بسم الله الرحمن الرحيم

سابعا : توضيح ما اعتمدوا عليه من كلام ابن حزم رحمه الله


وقبل عرض كلامه ، لا بد أن يقف القارئ على بيان مختصر لحال ابن حزم في أمور الاعتقاد ، وذلك لندرة من تكلم في هذه المسألة مع أهميتها ، فإن من يعلم شدة تمسك ابن حزم بالآثار ، ورده على الأشعرية والجهمية والمرجئة والمعتزلة ، قد يقع في نفسه أن ابن حزم سلفي العقيدة ، لن يخرج عن ظاهر النص !
وإن سمع أن له مخالفات في هذا الباب ، فقد يظنها مخالفات جزئية ، لا توجب اتخاذ موقف منه كالموقف من الأشاعرة أو المعتزلة ، ولا تضعف الاعتماد عليه والاستشهاد بأقواله.
ولاشك أن ابن حزم له حسناته الكثيرة ، ومواقفه الحميدة في التمسك بالسنة ، والدفاع عنها في باب الفروع ، وليته كان كذلك في الأصول.
وسأضع بين يدك خلاصة ما توصل إليه الدكتور أحمد بن ناصر الحمد في رسالته " ابن حزم وموقفه من الإلهيات عرض ونقد . إصدار جامعة أم القرى ، ط.1406 هـ
قال حفظه الله في خاتمة بحثه ص 473
( هذا ما يتعلق بشخصية ابن حزم ، وأما صلب الموضوع :
1- فعن وجود الله تعالى نقول :
استدل ابن حزم على وجود الله تعالى بطريقين : الأول : إثبات حدوث العالم ، ثم دلالة ذلك على المحدث له .
الثاني : الاستدلال بما في العالم من الآثار على وجود صانع له.
وهو استدلال سليم موصل إلى النتيجة المطلوبة.
2- وأما استدلاله على إثبات الوحدانية ، فهو استدلال على أنه خالق للعالم سبحانه وأنه ربه ومليكه وبيده ملكوت كل شيئ .
ولا يدل هذا على وحدانيته وتفرده بالألوهية دون سواه . وليس هذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل فيستدل على هذا بدلالة التمانع وغيرها.
وقد دل القرآن على ذلك بأدلة تتجه إلى العقل والحس معا عن طريق النظام والعناية والتدبير الموجود في الكون حيث يستحيل وجود ذلك عن أكثر من إله.
3- ويخالف ابن حزم الصواب حين يرى أن من توحيد الله تعالى ونفي التشبيه عنه : نفي الجسمية والعرضية والزمانية والمكانية والحركة.
والصواب عدم النفي المطلق في مثل هذه الألفاظ المجملة فيجب الاستفصال عن المقصود بالنفي والإثبات ، فإن كان المقصود صحيحا قبل وإلا رد.
4- ويوافق ابن حزم المعتزلة في إثبات الأسماء التي سمى الله بها نفسه ، مجردة ، فلا يشتق له منها صفات.
والصحيح خلاف ذلك ، فيثبت له الأسماء ويشتق له منها صفات لأنها ليست أعلاما محضة.
5- ويرجع أبومحمد ابن حزم كثيرا من الصفات إلى الذات بعد أن يثبت ألفاظها الواردة كالوجه ، واليد ، واليدين ، والعين ، والأعين ، والعز ، والعزة ، والكبرياء ، والحي والعلم والقدرة ، والسميع والبصير.
والصحيح إثبات أن لله وجها ويدين وعينين وعزا وعزة وكبرياء وحياة وعلما وقدرة وسمعا وبصرا . فهو حي بحياة ، وعالم بعلم ، وقادر بقدرة ، وسميع وبصير بسمع وبصر ، صفات له حقيقة على ما يليق بجلاله ، وكل صفة منها تدل على معنى يخالف ما تدل عليه الأخرى ، وتعلقات تخالف تعلقاتها.
6- ويخالف ابن حزم منهجه الأخذ بظواهر النصوص ، ويذهب إلى التأويل ، فيؤول الصورة ، والأصابع ، والساق ، والاستواء ، والنزول ، بما يخالف ظاهرها المراد .
والصحيح إثبات تلك الصفات لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته.
7- ويوافق ابن حزم مذهب أهل السنة والجماعة في إثبات الماهية لله تعالى والنفس والذات ، ونفي أن يكون الجنب صفة لله تعالى على الصحيح ، ويوافقهم في إثبات رؤية الله تعالى رؤية حقيقية في أحد قوليه ، ليست معرفة ؛ لما ورد بالنص الصريح الموجب للقبول ، ولا تحصل تلك الرؤية إلا في الآخرة.
8- ويوافقهم في إثبات كلام الله تعالى ، فيرى أن القرآن كلام الله تعالى على الحقيقة ، ولكن يضطرب قوله بأن الله تعالى متكلم .
والصواب أنه تعالى متكلم حقيقة.
9- ومما وافق فيه ابن حزم أهل السنة غالب مباحث أفعال الله تعالى ، فيثبت قضاء الله تعالى وقدره ، وخلقه تعالى لأفعال عباده وهدايته لهم وإضلالهم ، وعدم إيجاب شيئ عليه تعالى إلا ما أوجب على نفسه ، فلا يوجب عليه اللطف والأصلح ولا إرسال الرسل ولا غير ذلك ، ولا ينسب إلى الله ظلما ولا جورا ، ولا يشبه الله تعالى بخلقه فيحسن منه ما حسن منهم ويقبح منه ما قبح منهم.
وقال إن الحسن والقبح ليسا عقليين . وهذا القول يناقض قول المعتزلة ، وليس الصواب واحدا منهما ، بل الصحيح أن الأفعال في نفسها حسنة وقبيحة ، ولكن ترتب الثواب والعقاب عليها لا يكون إلا بأمر ونهي الشارع.
10- وفي تعليل أفعال الله تعالى يوافق ابن حزم الأشعري وأصحابه وطوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد بالقول بعدم تعليل أفعال الله تعالى .
