اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/alsharef/3.htm?print_it=1

ثبات الأحكام الشرعية ، وضوابط تغيُّر الفتوى

محمد بن شاكر الشريف

 
أنزل الله شريعته التي جاءت في كتابه القويم القرآن الكريم وسنة رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم لتكون هادية للناس الصراط المستقيم ، ولتكون حاكمة على أقوالهم وأفعالهم وتصرفاتهم إلى يوم الدين .
وقد ختم الله تعالى كتبه بالقرآن المجيد ، وختم رسله بمحمد صلى الله عليه وسلم الرسول الأمين .
ومن ضرورة ذلك أن تكون الأحكام الشرعية التي تضمنتها تلك الشريعة الخاتمة شاملة وثابتة لا يشوبها نقص أو قصور ، ولا يعتريها تبديل أو تغيير .
وهذه قضية بدهية عليها أدلة كثيرة من النصوص الشرعية ، وليس من قبيل المبالغة إذا قلت إن هذه المسألة عليها عشرات الأدلة من الكتاب والسنة .

* بين الحكم الشرعي والفتوى :
وقبل المضي قدماً في الموضوع يحسن التعريف بالحكم الشرعي وبالفتوى .
فالحكم الشرعي : « عبارة عن حكم الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين » [1] .
والفتوى والفتيا : « ذكر الحكم المسؤول عنه للسائل » [2] ؛ أي « جواب المفتي » [3] .
و « الإفتاء : بيان حكم الواقع المسؤول عنه » [4] ، فالإفتاء هو عمل المفتي ، والفتوى هو ما يصدر عن المفتي .
والغالب أن الحكم الشرعي هو الحكم المتعلق بأفعال العباد على وجه العموم من غير التفات إلى واقع معين يرتبط به الحكم ، كالقول بوجوب الصلاة وحرمة شرب الخمر وهكذا .
والغالب أن الفتوى هي ما كانت مرتبطة بواقع ما ، فالفتوى على ذلك هي تطبيق الحكم الشرعي على الواقع ، وإن كان في بعض الأحيان يأتي أحدهما بمعنى الآخر فهما مرتبطان ، ولا تكون الفتوى صحيحة إلا إذا كان الحكم الشرعي منطبقاً على الواقع انطباقاً صحيحاً ، يقول ابن القيم - رحمه الله - في بيان علاقة الفتوى بالحكم الشرعي : « ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم .
أحدهما : فهم الواقع والفقه فيه ، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً .
والنوع الثاني : فهم الواجب في الواقع ، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ، ثم يطبق أحدهما على الآخر » [5] .
وعندما استُفتي ابن تيمية - رحمه الله - في قتال التتار بيَّن ذلك الارتباط وأفتى بقوله : « نعم يجب قتال هؤلاء ، بكتاب الله وسنة رسوله واتفاق أئمة المسلمين ، وهذا مبني على أصلين : أحدهما المعرفة بحالهم ، والثاني : معرفة حكم الله في مثلهم » [6] .
ومن البيّن هنا أن الفتوى قد تدخل فيها أو ترتبط بها عدة عوامل ، وبالتالي فإن الفتوى تكون مرتبة عليها ، وقد يحدث أن يُستفتى المفتي في واقعة قد اجتمعت لها كل عواملها ، فيفتي بالحكم الشرعي الذي ينطبق عليها ، ثم تأتي واقعة أخرى مشابهة لها في الظاهر ، لكن بينهما فرق مؤثر في الحقيقة نتيجة غياب بعض تلك العوامل أو وجود عوامل أخرى ؛ فيفتي المفتي بحكم شرعي مناسب للحالة الجديدة ، وهو بطبيعة الحال مغاير للفتوى الأولى ، ومن هذا الوجه ونحوه على ما يأتي تفصيله في هذا المقال - إن شاء الله - قال من قال من أهل العلم بـ « تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد » [7] ،
فأخذت هذه الكلمة وأضرابها طائفة من المعاصرين وطاروا بها في كل حدب وصوب ، وصاحوا بها في كل واد وناد ، يرومون تغيير الشريعة وأحكامها إرضاءً وتجاوباً مع الأهواء مما لا يحبه الله ورسوله ، بل صارت عمدة من عمد الذين يريدون تحريف الدين تحت ما يزعمونه من ضرورة « تجديد الخطاب الديني » ، وفي هذا المقال نتعرض لمسألتين :
الأولى : أدلة ثبات الأحكام الشرعية .
