقرأه هو كلام الله الحقيقي.
13- اتفاقه مع السلف فيما يتعلق بمسألة الرؤية من القول بإثباتها للمؤمنين يوم القيامة ،
إلا أنه خالفهم بنفي الجهة مستدلا بحديث الرؤية ، وقد بينت فساد استدلاله به ، وصحة استدلال السلف.
14- انه
يقول بعدم تأثير قدرة العبد في فعله ، وبينت أنه بذلك يوافق الأشاعرة القائلين بالكسب ، الذي لا حقيقة له ، ويخالف السلف لقولهم بتأثير قدرة العبد في فعله.
15-
انه ينفي تأثير الأسباب في مسبباتها ، وهو مذهب الأشاعرة ، وقد بينت فساد هذا الرأي أيضا ومخالفته للنصوص الشرعية المثبتة لذلك.).
انتهى من ( البيهقي وموقفه من الإلهيات للدكتور أحمد بن عطية الغامدي ) ص 331 - 333 ، وما بين المعكوفتين [ ] هو من كلامي للتوضيح.
وبعد : فها هو البيهقي يخالف السلف في جل مسائل الإلهيات ، فهل سيوافقهم في الإيمان ؟
هذا ما ستعرفه قريبا إن شاء الله.
نص كلام البيهقي :
قال البيهقي رحمه الله فـي كتابه الاعتقاد ص 95 :
( باب القول في الإيمان
قال الله تعالى : ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا ).
فأخبر أن المؤمنين هم الذين جمعوا هذه الأعمال التي بعضها يقع في القلب وبعضها باللسان وبعضها بهما وسائر البدن وبعضها بهما أو بأحدهما وبالمال ، وفيما ذكر الله في هذه الأعمال تنبيه على ما لم يذكره ، وأخبر بزيادة إيمانهم بتلاوة آياته عليهم ، وفي كل ذلك دلالة على أن هذه الأعمال وما نبه بها عليه من جوامع الإيمان ، وأن الإيمان يزيد وينقص ، وإذا قبل الزيادة قبل النقصان.
وبهذه الآية وما في معناها من الكتاب والسنة ذهب
أكثر أصحاب الحديث إلى أن اسم الإيمان يجمع الطاعات فرضها ونفلها ،
وأنها على ثلاثة أقسام :
فقسم يكفر بتركه ؛ وهو اعتقاد ما يجب اعتقاده ، والإقرار بما اعتقده .
وقسم يفسق بتركه أو يعصي ولا يكفر به إذا لم يجحده ؛ وهو مفروض الطاعات كالصلاة والزكاة والصيام والحج واجتناب المحارم .
وقسم يكون بتركه مخطئا للأفضل غير فاسق ولا كافر ؛ وهو ما يكون من العبادات تطوعا ). انتهى ما نقلوه .
وتتمته : قال البيهقي :
( واختلفوا في كيفية تسمية جميع ذلك إيمانا ، منهم من قال : جميع ذلك إ
يمان بالله تبارك وتعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم ، لأن الإيمان في اللغة هو التصديق ، وكل طاعة تصديق لأن أحدا لا يطيع من لا يثبت أمره.
ومنهم من قال : الاعتقاد دون الإقرار
إيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم ،
وبسائر الطاعات
إيمان لله ورسوله ، فيكون التصديق بالله وإثباته والاعتراف بوجوده ، والتصديق له : قبول شرائعه واتباع فراضه على أنها صواب وحكمة وعدل .
وكذلك التصديق
بالنبي صلى الله عليه وسلم ، والتصديق له .
فقد ذكرنا بيانه ودليله في كتاب الإيمان ، وفي كتاب الجامع ، ونحن نذكر ههنا طرفا من ذلك ). ثم ساق بعض الأدلة على أن العمل من الإيمان.
التوضيح : قد يعجب القارئ من حرصي على إكمال كلام البيهقي رحمه الله ، وربما رأى هذا تطويلا لا فائدة منه .
وأكاد أجزم بأن من يستشهد بكلام البيهقي هذا لا يدرك مراد البيهقي وتفريقه بين : الإيمان
بالله ، والإيمان لله.