والذي رأيناه راجحا أنه تعالى يفعل ما يفعل لحكمة يعلمها ، وقد يعلم العباد أو بعضهم الحكمة ، وقد لا يعلمونها ، ولا يدل عدم العلم بها على نفي وجودها.
هذا وأسأل الله المولى الكريم رب العرش العظيم أن يجعل خير أعمالنا خواتمها ...).
انتهى من : ابن حزم وموقفه من الإلهيات ص 473- 475 .. وقد وضعت أرقام الفقرات للتوضيح.
وبهذا يتضح أن ابن حزم مخالف للسلف في جملة كبيرة من مسائل الاعتقاد ، وهو بذلك لا يقل خطأ عن الأشاعرة والمعتزلة ، بل يقول الخبير بمذهب المعتزلة والأشاعرة أعني شيخ الإسلام أبالعباس ابن تيمية رحمه الله في شرح الأصفهانية :
ص 106 - 110
(وبهذا يتبين أن الحي القابل للسمع والبصر والكلام إما أن يتصف بذلك وإما أن يتصف بضده وهو الصمم والبكم والخرس ومن قدر خلوه عنهما فهو مشابه للقرامطة الذين قالوا لا يوصف بأنه حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز ...
وقد قاربهم في ذلك من قال من متكلمة الظاهرية كابن حزم أن أسماءه الحسنى كالحي والعليم والقدير بمنزلة أسماء الأعلام التي لا تدل على حياة ولا علم ولا قدرة وقال لا فرق بين الحي وبين العليم وبين القدير في المعنى أصلا .
ومعلوم أن مثل هذه المقالات سفسطة في العقليات ، وقرمطة في السمعيات ، فإنإ نعلم بالاضطرار الفرق بين الحي والقدير والعليم والملك والقدوس والغفور ، وإن العبد إذا قال رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور، كان قد أحسن في مناجاة ربه ، وإذا قال اغفر لي وتب علي إنك أنت الجبار المتكبر الشديد العقاب لم يكن محسنا في مناجاته ...
ومعلوم أن الأسماء إذا كانت أعلاما وجامدات لا تدل على معنى لم يكن فرق فيها بين اسم واسم ، فلا يلحد أحد في اسم دون اسم ولا ينكر عاقل اسما دون اسم ، بل قد يمتنع عن تسميته مطلقا ولم يكن المشركون يمتنعون عن تسمية الله بكثير من أسمائه ، وإنما امتنعوا عن بعضها ، وأيضا فالله له الأسماء الحسنى دون السوأى ، وإنما يتميز الاسم الحسن عن الاسم السيء بمعناه ، فلو كانت كلها بمنزلة الأعلام الجامدات التي لا تدل على معنى لا تنقسم إلى حسنى وسوأى ، بل هذا القائل لو سمى معبوده بالميت والعاجز والجاهل بدل الحي والعالم والقادر لجاز ذلك عنده ،
فهذا ونحوه قرمطة ظاهرة من هؤلاء الظاهرية الذين يدعون الوقوف مع الظاهر وقد قالوا بنحو مقالة القرامطة الباطنية في باب توحيد الله وأسمائه وصفاته مع إدعائهم الحديث ومذهب السلف وإنكارهم على الأشعري وأصحابه أعظم إنكار .
ومعلوم أن الأشعري وأصحابه أقرب إلى السلف والأئمة ومذهب أهل الحديث في هذا الباب من هؤلاء بكثير .
وأيضا فهم يدعون أنهم يوافقون أحمد بن حنبل ونحوه من الأئمة في مسائل القرآن والصفات وينكرون على الأشعري وأصحابه ، والأشعري وأصحابه أقرب إلى أحمد بن حنبل ونحوه من الأئمة في مسائل القرآن والصفات منهم تحقيقا وانتسابا.
أما تحقيقا فمن عرف مذهب الأشعري وأصحابه ومذهب ابن حزم وأمثاله من الظاهرية في باب الصفات تبين له ذلك وعلم هو وكل من فهم المقالتين أن هؤلاء الظاهرية الباطنية أقرب إلى المعتزلة بل إلى الفلاسفة من الأشعرية ، وأن الأشعرية أقرب إلى السلف والأئمة وأهل الحديث منهم .
وأيضا فإن إمامهم داود وأكابر أصحابه كانوا من المثبتين للصفات على مذهب أهل السنة والحديث ولكن من أصحابه طائفة سلكت مسلكت المعتزلة .
وهؤلاء وافقوا المعتزلة في مسائل الصفات وإن خالفوهم في القدر والوعيد.
وأما الانتساب : فانتساب الأشعري وأصحابه إلى الإمام أحمد خصوصا وسائر أئمة أهل الحديث عموما ظاهر مشهور في كتبهم كلها ...
وهذه الجمل نافعة ،
فإن كثيرا من الناس ينتسب إلى السنة أو الحديث أو اتباع مذهب السلف أو الأئمة أو مذهب الإمام أحمد أو غيره من الأئمة أو قول الأشعري أو غيره ويكون في أقواله ما ليس بموافق لقول من انتسب إليهم ، فمعرفة ذلك نافعة جدا كما تقدم في الظاهرية الذين ينتسبون إلى الحديث والسنة حتى أنكروا القياس الشرعي المأثور عن السلف والأئمة ، ودخلوا في الكلام الذي ذمه السلف والأئمة ، حتى نفوا حقيقة أسماء الله وصفاته، وصاروا مشابهين للقرامطة الباطنية ، بحيث تكون مقالة المعتزلة في أسماء الله أحسن من مقالتهم فهم مع دعوى الظاهر يقرمطون في توحيد الله وأسمائه.) انتهى من شرح العقيدة الأصفهانية.
وأقول : صدق شيخ الإسلام ، فمعرفة ذلك نافعة جدا . وليس الأمر بالدعاوى والشعارات !
