بسم الله الرحمن الرحيم

الأشاعرة والقول بخلق القرآن

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
لم أكن لأثير هذا الموضوع لولا ما كتبه أحد المشاركين ، تشكيكا فيما أجمع عليه السلف من القول بعدم خلق القرآن ، وتكفير من قال إنه مخلوق.
وفي هذا المبحث الموجز أبين معتقد الأشاعرة في القرآن ، وفي كلام الله تعالى .
ثم أذكر موقف أهل العلم من هذا المعتقد ، وأنهيه – إن شاء الله – بعقد المقارنة بينهم وبين الجهمية والمعتزلة .
أولا : اعتقاد الأشاعرة في القرآن الكريم وفي كلام الله تعالى .

1- أثبت الاشاعرة صفة الكلام لله تعالى .
2- والمقصود به الكلام النفسي ، وهو المعنى القائم بالنفس .
3- وقالوا : إنه معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض ولا يتفاضل ، يستوي فيه الأمر والنهي والخبر والاستخبار . إن عبر- بالبناء للمجهول - عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا ، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة .
4- وقالوا : كلام الله ليس بحرف ولا صوت . منزه عن التقديم والتأخير والكل والبعض وليس متلبسا بالترتيب المألوف من تقديم وتأخير.
5- والكلام يطلق في الحقيقة على المعنى القائم بالنفس . ويطلق على الكلام اللفظي كالقرآن باعتبارين :
باعتبار المجاز ، أو باعتبار الاشتراك .
6- وقالوا : إن القرآن الذي نقرؤه مخلوق ، ألفاظه وحروفه وآياته وسوره .
7- وإنه لا يجوز التصريح بذلك إلا في مقام التعليم
8- وإن القرآن يقال له كلام الله بمعنى أنه خلـــــــــــــقه في اللوح المحفوظ .
9- وبينوا أنه لا خلاف بينهم وبين المعتزلة في خلق هذا القرآن المشتمل على الحروف والترتيب والتقديم والتأخير . وإنما الخلاف في الكلام النفسي ، هل هو ثابت لله أم لا .

شرح وتعليق :

