اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/alsakran/92.htm?print_it=1

إعادة قراءة الولاء والبراء

إبراهيم بن عمر السكران
@iosakran


قرأت للبعض مؤخراً أطروحات متعددة حول ضرورة إعادة قراءة (الولاء والبراء) ، وقضايا بغض الكافر، والزوجة الكتابية، الخ الخ .. ولما تأملت في كلامهم وجدت أنهم لم يتخلوا عن (الولاء والبراء) مثقال ذرة، ولم يتغير عندهم أي شئ حول وجود (الولاء والبراء) في تصرفاتهم وسلوكهم، وإنما الذي تحول عندهم هو (أرضيةالولاء والبراء) أو المبررات التي تستحق الولاء والبراء فقط.

فقد كانوا سابقاً يقولون يجب أن يبغض الإنسان كل من كفر بالله بغضاً دينياً، ثم صاروا الآن يستفظعون ذلك، لكن لو قلت لهم: إنني أحب من يعادي وطني لشنعو عليك، ولو قلت لهم: إنني أوالي أو أصافح من يعادي وطني لاعتبروا ذلك تطرفاً وتخلفاً.

فالقضية يا سادة ليست تخلٍ عن الولاء والبراء، وإنما إعادة تحديد لمن يستحق الولاء والبراء، فقد كانوا سابقاً يقولون أن "الله" هو المستحق لأن يكون الولاء والبراء على أساس القرب والبعد عنه، وصاروا الآن يقولون "الوطن" هو الذي يستحق الولاء والبراء على أساس القرب والبعد عنه.
هذه كل القضية.

فالولاء والبراء لم ينته لحظة واحدة، ولكن تحول أساس الولاء والبراء من (الله) إلى (الأرض) كما أشار تعالى فقال (وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) [الأعراف: 176] وقال تعالى (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ) [التوبة:38]

وهكذا كان فريق من الناس في عصر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يتعاملون مع الجهاد على أسس وطنية، لا على أسس عقدية، فهم لم يرفضو القتال، ولكن يرون القتال مبرراً على أساس الوطن لا العقيدة، كما قالوا في تحليلهم الفكري لجهاد الرسول (وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) [الأحزاب: 13]

إنه مشهد يتكرر، ولكنه يتكرر بألم، حين تكون الأرض أغلى في نفوسنا من الله، فيكون الولاء والبراء والبغض والمعاداة على أساس الوطن أمراً مقبولاً، بل رقياً فكرياً، لكن الولاء والبراء والبغض والمعاداة على أساس القرب والبعد من الله؛ فهذا كله تخلف وتقوقع في قراءات ضيقة لبعض النصوص!

الأمر لا يحتاج بتاتاً كل هذه الفذلكة، لكن لأن العقيدة انهارت في النفوس، وتشبعت القلوب بالإخلاد إلى الأرض، فقد فزع البعض إلى عيون الزوجة الكتابية لعلهم يجدون بين مشاعرها عذراً لنقل ولائهم وبرائهم من (الله) جل جلاله إلى (الوطن).

القضية باختصار شديد، لو كانوا يريدون الحق؛ أن كل كافر فهو عدو لله بمجرد كفره كما قال تعالى (فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) [البقرة:98] ، وأخبر أنه لايحب الكافرين فقال (فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) [آل عمران:32] وأخبر أنه يمقت الكافرين فقال (وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا) [فاطر:39].

وعداوة المؤمن تبع لعداوة الله كما قال تعالى (إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا) [النساء:101].

فكل مؤمن لابد أن يقوم في نفسه "العداوة القلبية الدينية" لكل عدو لخالقه ومولاه جل وعلا، فإن لم يجد هذه العداوة القلبية الدينية لأعداء ربه سبحانه فليبكِ على إيمانه، ولو كمل حب الله في قلبه فيستحيل أن يحب خالقه وعدو خالقه في آن واحد.

إلا إن كان المؤمن يتجرأ ويقول إن أعداء الله أحبابٌ له، فهذا شأن آخر.

أو كان المرء يقول: إن الكافر إذا لم يحاربنا فهو ليس عدو لله، وإذا حاربنا فهو عدو لله، فصارت كرامته أعظم في نفسه من كرامة الله، فهل يقول هذا عاقل؟!

