اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/alsakran/35.htm?print_it=1

ذرائـع الإصـلاحيين

إبراهيم بن عمر السكران


الحمدلله وبعد،،
ثمة عدد من الكتاب يسمون أنفسهم (إصلاحيين سياسيين)، ويرددون مجموعة من الشعارات، سأناقش هاهنا بعضها، وأنا شخصياً أرى أن تسميتهم بالإصلاحيين السياسيين خطأ، وسأستعمله هاهنا إجرائياً فقط، وإنما هم مجموعة من الناقمين على الخطاب الشرعي لأهل السنة، ويشحنون الشباب المسلم ضد المتدينين، وحديثهم كله شتم وتهكم في الصحوة الإسلامية والسلفية ودروس العقيدة، وكما قال أحد الفضلاء: (لوكان مع الإصلاحي عشرة سهام، لرمى المستبد بسهم، ورمى السلفية بتسعة)، وهذه أصدق كلمة قيلت فيهم، وهذه مناقشة سريعة لأهم مايدور في خطابهم:

-يتساءل بعضهم ماجوهر الخلاف بين الإصلاحيين وأهل السنة، والحقيقة أن جوهر الخلاف هو أن الإصلاحيين يختزلون الإسلام كله في قضية (الحرية السياسية) أو (مقاومة الاستبداد)، وأهل السنة يرون أن الإسلام شامل فيشمل جميع مطالب القرآن، ولذلك حين يتحدث الإصلاحيون عن (الإصلاح السياسي) فإنما يعنون به الحرية وتداول السلطة ونحوها، أما حين يتحدث أهل السنة عن (الإصلاح السياسي) فإنما يعنون به (تحكيم الشريعة) وتحكيم الشريعة شامل لكل ماجاء به القرآن والسنة من أحكام في العقيدة والأعراض والأموال والسياسة الشرعية، فيضع أهل السنة لكل قضية مرتبتها.

ومن أهم مايبين هذا هو التفريق القرآني بين (الاحتساب الكفائي) و (تبعيض الوحي)، فالاحتساب الكفائي مدحه القرآن وهو أن يقوم المرء ببعض ابواب الدين دون أن يلغي البقية كما قال تعالى (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين)، وأما تبعيض الوحي فقد ذمه القرآن وهو أن يقيم الإنسان بعض الدين ويلغي البقية كما قال تعالى (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) وذم تعالى تعضين القرآن أي تجزئته كما قال تعالى (الذين جعلوا القرآن عضين) وذم تعالى انتقاص بعضه فقال (تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا).

ومشكلة أدعياء الإصلاح السياسي أنهم لايقومون بالاحتساب الكفائي في باب السياسة الشرعية مع توقير بقية أبواب الدين، بل يقومون بتبعيض الوحي وتجزئته عبر المغالاة في بعض أبوابه، وجحد أبواب أخرى.

وهذا مثل لوجاءنا رجل وأقر بالصلاة وأنكر الزكاة، فإنه ضال، وليس ضلاله بسبب إقراره بالصلاة، ولكن ضلاله بسبب إنكاره للزكاة، وهكذا ضلال كثير من أدعياء الإصلاح السياسي فإنما هو ليس بسبب عنايتهم بالقضية السياسية وإنما لجحدهم أبواب الدين الأخرى كتعظيم العقيدة وتوقير السلف ونحوها.

وقد لاحظت أن أكثرهم لازال يكابر حول هذه القضية فبمجرد أن ينكر عليه أحد من أهل السنة تهكمهم بقضايا العقيدة والفقه ومقاومة التغريب فإنهم يهرعون إلى ذكر الأدلة الشرعية على أهمية الشورى وإنكار مظالم الولاة، وهم يعلمون جيداً أنه ليس هذا محل النزاع، فلم يذم أهل العلم ناقداً سياسياً يحترم بقية أبواب الدين، وإنما محل النزاع هو "استخفافهم بأبواب الشريعة الأخرى" وجرأتهم العظيمة على السلف.

ومع ذلك يصرون على تكرار هذه القضية! وهذا كما لو أن شخصاً يقر بوجوب الصوم ويجحد الحج، فكلما أنكرت عليه جحده للحج أخذ يتلو عليك أدلة وجوب الصيام، تحاول أن تفهمه أنك تنكر عليه جحد الحج وليس وجوب الصيام، ومع ذلك يستمر في إعادة أدلة وجوب الصيام! فمثل هذا واضح أنه يكابر للتهرب من جوهر المشكلة.

