صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







أعلام وأقزام .. محمد حسنين هيكل (2)

د. خالد سعد النجار

 
بسم الله الرحمن الرحيم

السـابــق

عندما نتطرق لأزمة الثقافة العربية المعاصرة لا نقصد التجريح أو التشهير، بل المقصود عرض لمسيرة النخبة المثقفة التي تضخمت في الإعلام العربي (مصر نموذجا)، وأخذت حيزا وزخما كبيرا، فرصد واقع هذه النخبة يشير إلى أن وراء الأكمة شيئا ماكرا يدبر لهذه الأمة، سواء كان هذا التدبير داخليا أو خارجيا، إلا أن المحصلة أن أكثرية هذه النخبة المثقفة لم تكن على المستوى المطلوب الذي يرضاه الدين والعقل والعرف، وأنها أقحمت المجتمع العربي في أمور منافية لعقيدتنا الصافية وأعرافنا الراقية وتقاليدنا السامية، بل وصدرت لنا من غثاء الغرب الفكري والسلوكي الكثير والكثير، في الوقت الذي كنا في أشد الحاجة لنتعرف على مقومات النهضة العالمية، والاستفادة من خبرات الشعوب المتقدمة في مسيرتها التنموية، في إطار ثوابتنا الدينية الإسلامية الغالية.