فأي تحدٍ لله تعالى أن نقر أن الله عدو لجميع الكافرين، وأن الله لايحب جميع الكافرين، ثم نتحدى ربنا جل وعلا ونقول: أما نحن فنحب بعض الكافرين؟!

وتأمل معي في قوله تعالى (هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) [آل عمران:119]

فهؤلاء قوم مظهرين للمسالمة، بل يظهرون غاية المسالمة، حتى أنهم إذا لقو الذين آمنوا قال آمنا، ومع ذلك يلوم الله المؤمنين على حبهم، ولم يبح لهم حبهم بحسب ظاهرهم.

ثم تأمل معي كيف انعكست آيات البراء وبغض الكفار على أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- فمن ذلك أن اسماء بنت عميس وهي ممن هاجر إلى الحبشة تقول كما في صحيح البخاري (كنا في أرض البعداء البغضاء بالحبشة) [البخاري، 4230]
فبالله عليك انظر في قول هذه الصحابية الجليلة، فأهل الحبشة مسالمون، بل نفعوا أصحاب النبي حيث وفروا لهم لجوءاً سياسياً في وقت الأزمة مع قريش، ومع ذلك تسميهم "البُغَضاء"، لماذا؟ لأن هذه الصحابية الجليلة استوعبت درس القرآن جيداً، وأن كل كافرٍ فهو قطعاً عدو لله مبغوض له مهما كان مسالماً عسكرياً.

ولما بعث نبي الله –صلى الله عليه وسلم- عبدالله بن رواحة إلى اليهود لخرص الثمار خافو أن يظلمهم فقال لهم كما عند أحمد بسند صحيح: (يا معشر اليهود أنتم أبغض الخلق إلي، وليس يحملني بغضي إياكم على أن أحيف عليكم) [أحمد: 14966]

فهؤلاء كفار مسالمون وليسو محاربين، ومع ذلك يستعلن رضي الله عنه ببغضه لهم.

وأمثال هذه النماذج كثيرة في سيرة أصحاب رسول الله من بغض الكافر حتى لو كان مسالماً، ومن الطرائف أن بعض الناس لكي يتخلص من هذا الأصل الشرعي العظيم صار يسلك استراتيجية إلصاق أحكام البراء بالوهابية، ويدعي أننا أسرى للفكر الوهابي، وأن مسألة بغض الكفار جميعاً إنما هي فكرة وهابية، الخ وهي حيلة ساذجة للتخلص من قاعدة شرعية.



والواقع أن قاعدة (البغض العقدي للكافر) قد أطبقت عليها المذاهب الأربعة لأهل السنة والجماعة وليس مسألة ابتكرتها الدرر السنية، فقد قال السرخسي الحنفي (وهكذا ينبغي لكل مسلم أن يكون في بغض اليهود) [المبسوط، للسرخسي، 23/11].

وتعرض القرافي المالكي لبعض الأوامر الشرعية فقال (حب المؤمنين، وبغض الكافرين، وتعظيم رب العالمين،.. وغير ذلك من المأمورات) [الفروق، للقرافي، 1/201]
وقال ابن الحاج المالكي أيضاً (واجب على كل مسلم أن يبغض في الله من يكفر به) [المدخل، لابن الحاج، 2/47]
وقال الشيخ عليش المالكي (نفوس المسلمين مجبولة على بغض الكافرين) [منح الجليل، لعليش، 3/150 ]
وفي أشهر متون الشافعية (وتحرم مودة الكافر) [الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، للشربيني]
وقال العز بن عبدالسلام الشافعي (جنايته على أمر نفسه بالكفر أخرته، وأوجبت بغضه) [قواعد الأحكام، للعز بن عبدالسلام، 72]
بل هذا ابن سعدي الذي يحاول البعض تزوير صورته وأنه كان فقيهاً تغريبياً مبكراً يوضح رحمه الله التلازم بين الإيمان بالله وبغض الكافر فيقول (الإيمان يقتضي محبة المؤمنين وموالاتهم، وبغض الكافرين وعداوتهم) [تيسير الكريم الرحمن]

والمراد أن نصوص فقهاء المذاهب الأربعة لأهل السنة كثيرة في منع حب الكافر، فكيف يقال أن وجوب بغض الكفار فكرة ولدت في الدرعية وانتهت مع مؤتمرات حوار الأديان؟!