والتصديق
بالله ، والتصديق لله .
والتصديق
بالرسول ، والتصديق له .
ولو أدرك ذلك لما سوغ لنفسه أن يستشهد بهذا الكلام.
لقد ذكر البيهقي قولين في السبب الذي لأجله سمي الاعتقاد والإقرار والعمل إيمانا. والقول الثاني هو الذي تبناه البيهقي واقتصر عليه في كتابه الجامع لشعب الإيمان .
والنسخة التي لدي من كتاب الاعتقاد مشتملة على جملة من الأخطاء ، لكنها تدرك بتأمل يسير .
فقوله : (الاعتقاد
دون الإقرار إيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم ) ، صوابها : الاعتقاد والإقرار إيمان بالله وبرسوله.
وقوله: ( فيكون التصديق بالله
وإثباته والاعتراف بوجوده)
صوابها : فيكون التصديق بالله : إثباته والاعتراف بوجوده .
ويدل على ذلك أمران : سياق كلامه ، وعبارته في الجامع لشعب الإيمان .
إن البيهقي - باختصار - يرى أن عمل القلب وعمل الجوارح إيمان
لله ، وليس إيمانا بالله ، ورتب على ذلك أن ترك العملين ( عمل القلب والبدن ) ليس كفرا !
وأن الكفر إنما يقابل الإيمان
بالله ، لا الإيمان لله .
وأعلم أنه ربما ضاق صدرك من هذا الكلام ، فلعله لم يطرق سمعك من قبل ، لكن هذا هو رأي البيهقي ومذهبه ، علم ذلك من علم ، وجهله من جهل ، حتى روج له ، وزينه ، ولوث به عقول الأتباع السائرين خلفه ، فاللهم رحماك.
لقد كنت أرجح أن مراد البيهقي ب " الاعتقاد " الذي يكفر تاركه ، كما يكفر تارك الإقرار ، هو التصديق فقط ، دون عمل القلب . ثم وقفت على تصريح للبيهقي بذلك ، لا يدع مجالا للشك أو التردد في الجزم بهذه الحقيقة .
لقد فصل البيهقي معتقده وبينه في كتابه الجامع لشعب الإيمان ، وكان وفيا حين قال في كتابه الاعتقاد : ( فقد ذكرنا
بيانه ، ودليله ، في كتاب الإيمان ، وفي كتاب الجامع).
وقد اعتمد البيهقي في معظم كتابه الجامع على ما كتبه أبو عبد الله الحليمي في منهاجه ، كما بين هو في مقدمته ، حيث قال : ( فاقتديت به في تقسيم الأحاديث على الأبواب ،
وحكيت من كلامه عليها ما تبين به المقصود من كل باب ؛ إلا أنه رضي الله عنه اقتصر في ذلك على ذكر المتون ، وحذف الإسناد تحريا للاختصار ؛ وأنا على رسم أهل الحديث أحب إيراد ما أحتاج إليه من المسانيد والحكايات بأسانيدها ...).
فتعال أخي لترى كلام البيهقي أو كلام الحليمي في الجامع لشعب الإيمان :
قال ( 1/104-107) :
( فالإيمان
بالله عز وجل ثناؤه : إثباته والاعتراف بوجوده .
والإيمان
له : القبول عنه والطاعة له.
والإيمان
بالنبي صلى الله عليه وسلم : إثباته والاعتراف بنبوته.
والإيمان
للنبي صلى الله عليه وسلم : اتباعه وموافقته والطاعة له.
ثم إن
التصديق الذي هو معنى الإيمان بالله وبرسوله منقسم :
فيكون منه ما يخفى وينكتم : وهو الواقع منه بالقلب ، ويسمى
اعتقادا.
ويكون منه ما ينجلي ويظهر ، وهو الواقع باللسان ، ويسمى
إقرارا وشهادة).

وهذا يوضح بجلاء أنه يطلق " الاعتقاد " على التصديق ، دون عمل القلب ، لأنه سيذكر عمل القلب بعد ذلك مبينا أنه إيمان
لله ولرسوله.