وسأضرب أمثلة أخرى لمزيد التوضيح لأنهم لازالوا يتلونون في هذه القضية ولايواجهونها بوضوح: نجد اليوم بين الإسلاميين عددا من الناشطين والمهتمين بمجال (الإعلام الإسلامي) ومع ذلك لم نجد علماء ودعاة أهل السنة ينافرونهم، بل وجدناهم يدعمونهم ويعدونهم جزءاً من العمل الإسلامي، مالسبب؟ السبب أن هؤلاء الإعلاميين الإسلاميين لم يهتموا بالإعلام الإسلامي على سبيل التبعيض للدين، بل على سبيل الاحتساب الكفائي، بخلاف أدعياء الإصلاح السياسي.

وكذلك نجد في الإسلاميين عدداً من الناشطين والمهتمين بمجال (الأدب الإسلامي) ومع ذلك لم نجد علماء ودعاة أهل السنة يذمونهم، بل وجدناهم داعمين لهم شاكرين لجهودهم، مالسبب؟ بسبب أنهم لم يتهكموا ببقية أبواب الدين الأخرى.

بل تأمل ماهو أشد وضوحاً من ذلك، وهو عدد من الكتاب والناشطين غير المحسوبين على الإسلاميين، مثل الكاتب الفاضل محمد الرطيان، والدكتور الفاضل القنيبط، فهذان الرمزان ناشطان جداً في النقد السياسي، ومع ذلك وجدنا الإسلاميين يتداولون المواد التي ينتجونها ويحترمونهم، برغم أنهم غير محسوبين على الإسلاميين، مالسبب؟ السبب أنهم لم ينجرفوا لشتم بقية أبواب الشريعة الأخرى.

والمراد أن مشكلة أدعياء الإصلاح السياسي ليست عنايتهم بقضية مقاومة الاستبداد، وإنما كثرة تهكمهم ولمزهم لجهود حفظ العقيدة وحفظ الأعراض، وهم يعرفون ذلك جيداً، لكنها الأهواء وشهوة المخاصمة إذا استولت على النفوس أردت أصحابها وورطتهم في عبارات موحشة في الإزراء بالسلف وعلومهم، ولذلك روى اللالكائي بسنده عن عمروبن قيس أنه قال: قلت للحكم بن عتيبة: ما اضطر الناس إلى هذه الأهواء أن يدخلوا فيها: قال: (الخصومات). وصدق رحمه الله فقد رأينا عياناً كيف أدت مشاحنة السلفية بأقوام من الفضلاء إلى منحدرات الأهواء السحيقة.

-يقول بعضهم أن الاصلاحيين ليسوا ضد العقيدة، بل هم متخصصون فقط في الجانب السياسي، وهذا يكذبه واقعهم، فهم حين يتحدثون عن الإصلاح السياسي يلمزون الطحاوية والواسطية والتدمرية ونحوها من كتب العقيدة، ولايستطيعون التخلص من ذلك، ويلمزون أئمة السلف لاشتغالهم بقضايا كخلق القرآن وتعطيل الصفات والبدع وتفاصيل الأحكام الفقهية ونحوها.

فإذا أنكر عليهم أهل السنة تهجمهم على العقيدة والسلف فزعوا وأخذوا يتباكون ويقولون: نحن نهتم بالاصلاح السياسي، ولسنا خصوم للعقيدة!. وهذا ديدنهم، يتهكمون بعلوم الوحي، فإذا شنع عليهم بذلك، عادو يقولون: نحن فقط محتسبون في الجانب السياسي، دعونا نحن فيه واشتغلوا أنتم بالعقيدة! وهذه لعبة صارت مكشوفة، ولو كانوا مشغولين بالجانب السياسي دون عبث ببقية أبواب الشريعة لكنا من أنصارهم، ولتعبدنا الله بمعاضدتهم والدفاع عنهم، ولكن دام أنهم مستغرقون في تشويه عقائد أئمة السلف والاستخفاف بها، فعقيدة السلف أغلى في نفوسنا من كل صناديق الاقتراع في العالم.