1- قولهم : إن الكلام النفسي معنى واحد يستوي فيه الأمر والنهي والخبر ومنزه عن التقديم والتأخير والترتيب :
جمع بين المتناقضين ومخالفة لبديهة العقل . إذ كيف يستوي فيه الخبر والإنشاء . فالخبر ما يحتمل والصدق والكذب ، والإنشاء بخلافه . فكيف يقال : يحتمل الصدق والكذب ولا يحتمل الصدق والكذب .
وهل يقول عاقل إن قوله : وأقيموا الصلاة هو عين قوله : ولا تقربوا الزنى ؟!
2- قولهم : ليس فيه تقديم ولا تأخير . معناه أن كلامه كله قائم بذاته أزلا ، فليس له كلام متعلق بمشيئته ، وكلامه لموسى أو كلامه لآدم يوم القيامة أو كلامه لأهل الجنة كله موجود في الأزل ، لا يجدّ منه شيء.
ومعناه أيضا :
أن الذي يوحى للرسل وغيرهم مما يتعلق بالأزمنة والأمكنة هو العبارات عن هذا الكلام ، والدلالات عليه ، وهي مخلوقة ، كالذي سمعه موسى حين أتى الشجرة .
وستأتي الأدلة التي لا حصر لها ، مما يخالف هذا المعتقد .
3- قولهم : ليس بحرف ولا صوت
معناه : أن أحدا لم يسمع كلام الله ، لا جبريل ولا آدم ولا الملائكة حين أمرهم بالسجود ولا موسى ولا محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ولا أهل الموقف ولا أهل الجنة .
لان الكلام معنى في النفس ، ليس بالألفاظ ولا بالحروف .
4- وقالوا : عن كلام الله لموسى عليه السلام : ( أزال منه المانع حتى سمع كلامه القديم الذي ليس بحرف ولا صوت .... ثم رد المانع عليه فلم يسمع وليس أن الله ابتدأ كلامه لموسى ، ولا انعدم كلامه بعد رد المانع عليه لأن كلام الله تعالى قديم ) شرح أم الراهين للأنصاري ص 20
وقال غيره : كشف عنه الحجاب حتى سمع الكلام القديم !
وفي هذه الجمل أمور :
كيف سمع كلاما بلا حرف ولا صوت ؟
لا يقال إن موسى سمع جزءا من كلام الله ، فكلام الله لا يتجزأ .
ومنهم من قال : إن موسى عليه السلام سمع صوتا تولى الباري خلقه من غير كسب للعباد !!!
ومنهم من قال : سمع صوتا من جميع الجهات ، ولم يبينوا صوت من هذا . مع جزمهم أن كلام الله معنى قائم بالنفس .
قال شيخ الاسلام : 12/49
" وجمهور العقلاء يقولون : قول هؤلاء معلوم الفساد بالضرورة .
وهؤلاء يقولون : تكليمه لموسى ليس إلا خلق إدراك يفهم به موسى ذلك المعنى . فقيل لهم : أفهم كل الكلام أم بعضه ؟
إن كان فهمه كله فقد علم علم الله !
وان كان فهم بعضه فقد تبعض . وعندهم كلام الله لا يتبعض ولا يتعدد .
وقيل لهم : قد فرق الله بين تكليمه لموسى وإيحائه لغيره ، وعلى أصلكم لا فرق " انتهى.
5- تجاهل الأشاعرة النصوص الصحيحة الصريحة التي تثبت الصوت والنداء والكلام بالحروف ، والنصوص التي تعلق الكلام بالمشيئة كقوله تعالى : إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " .
وسيأتي كلام الإمام أحمد في الحكم على من أنكر الحرف والصوف أنه جهمي .
6- قولهم : إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا أو بالعبرانية كان توراة من أفسد الأقوال .
فلو ترجمت التوراة إلى العربية فهل يتفق المعنى ؟!
قال شيخ الاسلام : ( وجمهور العقلاء يقولون : إن فساد هذا معلوم بالضرورة بعد التصور التام ، فإنا إذا عربنا التوراة والإنجيل لم يكن معناهما معنى القرآن ، بل معاني هذا ليست معاني هذا . وكذلك ( قل هو الله أحد ) ليس هو معنى ( تبت يدا أبي لهب ) ولا معنى آية الكرسي ولا آية الدين " انتهى.
7- تصريحهم بخلق القرآن :
قال البيجوري في شرح جوهرة التوحيد ص 72
" واعلم أن كلام الله يطلق على الكلام النفسي القديم ، بمعنى أنه صفة قائمة بذاته تعالى
وعلى الكلام اللفظـــــي بمعنى أنه خلـــــــقه ، وليس لأحد في أصل تركيبه كسب . وعلى هذا يحمل قول السيدة عائشة : ما بين دفتي المصحف كلام الله تعالى ." انتهى .
فإذا سمعت أشعريا يقول : القرآن كلام الله ، فاعلم أن مراده أن ألفاظ القرآن تسمى كلام الله بمعنى أن الله خلقها .
وأما كلام الله حقيقة فهو النفسي وهذا غير مخلوق .
وتذكر ما قاله ذاك العلامة : من قال القرآن الذي هو كلام الله وصفته مخلوق فهو كافر .
فالذي هو كلام الله وصفته هو الكلام النفسي . فانتبه .
وقال البيجوري ص 72
