بسم الله الرحمن الرحيم

عاشرا : توضيح ما اشتبه عليهم من كلام شيخ الإسلام


يستطيع الباحث المطلع أن يقول : إن مسألة ترك عمل الجوارح لم يجلها أحد كما جلاها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، فقد تناولها في مواضع عدة من مؤلفاته ، وبعبارة واضحة ظاهرة ، وقد سبق ذكر جملة صالحة من كلامه رحمه الله.
ومع هذا تجد المخالف معرضا عن صريح كلامه ، متعلقا ببعض العبارات التي يمكن أن يقال : إنها مجملة أو مشتبهة. والواقع أن أكثر هذه العبارات واضح وظاهر ، لمن تدبر وتأمل.
ولو أن المخالف سلك المنهج العلمي المتعارف عليه بين الباحثين ، من جمع أقوال العالم ، ورد المتشابه إلى المحكم ، والمجمل إلى المبين ، لاتضح له مذهب شيخ الإسلام ، ولنأى بنفسه عن أن ينسب له مذهبا باطلا ، لطالما رأيناه ينكره ، ويحذر منه ، ويشنع على أهله.
وسأحاول أن أعرض جملة ما نقله المخالف عن شيخ الإسلام في هذه المسألة ، والإجابة عنه ؛ لأبرهن على صحة مذهبه ، ووضوح رأيه ، وسلامة كلامه من الاضطراب والتناقض.
وقبل الشروع في المقصود أذكّر بأمرين :
الأول : أن شيخ الإسلام عبر عن رأيه في تكفير تارك عمل الجوارح بعبارات متنوعة ، وألفاظ مختلفة ، فمن ذلك قوله :
(فإذا خلا العبد عن العمل بالكلية لم يكن مؤمنا. )
وقوله : ( فمن لم يفعل لله شيئا فما دان لله دينا ، و من لا دين له فهو كافر)
وقوله : (وهذه المسألة لها طرفان : أحدهما : في إثبات الكفر الظاهر . والثاني :
في إثبات الكفر الباطن . فأما الطرف الثاني فهو مبني على مسألة كون الايمان قولا وعملا كما تقدم ، ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمنا ايمانا ثابتا في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة ولا يصوم رمضان ولا يؤدي لله زكاة ، ولا يحج الى بيته ، فهذا ممتنع ، ولا يصدر هذا الا مع نفاق في القلب وزندقة ، لا مع إيمان صحيح ).
وقوله: (وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله بقلبه أو بقلبه ولسانه ولم يؤد واجباً ظاهراً، ولا صلاة ولا زكاة ولا صيام ولا غير ذلك من الواجبات، )
وقوله : (فلا يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد. )
وقوله : (أنكم سلمتم أن هذه الأعمال لازمة لإيمان القلب فإذا انتفت لم يبق في القلب إيمان وهذا هو المطلوب).
وقوله : (لامتناع قيام الإيمان بالقلب من غير حركة بدن وليس المقصود هنا ذكر عمل معين )
وقوله : (العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه وانتفاء الظاهر دليل انتفاء الباطن)
وقوله : (ولهذا يستدل بانتفاء اللازم الظاهر على انتفاء الملزوم الباطن )
وقوله : (فالعمل يصدق أن في القلب إيمانا وإذا لم يكن عمل كذب أن في قلبه إيمانا لأن ما في القلب مستلزم للعمل الظاهر . وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم ).
وإقراره قول أبي طالب المكي (فمن كان ظاهره أعمال الإسلام ولا يرجع إلى عقود الإيمان بالغيب فهو منافق نفاقاً ينقل عن الملة ومن كان عقده الإيمان بالغيب ولا يعمل بأحكام الإيمان وشرائع الإسلام فهو كافر كفراً لا يثبت معه توحيد)
وغير ذلك من كلامه الصريح الواضح ، وقد مضى ذكره أول البحث.
الأمر الثاني : أن شيخ الإسلام رحمه الله يرى كفر تارك الصلاة ، وهذا يبطل كل محاولة يسلكها المخالف للزعم بأنه لا يكفر تارك عمل الجوارح بالكلية !
فكن على ذكر من هذا ، فإنه مهم جدا .
أما المواضع التي اعتمد عليها المخالف ، فإليك بيانها على التفصيل:
الموضع الأول :
جاء في مناظرة شيخ الإسلام مع ابن المرحل :
(11/137،138)
(والكفر الذي هو ضد الشكر إنما هو كفر النعمة ، لا الكفر بالله فإذا زال الشكر خلفه كفر النعمة لا الكفر بالله .
قلت: على أنه لو كان ضد الكفر بالله ، فمن ترك الأعمال شاكرا بقلبه ولسانه فقد أتى ببعض الشكر وأصله، والكفر إنما يثبت إذا عدم الشكر بالكلية كما قال أهل السنة: إن من ترك فروع الإيمان لا يكون كافرا حتى يترك أصل الإيمان وهو الاعتقاد، ولا يلزم من زوال فروع الحقيقة التي هي ذات شعب وأجزاء زوال اسمها كالإنسان إذا قطعت يده أو الشجرة إذا قطع بعض فروعها).
هذا الموضع استشهد به عدنان عبد القادر في كتابه " حقيقة الإيمان " في ص
33، 64 ، 79 ، 91 ، تارة يبدأ النقل من قوله : فمن ترك الأعمال شاكرا ... وتارة يبدأ من قوله : والكفر إنما يثبت ... ومرة من قوله : قال أهل السنة: إن من ترك فروع الإيمان ...
وهو في جميع ذلك يقول : قال شيخ الإسلام.
والجواب من وجوه :
الأول : أن هذا ليس من كلام شيخ الإسلام !
فما بعد " قلت " هو من كلام أحد أصحاب شيخ الإسلام ، ولم أقف على اسمه.
قال الحافظ بن عبد الهادي في " العقود الدرية " ص 95 - 116( ت : محمد حامد الفقي ، ط. مكتبة المؤيد)
(وقد رأيت
بخط بعض أصحابه ما صورته: تلخيص مبحث جرى بين شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله وبين ابن المرحل .
كان الكلام في الحمد والشكر وأن الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح والحمد لا يكون إلا باللسان ... ) إلى قوله ( حتى يثبت أنه داخل فيه بعد النقل).
وهذا بعينه هو المثبت في مجموع الفتاوى 11/135-155
وجاء في العقود الدرية عقب هذا (فلتتأمل هذه الأبحاث الثلاثة وكل ما فيها. قلت فإنه من كلام الشيخ تقي الدين قرره بعد المناظرة).
فهذا الصاحب " المجهول " قام بتدوين ما قرره شيخ الإسلام رحمه الله بعد المناظرة ، وميز كلام شيخ الإسلام عن كلامه ، فتراه يقول : قال الشيخ تقي الدين ، وإذا أراد أن يضيف شيئا قال : قلت ، وقد وقع هذا في ستة مواضع.
وأيضا : فمن قرأ هذه المناظرة ، وتأمل سياقها أدرك أن ما يأتي بعد " قلت " ليس من كلام شيخ الإسلام ولا من كلام ابن المرحل ، وسأذكر شاهدين فقط :
الأول : قال شيخ الإسلام - 11/137- ( ... فلهذا عزى إلى أهل السنة إخراج الأعمال عن الشكر.
قلت : كما أن كثيرا من المتكلمين أخرج الأعمال عن الإيمان لهذه العلة.
قال : وهذا خطأ ، لأن التكفير نوعان : أحدهما : كفر النعمة ، والثاني الكفر بالله . والكفر الذي هو ضد الشكر إنما هو كفر النعمة لا الكفر بالله ، فإذا زال الشكر خلفه كفر النعمة لا الكفر بالله.
قلت : على أنه لو كان ضد الكفر بالله ، فمن ترك الأعمال شاكرا ...
قال الصدر ابن المرحل ...
قال الشيخ تقي الدين ... )
فأول الكلام المنقول هنا ، لشيخ الإسلام ، وكذلك قوله : وهذا خطأ ...
وحين أراد الكاتب أن يعلق ، قال : قلت ...
وهذا واضح جدا.
الشاهد الثاني : ما جاء في ( 11/139-141) :
( ثم عاد ابن المرحل فقال ...
قال الشيخ تقي الدين ...
فخرج ابن المرحل إلى شيئ غير هذا ...
قال الشيخ تقي الدين له ...
قال له ابن المرحل ...
قال ابن المرحل ...
قال الشيخ تقي الدين له
قلت : ...)
فانظر قوله : قال الشيخ تقي الدين له ، وقال له ابن المرحل ، فلا يشك القارئ في أن شخصا ثالثا يحكي هذه المناظرة ، وهو - لا غيره - أحق الناس بأن يقدم لكلامه بقوله : قلت.
فاعجب ممن نقل هذا الكلام وكرره وأعاده ثم لم ينتبه لهذا !