-ومن مقالاتهم أنهم يقولون: نحن ندافع عنكم وعن حق مشايخكم في القاء الدروس، وهذا خير لكم من الاستبداد السياسي الذي يضيق على دروسكم، والحقيقة أن المستبد السياسي خير منكم ألف مرة، فأهل العلم الراسخون سلمت دروسهم من المستبد السياسي، لكنها لم تسلم من ألسنتكم وتهكمكم، إذا كان هذا هو دفاعكم عن دروس أهل العلم فكيف سيكون هجومكم؟!

-ومن أقوالهم: أننا نهون من أهمية العقيدة بسبب أن المسلمين في هذا البلد عقائدهم سليمة ولله الحمد، والحقيقة لوكلفوا أنفسهم بالتساؤل: لماذا كانت عقائد هذا البلد أغلبها سليمة؟ فسيكتشفون أنهم يقومون بكسر أسباب هذه السلامة، فسلامة عقيدة أغلب هذا البلد وضعف أهل البدع المغلظة فيه كالرافضة والاسماعيلية وغلاة الصوفية إنما هو بسبب جهود أهل السنة في الدفاع عن العقيدة وشرحها وبيانها للناس، ولو كان أهل السنة سمعوا كلامكم لكنا الآن في بلد يموج بالبدع المغلظة والاستعلان بالشركيات، فأنتم كمن رأى شخصاً جريحاً لكنه لازال حياً بسبب مايقدم له من الطعام، فقرر قطع الطعام عنه لكي يعالج جرحه! حسناً عالجوا الجرح دون أن تقطعوا الغذاء!

-حين يرى المتابع حديث الإصلاحيين السياسيين في ذم الانهماك في قضايا حفظ العقيدة وحفظ الأعراض، يخيل إليه أن الإسلاميين جميعهم مشغولون بهذا الأمر، وواقع الحال أن المتخصصين العقديين والمحتسبون في قضايا الفضيلة محدودون جداً، بل لازالوا دون مستوى تغطية الاحتياجات، وكثير من الإسلاميين مشغول بقضايا أخرى: مثل فقه المعاملات والاقتصاد الاسلامي، والفكر الإسلامي، والإعلام الإسلامي، والأدب الإسلامي، الخ، فضلاً عن كثير من الإسلاميين المشغولين بشؤونهم الشخصية، ولكن هؤلاء يضخمون عدد المشتغلين بحفظ العقيدة وحفظ الأعراض حتى يتوهم القارئ المسكين أن الإسلاميين غالوا في هذا الجانب!

-يقول بعض أدعياء الإصلاح السياسي مشكلتنا ليست مع النصوص الشرعية بل مع السلفية المعاصرة، فإذا تأملت كلامهم وجدتهم يسخرون من أحاديث منع الخروج (وهي متواترة معنوياً)، وأحاديث السمع والطاعة وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك (وهو في صحيح مسلم) ويقولون أن أهل السنة يكرسون الاستبداد لأنهم يمنعون الخروج ويأمرون بالسمع والطاعة! وهذا أولاً كذب على أهل السنة من جهة اجتزاء الصورة، فإن أهل السنة لهم قواعد متكاملة من أخذ ببعضها فقد شوه صورتهم، فأهل السنة: يمنعون الخروج المسلح، ويأمرون بالسمع والطاعة "بالمعروف"، ويأمرون بالإنكار بحسب مراتبه الثلاث.

وتجدهم هؤلاء أحياناً يقولون: أهل السنة يكرسون الاستبداد، فإذا قلت لهم: لم؟ قالوا لأن بعض العلماء منع الإنكار العلني! وهذا تزوير لحقيقة موقف العلماء المانعين للإنكار العلني، ولنضرب على ذلك مثالاً حياً، فأشهر من يمنع الإنكار العلني من علماء أهل السنة الشيخ صالح الفوزان، ومع ذلك إذا تأملت فتاواه وجدته ينكر كل المنكرات العلنية كالربا والاختلاط ووحدة الأديان والتوسعة الأفقية للمسعى (بحسب رؤية الشيخ أنها لاتجوز) وغيرها مما تحمس له السياسي! فإذا تأمل المنصف ذلك علم ماذا يقصد الشيخ صالح الفوزان بمنع الإنكار العلني، وأن الشيخ يقصد التشنيع والتهييج على أشخاص النظام السياسي، وليس إنكار المنكر نفسه، فالشيخ يخالف في طريقة الإنكار لا في أصل الإنكار العلني. والمراد أن قولهم أن مشكلتنا ليست مع النصوص الشرعية بل مع السلفية المعاصرة ينقضها سلوكهم في التهكم بكثير من المعطيات الشرعية.