وقال شيخ الإسلام في درء التعارض 5/249،250
(وكذلك أبو محمد بن حزم مع معرفته بالحديث وانتصاره لطريقة داود وأمثاله من نفاة القياس أصحاب الظاهر
قد بالغ في نفي الصفات وردها إلى العلم مع أنه لا يثبت علما هو صفة ويزعم أن أسماء الله كالعليم والقدير ونحوهما لا تدل على العلم والقدرة ، وينتسب إلى الإمام أحمد وأمثاله من أئمة السنة ، ويدعي أن قوله هو قول أهل السنة والحديث ، ويذم الأشعري وأصحابه ذما عظيما ، ويدعي أنهم خرجوا عن ، مذهب السنة والحديث في الصفات ، ومن المعلوم الذي لا يمكن مدافعته أن مذهب الأشعري وأصحابه في مسائل الصفات أقرب إلى مذهب أهل السنة والحديث من مذهب ابن حزم وأمثاله في ذلك.)

وقال في درء التعارض 7/32-34
(فإن قيل : قلتَ إن أكثر أئمة النفاة من
الجهمية والمعتزلة كانوا قليلي المعرفة بما جاء عن الرسول وأقوال السلف في تفسير القرآن وأصول الدين وما بلغوه عن الرسول ، ففي النفاة كثير ممن له معرفة بذلك.
قيل : هؤلاء أنواع:
نوع ليس لهم خبرة بالعقليات ...
والثاني : من يسلك في العقليات مسلك الاجتهاد ، ويغلط فيها كما غلط غيره ،
فيشارك الجهمية في بعض أصولهم الفاسدة مع أنه لا يكون له من الخبرة بكلام السلف والأئمة في هذا الباب ما كان لأئمة السنة ، وإن كان يعرف متون الصحيحين وغيرهما، وهذه حال أبي محمد بن حزم وأبي الوليد الباجي والقاضي أبي بكر بن العربي وأمثالهم ، ومن هذا النوع بشر المريسي ومحمد بن شجاع الثلجي وأمثالهما).
ولهذا قال الحافظ ابن عبد الهادي عن ابن حزم ، بعد أن وصفه بقوة الذكاء وكثرة الاطلاع :
( ولكن تبين لي منه أنه جهمي جلد لا يثبت معاني أسماء الله الحسنى إلا القليل ، كالخالق والحق ، وسائر الأسماء عنده لا يدل على معنى أصلا ؛ كالرحيم والعليم والقدير ونحوها ، بل العلم عنده هو القدرة ، والقدرة هي العلم ، وهما عين الذات ، ولا يدل العلم على شيئ زائد على الذات المجردة أصلا ، وهذا عين السفسطة والمكابرة ، وقد كان ابن حزم قد اشتغل في المنطق والفلسفة ، وأمعن في ذلك ، فتقرر في ذهنه لهذا السبب معاني باطلة ).
" مختصر طبقات علماء الحديث ص 401 " نقلا عن سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/187 عند الحديث رقم 91
وقال الذهبي في السير 18/186
(وكان قد مهر أولا في الأدب والأخبار والشعر وفي المنطق وأجزاء الفلسفة فأثرت فيه تأثيرا ليته سلم من ذلك ولقد وقفت له على تأليف يحض فيه على الاعتناء بالمنطق ويقدمه على العلوم فتألمت له فإنه رأس في علوم الإسلام متبحر في النقل عديم النظير على يبس فيه وفرط ظاهرية في الفروع لا الأصول).
ونقل الذهبي عن الإمام أبي القاسم صاعد بن أحمد قوله عن ابن حزم (وعني بعلم المنطق وبرع فيه ثم أعرض عنه )
وعلق الذهبي بقوله: ( قلت ما أعرض عنه حتى زرع في باطنه أمورا وانحرافا عن السنة).
فهذا حال ابن حزم رحمه الله وغفر له ، وأسأل الله أن يحينا على السنة ، وأن يميتنا عليها.

ما اعتمدوا عليه من كلام ابن حزم :
1- قال الإمام ابن حزم في ((المحلى)) (1 / 62، طبعة دار الكتب العلمية):
( و من ضيع الأعمال كلها فهو مؤمن عاص ناقص الإيمان لا يكفر).
2- وقال في الفصل 4 / 90، طبعة عكاظ:
( و قد بين عليه السلام ذلك بأنه يخرج من النار من في قلبه مثقال حبة شعير من خير ثم من في قلبه مثقال برة من خير، ثم من في قلبه مثقال حبة من خردل، ثم من في قلبه مثقال ذرة إلى أدنى أدنى أدنى من ذلك، ثم
من لا يعمل خيراً قط إلا شهادة الإسلام، فوجب الوقوف عند النصوص كلها المفسرة للنص المجمل)
3- وقال في كتاب الدّرّة بعد أن ناقش المرجئة في عدم اشتراط النّطق في الإيمان : ( وإنّما لم يكفر من ترك العمل وكفر من ترك القول ، لأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم حكم بالكفر على من أبى من القول ، وإن كان عالماً بصحّة الإيمان بقلبه ، وحكم بالخروج من النّار لمن علم بقلبه وقال بلسانه وإن لم يعمل خيراً قط ) الدّرّة ص337ـ338 الطّبعة الأولى ، تحقيق أحمد بن ناصر الحمد ورفيقه .
4- وقال في الفصل ج 3 ص 255 :
اعتراضات للمرجئية الطبقات الثلاث المذكورة
قال أبو محمد : إن قال قائل أليس الكفر ضد الإيمان
قلنا وبالله تعالى التوفيق :
إطلاق هذا القول خطأ لأن الإيمان اسم مشترك يقع على معان شتى كما ذكرنا ، فمن تلك المعاني
شيء يكون الكفر ضدا له ومنها ما يكون الفسق ضدا له لا الكفر ومنها ما يكون الترك ضدا له لا الكفر ولا الفسق.
فأما الإيمان الذي يكون الكفر ضدا له فهو العقد بالقلب والإقرار باللسان فإن الكفر ضد لهذا الإيمان
وأما الإيمان الذي يكون الفسق ضدا له لا الكفر فهو ما كان من
الأعمال فرضا فإن تركه ضد للعمل وهو فسق لا كفر
وأما الإيمان الذي يكون الترك له ضدا فهو كل ما كان من الأعمال
تطوعا فإن تركه ضد العمل به وليس فسقا ولا كفرا ).