أم أن أئمة المذاهب الأربعة في القرون المتقدمة حفظوا في صغرهم "كشف الشبهات"؟! أم أرسلت إليهم نسخٌ من الدرر السنية؟!

أما قولهم: (إننا نقر أن الله أمر بمعاداة أعدائه كقوله تعالى (لاتتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) لكن هذه في المعتدي وليس كل الكفار أعداء لله) فهل يقول هذا من قرأ كتاب الله؟! فكل كافر فهو عدو لله أصلاً كما قال تعالى (فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) [البقرة:98] ، وقال تعالى (إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا) [النساء:101].

وأما قولهم (أننا نقر أن الله نهى عن موالاة الكفار، لكن آيات النهي عن موالاة الكفار لايلزم منها النهي عن حبهم والأمر ببغضهم، لأن الموالاة فيها قدر زائد على مجرد الحب والبغض وهي "النصرة") فالجواب أن "الموالاة" لفظ عام يشمل الحب والنصرة، فالحب موالاة، والنصرة موالاة، والنهي عن العام يشمل جميع أفراده.

ومن ظن أن الموالاة لاتكون إلا لما تركّب منهما فقد خالف النص الذي منع الحب كقوله (ها أنتم أولاء تحبونهم ولايحبونكم) وهي في المسالمين، وخالف إجماع الفقهاء على منع حب الكافر ومودته، فضلاً عن مخالفته لما حرره الفقهاء المحققين كقول الإمام ابن تيمية (وأصل الموالاة هي المحبة، كما أن أصل المعاداة البغض) [منهاج السنة]

وأما قولهم (إننا نقر أن الله نهى عن موادة من يحاد الله ورسوله، لكن المحاد هو المحارب) فهذا تحريف لكتاب الله، فإن الله تعالى قال (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ) [التوبة 62-63]

فهؤلاء الذين حلفوا لرسول الله ليسوا محاربين، ومع ذلك جعلهم الله محادين!

ولما ذكر الله حدود الله في مطلع المجادلة قال (إن الذين يحادون الله) ومعلوم أن انتهاك حدود الله ليس محاربة، ومع ذلك جعله الله محادة لله جل وعلا.

فإن كان هؤلاء يجعلون "المحادة" هي "المحاربة" فهذا باطل بكون الله في كتابه سمى مادون المحاربة محادة، وإن كان هؤلاء يجعلون المحادة كل قول وفعل يسئ إلى الله وكتابه ونبيه وشريعته، فلايكاد يوجد كافر معاصر لايسئ لأحكام الله في التعدد والقوامة والحجاب والقرار في البيوت والقتال الخ. فهؤلاء يقولون لنا إن الموادة المهي عنها مخصوصة بالمحاد، فإذا قلنا لهم هؤلاء الذين الذين ينتقدون أحكام الشرع من مستشرقين وسياسيين ومفكرين وعامة في المجتمعات الكافرة، لكنهم مسالمون غير محاربين، هل يجوز مودتهم، عادوا وتناقضوا وقالوا نعم يجوز لأنهم غير محاربين، وتركوا علتهم الأولى وهي المحادة!

وأما احتجاجهم بترخيص الشارع في الزواج بالكتابية، وأن هذا ينقض كل الآيات والأحاديث والآثار وإطباق المذاهب الأربعة، فقائل هذا الكلام ليست إشكاليته إشكالية مسألة مفردة بعينها، بل لديه إشكالية منهجية، وهي ترك الأصول الظاهرة وتحويل الاستثناء والمحتمل إلى قاعدة!

والجواب عن استدلالهم بـ(أن الله أباح الزواج بالكتابية، والزواج يفضي للمودة) أن يقال:
المودة الحاصلة بالزواج بالكتابية هي أمر كوني قدري، وأمر الله ببغض الكافر أمر شرعي ديني، وأوامر الله الشرعية لايعترض عليها بالأمور الكونية. والمحتج بذلك هو نظير من يقول: أن الله خلق الخلق مختلفين ولن يزالوا كذلك، فلا داعي للأمر بالجماعة والائتلاف! فأبطل أمر الله الشرعي بالأمر الكوني.

أو كمن يقول أن قضى على العباد أن تقع منهم المعاصي، وأخبر أن بني آدم مذنبون خطاؤون، وعليه فلا داعي لأن ننهى الناس عن المعاصي، فأبطل أمر الله بعدم معصيته بناء على الأمر الكوني من وقوع المعاصي!