وبعض الإصلاحيين يقول مشكلتنا ليست مع السلف بل مع السلفية المعاصرة، فإذا تأملت كلامهم وجدتهم يتهكمون بعلم العقيدة التي أنتجها السلف وعظموا شأنها، وكان هؤلاء السلف الذين تكلموا في هذه القضايا العقدية في عصور استبداد، ولم يكونوا في عصر خلافة راشدة! ولذلك فهم يذمون السلف عبر ستار نقد السلفية المعاصرة.

-ومن شعارات الإصلاحيين السياسيين قولهم أن علماء ودعاة أهل السنة غائبين عن الواقع المعاصرة والثقافة الحديثة، والحقيقة أننا إذا تأملنا العقائد والمدارس الفكرية والمدارس الأدبية المعاصرة وجدنا أمثال سفر الحوالي وسعيد بن ناصر الغامدي وعبدالرحيم السلمي وعبدالله القرني ونحوهم من المشايخ أخبر وأدق في الاطلاع عليها، ولهم مؤلفات علمية عميقة في هذه القضايا.

ولما تأملنا القضايا الاقتصادية الحديثة وجدنا أمثال الشيخ ابن منيع وصالح الأطرم والشبيلي والعصيمي ونحوهم أخبر منهم وأدق، ولهم من الكلام في تفاصيلها مالا يستوعبه هؤلاء أدعياء الإصلاح السياسي.
بل حتى بحر السياسة نفسه، فكتاب الشيخ سعد بن مطر العتيبي عن (علائق الدولة الإسلامية بغير المسلمين) فيه من تفاصيل قوانين العلاقات الدولية مالايحيط به أمثال هؤلاء! وكذلك ماكتبه الشرعيون في قضايا القانون الدولي.
فحين أتأمل هذا الزهو الثقافي المجوف الذي يردده أمثال هؤلاء أدعياء الإصلاح السياسي أتعجب وأقول في نفسي: على أي شئ تستند هذه الخيلاء الثقافية الفارغة ياترى؟!

-ومن أكثر شعارات الإصلاحيين السياسيين ترداداً شعار "الديمقراطية"، وأغلب من رأيت من المنتسبين للفكر الإسلامي ممن يتحدث عن الديمقراطية رأيتهم يتحولون تدريجياً من (أسلمة الديمقراطية) إلى (دمقرطة الإسلام)، ففي البداية يحاولون تعديل عناصر الديمقراطية لتتوافق مع الإسلام، ثم لايلبثون تدريجياً إلى تأويل أحكام الإسلام لتتوافق مع الديمقراطية الغربية!

والكلام عن موضوع الديمقراطية يحتاج لبسط، لكنني سأحاول تقديم مختصر هاهنا، وسأفرد له رسالة مستقلة بإذن الله، لشدة خطر هذا المفهوم على الأحكام الشرعية، فكل من تشرب الديمقراطية وأشرب هواها وجدناه يحرف تدريجياً بعض الأحكام الشرعية.

وأساس هذه القضية ومعقدها ومفصلها هو استيعاب أن الولاية (عقد سياسي شرعي)، ولذلك سماه الله مبايعة (إن الذين يبايعونك)، وسمي أهلها (أهل الحل والعقد)، لأنهم يحلون العقد ويعقدون العقد، وجعل الفقهاء الإمام نائباً عن المسلمين والنيابة عقد من العقود الشرعية، ولذلك لما تحدث الإمام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى عن قاعدة الشروط عمم الأمر وقال (وكذا في شروط البيوع والهبات والوقوف والنذور وعقود البيعة للأئمة)، فجعل البيعة الأئمة داخلة في قاعدة العقود والشروط، وهذا يعني أن فيها شروطاً شرعية (من أصل الوضع الشرعي) وفيها شروط جعلية (بحسب اتفاق العاقدين)، ومن استوعب التكييف الفقهي للولاية والبيعة انحلت عنه أكثر المسائل المشكلة في فقه السياسة الشرعية، فجمهور مسائل نظام الحكم في الشريعة فرع عن تكييف الولاية والبيعة والامامة.

