بسم الله الرحمن الرحيم

الثاني عشر : توضيح ما شتبه عليهم من كلام شيخ الإسلام

الموضع الثالث :
قول شيخ الإسلام ( 7/522)
(إن شعب الإيمان قد تتلازم عند القوة ، ولا تتلازم عند الضعف)
استشهد به الحلبي في " التعريف والتنبئة " ص 34 ليؤكد فهمه الخاطيء لقاعدة التلازم بين الظاهر والباطن ، وقد سبق نقل كلامه.
واستشهد به العنبري في أصل كتابه (1/113، 114)
ومما قال : " فإذا لم يحصل اللازم – أعني أعمال الجوارح – دل على ضعف الملزوم لا على انتفائه ، إذ إن أعمال القلوب وأعمال الجوارح تتلازم عند القوة ، ولا تتلازم عند الضعف".
والجواب من وجوه :
الأول : أنه يتعين معرفة مراد شيخ الإسلام ب " شعب الإيمان " ، فإن صنيع القوم يوهم أنه يتحدث عن الظاهر والباطن ، أو قول اللسان وقول القلب ، وعمل القلب وعمل الجوارح !
ومن ظن ذلك ، ورتب عليه اعتقاد أن عمل القلب – في حالة الضعف – يمكن أن يوجد بلا عمل جارحة ؛ فقد أخطأ.
بل عدم اللازم الظاهر يدل على انتفاء الملزوم الباطن – كما قرره شيخ الإسلام في مواضع.
وهذا الفهم نتج من اختزال " شعب الإيمان " التي هي بضع وسبعون شعبة ، إلى أربع شعب !
لقد كان شيخ الإسلام رحمه الله يرد على الخوارج والمعتزلة ، الذين قالوا ( الطاعات كلها من الإيمان ، فإذا ذهب بعضها ذهب بعض الإيمان ، فذهب سائره ، فحكموا بأن صاحب الكبيرة ليس معه شيء من الإيمان" ( 7/510).
وبين شيخ الإسلام أن جماع شبهتهم في ذلك ( أن الحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها ، كالعشرة فإنه إذا زال بعضها لم تبق عشرة ، وكذلك الأجسام المركبة كالسكنجبين إذا زال أحد جزئيه خرج عن كونه سكنجبينا ).( 7/511).
فبين شيخ الإسلام أن الكلام في طرفين :
( أحدهما : أن شعب الإيمان هل هي متلازمة في الانتفاء ؟
والثاني : هل هي تلازمة في الثبوت ؟) ( 7/513).