أما الإيمان
بالله وبرسوله : فهو اعتقاد وإقرار ، أو تصديق باطن ، وتصديق ظاهر.
ثم قال عقب ذلك : ( وكذلك الإيمان
لله ولرسوله ينقسم إلى جلي وخفي :
والخفي منه : هو النيات والعزائم التي لا تجوز العبادات إلا بها ، واعتقاد الواجب واجبا ، والمباح مباحا ، والرخصة رخصة ، والمحظور محظورا ، والعبادة عبادة ، والحد حدا ، ونحو ذلك.
والجلي منها : ما يقام بالجوارح إقامة ظاهرة ، وهو عدة أمور :
منها الطهارة ، ومنها الصلاة ، ومنها الزكاة ، ومنها الصيام ، ومنها الحج والعمرة ، ومنها الجهاد في سبيل الله . وأمور سواها ستذكر في مواضعها إن شاء الله تعالى.
وكل ذلك إيمان وإسلام ، وطاعة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، إلا أنه إيمان
لله ، بمعنى أنه عبادة له ، وإيمان للرسول بمعنى أنه قبول عنه ، دون أن يكون عبادة له ؛ إذ العبادة لا تجوز إلا لله عز وجل.
قال [ الحليمي ]:
والإيمان
بالله ورسوله أصل ، وهو الذي ينقل من الكفر .
والإيمان
لله ورسوله فرع ، وهو الذي يكمل بكماله الإيمان ، وينقص بنقصانه الإيمان.
ومعنى هذا أن أصل الإيمان إذا حصل ، ثم تبعته طاعة زائدة : زاد الإيمان المتقدم بها، لأنه إيمان انضم إليه إيمان كان يقتضيه.
ثم إذا تبعت تلك الطاعة طاعة أخرى ازداد الأصل المتقدم والطاعة التي تليه بها ، وعلى هذا إلى أن تكمل شعب الإيمان.
قال : ونقصان الإيمان : هو انفراد أصله عن بعض فروعه ، أو انفراد أصله وبعض فروعه عما بقي منها مما اشتمل عليه الخطاب والتكليف ، لأن النقصان خلاف الزيادة .
[ وظاهر هذا أن التصديق لا يدخله النقص]
فإذا قيل لمن آمن وصلى : زاد إيمانه ، وجب أن يقال لمن آمن ووجبت عليه الصلاة فلم يصل إنه ناقص الإيمان ، وأنه صار بتركها مع القدرة عليها فاسقا عاصيا وعلى هذا سائر الأركان.
فأما ما يتطوع به الإنسان مما ليس بواجب عليه بمعنى تصديق العقد والقول بالفعل موجود فيه فيزداد به الإيمان ، وتركه بالإضافة إلى من لم يتركه يجوز أن يسمى نقصانا، لكن لا يوجب لتاركه عصيانا هذا معنى قوله.
قال: وإذا أوجبنا أن تكون الطاعات كلها إيمانا لم نوجب أن تكون المعاصي الواقعة من المؤمنين كفرا ، وذلك أن الكفر بالله أو برسوله مقابل للإيمان
به ،
فإذا كان الإيمان
بالله وبرسوله : الاعتراف به والإثبات له، كان الكفر جحوده والنفي له والتكذيب .
وأما الأعمال فإنها إيمان
لله وللرسول بعد وجود الإيمان به ، والمراد به إقامة الطاعة على شرط الاعتراف المتقدم فكان الذي يقابله هو الشقاق والعصيان دون الكفر.
وقد ذكرت في كتاب الإيمان من الأخبار والآثار ما يكشف عن صحة هذه الجملة وأنا أشير في هذا الكتاب إلى طرق منها ، بمشيئة الله عز وجل.
باب الدليل على أن
التصديق بالقلب والإقرار باللسان أصل الإيمان وأن كليهما شرط في النقل عن الكفر عند عدم العجز).