الثانية : الضوابط التي من خلالها يمكن أن تتغير الفتوى .

* أولاً : أدلة ثبات الأحكام الشرعية :
والمراد بالثبات هنا بقاء الحكم الشرعي على ما هو عليه ودوامه وعدم تغيره لا بزمان ولا بمكان ولا بغير ذلك .
والأدلة على ذلك كثيرة كما قدمنا ، فمنها :
1 - قوله تعالى : { اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً } ( المائدة : 3 ) ، فالدين قد كمل ، والنعمة تمت ، والتغيير فيما قد كمل نقْص ، وما لم يكن يومئذ ديناً فلن يكون بعدُ ديناً ، والقول بجواز تغيير الحكم الشرعي يلزم عنه عدم التصديق بأن الله أكمل الدين ، وهو في الوقت نفسه رفض لنعمة الله التي أتمها علينا .
2 - قوله تعالى : {  وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً  } ( الأنعام : 115 ) ، قال ابن كثير - رحمه الله - : « أي صدقاً في الأخبار ، وعدلاً في الأوامر والنواهي » [8] ، والحكم الشرعي هو في باب الأمر والنهي ، وحيث تغير العدل كان الظلم .
3 - قوله تعالى : {  وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ  } ( المائدة : 49 ) .
ففي هذه الآية ثلاثة أمور :
1 - الأمر بالحكم بما أنزل الله ( الشريعة ) .
2 - بيان أن ترك الحكم بها إنما هو اتباع للأهواء .
3 - بيان أن من الفتنة ترك بعض الشريعة .
وهذا الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأمته من بعده ، فكلهم مخاطب به ، ولا شك أن القول بجواز تغيير الحكم الشرعي مؤد للحكم بغير ما أنزل الله ، ومؤد لترك بعض الشريعة ، وهذا اتباع للهوى ووقوع في الفتنة ، ولا يسلم المرء من ذلك إلا بالقول بثبات الحكم الشرعي وعدم تغييره .
4 - قوله تعالى : {  وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً  } ( الإسراء : 73 ) ، وهو يبين أن تغيير الحكم الشرعي إنما هو من الافتراء على الله عز وجل ، والافتراء على الله لا يجوز عند أحد من المسلمين ، فظهر من ذلك أن تغيير الحكم الشرعي أو القول بجواز ذلك محرم لا يجوز القول به ولا الإقدام عليه ، وهذه الآية تدل على مدى حرص الكفار ورغبتهم في تغيير الحكم الشرعي ، حتى إنهم ليتخذون من يفعل ذلك أو يقوم به « خليلاً » ، والخُلة أعلى درجات المحبة ، قال ابن جرير - رحمه الله - : « والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر عن نبيه صلى الله عليه وسلم أن المشركين كادوا أن يفتنوه عما أوحاه الله إليه ليعمل بغيره ، وذلك هو الافتراء على الله » [9] .
5 - قال الله تعالى : {  وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ  }
( المائدة : 44 ) . وقال : {  وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ  }
( المائدة : 45 ) . وقال : {  وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ  }
( المائدة : 47 ) . فبيَّن الله تعالى أن من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق ، ومن قال بجواز تغيير الحكم الشرعي ، فهو إما حاكم بغير ما أنزل الله وإما مجوز لذلك .
6 - قال الله تعالى : {  وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ  } ( الأنعام : 153 ) . فمن لم يتبع صراط الله المستقيم ( الكتاب والسنة ) اتبع سبل الشيطان ، ولا يمكن للمرء أن يتبع الكتاب والسنة مع القول بعدم ثبات الحكم الشرعي وجواز تغييره .
7 - قال الله تعالى : {  اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ  } ( الأعراف : 3 ) ، فأمر الله الناس أن تتبع ما أنزل إليها من ربها خالقها ورازقها ، وبيَّن أن من اتبع غير ذلك فقد اتبع أولياء من دونه ، والقول بجواز تغيير الحكم الشرعي مؤد لاتباع الأولياء من دون الله . ثم تهدد الله وتوعد من يتبع الأولياء من دونه ، فقال عقيب الآية المتقدمة : {  وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ  } ( الأعراف : 4 ) .