وعلى ذلك فإن هذا العقد السياسي الشرعي لايجوز أن يعقد فيه أي شروط باطلة، ومن جعل في عقد الولاية شرطاً محرماً فهو عقد محرم، والديمقراطية تضمنت شروطاً باطلة كثيرة، منها: أن تكون الأحكام الشرعية خاضعة للتصويت، والمساواة بين المسلم وغير المسلم في الحقوق السياسية كحق الترشح والانتخاب، وحق أهل الضلال في نشر ضلالهم والدعوة إليه، وحق المرأة في تولي الولاية العامة، وحق المواطن في تغيير دينه دون قتل (الردة)، ونحو ذلك.

وأعظم هذه المصائب التي في الديمقراطية هي (جعل الشريعة على أساس الخيرة لا على أساس الإلزام) والله تعالى أبطل أن تكون الشريعة على أساس الخيرة كما قال تعالى (وما كان لمؤمن ولامؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم).

-أما إجاباتهم عن هذه الشروط الباطلة في عقد الولاية في النظام الديمقراطي، فهي إجابات متعددة منها: قولهم أن المجتمع المسلم سيختار قطعاً الأحكام الموافقة للشريعة، ويستحيل أن يختار أحكاماً مخالفة للشريعة، وهذا خروج عن أصل الإشكال، فالإشكال هو في العقد نفسه، فمادام أن عقد الولاية يتضمن الإقرار بشرعية أي حكم ينجح في التصويت حتى لوكان مخالفاً للشريعة فهذا عقد باطل، بغض النظر عن احتمالات وقوعه، وهذه قاعدة معروفة في العقود الشرعية، ومن ذلك أنه لو جاءنا أحد البنوك وقال سنأخذ من العميل مائة ريال قرضاً إلى أجل فإن لم يستطع البنك السداد للعميل يعطى العميل زيادة ربوية، فنحن نعلم أنه من المستبعد أن يعجز البنك عن سداد مثل هذه القيمة الزهيدة، ومع ذلك يحرم هذا العقد لأنه عقد تضمن شرطاً ربوياً، حتى مع ضعف احتمال عدم وقوعه.

-ومن إجاباتهم قولهم: أنه لو قرر الشعب إلغاء مادة حاكمية الشعب من الدستور لم يكن مجتمعاً مسلماً أصلاً، فلا داعي لبحث المسألة من الأصل، وهذا أيضاً غير صحيح، من جهة أن العقد الباطل لايجوز إبرامه حتى مع ضعف احتمال عدم وقوعه، ومنها أن المشكلة ليست في أصل مادة "حاكمية الشريعة" في الدستور، وإنما المشكلة غالباً في آحاد الأحكام الشرعية التي تسلخ تدريجياً عبر البرلمانات، حتى يصل الأمر إلى أن تكون مادة حاكمية الشريعة مجرد (هوية اجتماعية) وليست نظاماً تشريعياً، والإقرار بحق أي أحد كائناً من كان في أن يبدل حكماً شرعياً لايجوز، بل هو ناقض من نواقض الإسلام، فكيف إذا كان الأمر على عشرات الأحكام الشرعية؟!

-ومن إجاباتهم قولهم: أن الديمقراطية خاضعة للدستور، وإذا صنعنا دستوراً شرعياً فستكون الديمقراطية شرعية. وهذا جواب مضحك، فنحن الآن عاجزون عن تغيير واقع بعض مؤسسات الدولة، وهذا يقول سنصوغ الدستور! أجلب الإسلاميون بكل مايملكون من قوة لمنع البنوك الربوية ومضى المشروع، وقاوم كثير من كبار العلماء توسعة المسعى ومضى المشروع إلى نهاية الطريق، وحشد المحتسبون كل طاقتهم لمنع "اختلاط" في "جامعة" ولم يستطيعوا، وهذا يقول سنصوغ الدستور! ومن أنت حتى تصوغ دستوراً يحكم الناس جميعاً؟! يا أخي إذا وصلت إلى هذا المستوى من القوة السياسية فبالله عليك أعلنها خلافة إسلامية راشدة وأرحنا!

ثم إن قولهم أن الديمقراطية خاضعة للدستور خطأ محض، بل الدستور هو الذي خاضع للديمقراطية، فالدستور يغير بالطرق الديمقراطية، فالديمقراطية فوق الدستور.