قال رحمه الله (7/514)
(ما " الأول " فإن الحقيقة الجامعة لأمور - سواء كانت في الأعيان أو الأعراض - إذا زال بعض تلك الأمور فقد يزول سائرها وقد لا يزول ولا يلزم من زوال بعض الأمور المجتمعة زوال سائرها ، وسواء سميت مركبة أو مؤلفة أو غير ذلك لا يلزم من زوال بعض الأجزاء زوال سائرها .
وما مثلوا به من العشرة والسكنجبين مطابق لذلك فإن الواحد من العشرة إذا زال لم يلزم زوال التسعة بل قد تبقى التسعة فإذا زال أحد جزأي المركب لا يلزم زوال الجزء الآخر ، لكن أكثر ما يقولون: زالت الصورة المجتمعة وزالت الهيئة الاجتماعية وزال ذلك الاسم الذي استحقته الهيئة بذلك الاجتماع والتركيب كما يزول اسم العشرة والسكنجبين .
فيقال : أما كون ذلك المجتمع المركب ما بقي على تركيبه فهذا لا ينازع فيه عاقل، ولا يدعي عاقل أن الإيمان أو الصلاة أو الحج أو غير ذلك من العبادات المتناولة لأمور إذا زال بعضها بقي ذلك المجتمع المركب كما كان قبل زوال بعضه، ولا يقول أحد : إن الشجرة أو الدار إذا زال بعضها بقيت مجتمعة كما كانت، ولا أن الإنسان أو غيره من الحيوان إذا زال بعض أعضائه بقي مجموعا . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء " فالمجتمعة الخلق بعد الجدع لا تبقى مجتمعة ولكن لا يلزم زوال بقية الأجزاء ).
ثم قال :
( وأما زوال الاسم فيقال لهم هذا : " أولا " بحث لفظي
إذا قدر أن الإيمان له أبعاد وشعب ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه :" الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول : لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان " كما أن الصلاة والحج له أجزاء وشعب، ولا يلزم من زوال شعبة من شعبه زوال سائر الأجزاء والشعب ، كما لا يلزم من زوال بعض أجزاء الحج والصلاة زوال سائر الأجزاء . فدعواهم أنه إذا زال بعض المركب زال البعض الآخر ليس بصواب ونحن نسلم لهم أنه ما بقي إلا بعضه لا كله وأن الهيئة الاجتماعية ما بقيت كما كانت ).
ثم بين رحمه الله أن المركبات على وجهين : منها : ما يكون التركيب شرطا في إطلاق الاسم ، كالعشرة والسكنجبين.
ومنها : ما لا يكون كذلك ، بل يبقى الاسم بعد زوال بعض الأجزاء ، كالبحر والنهر والمدينة والقرية والمسجد ، فإنه ينقص كثير من أجزائها ، والاسم باق.
وكذلك ألفاظ : العبادة والطاعة والخير والحسنة والإحسان والصدقة والعلم ، والقرآن ، والقول ، والكلام والمنطق ، وأسماء الحيوان والنبات ، كلفظ الشجرة يقال على جملتها ، ثم يقطع منها ما يقطع والاسم باق.
ثم قال ( 5/517)
(وإذا كانت المركبات على نوعين بل غالبها من هذا النوع لم يصح قولهم: إنه إذا زال جزؤه لزم أن يزول الاسم ، إذا أمكن أن يبقى الاسم مع بقاء الجزء الباقي .
ومعلوم أن اسم " الإيمان " من هذا الباب ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان " ثم من المعلوم أنه إذا زالت الإماطة ونحوها لم يزل اسم الإيمان ).
(قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال : " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان " فأخبر أنه يتبعض، ويبقى بعضه وأن ذاك من الإيمان، فعلم أن بعض الإيمان يزول ويبقى بعضه، وهذا ينقض مآخذهم الفاسدة ويبين أن اسم الإيمان مثل اسم القرآن والصلاة والحج ونحو ذلك.
أما الحج ونحوه ففيه أجزاء ينقص الحج بزوالها عن كماله الواجب ولا يبطل كرمي الجمار والمبيت بمنى ونحو ذلك، وفيه أجزاء ينقص بزوالها من كماله المستحب كرفع الصوت بالإهلال والرمل والاضطباع في الطواف الأول . وكذلك الصلاة …).
ومن هذا النقل الطويل يتضح أن شيخ الإسلام يتحدث عن شعب الإيمان بمعناها الشامل الواسع ، مبينا أنها لا تتلازم في الانتفاء ، فزوال إماطة الأذى عن الطريق ، لا يزيل اسم الإيمان ولا حقيقته.
ثم انتقل شيخ الإسلام للحديث عن الطرف الثاني : وهو : هل شعب الإيمان متلازمة في الثبوت ، أي هل يلزم من وجود بعض الشعب وجود سائرها ؟
قال ( 7/522)
( الأصل الثاني :