" واطلاقه عليهما – أي إطلاق الكلام على النفسي واللفظي – قيل بالاشتراك ، وقيل : حقيقي في النفسي مجاز في اللفظي ،
وعلى كلّ من أنكر أن ما بين دفتي المصحف كلام الله فقد كفر ، إلا أن يريد أنه ليس هو الصفة القائمة بذاته تعالى ." أي فلا يكفر حئنئذ.
وقال : " ومع كون اللفظ الذي نقرؤه حادثا : لا يجوز أن يقال : القرآن حادث إلا في مقام التعليم !!!!!! "
إذن لم لا يجوز في غير مقام التعليم ؟
قال : " لأنه يطلق على الصفة القائمة بذاته أيضا لكن مجازا على الأرجح ، فربما توهم من إطلاق أن القرآن حادث أن الصفة القائمة بذاته تعالى حادثة ، ولذلك ضرب الإمام أحمد بن حنبل وحبس على أن يقول بخلق القرآن فلم يرض " اه
قلت : دعوا احمد بن حنبل ، فما أبعد ما بينكم وبينه !!!
فهل تحمل كل ذلك من باب الورع ؟!!
سيأتي من كلام أحمد ما يجعل الأشاعرة في مصاف الجهمية في هذه المسألة .
ولا تظن أن معاني القرآن عندهم قديمة
قال البيجوري : ص 72
" وقال السنوسي وغيره من المتقدمين : إن الألفاظ التي نقرؤها تدل على الكلام القديم ، وهذا خلاف التحقيق ؛ لأن بعض مدلوله قديم .... وبعض مدلوله حادث ".
" لان بعض مدلوله قديم كما في قوله تعالى " الله لا اله إلا هو الحي القيوم " وبعض مدلوله حادث كما في قوله تعالى ( إن قارون كان من قوم موسى ) والتحقيق : أن هذه الألفاظ تدل على بعض مدلول الكلام القديم !!!!!" .
وقال ص 73
" وقد أضيف له تعالى كلام لفظي كالقرآن ، فإنه كلام الله قطعا بمعنى
أنه خلـــــقه في اللوح المحفوظ " .
فإذا سمعت أشعريا يقول : القرآن كلام الله ، يقصد الألفاظ ، فالمعنى : أن الله خلقه في اللوح المحفوظ .
وأما إن قصد المعنى المجازي للقرآن وهو الكلام النفسي ، فالمراد بكونه كلام الله أنه صفته تعالى .
وقال البيجوري ص 94
" ومذهب أهل السنة ! أن القرآن بمعنى الكلام النفسي ليس بمخلوق
وأما القرآن بمعنى اللفظ الذي نقرؤه فهو مخلــــــــــــــوق ، لكن يمتنع أن يقال : القرآن مخلوق ويراد به اللفظ الذي نقرؤه إلا في مقام التعليم ؛ لأنه ربما أوهم أن القرآن بمعنى كلامه تعالى مخلوق " .
انتهبه : القرآن بمعنى كلامه النفسي ، غير مخلوق .
وتذكر : إطلاق كلام الله على القرآن مجاز .
8- من الذي عبر بالقرآن ؟
ما دام أن كلام الله هو المعنى النفسي ، فمن الذي عبر بهذه الألفاظ المعجزة ؟
اختلف الاشاعرة :
فقيل : خلقه الله في اللوح المحفوظ ، فليس لأحد من الخلق في تركيبه كسب .
وقيل : المعبر هو جبريل .
وقيل : المعبر هو محمد صلى الله عليه وسلم .
قال البيجوري في شرح الجوهرة ص 95
عند قول الجوهرة :
فكل نص للحدوث دلا **** احمل على اللفظ الذي قد دلا
" وقوله ( على اللفظ ) أي على القرآن بمعنى اللفظ المنزل على نبينا صلى الله عليه وسلم المتعبد بتلاوته المتحدى بأقصر سورة منه .
والراجح أن المنزل اللفظ والمعنى .
وقيل : المنزل المعنى ، وعبر عنه جبريل بألفاظ من عنده .
وقيل : المنزل المعنى وعبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ من عنده .
لكن التحقيق الأول ؛ لأن الله خلــــــــــــــــقه أولا في اللوح المحفوظ ، ثم أنزله في صحائف إلى السماء الدنيا في محل يقال له بيت العزة في ليلة القدر ... ثم أنزله على النبي صلى الله عليه وسلم مفرقا بحسب الوقائع ." انتهى
تنبـــــه :
إذا سمعت أشعريا يقول : أنزل الله القرآن على محمد ، فالمراد خلق الله القرآن في اللوح المحفوظ ثم أنزله على محمد . وليس المراد أن الله تكلم بهذا القرآن ، ولا أن جبريل سمعه من الله . ولا أن محمد سمع القرآن الذي هو كلام الله وصفته .
وإذا قيل " حتى يسمع كلام الله " وأسمعت أحدا القرآن ، فهو لم يسمع كلام الله حقيقة !!! وإنما أطلق كلام الله على القرآن مجازا كما سبق !!
إذا كان المعبر جبريل أو محمد ، والمعنى من الله
فكيف أخذ جبريل المعنى عن الله ؟؟؟؟؟
ألقاه الله في نفس جبريل ؟!
ويرد عليهم ما سبق : إذا كان كلام الله معنى واحدا لا يتبعض ، فهل علم جبريل كل كلام الله ؟؟؟؟!!!
وقال البيجوري ص 95
" لكن يمتنع أن يقال : القرآن مخلوق إلا في مقام التعليم كما سبق " انتهى
لاحظ : كررها المؤلف ثلاث مرات !!!!