-وأما قولهم إن احتمالات تغيير الدستور ضعيفة لأن إجراءاته طويلة ومعقدة، فهذا أولاً خروج عن الإشكال، لأن أصل الإشكال في العقد، فلايجوز التعاقد على باطل، بغض النظر عن احتمالات عدم وقوعه، وهذا كمن يقول يجوز التعاقد بالربا إذا كان وقوع الفائدة طويل ومعقد! وثانياً هذا غير صحيح، فكل دساتير العالم مرت بتغييرات، والإقرار بحق التصويت في تغيير حكم شرعي واحد كافٍ لتحريم العقد.

-وأما قولهم إن الديمقراطية تكفل حق المعارضة، فحتى لوحدث تغيير لحكم شرعي فإننا سنعارض، فهذا كمن يقول لكم الحق في إقامة الربا ولكن لنا الحق في معارضته! أو لكم الحق في وضع الخمور في الفنادق لكن لنا الحق في معارضته! فحق المعارضة لايمنح الشرعية للباطل ليكون له الحق في الوجود! ومتى صار الحق في الإنكار ذريعة للحق في إقامة المنكر؟! هل يقول هذه الحجة رجل عرف الفقه الإسلامي؟ بل يقال لصاحب المنكر: لاحق لك في إقامة المنكر المخالف للشرع، والإنكار عليك ليس حق لنا بل واجب شرعي علينا بحسب درجات الإنكار الثلاث.

-وأما قولهم أن النبي ترك المنافقين في المدينة وهذا دليل على الحق في نشر المنكر، فهذا من أبشع أدلتهم، لأن المنافقين كانوا يستهزؤون بالله وكتابه ورسوله كما قال تعالى (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون) فمؤدى كلام هؤلاء أنه لايجوز لنا أن نعاقب من يشتم الله أو يشتم القرآن أو يشتم الرسول! فانظر كيف قادهم استدلالهم الخاطئ إلى مقتضيات في غاية الخطورة.

وسبب هذا الخطأ الخطير في الاستدلال أنهم توهموا أن المنافقين يستعلنون ويجاهرون بنفاقهم مع أن آيات القرآن ظاهرة في استتارهم وتدسسهم بها كما قال تعالى (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لاتعلمهم نحن نعلمهم) فأخبر أن النبي لايعلمهم، وفي آية أخرى قال (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول) فأخبر أن غاية مايعرفون به لحن قولهم، ولو كانوا يجاهرون بالكفر لسمو كفاراً ولم يسمهم الله منافقين! فالنفاق أصله اللغوي إما من الاستتار (النفق) أو من مخالفة الباطن للظاهر (النافقاء) وفيه تفصيل مشهور ليس هذا موضعه، وإنما المراد أن مبناه على عدم الظهور، فكيف يحتج بأفعال المنافقين الذين يجتهدون في سترها، على حق أهل الضلال في نشر ضلالهم والدعوة إليه علناً جهاراً، كيف يقاس الجهر على الإسرار؟! هل هناك في الدنيا قياس مع الفارق أبعد من هذا؟!

-وأما قولهم أننا تركنا لفظ (السياسة الشرعية) إلى لفظ (الديمقراطية) لأن مفهوم الديمقراطية واضح وفيها آليات محسومة، بينما السياسة الشرعية غامضة وفيها خلاف. فالحقيقة أنهم ينقضون كلامهم هذا دوماً، فالديمقراطيون إذا احتج عليهم محتج بكون الديمقراطية فيها مخالفات شرعية قالوا لك: أنتم لاتفهمون الديمقراطية، الديمقراطية ديمقراطيااات، وأشكال وصور وصيغ في غاية التفاوت، فكيف تعممون؟! وبالمقابل: إذا قيل لهم لم تركتم لفظ السياسة الشرعية السليم شرعاً إلى لفظ يتضمن مفاهيم غير شرعية قالوا لك: الديمقراطية واضحة ومحسومة وليس فيها خلاف!
ومن اطلع على ماكتب حول مفهوم الديمقراطية وجد فيها من الخلاف أضعاف أضعاف ماوجد حول أصول السياسة الشرعية!