أن شعب الإيمان قد تتلازم عند القوة ولا تتلازم عند الضعف، فإذا قوي ما في القلب من التصديق والمعرفة والمحبة لله ورسوله أوجب بغض أعداء الله . كما قال تعالى : " ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء " وقال : " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه " . وقد تحصل للرجل موادتهم لرحم أو حاجة فتكون ذنبا ينقص به إيمانه ولا يكون به كافرا كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل الله فيه " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة "
وكما حصل لسعد بن عبادة لما انتصر لابن أبي في قصة الإفك . فقال : لسعد بن معاذ : كذبت والله ، لا تقتله ولا تقدر على قتله . قالت عائشة : وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية ).
فلم يقل شيخ الإسلام إنه في حال القوة يتلازم وجود عمل الجوارح ، مع بقية الأركان ، بينما في حال الضعف قد توجد الأركان الثلاثة وينعدم عمل الجوارح بالكلية !
هذا ما يحاول أن يثبته المخالف ، وهو فهم لا صلة له بكلام شيخ الإسلام .
وتأمل قوله " أن شعب الإيمان
قد تتلازم عند القوة "
فلو كان الحديث عن " الأركان الأربعة السابقة " لما كان لقوله " قد" محل من الإعراب!
إذ عند القوة ، لابد أن يوجد قول اللسان .. والتصديق .. وعمل القلب .. وما شاء الله من أعمال الجوارح !
فالأمر على ما أوضحت آنفا ، أنه رحمه الله يتحدث عن شعب الإيمان العامة الشاملة .
وتأمل ما ذكره من المثال، فإنه لم يتحدث عن زوال عمل الجوارح ، لا بعضا ولا كلا ، ولم يتحدث عن زوال عمل القلب أيضا !
وإنما بين أن شعب الإيمان – في حال الضعف – لا تتلازم في الثبوت ، - كما أنها قد لا تتلازم عند القوة أيضا - فيوجد التصديق ، ومحبة الله ورسوله ، مع بغض أعداء الله ، لكنه بغض ناقص ، تجامعه
" مودة " لأجل رحم أو حاجة .
الوجه الثاني : أنا لو سلمنا فهمهم ل " شعب الإيمان " وأن المراد بها الأجزاء الأربعة ، فنقول: ما وجه " الجناية " على عمل الجوارح خاصة ؟!
وهل جانب الصواب ، من قال : عند الضعف ،
قد ينتفي عمل القلب ، وينجو المرء بالتصديق وقول اللسان ؟
أو قال : قد يضعف الإيمان إلى درجة لا يظهر معها قول اللسان ، مع استقرار الإيمان في القلب ؟
وحجة الجميع : إن شعب الإيمان قد تتلازم عند القوة ، ولا تتلازم عند الضعف !!
الوجه الثالث : أن المخالف أعرض عما في هذا الفصل من كلام واضح بين ، يؤكد مسألة التلازم بين الظاهر والباطن .
قال شيخ الإسلام ( 7/518)
(وكذلك الإيمان والواجب على غيره مطلق ، لا مثل الإيمان الواجب عليه في كل وقت، فإن الله لما بعث محمدا رسولا إلى الخلق كان الواجب على الخلق تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر، ولم يأمرهم حينئذ بالصلوات الخمس ولا صيام شهر رمضان ولا حج البيت ولا حرم عليهم الخمر والربا ونحو ذلك ولا كان أكثر القرآن قد نزل، فمن صدقه حينئذ فيما نزل من القرآن وأقر بما أمر به من الشهادتين وتوابع ذلك : كان ذلك الشخص حينئذ مؤمنا تام الإيمان الذي وجب عليه،
وإن كان مثل ذلك الإيمان لو أتى به بعد الهجرة لم يقبل منه ولو اقتصر عليه كان كافرا).
وقال في ( 7/527)
(أما " الإرادة الجازمة " فلا بد أن يقترن بها مع القدرة فعل المقدور
ولو بنظرة أو حركة رأس أو لفظة أو خطوة أو تحريك بدن).
وقال في (7/540)
(فالإيمان لا بد فيه من هذين الأصلين : التصديق بالحق والمحبة له، فهذا أصل القول وهذا أصل العمل . ثم الحب التام مع القدرة يستلزم حركة البدن بالقول الظاهر ، والعمل الظاهر
ضرورة كما تقدم).
وانتبه ! إنه يستلزم –
ضرورة – الأمرين معا : القول الظاهر ، والعمل الظاهر.
وقال في (7/541)
(وإذا قام بالقلب التصديق به والمحبة له
لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة ، والأعمال الظاهرة.
فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما في القلب ولازمه ، ودليله ومعلوله ، كما أن ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له أيضا تأثير فيما في القلب. فكل منهما يؤثر في الآخر لكن القلب هو الأصل ، والبدن فرع له، والفرع يستمد من أصله ، والأصل يثبت ويقوى بفرعه) .

تنبيه : هذا ما تم نشره في ساحات الحوار ، والبحث بحاجة إلى إعادة صياغته، وترتيبه ، وله تتمة ، ولعلها ترى النور قريبا إن شاء الله .

كتبه ... الموحد