هيكل وعبد الناصر

كان أول لقاء جمع بين هيكل وناصر في حرب فلسطين التي شارك فيها عبد الناصر، ولم تكد لقاءاتهما تنقطع قبل الإطاحة بالملك فاروق، واستمرت وتوطدت بعد الإطاحة به، وأصبحت في أعلى درجاتها مع تولي عبد الناصر الحكم.
كان هيكل بمثابة «ظل عبد الناصر» الذي لا يفارقه، وكان ناصر بحاجة إلى صحفي يفلسف أفكاره وطموحاته ونرجسيته، ويقدمها إلى الناس بطريقة شعبوية جماهيرية تدغدغ العواطف وتلهب المشاعر.
لكن مكانة هيكل كانت أعظم حتَّى من هذا؛ فقد كانت التجربة الناصرية تحتاج إلى تأطيرٍ نظريّ يستطيع (الزعيم) التحرُّك من خلاله، فقام هيكل بتحرير أفكار الرئيس وصياغتها لتطبع في كتاب بعنوان «فلسفة الثورة»، وبهذا أصبح هيكل عرَّاب (دولة يوليو) الأوحد ومنظِّرها.
كان هيكل شديد الولاء لعبد الناصر، وكان يكتب له خطبه الرنانة، حتى لقب «كاهن فرعون» الذي أورده وبلده موارد التهلكة عندما استمع إلى تحليلاته ونصائحه، فكانت ثمرة هذه النصائح الخائبة سلسلة من الهزائم بدأت بهزيمة حرب 1956، ثم فشل الوحدة مع سوريا 1960، وبعدها هزيمة حرب اليمن 1965، ثم كانت الهزيمة القاسية في حرب 1967، والتي قصمت ظهر عبد الناصر ورسمت نهايته.
وهيكل هو الذي كتب خطاب التنحِّي لعبد الناصر عقب هزيمة يونيو 1967، وهو الذي صكّ مصطلح «النكسة» وليس الهزيمة لتخفيف وطأتها النفسية، كما أنيطت به حقيبة الإعلام بعد قبول مصر «مبادرة روجرز» لوقف إطلاق النار، كما أنَّه كان في غرفة عبد الناصر أثناء وفاته، وكتب بيان وفاته الذي تلاه السادات. وتجاوزت إسهاماته للدولة المصرية عهد عبد الناصر لعهد السادات الذي كتب له تقرير التكليف الإستراتيجي لحرب أكتوبر 1973.
قال عنه الكاتب الراحل أنيس منصور: "كان مفكّر عبد الناصر، وصاغ الفكر السياسي له في هذه الفترة، ولم يحصل أي شخص على هذا الدور، وأكاد أقول إن عبد الناصر من اختراع هيكل".
لقد أتقن هيكل لعبة «الصحافي في خدمة السياسي»، كما أتقن فن أن يكون السياسي في خدمة الصحافي، وفي هذا السياق يقول الصحفي محمد حماد: "عرف هيكل مبكرا جدا ما يحتاج إليه رجل في موقع ومكانة عبد الناصر من أفكار وأخبار واتصالات، وأدى المطلوب على خير وجه، وعبر عن الزعيم بصورة كان يقول عنها عبد الناصر: «هذا بالضبط ما كنت أريد أن أقوله»".
كان قرار هيكل منذ البدايات الأولى أن يقترب من السلطة، بل ويلتصق بها، وكان يردد دائماً ومبكراً جداً، وربما في الأيام الأولى من الثورة، أن "الحاكم يحتاج لصحافي يعبر عنه"، وكان يؤكد بقناعة مطلقة: "وسأكون أنا هذا الصحافي".
أراد يوما أحد رؤساء التحرير أن ينافس هيكل ويثبت لعبد الناصر أنه أقدر من هيكل في تدعيم مكانته في نفوس الناس، فكتب مقالاً- في أكتوبر- 1964 قال فيه: "إن عبد الناصر خسارة في الشعب المصري، وإنه كان يجب أن يكون زعيماً لشعب متحضر مثل الشعب الإنجليزي أو الشعب الأمريكي لكي يثمر فيه جهد عبد الناصر".. وأغضب المقال عبد الناصر؛ لأنه رأى فيه مبالغة في النفاق تسيء إليه وإلى الشعب المصري.
وصلت العلاقة بين هيكل وعبد الناصر إلى حد شعر هيكل معه أنه هو من يفكر للزعيم ولا أحد غيره، وأن ناصر لا يتخذ قرارا إلا بعد مشورته. وكانت هناك أربع روايات ووقائع تجسد تلك العلاقة بين الطرفين.
(الواقعة الأولى) رواها صحافيون نقلا عن الأديب الراحل (يوسف إدريس) الذي دخل مكتب هيكل للقائه فقالت له السكرتيرة -وكان اسمها (نوال المحلاوي)-: "الأستاذ مشغول ولن يستطيع مقابلتك اليوم" فغضب الأديب الكبير، وقال لها: "أنا يوسف إدريس، من أنت لكي تتحدثي نيابة عن هيكل؟!". فقالت له: "أنا نوال المحلاوي .. اعتبرني رقم 3 في مصر".
فاستغرب إدريس الإجابة وسألها: "كيف لمثلك أن تكون رقم 3"، فقالت: "من يحكم مصر؟"، رد إدريس: "عبد الناصر"، فأجابت: "وعبد الناصر في جيب الأستاذ هيكل، والأستاذ في جيبي". واختتمت قائلة: "تفضل وسأحدد لك موعدا". ولم يرجع الأديب لمكتب هيكل مرة أخرى.
(الرواية الثانية) يرويها الكاتب الصحفي (محمد حماد) وكانت في عام 1968، حيث كان أنور السادات رئيسا لمجلس الأمة، وذهب للقاء هيكل بمكتبه في الأهرام، لكن هذا اللقاء لم يتم. وانتظر السادات 45 دقيقة في قاعة الضيوف الملحقة بمكتب هيكل، رغم وجود موعد سابق. وبعد أن تكرر إلحاح السادات للسكرتيرة بأن تسأل الأستاذ إذا كان يرغب في تأجيل الموعد إلى يوم آخر، دخلت السكرتيرة وخرجت بعد ثوان، لتقول للسادات: "اليوم الأربعاء، والأستاذ مشغول بكتابة المقال. سيحدد لسيادتك موعدا آخر، إن شاء الله"!!. وكانت تلك غصة في حلق السادات ذكّر هيكل بها فيما بعد.