وهكذا، فكيف يعترض على أمر الله ببغض الكفار، بأمر كوني قدري وهو وقوع المتزوج في حب زوجته؟!

ثم إنه لايمتنع أن تكون بين الزوجين عداوة دينية كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) [التغابن: 14]

فالله أثبت احتمال قيام العداوة الدينية بين الزوج والزوجة، فلا أدري لماذا يأخذون آية (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم: 21] والتي تتحدث عن المودة القدرية الكونية، ولايضمون معها هذه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) [التغابن: 14] والتي تثبت احتمال قيام العداوة الدينية.

ثم إن المودة التي ذكرها الله بين الزوجين لايلزم منها أن تكون دوماً هي الحب، بل قد يكون المراد بها الصلة والإحسان كما قال تعالى (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) فالنبي لايطلب أن يتحاب مع كفار قريش وإنما كما في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال (إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة) [البخاري:4818]

ثم إن مايجده الإنسان في نفسه من الولاء والحب لوالده وشقيقه أعظم مما يجده من الولاء لزوجته، ومع ذلك قطع الله موالاة الأب الكافر المسالم، والشقيق الكافر المسالم، كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ) [التوبة:23]

ثم إن أهل العلم بينوا أنه مورد الأمرين مختلف أصلاً، فبغض الكافر المسالم وعداوته القلبية هي بغض وعداوة قلبية دينية، أما المودة التي تقع بين الزوج والزوجة فهذه مودة غريزية فطرية، ولايمتنع أن يجتمع الأمران في شخص واحد.

وأما قولهم (إنه يمتنع أن يجتمع في الشخص الواحد محبة وبغض، وبالتالي فما دام يجوز أن يحب زوجته الكتابية فلينتفِ البغض الديني عنها!) فهذا كلام ساقط، فإن الدواء يجتمع فيه الحب والبغض، فهو محبوب من وجه مبغوض من وجه، وهذا مثال يكرره أهل العلم كثيراً للتدليل على كيفية اجتماع الحب والبغض في شخص واحد.

ونظير ذلك في الشرعيات أن القتال في سبيل الله يجتمع فيه كره طبيعي لما فيه من إيذاء النفوس، وحب شرعي لما فيه من الثواب العظيم، كما قال تعالى في الكراهية الطبيعية للقتال (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ)[البقرة:216] وقال تعالى في الحب الشرعي للقتال (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) [التوبة:92].

فانظر كيف أخبر أنهم يكرهون القتال طبعاً، ثم تفيض عيونهم من الحزن إذا فاتهم القتال لحبهم إياه شرعاًَ وديانة!

فمن أنكر الكره الطبيعي للقتال فقد كابر، ومن أنكر الحب الشرعي للقتال فما عرف معنى الإيمان بعد، فإن أثبت اجتماعهما في محل واحد فكيف ينكر اجتماعهما في شخص واحد وهو الزوجة الكافرة؟!

وكذلك فإن كل نفس تجد في داخلها كراهية السجن كراهية طبيعية، ولكن لما كان فيه مصلحة شرعية ليوسف –عليه السلام- صار أحب إليه شرعاً وإن كان يبغضه طبعاً، كما قال تعالى عن يوسف (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [يوسف:33] .

وكذلك فإن الإنسان إذا تصدق بأنفس ماله عنده اجتمع في هذا الفعل حب وبغض، فهو يحب ماله طبعاً، ويحب التخلي عنه والصدقة به شرعاً، كما قال تعالى (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران:92] وقال تعالى (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) [البقره: 177] وقال تعالى يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ) [الإنسان:8].

وأما قول بعضهم (إن الحب والبغض عمل قلبي يهجم على القلب لاحيلة فيه، وبالتالي يعفى عن حب الكفار) فمؤدى كلام هؤلاء إخراج الحب والبغض عن أصل التكليف، وبالتالي إبطال كل أوامر الحب والبغض التي أمر الله بها ورسوله، فصار أمر الله بحبه، وحب رسوله، وحب الأنصار، وحب آل البيت، وغيرها من الشرائع، كلها لغو وعبث لاقيمة له لأن الحب والبغض شأن قلبي يهجم على الانسان ولاحيلة له فيه.