8 - قال الله تعالى : {  ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ  } ( الجاثية : 18 ) ، فأمر رسوله صلى الله عليه وسلم باتباع الشريعة التي أوحاها إليه ، وبيَّن أن ترك شيء من هذه الشريعة إنما هو اتباع لأهواء الذين لا يعلمون ، ولا يمكن اتباع الشريعة كاملة مع القول بعدم ثبات الأحكام الشرعية أو بعضها وجواز تغييرها ، ثم بيَّن الله تعالى أن هؤلاء الداعين إلى ترك اتباع الشريعة بتغيير الحكم الشرعي ظالمون ، وأنهم لن يغنوا عن أحد شيئاً أو يدفعوا عنه شيئاً من عذاب الله ، فقال تعالى عقيب الآية المتقدمة : {  إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ  } ( الجاثية : 19 ) .
9 - قال تعالى : {  سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ  } ( البقرة : 211 ) ، فقد توعد الله سبحانه وتعالى بالعقاب الشديد من يبدل نعمته التي أنعمها على العباد ، والأحكام الشرعية التي باتباعها استقامة العباد وصلاح الدنيا ، والنجاة من النار والفوز بالجنة من أجل النعم التي أنعم الله بها ، والقول بعدم ثبات الحكم الشرعي وجواز تغييره هو من تبديل نعمة الله .
10 - قال الله تعالى : {  وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ  } ( يونس : 15 ) .
وفي هذا من الدلالة على رغبة الكفار في أن يقع المسلمون في تغيير الأحكام الشرعية أو تبديل الوحي المنزل ، وقد بينت الآيات أنه ليس لأحد ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغير الحكم الشرعي من تلقاء نفسه ، بل عليه أن يتبع الأحكام الشرعية التي يوحيها الله إليه ؛ لأن من فعل ذلك فقد عرض نفسه للعذاب العظيم ، قال القرطبي - رحمه الله - : « إني أخشى من الله إن خالفت أمره وغيرت أحكام كتابه وبدلت وحيه فعصيته بذلك عذاب يوم عظيم هوله » [10] .
والآيات في ذلك أكثر من أن تحصر ، ولو ذهبنا نتتبعها لطال بنا المقام .

وقد دلت السنة على ما دل عليه القرآن في ذلك ، فمن السنة :
1 - قوله صلى الله عليه وسلم : « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد » [11] ، أي مردود عليه ، والقول بتغيير الحكم الشرعي إحداث في الدين لم يأت به كتاب ولا سنة ، ولا أثر عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو مردود على صاحبه .
2 - قوله صلى الله عليه وسلم : « عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة » [12] .
فبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن النجاة في اتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين الذين اتبعوه وساروا على سنته ، وأمر أن يُعض على ذلك بالنواجذ تمسكاً بها ، وعدم الحيد عنها قيد أنملة ، وحذر من محدثات الأمور ، وبيَّن أن المحدثات في الدين ضلالة ، والقول بجواز تغيير الحكم الشرعي يخالف كل ذلك ، فهو يخالف التمسك بالسنة ويوقع في المحدثات .
3 - قوله صلى الله عليه وسلم : « تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدهما : كتاب الله وسنتي » [13] .
فمن تمسك بالكتاب والسنة لم يضل أبداً ، والمفهوم من ذلك أن من لم يتمسك يضل ، والقول بجواز تغيير الحكم الشرعي مؤد لعدم التمسك بالكتاب والسنة أو ببعضها الذي تغير ، والأدلة على ذلك من السنة كثيرة أيضاً .
وبالنظر إلى أصول الفقه نجد أن علماء أصول الفقه يعرّفون الحكم الشرعي بأنه « خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد أمراً أو نهياً أو تخييراً أو وضعاً » [14] .