-ومما يدور في خطابهم أيضاً قولهم: أنه لما رأينا المستبد يستغل مفاهيم السياسة الشرعية ويوظفها لتكريس الاستبداد؛ اضطررنا إلى استخدام لفظ الديمقراطية لأنها أبعد عن التوظيف السئ، وما رأيت حجة أكثر طرافة من ذلك، فهل رأيتم يارحمكم الله حاكماً عربياً مستبداً لايتغنى بشعار الديمقراطية، كل النظم العربية المستبدة تدعي أنها ديمقراطية، وقد أتت بنفس الآليات الديمقراطية واستغلتها لتكريس الاستبداد، حين أسمع مثل هذه الحجة أتساءل: أين عقول هؤلاء؟

لنكن واقعيين أكثر: افترض أن النظام المستبد الذي تقولون أنه استغل مفاهيم السياسة الشرعية وافق على استعمال النظام الديمقراطي هل سيعجز عن استغلال ذات النظام لخلق جسد ملكي بملابس ديمقراطية؟! ياعزيزي من استطاع أن يوظف النصوص الشرعية لن يعجز عن توظيف نصوص البشر!

-وبعضهم يقول: لما رأينا الفقهاء اختلفوا في الشورى هل هي ملزمة أم معلمة، اضطررنا لاستخدام لفظ غير ملتبس وهو الديمقراطية، فهذه حجة تكشف الجهل بمعنى اختلاف الفقهاء في الشورى، فالشورى على مرتبتين: شورى التولية وشورى التدبير، فأما (شورى التولية) فلم يختلف أحد من المسلمين على لزومها، فإذا اختار المسلمون رجلاً انعقدت له الولاية ولايجوز الخروج عليه، كما قال عمر بن الخطاب في صحيح البخاري (فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه) [البخاري 6830].
وأما (شورى التدبير) ففيها خلاف معتبر، ولكنه ليس محل إشكال، فحتى في النظم الديمقراطية، وخصوصاً الرئاسية، يتمتع الرئيس بصلاحيات واسعة ولايلزم بكل مايقوله مستشاروه.

-ومما يدور في خطاب الإصلاحيين قولهم (الديمقراطية خير من الملكية) وهذه حجة بائسة، فكلا النظامين ليسا هما النظام المطلوب شرعاً، ولايستدل على صحة الباطل بباطل آخر، بل المطلوب هو (السياسة الشرعية) والسياسة الشرعية ليست هرقلية ملكية وراثية كما نص على ذلك أصحاب رسول الله، وليست ديمقراطية غربية تجعل شريعة رب الأرض والسماوات على أساس الخيرة وتساوي بين المسلم وغير المسلم على أساس المواطنة.

-وأما احتجاج الديمقراطيين ببعض فتاوى أئمة أهل السنة المعاصرين على المشاركة في الانتخابات كابن سعدي وابن باز وابن عثيمين وابن جبرين، فهم لم يفهموا هذه الفتاوى للأسف، فعلماؤنا المعاصرون قاطبة يفرقون بين أمرين: حكم إنشاء النظام السياسي غير المشروع، وحكم المشاركة في نظام سياسي غير مشروع. فيمنعون الأول، ويجيزون الثاني للمصلحة الراجحة.

ولذلك فلايجوز إقامة نظام هرقلي ملكي، لكن إذا كان نظاماً قائماً فلايجوز الخروج عليه، ويشرع المشاركة فيه، وهكذا النظام الديمقراطي، فلايشرع إقامة نظام ديمقراطي، لكن يشرع المشاركة فيه إذا كان قائماً للمصلحة الراجحة. ومن يستدل بفتاوى أهل العلم على جواز المشاركة في الانتخابات باعتبارها تجويزاً لإقامة نظام ديمقراطي، فهوكمن يحتج بفتاواهم في مشروعية المشاركة في المؤسسات المحرمة إذا رجي تخفيف شرها على جواز إقامة مؤسسات محرمة.

-من أراد استجماع أطراف الخلل في قضية النظام الديمقراطي فسيجدها في قضية (السيادة) فأهل السنة يرون السيادة المطلقة لـ(الشريعة)، والديمقراطيون يرون السيادة المطلقة لـ(البرلمان)، وشرعية الشريعة عندهم لاتستمدها من الفريضة الإلهية، بل تكتسبها من إقرار البرلمان.

-حين يرى المرء كثرة تغني الديمقراطيون بالديمقراطية وأنها الحل السحري وأنها عالم الفضائل، وأنها أصلح بيئة للشريعة، ثم ينظر في الواقع المحيط، فينظر للعراق ولبنان والكويت وتركيا، فيجد من قوادح التوحيد ومظاهر الإلحاد العلنية مايجعله يتساءل صادقاً: لماذا لم تنزل الجنة على الأرض في هذه النماذج الديمقراطية؟! أنتم تقولون أن الديمقراطية هي أحسن بيئة للإسلام، فهذه بيئات ديمقراطية ومع ذلك الوضع الشرعي فيها إما سئ، وإما يتدهور؟!

