بسم الله الرحمن الرحيم

سادسا : توضيح ما اعتمدوا عليه من كلام الإمام ابن أبي العز الحنفي شارح الطحاوية .


قال رحمه الله : (وأجمعوا على أنّه لو صدّق بقلبه وأقرّ بلسانه وامتنع عن العمل بجوارحه : أنّه عاص لله ورسوله مستحقّ للوعيد ).

هذا النقل احتج به الأخ أحمد بن صالح الزهراني مؤلف كتاب " ضبط الضوابط " في حواره مع الأخ العبد الكريم في منتدى الفوائد.
كما احتج به العنبري في أصل كتابه " الحكم بغير ما انزل الله " ، فقد نقل العبارة ثم قال عقبها : " غير أنه ليس بكافر". وعلق في الهامش بقوله : " وفي نقل الإجماع نظر لا يخفى ". ( الحاكمية وأصول التكفير 1/161).
وسئل الأخ أحمد الخشاب ( أبو اليسر ) في حوار أجري معه في شبكة سحاب : ما معنى هذه العبارة ومن الذين أجمعوا ؟
فأجاب : (معنى العبارة أنه لا يخرج من دائرة الإسلام ما دام مصدقاً بقلبه ومقراً بلسانه وأن امتناعه معصية و يناقش و يطالب بالعمل.
والذين اجمعوا يعني: أهل السنة.) انتهى كلامه.
وبطلان هذا الكلام الأخير ظاهر لا يحتاج إلى تطويل.
فالذين أجمعوا هو أهل السنة ومرجئة الفقهاء.
وظاهر كلامه أن من لم يأت بعمل القلب ، وأتى بالتصديق وقول اللسان أنه لا يكفر ، وهذا بين الفساد ، بل يقر بفساده ويبرأ منه الزهراني وغيره.
وليس في كلام ابن أبي العز ما يصلح مستندا للقول بنجاة من ترك عمل الجوارح بالكلية ، وبيان ذلك من وجوه :
الأول : أن قوله : " أنه عاص لله ورسوله مستحق للوعيد " لا تنافي الحكم بكفره ، فالكافر والمشرك والمنافق ، جميعهم عصاة لله ورسوله مستحقون للوعيد.
الثاني : أنه لو فسر قوله " عاص " بأنه : لا يكفر ، كما فهم هؤلاء ، لكان هذا الإجماع باطلا ، لا يشك في بطلانه من يعلم اختلاف الفقهاء في تكفير تارك الصلاة ، واختلاف السلف في تكفير تارك المباني الأربعة !
فإنه يلزم على تفسيرهم : أن يَدعى الإجماع على أن من ترك الصلاة والزكاة والصوم والحج وسائر عمل الجوارح أنه لا يكفر .
وبطلان هذا لا يخفى على من له أدنى حظ من النظر في هذه المسائل.
ولهذا رأينا العنبري يقول : (وفي نقل الإجماع نظر لا يخفى ) !!
وفي هذا نسبة شارح الطحاوية إلى الوهم والخطأ ، في أمر معلوم مشهور ، وكان الأحرى به أن يتهم فهمه ، وأن يدرك أن قوله " عاص " لا تعارض الحكم بالكفر.
وقد علقت سابقا على فهمه لكلام عبد الله بن شقيق ، وعلى ما نسبه إلى الحنابلة في مسألة تارك الصلاة ، وأضيف هنا شيئا للاعتبار :
قال العنبري ( 1/185 ) : ( وقال ابن قدامة " وإن ترك شيئا من العبادات الخمسة تهاونا لم يكفر" . كذا في المقنع . وقال في المغني ...).
وعلق العنبري في الحاشية بقوله : ( اصطلح غير واحد من العلماء على تسمية الأركان الأربعة بالخمسة [!!!!!] ولا مشاحة في الاصطلاح ، ولعل ذلك إشارة منهم إلى أن مقصودهم الأركان التي ذكرت في حديث ابن عمر وغيره " بني الإسلام على خمس ... " الحديث .) انتهى كلام العنبري !!
قلت : ليته استشكل العبارة وصمت .
قال العلامة ابن مفلح في الفروع (1/297) : ( ومن فرض المسألة في ترك العبادات الخمس ، فمراده - والله أعلم - الطهارة ؛ لأنها كالصلاة ، ولا يلزم بقية الشرائط لعدم اعتبار النية لها ، ولهذا صنف أبو الخطاب : العبادات الخمس ، وقال الفقهاء : ربع العبادات ، وحمل الكلام على الصحة أولى ومتعين).
وقال الحجاوي في الإقناع : ( وإن جحد وجوب العبادات الخمس أو شيئا منها ، ومنها الطهارة ، ...). وانظر كشاف القناع 6/219
وفي منتهى الإرادات : ( أو جحد ربوبيته ... أو وجوب عبادة من الخمس ، ومنها الطهارة ، أو حكما ظاهرا مجمعا عليه ...) . منتهى الإرادات مع حاشية المنتهى لعثمان النجدي 5/168
وكذا في غاية المنتهى 3/ 354 . وهذا هو الصواب الذي يتعين الأخذ به ، خلافا لمن قال : " ومنها الطهارة " أي مثلها.
واصطلح الحنفية على أن العبادات الخمس : المباني الأربعة والجهاد.