وانتظر رد بعض المتكلمين وتبرؤ بعض الأشاعرة من هذا المعتقد والحكم بأنه مخالف لضرورة العقل .
**************
مراجع الأشاعرة :
شرح الجوهرة للبيجوري
شرح أم البراهين لأحمد بن عيسى الأنصاري
شرح الخريدة للدردير
أصول الدين للبغدادي
الإرشاد للجويني
التمهيد للباقلاني

أيهما أفضل : النبي أم القرآن ؟
من " توابع " البدعة التي سقط فيها الأشاعرة حين قالوا بخلق القرآن : أنهم اختلفوا في المفاضلة بين النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن !!!!!!
قال البيجوري في شرح جوهرة التوحيد ص 94
" وهل القرآن بمعنى اللفظ المقروء أفضل ، أو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ؟
تمسك بعضهم بما يروى : كل حرف خير من محمد وآل محمد . لكنه غير محقق الثبوت .
والحق أنه صلى الله عليه وسلم أفضل ؛ لأنه أفضل من كل مخلـــــــــــــوق ، كما يؤخذ من كلام الجلال المحلي على البردة ، ويؤيده أنه فعل القارئ ، والنبي صلى الله عليه وسلم افضل من القاريء وجميع أفعاله .
والأسلم الوقف عن مثل هذا ؛ فإنه لا يضر خلو الذهن عنه اه ملخصا من حاشية الأمير " انتهى .
وقوله : إنه فعل القارئ : تخبط !!!
فاللفظ المقروء سبق - عند المؤلف - أنه مخلوق ، ونسبته وتسميته كلام الله : بمعنى أنه ليس لأحد في أصل تركيبه كسب .

واعتقاد أهل السنة والجماعة أنه لا مفاضلة بين المخلوق وصفات الخالق .
فالقرآن بألفاظه وحروفه هو كلام الله تعالى منه بدأ واليه يعود ، ليس بمخلوق من جميع الحهات ، وحيثما تصرف . هو المحفوظ في الصدور ، والمقروء بالألسنة ، والمكتوب في المصاحف .
ومن قال : إنه مخلوق . فهو كافر . كما سبق نقل الإجماع على ذلك .
الكلام النفسي وهم وخيال اخترعه الأشاعرة ( والكلابية والماتريدية )
قال الإمام ابن قدامة في كتابه : روضة الناظر ( 2/64 مطبوع مع نزهة الخاطر )
" وزعمت فرقة من المبتدعة أنه لا صيغة للأمر بناء على خيالهم أن الكلام معنى قائم بالنفس .
فخالفوا الكتاب والسنة وأهل اللغة والعرف .
أما الكتاب :
1- فإن الله تعالى قال لزكريا : " آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا "
فلم يسم إشارته كلاما .
( قلت : وقد قام بنفسه ما شاء الله من المعاني حين أشار إليهم . ولم يكن ذلك كلاما ).
2- وقال لمريم " فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا " فالحجة فيه مثل الحجة الأولى .
( قلت : فهل نذرت مريم الامتناع عن ورود المعاني والخواطر التي تقوم بالنفس ، أم عن الألفاظ والحروف ؟)
3- وأما السنة :
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله عفا لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به "
( قلت : فما قام بالنفس شيء ، والكلام شيء آخر .)
4- وقال لمعاذ : " أمسك عليك لسانك " قال : " وإنا لمؤاخذون بما نقول ؟ قال : ثكلتك أمك وهل يكب الناس على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ؟
5- وقال : " إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين "
ولم يرد بذلك ما في النفس .
6- وأما أهل اللسان :
فإنهم اتفقوا عن آخرهم على أن الكلام اسم وفعل وحرف .
7- واتفق الفقهاء بأجمعهم على أن من حلف لا يتكلم ، فحدث نفسه بشيء دون أن ينطق بلسانه : لم يحنث . ولو نطق حنث .
8- وأهل العرف كلهم يسمون الناطق متكلما ، ومن عداه ساكتا أو أخرس .
ومن خالف كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الناس كلهم على اختلاف طبقاتهم فلا يعتد بخلافه " انتهى كلام ابن قدامة .
===
وما جاء فيه بعد ( قلت ) فهو توضيح مني.

[ هذا المقال نشر بتاريخ 25/8/1999 ، في شبكة سحاب].

كتبه ... الموحد