وقول شيخ الإسلام : ( والكفر الذي هو ضد الشكر إنما هو كفر النعمة لا الكفر بالله )
جواب كاف شاف ، لا يحتاج معه إلى جواب " صاحبه " المبني على الافتراض والتقدير.
الوجه الثاني : أن قول هذا " الصاحب " : (كما قال أهل السنة: إن من ترك فروع الإيمان لا يكون كافرا حتى يترك أصل الإيمان وهو الاعتقاد)
إن أراد بالاعتقاد قول القلب وعمله - كما هو مذهب شيخ الإسلام في هذا الإطلاق - فتقدير وجود عمل القلب ، من دون عمل الجوارح ممتنع ، ولو وجد إيمان القلب لانفعل البدن بالممكن من عمل الجوارح ، كما سبق النقل عن شيخ الإسلام.
الوجه الثالث: أنه ينبغي حمل قوله " فروع الإيمان " على بعض العمل لا كله ، لأمرين:
الأول : قوله " كالإنسان إذا قطعت يده ، أو الشجرة إذا قطع بعض فروعها "
فهذا يبين أنه أراد ترك بعض الأعمال لا جميعها.
الثاني : أن نسبة القول بإسلام من ترك عمل الجوارح كلية إلى أهل السنة ، خطأ ظاهر ، لا سيما والصحابة مجمعون على كفر تارك الصلاة ، في رأي شيخ الإسلام (شرح العمدة 75) ، وهو قول أكثر السلف (28/308 ،360) وهو المشهور المأثور عن جمهور السلف من الصحابة والتابعين (20/97)
فكيف يقال إن " أهل السنة " لا يكفرون من ترك جميع أعمال الجوارح.

وحسب الباحث هنا أن يكتفي بالوجه الأول ، وأن لا يعول على نقل لم يعرف قائله ، ولم يطلع على حاله ، فكيف إذا كان النقل خطأ على أهل السنة ، مخالفا لتقرير "الشيخ " رحمه الله!
تنبيه1 : ابن المرحل هو صدر الدين ابن الوكيل محمد بن عمر بن مكي بن عبد الصمد شيخ الشافعية في زمانه .
انظر ترجمته في طبقات الشافعية الكبرى 9/253 ، البداية والنهاية 14/492 ( وفيات سنة 717 هـ ).

تنبيه2 : ثم رأيت الحلبي أورد النقل السابق في كتابه " التعريف والتنبئة " ص 27 قائلا : " وقال أيضا 11/138 : " من ترك الأعمال شاكرا …"
والذي في الفتاوى " فمن ترك …" كما سبق.
وعلق في الهامش بقوله : " ونقله عنه تلميذه ابن عبد الهادي في " العقود الدرية " ص 98 ، وهذا النص من أوضح الكلام وأبين القول وافصح العبارة " .!!!
وأورده في هامش ص 84 من " التعريف والتنبئة " هكذا : ( ورحم الله شيخ الإسلام القائل … ويقول … ويقول 11/138 " من ترك فروع الإيمان لا يكون كافرا حتى يترك أصل الإيمان وهو الاعتقاد ، ولا يلزم من زوال فروع الحقيقة زوال اسمها".
فحذف الحلبي من أوله : " كما قال أهل السنة: إن "
وآثر أن يكون الكلام لشيخ الإسلام ، لا لأهل السنة !!

الموضع الثاني

كتبه ... الموحد