الثالث : أن ابن أبي العز قال هذا مدللا على أن الخلاف الواقع بين أبي حنيفة والجمهور خلاف صوري .
فقد يخيل لمن يقف على كلام الحنفية في إخراج العمل من مسمى الإيمان ، وقولهم بتساوي أهل الإيمان في أصله ، أنهم يقولون : لا يضر مع الإيمان ذنب ، وأن أهل المعاصي ليسوا معرضين للوعيد.
وقد بين رحمه الله أن الخلاف يكون صوريا إذا قرر أن أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب ، وهذا ما قرره شيخ الإسلام في مواضع يأتي ذكر بعضها ، فلا يكون الخلاف صوريا مع من يقول ببقاء إيمان القلب عند انتفاء عمل الجوارح ، فانتبه لهذا الموضع .
قال ابن أبي العز " والاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة خلاف صوري . فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب ، أو جزءا من الإيمان ، مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان ، بل هو في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه : نزاع لفظي لا يترتب عليه فساد اعتقاد . والقائلون بكفر تارك الصلاة ضموا إلى هذا الأصل أدلة أخرى ، وإلا فقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر والمنتهب ، ولم يوجب ذلك زوال اسم الإيمان عنهم بالكلية اتفاقا . ولا خلاف بين أهل السنة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل ، وأعني بالقول : التصديق بالقلب والإقرار باللسان ، وهذا الذي يعنى به عند إطلاق قولهم : الإيمان قول وعمل .
لكن هذا المطلوب من العباد هل يشمله اسم الإيمان ؟
أم الإيمان أحدهما ، وهو القول وحده ، والعمل مغاير له لا يشمله اسم الإيمان عند إفراده بالذكر ، وإن أطلق عليهما كان مجازا ؟ هذا محل النزاع .
وقد أجمعوا على أنه لو صدق ... " الخ كلامه وقد سبق.
وفي هذا الكلام رد على المرجة والخوارج . فالمرجئة - ممن نزاعه مع أهل السنة حقيقي - لا يرون عمل الجوارح جزءا ولا لازما لإيمان القلب ، وإنما يرونه ثمرة كما مضى معنا في أول البحث ، واللازم يلزم من انتفاه انتفاء الملزوم ، بخلاف الثمرة .
وانتفاء الإيمان عند انتفاء جميع أعمال الجوارح لا إشكال فيه وهو إجماع أهل السنة وهو مقتضى التلازم المذكور ، لكن قد يفهم من كون الأعمال جزءا أو لازما التكفير بترك آحاد العمل ، فنبه الشارح رحمه الله على حكم مرتكب الكبيرة وأنه تحت المشيئة ، وليس كافرا كما تقول الخوارج . ثم أشار إلى أن تكفير تارك الصلاة - وإن كان تكفيرا بآحاد العمل - إلا أنه مبني على أدلة أخرى ، لا كما يعتقد الخوارج أن الإيمان إذا زال بعضه زال كله .
وتحقيق مسالة الخلاف بين أهل السنة ، والحنفية القائلين بأن العمل لازم لإيمان القلب ، هل هو حقيقي أو صوري ، ليس هذا موضعه .
الرابع : أن للشارح رحمه الله كلاما حسنا في تقرير مسألتنا ، قال رحمه الله ص 341 ( ط. المكتب الإسلامي ) :
(ولا شك أنه
يلزم من عدم طاعة الجوارح عدم طاعة القلب ؛ إذ لو أطاع القلب وانقاد لأطاعت الجوارح وانقادت ، ويلزم من عدم طاعة القلب وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة. قال صلى الله عليه وسلم : " إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب" فمن صلح قلبه صلح جسده قطعا بخلاف العكس".
وقال ص 339
(ولأن التصديق
التام القائم بالقلب مستلزم لما وجب من أعمال القلب والجوارح فإن هذه من لوازم الإيمان التام وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم.
ونقول إن هذه لوازم تدخل في مسمى اللفظ تارة وتخرج عنه أخرى، أو إن اللفظ باق على معناه في اللغة ولكن الشارع زاد فيه أحكاما، أو أن يكون الشارع استعمله في معناه المجازي فهو حقيقة شرعية مجاز لغوي ، أو أن يكون قد نقله الشارع . وهذه الأقوال لمن سلك الطريق).
وهذا الموضع يؤكد ما قلته سابقا من أن " الإيمان التام " يستعمل بمعنى " الإيمان الصحيح " ؛ إذ لا يصح تفسير " التام " هنا بالكامل ؛ لأنه يلزم من ذلك بقاء التصديق وصحته مع انتفاء عمل القلب والجوارح . فانتبه !