انتهى كلام البيهقي رحمه الله ،
وحاصل الجواب عنه :
1- أن كلامه في كتاب الاعتقاد مما نتفق نحن والمخالف على رده ، لأنه جعل الكفر في ترك الإقرار والاعتقاد فقط ، وقد تبين أن مراده بالاعتقاد : تصديق القلب دون عمله.
والمخالف يقول : إن ترك عمل القلب كفر . فوجب رد كلام البيهقي هذا ، وعدم التعويل عليه.
2- أن ما قرره في كتابه الجامع لشعب الإيمان لا يختلف عما في كتابه الاعتقاد ، بل هو شرح له وزيادة تفصيل . وهو صريح في التفريق بين الإيمان بالله ورسوله ، والإيمان لله ورسوله ، فالأول هو التصديق والإقرار وهذا الذي يقابله الكفر.
أما الثاني ( الإيمان لله وللرسول ) فهو عمل القلب من النيات والعزائم ، وعمل الجوارح ، وهذا يقابله الشقاق والعصيان دون الكفر.
ورغم وضوح كلام البيهقي في كتابه الجامع ، وظهور مراده ، رأينا من يستشهد بكلامه ، بل من يزعم أنه حرر مذهب أهل السنة أيما تحرير !!
قال الأخ أبو الحسن المأربي وفقه الله في مناظرته للأخ أمين جعفر :
( الإمام البيهقي في كتاب جامع شعب الإيمان وفي كتاب الاعتقاد حرر مذهب أهل السنة أيما تحرير ، رد على الأشعرية . رد على الجهمية . رد على الصالحي . أبو الحسين الصالحي . رد على مرجئة الفقهاء . رد على الكرامية . فمن أين ينسب له القول أنه وافق التمشعر في باب الإيمان ). انتهى نقلا عن شريط المناظرة [ الوجه الثاني ] .
فهل من قول أهل السنة أن ترك عمل القلب يقابله الشقاق والعصيان دون الكفر ؟!
وهل التفريق بين الإيمان بالله ، والإيمان لله من كلام أهل السنة ؟!
وقائل هذا ، هل وافق أهل السنة ؟؟ فضلا عن أن يقال إنه حرر مذهب أهل السنة ؟؟؟!!!
وأما أنه رد على الأشعرية في باب الإيمان ، فهذه تحتاج إلى وقفة طويلة - وهذا خارج عن محل البحث - يظهر فيها حقيقة المذهب الأشعري في مسألة الإيمان ، وبيان الفرق بين منهج متقدمي الأشاعرة ومتأخريهم ، وعلاقة الجميع بالإرجاء أو التجهم ، وموقفهم الحقيقي من زيادة الإيمان ونقصانه ، وهل كان البيهقي يمثل مرحلة من مراحل تطور المذهب أم أن المسألة اختلاف في التعبير ، وفي الجرأة والشجاعة .
وأحب أن أعلق هنا تعليقا يسيرا على موقف الأخ أبي الحسن المأربي في هذه المسألة ، وقد وعدت سابقا بكتابة تعليق موسع.
أقول : إن صح ما نشر عن أبي الحسن من أنه يرى تقسيم عمل الجوارح إلى أصول وفروع ، وأن تارك أصول عمل الجوارح كافر ، فإنه لا يفيده شيئا أن يتعلق بكلام البيهقي ولا ابن حزم ، بل ولا جميع ما اشتبه على غيره من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ، مما نقله الزهراني أو العنبري أو عدنان .
لأن كلام هؤلاء - حقيقة أو مع الاشتباه - يدل على حصول النجاة بالاعتقاد والإقرار دون أي عمل من أعمال الجوارح ، بلا تفريق بين أصول هذا العمل أو فروعه .
فليس أمامه إلا أن يقف موقفنا من هذه النقول ، وأن يستدل بما نستدل به من الإجماع على عدم إجزاء القول والاعتقاد دون عمل الجوارح ، ثم يسعى بعدُ إلى إقامة البرهان على أن المراد : أصول عمل الجوارح ، حسب تحديده لهذا المصطلح .
وهذا الكلام ينطبق عليه وعلى من دافع عن رأيه وانتصر له - كما رأينا في بعض ساحات الحوار - .
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتبه ... الموحد