(الرواية الثالثة) -ويرويها حماد أيضا-: كانت نوال المحلاوي سكرتيرة هيكل تصل إلى مكتبها في ساعة مبكرة من الصباح، طوال فترة عملها مع هيكل، وحدث ذات صباح أن تأخرت عن موعدها، فقالوا: تأخرت!!.. وبعد قليل أصبح الأمر أكثر من مجرد تأخير، وسرى الخبر سريانا سريعا، حتى خارج مبنى مؤسسة الأهرام، مصحوبا بتكهنات وشائعات مختلطة، كانت من بينها شائعة واحدة صحيحة .. لقد اعتقلت السيدة، ووضعت في السجن، بأمر الرئيس عبد الناصر شخصيا.
وكانت سكرتيرة هيكل قبل أيام قليلة تقضى السهرة بصحبة زوجها، مع الكاتب اليساري المعروف لطفي الخولي وزوجته ولأن الجلسة لا تضم غرباء، فقد تحدث الجميع على راحتهم. وتطوعت المحلاوي بطرح معلومات قيل إنها من الأسرار العليا جدا، وفي مصر كلها لم يكن يعرف عنها شيئا، باستثناء اثنين: عبد الناصر وهيكل.
وبالطبع لم تكن هي ولا من معها يتصورون أن أجهزة التسجيل قد سبقتهم إلى حيث سيقضون سهرتهم الوديعة، وبعد إجراء التحقيق معهم جميعا، أودعوا في السجن، حتى تدخل هيكل لدى عبد الناصر فأمر بالإفراج عن السكرتيرة، التي عادت إلى الأهرام، ولكن في موقع آخر بعيدا عن خزائن الأسرار، فقد ألحقت بقسم الترجمة الذي يختص بترجمة الكتب العالمية عن مختلف لغات العالم.
(الرواية الرابعة): كتب المحرر البرلماني في الأهرام ما لم يعجب السادات، وكان وقتها رئيساً لمجلس الأمة، فطلبه إلى مكتبه وعنفه، ويكاد يكون طرده من المكتب بطريقة غير لائقة، وذهب المحرر إلى هيكل طالباً نقله إلى عمل آخر، وعندما استفسر عن الأسباب ذكر له ما حدث، فلم يكن من هيكل إلا أن طلب منه أن يخرج من مكتبه مباشرة إلى مكتب السادات قائلا: اذهب إليه الآن، وسوف يعتذر لك.
لم يكد الصحفي يصل إلى أول شارع مجلس الأمة، وقبل دخوله بوابة المجلس، وجد من يبلغونه أن السادات يطلبه، ويسأل عنه، وما إن وصل إلى مكتب السادات حتى بادره قائلا: "دا كلام! رايح تشتكيني للأستاذ هيكل! أنت صدقت يا سيدي، أنا أعتذر لك".
يقول الأستاذ (رياض ولد أحمد الهادي): "ووسط هيجان عواطف والتهاب مشاعر الجماهير العربية والتفافها حول عبد الناصر, وشعارات الثورة والقومية العربية والوحدة العربية .. برز هيكل, بما أوتي من قدرة على استغلال المواقف بالتزييف والمغالطة وتملق مشاعر وعواطف الجماهير للفت الانتباه إليه وتكبير صورته .. وقد كانت براعته مذهلة في الـمَلق والتزلف وإخفاء وقلب الحقائق لعبد الناصر, فنجح في كسب ود وثقة «معبود الجماهير» فحمل على الأعناق، وأصبح فوق الشبهات والنقد، لأنه صار كالظل لعبد الناصر، وتمكن من الهيمنة على مؤسسة الأهرام ذات الوزن السياسي والإعلامي المتميز يومها, فاحتكر لنفسه ملحقا أسبوعيا يكتب فيه كل يوم جمعة تحت عنوان «بصراحة» ما يرضي عواطف الجماهير من المدح، والتنويه بثورة ومبادئ وأهداف عبد الناصر "الذي أطعمهم من جوع وأمنهم من خوف", وكان هذا الملحق -في جوهره- منبرا اتخذه هيكل للترويج لـهيكل وعلاقته بعبد الناصر وثقته به وبخبرته السياسية, وثقافته الواسعة .. وعلاقاته وصلاته المباشرة بمختلف عظماء العالم من ملوك ورؤساء وساسة ومفكرين.. الخ.
وكأن هيكل نـِد للجميع ومبرز على الجميع .. ويكفيك أن تقرأ أحاديث هيكل الأسبوعية لتشعر وكأنك في ناد لعظماء العالم فتضيق ذرعا بعبارات مثل (قال لي جمال.. أو الرئيس .. أو الملك.. أو فلان.. وقلت له.. وسألني.. وسألته.. وأضحكني.. وأضحكته.. وكتب لي وكتبت له.. واستدعاني للعشاء في جناحه... وجلست بجانبه في الطائرة) وهكذا.. وهكذا".
ووصف الصحفي اللبناني (سليم نصار) هيكل بأنه موظف ذكي خدم النظام الناصري، وسخَّر موهبته لتدبيج مقالات كانت أشبه ببيانات رسمية مغلفة بأسلوب شيّق ومادة دسمة، ثم ظهر في دور جديد بعد وفاة عبد الناصر، وبروز خلفه أنور السادات الذي عارضه هيكل من خلال كتابيه: «سنوات الغليان» و «خريف الغضب».
«لمصر لا لعبد الناصر» .. مجموعة من المقالات التي كتبها هيكل عام 1974 ونشرت خارج مصر، يفند فيها الاتهامات التي صدرت ضد عبد الناصر في إطار حرب التشويه التي شنها النظام وقتذاك، بمعونة بعض أعداء عبد الناصر الخارجين من المعتقلات، بالإضافة إلى وكالة الاستخبارات الأميركية المركزية التي ينسب إليها هيكل الحملة كلها، ويرى أن مخطط اغتيال عبد الناصر معنوياً جاء تالياً لفشل الوكالة في اغتياله مادياً بعد عدة محاولات متكررة باءت جميعها بالفشل.

د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com

تـــابــــع
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
د.خالد النجار
  • تربية الأبناء
  • المقالات
  • بين زوجين
  • موسميات
  • مع المصطفى
  • تراجم وشخصيات
  • إدارة الذات
  • زهد ورقائق
  • مع الأحداث
  • قضايا معاصرة
  • القرآن الكريم وعلومه
  • التاريخ والحضارة
  • من بطون الكتب
  • الصفحة الرئيسية