تنبيه : ما ذكره ابن أبي العز رحمه الله من كون الخلاف بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة صوريا ، هو ما قرره شيخ الإسلام رحمه الله في مواضع ، واتفق كلامهما في تصوير هذا الخلاف الصوري اللفظي ، وأنه مع من يقر بأن أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب ، وأن انتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم ، لا مع كل مرجئ يخرج العمل عن الإيمان ويراه ثمرة ، يبقى إيمان القلب بدونها.
وإليك طرفا من كلام شيخ الإسلام رحمه الله :
1- قال رحمه الله ( 7/202 ) :
( وللجهمية هنا سؤال ذكره أبو الحسن في كتاب " الموجز " ؛ وهو أن القرآن نفى الإيمان عن غير هؤلاء كقوله : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } ولم يقل : إن هذه الأعمال من الإيمان . قالوا : فنحن نقول : من لم يعمل هذه الأعمال لم يكن مؤمنا لأن انتفاءها دليل على انتفاء العلم من قلبه . والجواب عن هذا من وجوه :
أحدها :
أنكم سلمتم أن
هذه الأعمال لازمة لإيمان القلب فإذا انتفت لم يبق في القلب إيمان وهذا هو المطلوب ; وبعد هذا فكونها لازمة أو جزءا نزاع لفظي . الثاني : أن نصوصا صرحت بأنها جزء كقوله ...).الخ
2- وقال شيخ الإسلام ( 7/577)
(وقيل لمن قال : دخول الأعمال الظاهرة في اسم الإيمان مجاز نزاعك لفظي : فإنك إذا سلمت أن هذه لوازم الإيمان الواجب الذي في القلب وموجباته كان عدم اللازم موجبا لعدم الملزوم فيلزم من عدم هذا الظاهر عدم الباطن فإذا اعترفت بهذا كان النزاع لفظيا. وإن قلت : ما هو حقيقة قول جهم وأتباعه من أنه يستقر الإيمان التام الواجب في القلب مع إظهار ما هو كفر وترك جميع الواجبات الظاهرة قيل لك : فهذا يناقض قولك إن الظاهر لازم له وموجب له بل قيل : حقيقة قولك إن الظاهر يقارن الباطن تارة ويفارقه أخرى فليس بلازم له ولا موجب ومعلول له ولكنه دليل إذا وجد دل على وجود الباطن وإذا عدم لم يدل عدمه على العدم وهذا حقيقة قولك ).
3- وقــال : ( 7/554)
(و المرجئة أخرجوا العمل الظاهر عن الإيمان ; فمن قصد منهم إخراج أعمال القلوب أيضا وجعلها هي التصديق فهذا ضلال بين .
ومن قصد إخراج العمل الظاهر قيل لهم:
العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه وانتفاء الظاهر دليل انتفاء الباطن.
فبقي النزاع في أن العمل الظاهر هل هو جزء من مسمى الإيمان يدل عليه بالتضمن أو لازم لمسمى الإيمان .)
4- وقال في شرح الأصفهانية ص 181 ( طبعة الرشد) :
(ولما كان إيمان القلب له موجَبات في الظاهر كان الظاهر دليلا على إيمان القلب ثبوتا وانتفاء كقوله تعالى "لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله" ، وقوله جل وعز " ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء" وأمثال ذلك. وبعد هذا فنزاع المنازع في أن الإيمان في اللغة هل هو اسم لمجرد التصديق دون مقتضاه أو اسم للأمرين يؤول إلى نزاع لفظي ، وقد يقال إن الدلالة تختلف بالإفراد والاقتران. والناس منهم من يقول إن أصل الإيمان في اللغة التصديق ، ثم يقول : والتصديق يكون باللسان ويكون بالجوارح ، والقول يسمى تصديقا ، والعمل يسمى تصديقا، كقول النبي صلى الله عليه وسلم " العينان تزنيان وزناهما النظر والأذن تزني وزناها السمع واليد تزني وزناها البطش والرجل تزني وزناها المشي والقلب يتمنى ويشتهي والفرج يصد ذلك أو يكذبه"
وقال الحسن البصري: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن بما وقر في القلب وصدقه العمل .
ومنهم من يقول بل الإيمان هو الإقرار وليس هو مرادفا للتصديق ... والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع
وإنما المقصود أن فقهاء المرجئة خلافهم مع الجماعة خلاف يسير وبعضه لفظي ولم يعرف بين الأئمة المشهورين بالفتيا خلاف إلا في هذا فإن ذلك قول طائفة من فقهاء الكوفيين كحماد بن أبي سليمان وصاحبه أبي حنيفة وأصحاب أبي حنيفة)
5- وقال في مجموع الفتاوى (7/621) :
(وقد تبين أن الدين لابد فيه من قول وعمل وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمنا بالله ورسوله بقلبه أو بقلبه ولسانه ولم يؤد واجبا ظاهرا ولا صلاة ولا زكاة ولا صياما ولا غير ذلك من الواجبات لا لأجل أن الله أوجبها مثل أن يؤدي الأمانة أو يصدق الحديث أو يعدل في قسمه وحكمه من غير إيمان بالله ورسوله لم يخرج بذلك من الكفر فإن المشركين وأهل الكتاب يرون وجوب هذه الأمور فلا يكون الرجل مؤمنا بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجارها محمد. ومن قال بحصول الإيمان الواجب بدون فعل شيء من الواجبات سواء جعل فعل تلك الواجبات لازما له ، أو جزءا منه فهذا نزاع لفظي كان مخطئا خطئا بينا وهذه بدعة الإرجاء التي أعظم السلف والأئمة الكلام في أهلها وقالوا فيها من المقالات الغليظة ما هو معروف والصلاة هي أعظمها وأعمها وأولها وأجلها ).