وخطاب الشارع هو الكتاب والسنة ، والقول بأنه يمكن تغيير الحكم الشرعي مكافئ للقول بإمكانية تغيير خطاب الشارع ، وخطاب الشارع لا يملك أحد من البشر أن يغيره ، وبالتالي فمن غير المستطاع القول بجواز تغيير الحكم الشرعي ، ومن وجهة نظر ثانية فإن القول بتغيير الحكم الشرعي بتغير الزمان هو نسخ للحكم الشرعي ، هذا هو معنى النسخ عند الأصوليين ، فالنسخ يراد به عندهم « رفع الحكم الشرعي بخطاب » أو « رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر » ونحو ذلك [15] ، فمضمون النسخ على ذلك هو تغيير الحكم الشرعي الثابت وإلغاء الحكم الشرعي القائم واستحداث حكم جديد ، لكن النسخ لا يكون إلا من الله تعالى أو من رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو ما يعني أن النسخ قد انقطع بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعلى ذلك الأحكام الشرعية ثبتت على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يدعو يوم القيامة على من بدل شيئاً من الدين بعده فقال صلى الله عليه وسلم : « ألا ليُذادنَّ رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال ، أناديهم ألا هلُّم ! فيقال : إنهم قد بدَّلوا بعدك . فأقول : سُحقاً سُحقاً » [16] ، وفي رواية : « سحقاً حقاً لمن بدل بعدي » ، والقائل بجواز تغيير الحكم الشرعي لا شك أنه داخل في هذا الحديث ، نسأل الله السلامة .
وقد بيّن ابن تيمية - رحمه الله - أن من يجوّز النسخ بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو « يُجوِّز تبديل المسلمين دينهم بعد نبيهم ، كما تقول النصارى أن المسيح سوغ لعلمائهم أن يحرموا ما رأوا تحريمه مصلحة ، ويحلوا ما رأوا تحليله مصلحة ، وليس هذا دين المسلمين » [17] .
وبالجملة فإن الأدلة على بطلان القول بتغيير الأحكام بتغير الزمان كثيرة جداً ، وفيما قدمت من الأدلة كفاية إن شاء الله .
قال الشاطبي - رحمه الله - في بيان ثبات الأحكام الشرعية وعدم تغييرها :
« فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخاً ، ولا تخصيصاً لعمومها ، ولا تقييداً لإطلاقها ، ولا رفعاً لحكم من أحكامها ، لا بحسب عموم المكلفين ، ولا بحسب خصوص بعضهم ، ولا بحسب زمان دون زمان ولا حال دون حال ، بل ما أثبت سبباً فهو سبب أبداً لا يرتفع ، وما كان شرطاً فهو أبداً شرط ، وما كان واجباً فهو واجب أبداً أو مندوباً فمندوب ، وهكذا جميع الأحكام فلا زوال لها ولا تبدل ، ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك » [18] .
إن القول بثبات الحكم الشرعي وعدم إمكانية تغييره من قبل أحد كائناً من كان إضافة إلى أنه الحكم الذي دلت عليه الأدلة كما تقدم ؛ يمثل ضمانة من أهم ضمانات استقرار أحوال الأمة ، واستتباب الأمن فيها ، ومنع الاستبداد ، ولقد أدرك أصحاب القوانين الوضعية أهمية الثبات وأثره في أمن المجتمع واستقراره فقالوا بثبات الدساتير ، ولكنهم مع ذلك لم يستطيعوا لأنها من صنع البشر .
وإذ تقدم هذا فإنه من غير المقبول أن نجد من بين المعاصرين من يقسم الأحكام الشرعية إلى قسمين : أحدهما ثابت ، والآخر متغير ، ويعرف المتغير بأنه « موارد الاجتهاد وكل ما لم يقم عليه دليل قاطع من نص صحيح أو إجماع صريح » [19] ، فهذا قول غير صحيح لأنه مخالف للدليل ، ولم ينقله قائله عن أحد من أهل العلم المعروفين السابقين على امتداد أجيال الأمة التي بلغت أربعة عشر قرناً وربعاً من الزمان وعلى اتساع مذاهبها الفقهية وتنوعها [20] .
* مفاسد القول بتغيير الحكم الشرعي بتغير الزمان :
ويترتب على القول بجواز تغيير الحكم الشرعي بتغير الزمان مفاسد كثيرة من أبرزها :
1 - اتخاذ الأولياء من دون الله ، وهم المشرعون الذين يشرعون الحكم الجديد .
2 - القول بقصور الشريعة وعدم صلاحية أحكامها لعموم الزمان والمكان .
3 - تغيير وتبديل الدين بمرور الزمن .
4 - عدم استقرار أحوال الأمة ، وزوال الأمن ، وشيوع الظلم والاستبداد .
