اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/alsharef/2.htm?print_it=1

التخلف التقني والخطاب الديني

محمد بن شاكر الشريف

 
 في خضم الحملة المسعورة التي تقودها أمريكا ومعها حلفاؤها الصليبيون ضد الإسلام برزت رؤوس الأفاعي محاولة الاستفادة من ذلك المناخ الذي لم يتوفر من عقود عديدة وبدأت في نفث سمومها في كثير من المجالات، فخرجت فقرة مما يدعونه مؤتمر الثقافة العربي تقول : أجمع المثقفون العرب المشاركون في المؤتمر على تحميل الخطاب الديني مسؤولية التخلف العربي في مجال العلم والتكنولوجيا خصوصا، والحقيقة التي لا يمترى فيها أن هذا الكلام من البهتان العظيم الذي تعودنا على سماعه أحيانا كثيرة ممن يدعونهم " المثقفون العرب" وكأن الثقافة حكر على مجموعة من الدجالين الكذابين الذين لا هم لهم إلا نشر عداوتهم للدين، وقد رأيت أن لا يمر هذا الكلام بدون تعليق فكان هذا المقال:
تخلف غالبية الدول العربية والإسلامية في مجال التقنية الحديثة إذا قورن بالدول المتقدمة أمر واضح لا يحتاج إلى تدليل، ولكن من أين جاءت هذه المشكلة في الحقيقة؟ إن الطفرة العظيمة في مجال التقنيات هي حديثة جداً بالنسبة لعمر الدول، فقبْل قرابة ثلاثة قرون من الآن كانت الفروق التقنية بين دول العالم ليست كبيرة، وكان من الممكن التغلب عليها بالجهد اليسير، واللحاق بها من قريب، ولم يكن المسلمون أو العرب يشعرون في تلك الفترة بتخلفهم في المجال الصناعي عن غيرهم من الناس، وكانت لهم صولات وجولات في الحروب الدائرة بينهم وبين عدوهم؛ فتارة يَغلِبون وتارة يُغلَبون، وإن كان هناك تفاوت بين الناس في ذلك، وكان هناك من يجدّ ويجتهد في تحصيل العلوم والابتكارات والاختراعات، ومن هو يراوح في مكانه، وكانت أمتنا في الحقبة الأخيرة ممن تراوح في مكانها، حتى بدأ الاستعمار منذ قرنين من الزمان في احتلال بلاد العرب والمسلمين وبسط هيمنته عليها، وهنا أخذ التخلف عن ركب العلم الدنيوي يأخذ منحى مغايراً؛ فبينما أخذت الدول الاستعمارية في بذل المزيد من الجهد؛ لإحراز التقدم يساعدها في ذلك الأموال والثروات الطائلة التي تنهبها من مستعمراتها، ويحفزها لذلك الرغبة في إحكام السيطرة على تلك المستعمرات، والتصدي للدول الاستعمارية الأخرى التي تريد أن تخطف منها فريستها أو تشاركها فيها؛ بينما هي كذلك إذ ظل التجهيل والإبعاد للأمة عن التقدم في تحصيل العلم هدفاً مقصوداً لتلك الدول المستعمرة، وهكذا ظلت العلوم في تلك الدول تنمو بسرعة بينما بلاد المسلمين محرومة من ذلك، وظل الحال على هذا المنوال حتى حدثت طفرة ضخمة جداً في نهاية الأربعينيات من القرن العشرين الميلادي؛ وذلك باختراع (الترانزستور)، والذي قلب كل الموازين، وأخذت الأبحاث المتعلقة بذلك تتوسع وتنمو بسرعة جداً، والعالم يتقدم بالسرعة نفسها، بينما ظلت بلادنا واقفة عند حدود فترة ما قبل الاستعمار، واتسع الخرق على الراتق! ولا شك أن الأمة تتحمل نصيبها في ذلك التخلف الذي حلّ بها، لكن ما الذي منعها من الأخذ بنصيبها في ذلك؟ هل منعها من ذلك نصوص شرعية أو خطاب ديني من أي نوع كان؟ بالطبع ليس هناك في يد أحد من الناس مثل هذه النصوص، ومن يدَّعي ذلك فعليه أن يذكر هذه النصوص، هل قام أحد من أهل العلم يطالب بالبقاء على الحال الذي نحن فيه، والنهي عن تحصيل العلوم الدنيوية؟ بالطبع ليس هناك شيء من مثل ذلك، ولكنها الغفلة والكسل وعدم الانتباه للتقدم السريع الذي يحدث في العالم من حولها، ومع بداية النصف الثاني من القرن العشرين تقريباً (وهي أيضاً فترة بداية ظهور الترانزستور) بدأت الدول تتحرر من المستعمر، وأفاقت على التخلف الكبير الذي ألمّ بها، وحاولت اللحاق بركب العلم، وسيطر العسكر على مقاليد الأمور في أغلب بلاد المسلمين وهم باليقين التام ليسوا إسلاميين ولم يكونوا متقيدين بالخطاب الإسلامي في شيء بل تاريخهم شاهد عليهم بأنهم كانوا على حالة عداء مع الخطاب الإسلامي ،فما الذي حال بينهم وبين تحقيق ما نريد من التقدم التقني؟ لقد سيطر العسكر على مقاليد الأمور، وكانوا منشغلين بالصراع الداخلي والحفاظ على السلطة، كما كان هناك ضغط من الدول الكبيرة على عدم اقتحام مجال الصناعات، وخاصة العسكرية الذي يعطي الأمة نوعاً من الضمان في قدرتها في المحافظة على وجودها، وقد رضخت القيادات وانصاعت لتلك الضغوط، والقبول بالبقاء خارج حلقة سباق التقدم اعتماداً على المعونات أو الضمانات الزائفة، كما كان بقاء هذه الدول خارج نطاق التقدم أمراً مطلوباً، حتى تكون سوقاً كبيرة للمنتجات الغربية، ولسنا نجد أي أثر لخطاب ديني من أي نوع كان يمنع من التعلم الدنيوي أو يقيده. إن التخلف الذي تعاني منه الأمة راجع في حقيقته إلى القرار السياسي الذي ظل محافظاً على هذا الوضع، حتى تظل الأمة هكذا في تخلفها وتأخرها، وإذا لم يكن في ذلك تواطؤ وخيانة للأمة فهناك على أقل تقدير اللامبالاة وعدم تقدير المسؤولية والغفلة الشديدة التي تصل إلى درجة البلاهة؛ فمع وجود القرار السياسي الداعم للتقدم والتطوير تقدمت أغلب أمم الأرض، مع التباين الشديد في خطابها الديني أو الأيديولوجي؛ فتقدمت روسيا والصين وهي دول شيوعية، وتقدم الغرب وأمريكا وهي دول نصرانية، وتقدم الصهيونيون وهم يهود، وتقدمت الهند واليابان وهي دول وثنية، وتقدمت باكستان وهي دولة إسلامية في أخطر مجال تقني: وهو صناعة السلاح النووي، وكسرت بذلك احتكار هذا السلاح، وتخطت بكل قوة ونجاح ذلك السياج الذي فرضته أمريكا عليها؛ لتحول بينها وبينه، كما قطعت دول إسلامية أخرى شوطاً كبيراً في هذا المجال، وهذا مما يؤكد أن التخلف التقني ليس وراءه أي خطاب من أي نوع كان، ولكن التقدم يحتاج إلى شرط أساس؛ وهو وجود القرار السياسي؛ (إلى جانب شروط أخرى) فإذا كانت هناك إرادة عند أصحاب القرار السياسي للتقدم وتجاوز التخلف، وكانت هذه المسألة هي التي تشغلهم وتقضّ مضاجعهم، ويدور حولها جل تخطيطهم فإن الشعوب سوف تتقدم وتحقق من ذلك كل ما تصل إليه قدرتها، وإذا استثنينا تقنية السلاح النووي فإن أغلب التقنيات معروضة في أسواقها، مثلها في ذلك مثل أي سلعة تنتظر من يدفع ثمنها ليأخذها، وفي بلاد المسلمين والعرب اليوم عشرات أو مئات الكليات العلمية من الطب، والهندسة، والعلوم والتقنية، والحاسب، وغير ذلك، وتدرس في هذه الكليات المواد العلمية التي تدرس في الكليات المناظرة في جامعات العالم المتقدم؛ فالكتاب الذي يدرس في بلد عربي أو إسلامي هو نفسه الكتاب الذي يدرس في الكلية المناظرة في أمريكا أو بريطانيا مثلاً، وتخرج هذه الكليات عشرات بل مئات الآلالف من طلابها؛ فمن الذي منع هذا الجم الغفير من المساهمة في التقدم؟ أي خطاب ديني في أي بلد من بلاد المسلمين منع هذه الألوف المؤلفة من أن تبتكر وتخترع وتبدع في إنتاج تقنيات متقدمة؟ إن قضية التقدم والتخلف التقني قضية سياسية ساهم فيها الاستعمار بقوة أيام احتلاله للبلاد، وهو يضغط الآن لمنع أي تقدم في اتجاه الصناعات العسكرية التي تحفظ على البلاد أمنها واستقلالها؛ وذلك لضمان تفوقه وتفرده واستعلائه، لقد اكتشفت أمريكا في الثمانينيات أن باكستان تطور قدراتها النووية، ورغم أنها كانت حليفاً قوياً لأمريكا، إلا أنها ضغطت عليها بكل ما لديها من قوة سياسية واقتصادية؛ لمنعها من المضي قدماً في برنامجها، حتى وصل ذلك إلى حد قطع المعونات الاقتصادية وإلغاء الصفقات العسكرية الموقع عليها بين البلدين، لكن القرار السياسي كان له إرادة وعنده عزيمة للوصول إلى تلك التقنية وقد كان، ونقول مع كل أسف للمثقفين العرب( أصحاب المعرفة والاستنارة والانفتاح على الآخر وقل ما شئت من هذه الألفاظ): إن الذي يكرس التخلف عندنا ليس الخطاب الديني، ولكنها تلك الحكومات التي تتغلب على بلادنا ولها ثقافة من نوع ثقافتكم، وتلك الدول التي ترونها فيما ترون آخذة بأسباب التقدم من العمل بالديمقراطية، والانفتاح على الآخـر، وتعمـيق ثقـافة الحـوار، وتغـليب قيم العصر إلى غير ذلك من مثل هذا الكلام، والتي تبذلون جهودكم الحثيثة في تقليدها واقتفاء آثارها ؛ فليس في يدكم نص واحد من القرآن أو السنة يمنع المسلمين من صناعة الطائرة أو الصاروخ أو الحاسب أو الماكينة أو الموّلد أو القنبلة، وقلْ ما شئت من أسماء المعدات! كما ليس عندكم قول عالم واحد ممن يرجع إليه المسلمون في العلم والفتوى بمنع تلك الأشياء؛ بل على العكس من ذلك فإن نصوص العلماء في الحديث والقديم متوافرة على أن تحصيل مثل هذه العلوم والصناعات من فروض الكفايات التي يجب على الأمة في مجموعها تحصيلها بحيث تأثم عند التقصير ويرتفع عنها الحرج إذا قام بذلك من هو أهل للكفاية على وجه الكفاية ومن البين الواضح أن الكفاية لا يمكن حدوثها في ظل أوضاعنا المعاصرة إلا إذا كانت الجهود مدعومة من الحكومات أو هي التي تقوم عليها، فلماذا إذاًً تحملون الخطاب الديني وزْر التخلف، بينما الخطاب الديني يقول: يجب على الأمة تعلم جميع الصناعات والعلوم الدنيوية التي يحتاج إليها المسلمون في إقامة حياتهم الدنيا؟ وأخيراً نقـول: إن لدينا نحن العرب والمسلمين الآلاف (نعم الآلاف!) من العلماء في مختلف المجالات العلمية والتقنية وعلى درجة عالية جداً من التخصص والكفاءة يعملون في بلاد الغرب، ولو رجـع هـؤلاء إلـى بـلادهـم لأحدثـوا نقـلة ضـخمة جـداً قـد لا نستطيع تقديرها أو تصورها الآن؛ فما الذي يحُـول بـين رجـوعهم؟ فهـلا عملتم على استعـادة تلـك الطيور المهاجرة إلى أوكارها! لأن فراخها التي في عشها أولى بها من غيرها، أم أن المثقفين العرب لا يعرفون إلا هدم الدين؟

 

محمد الشريف
  • مقالات في الشريعة
  • السياسة الشرعية
  • كتب وبحوث
  • قضايا عامة
  • الصفحة الرئيسية