هذه أربعة مواضع تناول فيها ابن حزم مسألة تارك أعمال الجوارح ، استدل الزهراني ( أبو عمر الكناني ) في حواره مع الأخ العبد الكريم بالموضع الأول والثالث منها.
واستدل العنبري - في أصل كتابه - بالموضعين الأول والأخير .( الحاكمية وأصول التكفير 1/133،134 ، 187).
ونقل الأخ أبوجويرية المواضع الثلاثة الأول ، وذلك تحت مقالي : تحرير المقال.
واحتج أبو الهيثم بالموضع الرابع ، كما احتج بكلام البيهقي وابن أبي العز الحنفي وقد مضى التعليق عليهما.
واحتج الأخ أبو الحسن السليماني المأربي بكلام ابن حزم دون أن ينقل عبارته ، وقال : (ولعلك تقول إنه جهمي . مدحه ابن تيمية في باب الإيمان ) نقلا عن شريط المناظرة بينه وبين الأخ أمين جعفر.
وقال في "شريط الفرقان في مسألة الإيمان " : "وابن حزم وإن كان في باب الصفات عنده تجهم فهو في باب الإيمان ينصر قول أهل السنة ، وقد مدحه شيخ الإسلام ابن تيمية في باب الإيمان"
والجواب :
أني قدمت في أول هذا المبحث أن الأقوال المخالفة لإجماع السلف لا تخرج عن واحد من أربعة أمور :
الثالث منها : أن يكون قولا نتفق نحن والمخالف على خطئه ، فلا يجوز له الاحتجاج به .
وهذا ينطبق على ما احتجوا به من كلام ابن حزم رحمه الله .
فالمخالف يرى أن زوال عمل القلب موجب لزوال الإيمان ، وأنه لا نجاة لمن لم يأت به القلب ، كما أنه لا نجاة لمن لم يأت بالتصديق .
وابن حزم رحمه الله يرى أن من أتى بالإقرار والتصديق ، وضيع الأعمال كلها أنه مسلم ناج ( تحت المشيئة ).
وبيان ذلك من وجوه :
الأول : أنه قال في المحلى : ( و من ضيع الأعمال كلها فهو مؤمن عاص ناقص الإيمان لا يكفر). وهذا عام في من ضيع عمل الجوارح وعمل القلب ، كما تدل عليه صيغة العموم ( الأعمال ). ومما يؤكد هذا استدلاله على هذه الجملة بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " حتى إذا فرغ الله من قضائه بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد الله عز وجل أن يرحمه ، ممن يقول لا إله إلا الله ". ( المحلى 1/62).
وأكد ذلك في الفصل بقوله : (ثم من في قلبه مثقال ذرة إلى أدنى أدنى أدنى من ذلك، ثم
من لا يعمل خيراً قط إلا شهادة الإسلام).
الثاني : أنه أكد ذلك أيضا في كتابه الدرة ، حين قال :( وإنّما لم يكفر من ترك العمل وكفر من ترك القول ) . ثم قوله : ( وحكم بالخروج من النّار لمن علم بقلبه وقال بلسانه وإن لم يعمل خيراً قط ).
وهذا صريح في القول بنجاة من أتى بالعلم ( المعرفة أو التصديق ) وقول اللسان ، وإن لم يعمل خيرا قط ، من أعمال القلوب أو الجوارح
الثالث : أنه جعل الكفر في مقابل : الإقرار والاعتقاد الذي هو المعرفة كما سيأتي ، وجعل الفسق في مقابل ترك الأعمال المفروضة ، وهي شاملة لأعمال القلب وأعمال الجوارح: ( فأما الإيمان الذي يكون الكفر ضدا له فهو العقد بالقلب والإقرار باللسان فإن الكفر ضد لهذا الإيمان.
وأما الإيمان الذي يكون الفسق ضدا له لا الكفر فهو ما كان من
الأعمال فرضا فإن تركه ضد للعمل وهو فسق لا كفر ).

والمخالف يقول : إن ترك عمل القلب كفر . فوجب رد هذا الكلام ، وعدم التعويل عليه.
والدليل على أن ابن حزم يريد ب " الاعتقاد " التصديق والمعرفة :
قوله في الفصل 3/227 عند حكاية مذهب أهل السنة :
(وذهب سائر الفقهاء وأصحاب الحديث والمعتزلة والشيعة وجميع الخوارج إلى أن الإيمان هو
المعرفة بالقلب بالدين والإقرار به باللسان والعمل بالجوارح).
ثم أعاد حكاية مذهبهم فعبر عن المعرفة بالعقد وبالتصديق :
قال في (3/ 230)
(قال أبو محمد : فإذا سقط كل ما موهت به هذه الطوائف كلها ولم يبق لهم حجة أصلا فلنقل بعون الله عز وجل وتأييده في بسط حجة القول الصحيح الذي هو قول جمهور أهل الإسلام ومذهب الجماعة وأهل السنة وأصحاب الآثار من أن الإيمان
عقد وقول وعمل وفي بسط ما أجملناه مما نقدنا به قول المرجئة وبالله تعالى التوفيق .
قال أبو محمد : أصل الإيمان كما قلنا في اللغة التصديق بالقلب وباللسان معا بأي شيء صدق المصدق لا شيء دون شيء ألبتة إلا أن الله عز وجل على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقع لفظة الإيمان على
العقد بالقلب لأشياء محدودة مخصوصة معروفة لا على العقد لكل شيء ، وأوقعها أيضا تعالى على الإقرار باللسان بتلك الأشياء خاصة لا بما سواها، وأوقعها أيضا على أعمال الجوارح لكل ما هو طاعة له تعالى فقط.