بمعنى أن قول النبي مثلاً في صحيح البخاري (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده) لو جاء شخص وقال الحب عمل قلبي يهجم على المرء بلا حيلة، ولا أجد في نفسي حب النبي أكثر من والدي وولدي؟! فهل هذا مقبول؟!

ولذلك لما جاء عمر وأخبر النبي بما في نفسه لم يقبل النبي هذا الكلام، وصحح له هذا الفهم، حتى ارتقى إيمان عمر، كما في البخاري (يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال له عمر ، فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم الآن يا عمر).

فعمر حين قال (لأنت الآن أحب إلي من نفسي) إنما جاهد نفسه حين عرف ثواب الحب، فالحب والبغض يحصل بالمجاهدة.

ولذلك فإنه لما أبغض بعض الناس بعض التشريعات بغضاً دينياً جعل الله ذلك منهم ردة وخروجاً عن الإسلام ولم يقل الحب والبغض شعور يهجم على القلب لاحيلة له فيه! كما قال تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) [محمد:9]

وأما قول بعضهم (بعض الكفار يحسنون إلينا، فكيف نكرههم وهم يحسنون إلينا، ولايوجد إنسان سوي إلا وهو يحب من أحسن إليه، ويجد ذلك في نفسه ضرورة) . فهؤلاء المعترضين بمثل ذلك لم يتفطنوا إلى أن الحب هو حصيلة أفعال المحبوب، والبغض هو حصيلة أفعال المبغوض، فهذا الكافر أحسن إليك بمال أو هدية أو ابتسامة لكنه أساء إلى ربك بالكفر، وربك أغلى عليك من نفسك، ولذلك فإساءته لك أعظم أضعافاً مضاعفة من إحسانه المادي إليك، إلا إن كانت نفسك أغلى عليك من ربك وخالقك، وصرت ترى أن من أساء إليك فهو مستحق للبغض، لكن من أحسن إليك واساء لخالقك فهو مستحق للحب، فقائل هذا قد جعل نفسه أعظم من الله ولاحول ولاقوة إلا بالله، وإلى هذا المعنى أشار السبكي إشارة بديعة للغاية حين قال في فتاواه:

(والذي يظهر أن النفوس الطاهرة السليمة لا تبغض أحدا ولا تعاديه إلا بسبب، إما واصل إليها، أو إلى من تحبه أو يحبها, ومن هذا الباب عداوتنا للكفار بسبب تعرضهم إلى من هو أحب إلينا من أنفسنا) [انظر فتاوى السبكي، 2/476]

فمن اعترض بالقول أنه ليس من المروءة أن أبغض كافراً أحسن إلي؟ فيقال له: بل ليس من المروءة أن تحب كافراً أساء لخالقك لمجرد أنه رشاك بلعاعة من الدنيا، فخالقك قد أحسن إليك أضعاف أضعاف ما يقدمه لك هذا الكافر، بل لانسبة للنعم التي أعطاك إياها خالقك ولعاعة الدنيا التي أعطاك إياها هذا الكافر.

وعلى أية حال فإن من يستحضر أن هذا الكافر يسئ إلى الله بجحد إلهيته أو نبوة محمد ولم يهجم على قلبه بغضه قلبياً فهذا يعني أنه قلبٌ ميت، فليبك على قلبه، فإن القلب الحي لايرضى بأن يساء لخالقه ومولاه، إلا إن كان يعتبر الكفر وجهة نظر شخصية لاتغضب الله!

وأما قولهم: (كيف أكرهه وأحبه وقد يكون في داخل الأمر على خلاف ماهو عليه؟ بمعنى قد أعتقد أنه كافر لكنه في حقيقة الأمر مسلم) فيقال الحب والبغض من الأحكام الشرعية، والأحكام الشرعية تعلق بالظاهر، ولذلك كان تطبيق هذا الحكم على الأعيان مسألة اجتهادية قد يصيب المرء فيها وقد يخطئ خطأً مغفوراً، ولذلك قال ابن تيمية (ثم الناس في الحب والبغض، والموالاة والمعاداة، هم أيضا مجتهدون يصيبون تارة ويخطئون تارة)[الفتاوى 11/15]

وقبل ذلك نبه الإمام محمد بن الحنفية كما رواه اللالكائي عنه حيث يقول رحمه الله (من أبغض رجلا على جور ظهر منه، وهو في علم الله من أهل الجنة؛ أجره الله كما لو كان من أهل النار).