-ومن طريف أمر أدعياء الإصلاح السياسي أنهم يقولون أن شيوخ السلفية يكرسون الاستبداد وهم في صفقة مع الحكومة، يقولون ذلك وهم يسرحون ويمرحون بينما شيوخ السلفية كسليمان العلوان وعبدالله السعد وبشر البشر وعبدالعزيز الجليل وخالد الراشد وغيرهم معتقلون! يا أخي والله عيب تتهم السجناء بأنهم في صفقة مع السياسي ويكرسون الاستبداد؟! قليلاً من الحياء.

-وبعضهم يقول نريد ديمقراطية تجعل الشريعة فوق الدستور ولايجوز التصويت على أي حكم شرعي، بل مرجع الأحكام الشرعية أهل العلم، ولامساواة فيها بين المسلم وغير المسلم، ولا يحق للمرأة فيها الولاية العامة، ويقتل من بدل دينه، الخ فنقول له: يا أخي هذه ليست ديمقراطية، هذه سياسة شرعية، سمِّ الأمور بأسمائها، ولو قلت لأي مفكر غربي أو عربي إن هذه ديمقراطية لضحك عليك؟

-خلاصة الأمر .. أنني رأيت غالب من يدعو إلى الديمقراطية يبدأ بـ(أسلمة الديمقراطية) وينتهي بـ(دمقرطة الإسلام) أعني تأويل أحكامه لتوافق ما أشرب من هواه من هذه الديمقراطية الغربية، ويؤول حاله إلى: كثرة الحديث المنبهر المهزوم عن الحياة السياسية الغربية، والمساواة بين الكافر والمسلم في الحقوق السياسية على أساس المواطنة، والتهوك في حرية الأحزاب العلمانية في الدعوة والتغيير، واستباحة الإمامة العامة للمرأة، وجحد حد الردة، ولمز نصوص الطاعة السياسية في الصحاح والسنن، واعتبار فتاوى أئمة أهل السنة والجماعة في منع الخروج المسلح تكريساً للاستبداد، والتهكم بكتب العقيدة والفقه، الخ.

ومن المفارقات المتكررة طوال التاريخ والتي لها دلالتها الغزيرة أن كثيراً ممن يزاحمون سيادة الشرع بسيادة غيره (كالبرلمان) تجدهم يتظاهرون أمام الناس بتعظيم الشريعة والإيمان بها، مع كونهم عملياً منجرفين إلى سيادة غير الله ورسوله، ولذلك يقول تعالى تعليقاً على هذه المفارقة:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ} (60) سورة النساء
فهم نظرياً غير منكرين لتحكيم الشريعة، لكنهم عملياً يتحاكمون إلى الطاغوت شعروا أم لم يشعروا.

وأختم هذه المناقشة الموجزة بملاحظة جميلة لابن القيم صور فيها السياسة الشرعية بين الهرقلية والنظم الوضعية فقال:
(وقد أمرنا الله برد ما تنازعنا فيه إليه وإلى رسوله، فلم يبح لنا قط أن نرد ذلك إلى شريعة الديوان، ولا سياسة الملوك، فكل هذه طواغيت، من تحاكم إليها، أو دعا منازعة إلى التحاكم إليها؛ فقد حاكم إلى الطاغوت) [إعلام الموقعين مختصراً].

ماسبق هو مجرد مناقشة مختصرة لبعض أفكار أدعياء الإصلاح السياسي والديمقراطيين، وسأحاول متى ماتهيأ الأمر كتابة رسالة أوسع من هذه حول (أصول السياسة الشرعية) عند أهل السنة ومافيها من القواعد التي تنتظم الشأن السياسي أحسن انتظام وأوفاه، ومافيها من تحقيق العدل في العقيدة وفي الأعراض وفي الأموال وغيرها من أحكام الله ورسوله ومصالح العباد.

والله أعلم
ابوعمر
جمادى الأولى 1431هـ

 

إبراهيم السكران
  • كتب ورسائل
  • مقالات
  • مراجعة كتب
  • الصفحة الرئيسية