فلا يحل لأحد خلاف الله تعالى فيما أنزله وحكم به و هو تعالى خالق اللغة وأهلها فهو أملك بتصريفها وإيقاع أسمائها على ما يشاء)
وانظر كلامه الآتي في عدم قبول التصديق للزيادة والنقص ، فقد عبر عن التصديق بالاعتقاد ، وقال ( ولا عدد للاعتقاد ولا كمية ، وإنما الكمية والعدد في الأعمال والأقوال فقط) وذلك بعد قوله : ( والتصديق بالشيء أي شيئ كان لا يمكن ألبتة أن يقع فيه زيادة ولا نقص ... الخ) الفصل 3/232 ، 233

أما قول الأخ أبي الحسن : مدحه ابن تيمية في باب الإيمان
فجوابه أن مدح شيخ الإسلام لابن حزم في مسائل الإيمان والإرجاء لا يعني أن جميع ما قاله ابن حزم في ذلك صواب ، وإنما المقصود أنه أقوم من غيره ، كما صرح شيخ الإسلام.
قال رحمه الله في مجموع الفتاوى 4/18،19
(وكذلك أبو محمد بن حزم فيما صنفه من الملل والنحل إنما يستحمد بموافقة السنة والحديث
مثل ما ذكره في مسائل القدر والإرجاء ونحو ذلك بخلاف ما انفرد به من قوله في التفضيل بين الصحابة .
وكذلك ما ذكره في
باب الصفات فإنه يستحمد فيه بموافقة أهل السنة والحديث لكونه يثبت الأحاديث الصحيحة ويعظم السلف وأئمة الحديث ويقول إنه موافق للإمام أحمد في مسألة القرآن وغيرها ، ولا ريب أنه موافق له ولهم في بعض ذلك لكن الأشعري ونحوه أعظم موافقة للإمام أحمد بن حنبل ومن قبله من الأئمة في القرآن والصفات وإن كان أبو محمد بن حزم في مسائل الإيمان والقدر أقوم من غيره وأعلم بالحديث وأكثر تعظيما له ولأهله من غيره لكن قد خالط من أقوال الفلاسفة والمعتزلة في مسائل الصفات ما صرفه عن موافقة أهل الحديث في معاني مذهبهم في ذلك فوافق هؤلاء في اللفظ وهؤلاء في المعنى،
وبمثل هذا صار يذمه من يذمه من الفقهاء والمتكلمين وعلماء الحديث باتباعه
لظاهر لا باطن له ، كما نفى المعاني في الأمر والنهي والاشتقاق وكما نفى خرق العادات ونحوه من عبادات القلوب مضموما إلى ما في كلامه من الوقيعة في الأكابر والإسراف في نفي المعاني ودعوى متابعة الظواهر، وإن كان له من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة ما لا يدفعه إلا مكابر ...).
فهو في مسائل الإيمان والقدر أقوم من غيره.
ويستحمد بموافقة السنة والحديث في مثل ما ذكره في مسائل القدر والإرجاء
و باب الصفات ، فهو في جميع هذه الأبواب يثبت الأحاديث الصحيحة ، ويعظم السلف وأئمة الحديث ، ويقول إنه موافق للإمام أحمد .
مع أنه في باب الصفات أقل حالا من الأشعري ، بل قوله موافق لقول الفلاسفة والمعتزلة في الحقيقة والمعنى.
وقد أجاد ابن حزم في الرد على الخوارج والمعتزلة والرد على المرجئة والجهمية والأشعرية ، لا سيما في إثبات أن الكفر يكون بالقول وبالفعل ، وإبطال حصره في الجحود والاعتقاد ، لكنه لم يسلم من موافقة المرجئة حين رأى إسلام من ترك عمل القلب !
وهذا ليس غريبا على من يضلل الأشعرية وينتصر لأحمد ، ثم يكونون أقرب إلى أحمد وأهل السنة منه ، ومن يوافق أهل السنة في اللفظ ، ويخالفهم في المعنى .
والحاصل أن ثناء شيخ الإسلام المذكور لا يعني أن جميع ما قاله ابن حزم في باب الإيمان حق وصواب .
وحتى يتضح هذا الأمر رأيت أن أذكر جملة من المسائل التي تبناها ابن حزم في باب الإيمان والرد على المرجئة ، لا يوافقه عليها شيخ الإسلام ، وأكتفي بست مسائل :
1- زعمه أن التصديق لا يزيد ولا ينقص.
2- خطؤه في حكاية مذهب الكرامية في الإيمان.
3- خطؤه في حكاية مذهب الأشعري في الكفر.
4- خطؤه على أبي حنيفة رحمه الله.
5- زعمه أن الإيمان والإسلام شيء واحد.
6- مخالفة شيخ الإسلام له في ما ينسب إلى مقاتل بن سليمان من أنه لا يضر مع الإيمان ذنب.
وهاك البيان :
1- زعم ابن حزم أن التصديق لا يزيد ولا ينقص :
قال في الفصل 3/232 ، 233
(قال أبو محمد
والتصديق بالشيء أي شيء كان لا يمكن البتة أن يقع فيه زيادة ولا نقص وكذلك التصديق بالتوحيد والنبوة لا يمكن ألبتة أن يكون فيه زيادة ولا نقص لأنه لا يخلو كل معتقد بقلبه أو مقر بلسانه بأي شيء أقر أو أي شيء اعتقد من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها إما أن يصدق بما اعتقد وأقر وإما أن يكذب بما اعتقد وأما منزلة بينهما وهي الشك فمن المحال أن يكون إنسان مكذبا بما يصدق به ومن المحال أن يشك أحد فيما يصدق به فلم يبق إلا أنه مصدق بما اعتقد بلا شك ولا يجوز أن يكون تصديق واحد أكثر من تصديق آخر لأن أحد التصديقين إذا دخلته داخلة فبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أنه قد خرج عن التصديق ولا بد وحصل في الشك لأن معنى التصديق إنما هو أن يقع ويوقن بصحة وجود ما صدق به ولا سبيل إلى التفاضل في هذه الصفة فإن لم يقطع ولا أيقن بصحته فقد شك فيه فليس مصدقا به وإذا لم يكن مصدقا به فليس مؤمنا به فصح أن الزيادة التي ذكر الله عز وجل في الإيمان ليست في التصديق أصلا ولا في الإعتقاد ألبتة فهي ضرورة في غير التصديق وليس هاهنا إلا الأعمال فقط فصح يقينا أن أعمال البر إيمان بنص القرآن
وكذلك قول الله عز وجل "فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا" وقوله تعالى "الذين قال لهم الناس أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا" ... والزيادة لا تكون إلا في كمية عدد لا فيما سواه
ولا عدد للاعتقاد ولا كمية وإنما الكمية والعدد في الأعمال والأقوال فقط )

وقال في 3/237
(قال أبو محمد : فإذا قد وضح وجود الزيادة في الإيمان بخلاف قول من قال إنه التصديق فبالضرورة ندري أن الزيادة تقتضي النقص ضرورة ولا بد لأن معنى الزيادة إنما هي عدد مضاف إلى عدد وإذا كان ذلك فذلك العدد المضاف إليه هو بيقين ناقص عند عدم الزيادة فيه وقد جاء النص بذكر النقص وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهور المنقول نقل الكواف أنه قال للنساء "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أسلب للرجل الحازم منكن قلن يا رسول الله وما نقصان ديننا قال عليه السلام أليس تقيم المرأة العدد من الأيام والليالي لا تصوم ولا تصلي فهذا نقصان دينها". قال أبو محمد
ولو نقص من التصديق شيء لبطل عن أن يكون تصديقا لأن التصديق لا يتبعض أصلا ولصار شكا وبالله تعالى التوفيق.