وقد سبق بيان أن المراد بالإيمان الواجب هنا : الإيمان الصحيح المجزئ ، والسياق يوضح ذلك بجلاء.
وقد عد شيخ الإسلام رحمه الله ما عليه مرجة الفقهاء من بدع الأقوال والأفعال لا من بدع العقائد ، قال في ( 7/394) :
(ولهذا دخل في إرجاء الفقهاء جماعة هم عند الأمة أهل علم ودين.
ولهذا لم يكفر أحد من السلف أحدا من مرجئة الفقهاء ،
بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال لا من بدع العقائد ، فإن كثيرا من النزاع فيها لفظي لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب ، فليس لأحد أن يقول بخلاف قول الله ورسوله لا سيما وقد صار ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم ، وإلى ظهور الفسق، فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ سببا لخطأ عظيم فى العقائد والأعمال، فلهذا عظم القول في ذم الإرجاء حتى قال إبراهيم النخعي: لفتنتهم يعنى المرجئة أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة ...).

وقد أطلت الكلام في هذا التنبيه لأدفع شبهة دخلت على البعض ، حاصلها أن مرجة الفقهاء يرون حصول النجاة بدون عمل الجوارح ، وقد صرح شيخ الإسلام بأن النزاع معهم لفظي .
وقد ظهر - ولله الحمد - أن شيخ الإسلام لا يجعل النزاع لفظيا مع كل مرجئ يخرج العمل عن مسمى الإيمان ، وإنما هذا لمن أقر بأن عمل الجوارح لازم لإيمان القلب ، بحيث إذا انتفى اللازم دل على انتفاء الملزوم ، وقد سار شارح الطحاوية على نفس المنهاج .

والله أعلم.

كتبه ... الموحد