وأما قولهم (الكفار متفاوتون فكيف نجعلهم سوياً في البغض والمعاداة القلبية؟!) فهذا غير صحيح، ولم يفتِ أحد من أهل السنة بكون الكفار سواءٌ في البغضاء، فإن الكفر يتفاوت في ذاته، كما يتفاوت الإيمان، ولذلك فإنه كما يكون في أهل الخير أئمة في الإيمان كما قال تعالى (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) فإنه كذلك يكون في الكفار أئمة فيه كما قال تعالى (فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) [التوبة:12].

وكما يتفاوت حب اهل الإيمان بحسب رسوخهم وإمامتهم فيه، فكذلك تتفاوت معاداة وبغض الكفار بحسب رسوخهم وإمامتهم فيه.

وأما قولهم (إن تغيير الحكم الشرعي في بغض الكفار سيكون له دور في الترويج للاسلام والدعوة) قائل هذا الكلام عكس النتيجة كلياً، بل تحريف النصوص الشريحة في بغض الكفار أعظم ذريعة إلى الطعن في علماء الإسلام ودعاته أنهم كذابون مخادعون يتلاعبون بنصوص شريعتهم لأجل مصالح حركية! إنه لايخدم صورة الإسلام مثل العلم الصحيح الصادق، قد يتدرج العالم أو الداعية في تنفيذ بعض الأحكام، أما تحريف الأحكام الشرعية فهذا لايقع من عالم صادق لأجل أي مصلحة موهومة! وشتان بين التدرج والتحريف، على أن بعض أهل الأهواء يحتجون بأفعال النبي وعمر بن عبدالعزيز في التدرج على التحريف!

ثم افترض أننا استطعنا عبر عمليات تجميلية تحريف نصوص (بغض الكفار) فماذا سنصنع بقوله تعالى عن الكفار (إن هم إلا كالأنعام) وقوله تعالى (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا) وقوله تعالى (كمثل الحمار يحمل أسفارا) وقوله تعالى (إنما المشركون نجس) وقوله تعالى (وأن الله مخزي الكافرين) وقوله تعالى (يريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين) وقوله تعالى (أعزة على الكافرين) وقوله (فإن علمتموهن مؤمنات فلاترجعوهن إلى الكفار لاهن حل لهم ولاهم يحلون لهن) الخ الخ ؟!

هل سنحرف كل هذه الآيات ونظائرها حتى نقوم بترويج الإسلام والدعوة؟! هناك ملفات كثيرة يريد متفقهة التغريب العبث بها، لكن آخر مايمكن أن يحرفوه هو موقف القرآن من الكافر، لقد وضع القرآن الكافر في غاية مايتصوره العقل البشري من دركات المهانة والحقارة والانحطاط واستعمل القرآن كل التعابير المممكنة في بيان رجسية الكافر، فأي تأويل يارحمكم الله يمكنه أن يتلاعب بهذه الآيات القرآنية؟!

على أية حال.. هل تدري أين جوهر المشكلة في كلام هؤلاء الذين يريدون تغريب العقيدة؟ إنها في حرمان المسلمين من أوثق عرى الإيمان (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله).

الله سبحانه وتعالى ينبهنا ويقول بكل وضوح (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) [آل عمران:32] ويقول (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) [الروم:45] وأنتم تقولون: فأما نحن فنحب بعض الكافرين، ألا تخشون من الله وأنتم تتحدون محاب الله ومباغضه؟!

وهذه المسألة من أوضح تطبيقات تقديم المتشابه على المحكم، و عاهة (تقعيد الاستثناءات) أي تحويل الاستثناء إلى أصل، والأصل إلى استثناء، فالله أمر ببغض الكفار وأجاز نكاح الكتابية، فأخذوا الاستثناء وهدموا به الأصل! فهل هذا إلا فعل أهل الأهواء؟!

فكفُّو يارحمكم الله عن تشذيب الإسلام وقصقصته لأغراض التبسم في مؤتمرات إنشائية يخدع بها الحاضرون أنفسهم!

ابوعمر
ربيع الأول 1431هـ

 

إبراهيم السكران
  • كتب ورسائل
  • مقالات
  • مراجعة كتب
  • الصفحة الرئيسية