وهم مقرون بأن امرءا لو لم يصدق بآية من القرآن أو بسورة منه وصدق بسائره لبطل إيمانه
فصح أن التصديق لا يتبعض أصلا).
وقال في الفصل (3/262 ، 263) :
(قال أبو محمد:
فإن قال قائل: من أين قلتم أن التصديق لا يتفاضل ونحن نجد خضرة أشد خضرة وشجاعة أشد من شجاعة لا سيما والشجاعة والتصديق كيفيات من صفات النفس معا؟
فالجواب وبالله تعالى التوفيق : أن كل ما قبل من الكيفيات الأشد والأضعف فإنما يقبلها بمزاج يدخله من كيفية أخرى ، ولا يكون ذلك إلا فيما بينه وبين ضده منها وسائط قد تمازج كل واحد من الضدين ، أو فيما جاز امتزاج الضدين فيه ...
إذ لو مازج التصديق غيره لصار كذبا في الوقت ، ولو مازج التصديق شيئا غيره لصار شكا في الوقت وبطل التصديق جملة وبالله تعالى التوفيق.
والإيمان قد قلنا إنه ليس هو التصديق وحده بل أشياء مع التصديق كثيرة فإنما دخل التفاضل في كثرة تلك الأشياء وقلتها وفي كيفية إيرادها وبالله تعالى التوفيق )
فهذه ثلاثة مواضع يقرر فيها ابن حزم أن التصديق لا يزيد ولا ينقص ، وجميعها في كتابه الفصل ، في مسائل الإيمان والرد على المرجئة ، مع قوله في المحلى: إن اليقين لا يتفاضل (1/62).
فهل يقال إن شيخ الإسلام زكى جميع ما قاله ابن حزم في هذا الباب ؟!
2- خطؤه في حكاية مذهب الكرامية في الإيمان.
قال في الفصل 3/227
(وذهب قوم إلى أن الإيمان هو إقرار باللسان بالله تعالى وإن اعتقد الكفر بقلبه فإذا فعل ذلك
فهو مؤمن من أهل الجنة وهذا قول محمد بن كرام السجستاني وأصحابه).
وقال في الفصل 5/73
( قال أبو محمد : غلاة المرجئة طائفتان إحداهما الطائفة القائلة : بان الإيمان قول باللسان وإن اعتقد الكفر بقلبه فهو مؤمن عند الله تعالى ، ولي لله عز وجل
من أهل الجنة ، وهذا قول محمد بن كرام السجستاني وأصحابه وهم بخرسان وبيت المقدس).
وهذا يعني أنهم يقولون بنجاة المنافق ودخوله الجنة ، وهذا خطأ عليهم.
قال شيخ الإسلام في شرح العقيدة الأصفهانية ص 182
(وآخر الأقوال حدوثا في ذلك قول الكرامية إن الإيمان اسم للقول باللسان وإن لم يكن معه اعتقاد القلب ، وهذا القول أفسد الأقوال لكن أصحابه
لا يخالفون في الحكم فإنهم يقولون إن هذا الإيمان باللسان دون القلب هو إيمان المنافقين وأنه لا ينفع في الآخرة).
وقال في مجموع الفتاوى 7/215،216
(فالمؤمن المستحق للجنة لابد أن يكون مؤمنا فى الباطن بإتفاق جميع أهل القبلة، حتى الكرامية الذين يسمون المنافق مؤمنا ، ويقولون الإيمان هو الكلمة يقولون: إنه لا ينفع فى الآخرة إلا الإيمان الباطن.
وقد حكى بعضهم عنهم أنهم يجعلون المنافقين من أهل الجنة ، وهو غلط عليهم، إنما نازعوا فى الإسم لا فى الحكم بسبب شبهة المرجئة فى أن الإيمان لا يتبعض ولا يتفاضل).
وقال في 7/394
(مع أن الكرامية لا تنكر وجوب المعرفة والتصديق ولكن تقول : لا يدخل فى اسم الإيمان حذرا من تبعضه وتعدده ؛ لأنهم رأوا أنه لا يمكن أن يذهب بعضه ويبقى بعضه).
وقال في 7/141
( والكرامية يقولون : المنافق مؤمن
وهو مخلد في النار؛ لأنه آمن ظاهرا لا باطنا وإنما يدخل الجنة من آمن ظاهرا وباطنا . قالوا : والدليل على شمول الإيمان له أنه يدخل في الأحكام الدينية المتعلقة باسم الإيمان كقوله تعالى : " فتحرير رقبة مؤمنة " ... و الكرامية توافق المرجئة والجهمية في أن إيمان الناس كلهم سواء ولا يستثنون في الإيمان ، بل يقولون : هو مؤمن حقا لمن أظهر الإيمان وإذا كان منافقا فهو مخلد في النار عندهم ، فإنه إنما يدخل الجنة من آمن باطنا وظاهرا ، ومن حكى عنهم أنهم يقولون : المنافق يدخل الجنة ، فقد كذب عليهم بل يقولون : المنافق مؤمن لأن الإيمان هو القول الظاهر كما يسميه غيرهم مسلما إذ الإسلام هو الاستسلام الظاهر)
وقال شيخ الإسلام ( 7/475)
(ولا يسمون [يعني المنافقين] بمؤمنين عند أحد من سلف الأمة وأئمتها ولا عند أحد من طوائف المسلمين إلا عند طائفة من المرجئة وهم الكرامية الذين قالوا: إن الإيمان هو مجرد التصديق فى الظاهر ، فإذا فعل ذلك كان مؤمنا وان كان مكذبا في الباطن ،
وسلموا أنه معذب مخلد فى الآخرة فنازعوا في اسمه لا في حكمه ، ومن الناس من يحكي عنهم أنهم جعلوهم من أهل الجنة ، وهو غلط عليهم ، ومع هذا فتسميتهم له مؤمنا بدعة ابتدعوها مخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة ، وهذه البدعة الشنعاء هي التي انفرد بها الكرامية دون سائر مقالاتهم).
وكأن شيخ الإسلام رحمه الله يشير إلى غلط ابن حزم فيما حكاه عن الكرامية.
ثم رأينا ابن حزم يجعل القول بنجاة المنافقين لازما لقول الكرامية ، وهذا تناقض منه رحمه الله ، فإنه جعله أولا من قولهم ، ثم عاد فجعله لازما ، وفرق بيتن القول ، وما يلزم منه.
قال في الفصل 3 /249
(قال أبو محمد
ويلزمهم أن المنافقين مؤمنون لإقراهم بالإيمان بألسنتهم وهذا قول مخرج عن الإسلام وقد قال تعالى " إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا" ...).
والصواب أن الكرامية لا يقولون بذلك ، ولا يلتزمون هذا اللازم.
3- خطؤه في حكاية مذهب الأشعري في الكفر :
قال ابن حزم في الفصل 3/227
( كتاب الإيمان والكفر والطاعات والمعاصي والوعد والوعيد .
قال أبو محمد : اختلف الناس في ماهية الإيمان ، فذهب قوم إلى أن الإيمان إنما هو معرفة الله تعالى بالقلب فقط وإن أظهر اليهودية والنصرانية وسائر أنواع الكفر بلسانه وعبادته فإذا عرف الله تعالى بقلبه فهو مسلم من أهل الجنة وهذا قول أبي محرز الجهم بن صفوان
وأبي الحسن الأشعري البصري وأصحابهما).
وقال في الفصل ( 5/73) :
(والثانية الطائفة القائلة إن الإيمان عقد بالقلب وإن أعلن الكفر بلسانه بلا تقية وعبد الأوثان أو لزم اليهودية أو النصرانية في دار الإسلام وعبد الصليب وأعلن التثليث في دار الإسلام ومات على ذلك فهو
مؤمن كامل الإيمان عند الله عز وجل ولي لله عز وجل من أهل الجنة وهذا قول أبي محرز جهم بن صفوان السمرقندي مولى بني راسب كاتب الحارث بن سريج التميمي أيام قيامه على نصر بن سيار بخراسان وقول أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي اليسر الأشعري البصري وأصحابهما).

قلت : التسوية بين الجهم بن صفوان وأبي الحسن الاشعري هنا خطأ مخالف لما قرره شيخ الإسلام في مواضع.
فالأشعري وإن نصر قول جهم في الإيمان - في أحد قوليه - إلا أنه لا يجعل من أظهر اليهودية والنصرانية وسائر أنواع الكفر بلسانه مؤمنا من أهل الجنة .
بل يقول : إن ما يظهر من ذلك دليل على كفر الباطن .
قال شيخ الإسلام في (7/120) :
(فصل: وأبو الحسن الأشعري نصر قول جهم في " الإيمان " مع أنه نصر المشهور عن أهل السنة من أنه يستثني في الإيمان فيقول : أنا مؤمن إن شاء الله )
إلى أن قال : (7/149) :
(قال أبو الحسن : ثم السمع ورد بضم شرائط أخر إليه وهو أن لا يقترن به ما يدل على كفر من يأتيه فعلا وتركا ، وهو أن الشرع أمره بترك العبادة والسجود للصنم ، فلو أتى به دل على كفره ، وكذلك من قتل نبيا أو استخف به دل على كفره وكذلك لو ترك تعظيم المصحف أو الكعبة دل على كفره ).
وقال شيخ الإسلام : (7/510) :
(وقال أبو عبد الله الصالحي : إن الإيمان مجرد تصديق القلب ومعرفته لكن له لوازم فإذا ذهبت دل ذلك على عدم تصديق القلب وإن كل قول أو عمل ظاهر دل الشرع على أنه كفر كان ذلك لأنه دليل على عدم تصديق القلب ومعرفته، وليس الكفر إلا تلك الخصلة الواحدة، وليس الإيمان إلا مجرد التصديق الذي في القلب والمعرفة ،
وهذا أشهر قولي أبي الحسن الأشعري وعليه أصحابه كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي وأمثالهما ولهذا عدهم أهل المقالات من " المرجئة " والقول الآخر عنه كقول السلف وأهل الحديث : إن الإيمان قول وعمل، وهو اختيار طائفة من أصحابه ومع هذا فهو وجمهور أصحابه على قول أهل الحديث في الاستثناء في الإيمان).

وقال شيخ الإسلام في ( 7/146) :
(والحذاق في هذا المذهب : كأبي الحسن والقاضي ومن قبلهم من أتباع جهم عرفوا أن هذا تناقض يفسد الأصل فقالوا : لا يكون أحد كافرا إلا إذا ذهب ما في قلبه من التصديق والتزموا أن كل من حكم الشرع بكفره : فإنه ليس في قلبه شيء من معرفة الله ولا معرفة رسوله ولهذا أنكر هذا عليهم جماهير العقلاء وقالوا : هذا مكابرة وسفسطة ).

أما جهم بن صفوان فقد التزم أن من قال الكفر أو فعله أنه كافر في الظاهر ،
مؤمن في الباطن ، ولهذا فهو من أهل الجنة .
قال شيخ الإسلام في ( 7/401 ، 402) :
(قال أحمد : ويلزمه أن يقول : هو مؤمن بإقراره وإن أقر بالزكاة في الجملة ولم يجد في كل مائتي درهم خمسة أنه مؤمن فيلزمه أن يقول :
إذا أقر ثم شد الزنار في وسطه وصلى للصليب وأتى الكنائس والبيع وعمل الكبائر كلها إلا أنه في ذلك مقر بالله ، فيلزمه أن يكون عنده مؤمنا ، وهذه الأشياء من أشنع ما يلزمهم .
قلت : هذا الذي ذكره الإمام أحمد من أحسن ما احتج الناس به عليهم جمع في ذلك جملا يقول غيره بعضها ،
وهذا الإلزام لا محيد لهم عنه ، ولهذا لما عرف متكلمهم مثل جهم ومن وافقه أنه لازم التزموه ، وقالوا : لو فعل ما فعل من الأفعال الظاهرة لم يكن بذلك كافرا في الباطن لكن يكون دليلا على الكفر في أحكام الدنيا . فإذا احتج عليهم بنصوص تقتضي أنه يكون كافرا في الآخرة . قالوا : فهذه النصوص تدل على أنه في الباطن ليس معه من معرفة الله شيء فإنها عندهم شيء واحد فخالفوا صريح المعقول وصريح الشرع ).
4- خطؤه على أبي حنيفة رحمه الله:
ذكر ابن حزم أقوال الناس في الإيمان ، فعرض قول الجهمية والكرامية وقول أبي حنيفة ، وقول أهل السنة . ثم ذكر قول محمد بن زياد الحريري الكوفي ، وهو :
( من آمن بالله عز وجل ، وكذب برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فليس مؤمنا على الإطلاق ، ولكنه مؤمن كافر معا ؛ لأنه آمن بالله تعالى ، فهو مؤمن ، وكافر بالرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر). الفصل 3/227

ثم قال ابن حزم في الفصل 3/229
(قال أبو محمد وقول محمد بن زياد الحريري لازم لهذه الطوائف كلها لا ينفكون عنه على مقتضى اللغة وموجبها ، وهو قول لم يختلف مسلمان في أنه كفر مجرد وأنه خلاف للقرآن كما ذكرنا).
قلت : أخطأ ابن حزم رحمه الله ، فإن هذا القول لا يلزم أبا حنيفة قطعا ، وإنما يلزم جهما القائل بأن الإيمان هو معرفة القلب وإن أظهر اليهودية والنصرانية وسائر أنواع الكفر.
5- زعمه أن الإيمان والإسلام شيء واحد .
قال في المحلى ( 1/59)
( مسألة: الإيمان والإسلام شيء واحد ، قال عز وجل " فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين " وقال " يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامك بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين".). وانظر الفصل 3/296
وهذا القول ينتقده شيخ الإسلام ، ويراه قولا متطرفا مخالفا لما دل عليه الكتاب والسنة.
قال شيخ الاسلام 7/414
(ولهذا صار الناس فى الإيمان والإسلام على ثلاثة أقوال :
فالمرجئة يقولون الإسلام أفضل فإنه يدخل فيه الإيمان. وآخرون يقولون: الإيمان والإسلام سواء ، وهم المعتزلة والخوارج وطائفة من أهل الحديث والسنة ، وحكاه محمد بن نصر عن جمهورهم، وليس كذلك.
والقول الثالث:
أن الإيمان أكمل وأفضل ، وهذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة فى غير موضع، وهو المأثورعن الصحابة والتابعين لهم بإحسان. )

وقال ( 7/375)
(و المقصود هنا أن هنا قولين متطرفين: قول من يقول: الإسلام مجرد الكلمة والأعمال الظاهرة ليست داخلة فى مسمى الإسلام ، وقول من يقول : مسمى الإسلام والإيمان واحد،
وكلاهما قول ضعيف مخالف لحديث جبريل وسائر أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم، ولهذا لما نصر محمد بن نصر المروزى القول الثانى لم يكن معه حجة على صحته).
6- مخالفة شيخ الإسلام له في ما ينسب إلى مقاتل بن سليمان من أنه لا يضر مع الإيمان ذنب.
قال ابن حزم في الفصل 5/74
(وقال مقاتل ابن سليمان وكان من كبار المرجئة : لا يضر مع الإيمان سيئة جلت أو قلت أصلا، ولا ينفع مع الشرك حسنة أصلا).

قلت : أما شيخ الإسلام فيرى أن الأشبه أن هذا كذب على مقاتل.
قال في شرح الأصفهانية ص 182
(وكثير من المرجئة والجهمية من يقف في الوعيد فلا يجزم بنفوذ الوعيد في حق أحد من أرباب الكبائر كما قال ذلك من قاله من مرجئة الشيعة والأشعرية كالقاضي أبي بكر وغيره. ويذكرعن غلاتهم أنهم نفوا الوعيد بالكلية ، لكن لا أعلم معينا معروفا أذكر عنه هذا القول، ولكن حكي هذا عن مقاتل بن سليمان
والأشبه أنه كذب عليه).
وقال في مجموع الفتاوى 7/181
(وهذا قد يكون قول الغالية الذين يقولون لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد
لكن ما علمت معينا أحكي عنه هذا القول ، وإنما الناس يحكونه فى الكتب ولا يعينون قائله، وقد يكون قول من لا خلاق له فان كثيرا من الفساق والمنافقين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب أو مع التوحيد ، وبعض كلام الرادين على المرجئة وصفهم بهذا).
فهذه ستة مواضع يخالف فيها شيخ الإسلام ابن تيمية ابن حزم ، وجميعها ذكر في باب الإيمان وفي الرد على المرجئة .
وهذا يؤكد ما قلته من أن ثناء شيخ الإسلام هو على سبيل الإجمال والتغليب ، ولا يعني صحة جميع ما ذكره في هذا الباب . والله أعلم.

كتبه ... الموحد