* الشبهة في القول بتغيير الحكم الشرعي بتغير الزمان :
القائلون بتغيير الأحكام الشرعية بتغير الزمان لا يتعلقون في ذلك بنص سواء كان من القرآن أو من السنة ، فليس عندهم أدلة على ذلك ، فكل ما عندهم في ذلك كلمات لبعض أهل العلم من مثل « تغير الفتوى بتغير الزمان » ونحوها ، وهم طوائف : طائفة اشتبه عليها ذلك ولم تدرس الأمر دراسة واعية وظنت هذا أمراً مشروعاً . وطائفة مناوئة للدين وجدت في هذه الشبهة بغيتها في نفث سمومها والسعي في إطفاء نور الله الذي لا يطفأ ، فأخذت تنشر هذا وتضخمه وتؤكد عليه ، وأصبح مثل هذا الكلام أداة كبيرة في أيدي الدعاة إلى تحريف الدين باسم تجديد الخطاب الديني . وطائفة مهزومة أمام الفكر الغربي المعاصر ، وجدت في ذلك القول مخرجاً ووسيلة للتوفيق بين ذلك الفكر وبين أحكام الشريعة .
ونحن بعون الله نبيّن الصواب في ذلك من خلال الحديث عن ضوابط تغير الفتوى .

* ثانياً : ضوابط تغير الفتوى :
1 - اختلاف العوائد والأعراف :
من الأمور التي تتغير بسببها الفتوى تغير العوائد والأعراف التي تُبنى عليها الفتوى ، سئل الإمام القرافي - رحمه الله - عن الأحكام المدونة في الكتب المرتبة على العوائد والأعراف التي كانت موجودة زمن جزم العلماء بهذه الأحكام ، هل إذا تغيرت العوائد وصارت لا تدل على ما كانت تدل عليه أولاً ، هل يُفتي بما تدل عليه العوائد والأعراف الجديدة ، أو يفتي بما هو مدون في الكتب ؟ فأجاب - رحمه الله - بقوله : « إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد ، خلاف الإجماع وجهالة في الدين ، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة » ، ثم شرع يفصل فقال :
« ألا ترى أنهم لما جعلوا أن المعاملات إذا أطلق فيها الثمن يحمل على غالب النقود ، فإذا كانت العادة نقداً معيناً حملنا الإطلاق عليه ، فإذا انتقلت العادة إلى غيره عيَّنا ما انتقلت العادة إليه ، وألغينا الأول لانتقال العادة عنه » ، إلى أن يقول : « بل ولا يشترط تغيير العادة ، بل لو خرجنا نحن من تلك البلد إلى بلد آخر عوائدهم على خلاف عادة البلد الذي كنا فيه ، وكذلك إذا قدم علينا أحد من بلد عادته مضادة للبلد الذي نحن فيه ؛ لم نفته إلا بعادته دون عادة بلدنا ، ومن هذا الباب ما روي عن مالك : إذا تنازع الزوجان في قبض الصداق بعد الدخول ؛ أن القول قول الزوج مع أن الأصل عدم القبض ، قال القاضي إسماعيل : هذه كانت عادتهم بالمدينة أن الرجل لا يدخل بامرأته حتى تقبض جميع صداقها ، واليوم عاداتهم على خلاف ذلك ، فالقول قول المرأة مع يمينها لأجل اختلاف العوائد ، وينبغي أن يعلم أن معنى العادة في اللفظ أن ينقل إطلاق لفظ واستعماله في معنى حتى يصير هو المتبادر من ذلك اللفظ عند الإطلاق مع أن اللغة لا تقتضيه ، فهذا هو معنى العادة في اللفظ ، وهو الحقيقة العرفية ، وهو المجاز الراجح في الأغلب ، وهو معنى قول الفقهاء إن العرف يقدم على اللغة عند التعارض ، وكل ما يأتي من هذه العبارات » [21] .
وقد نقل الإمام علاء الدين الطرابلسي الحنفي كلام القرافي وأقره [22] .
ومن بعد القرافي قال ابن القيم الحنبلي : « فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد » [23] .
وهنا يظهر أمران :
الأول : أن الفتوى هي التي تتغير وليس الحكم الشرعي .
الثاني : أن الفتوى التي تتغير يكون حكمها الشرعي مرتباً على العوائد والأعراف .
ومن الأمثلة التي يذكرها الفقهاء على ذلك : ما يخرج في صدقة الفطر ، فإن الحديث جاء بإخراج صاع من تمر أو شعير أو زبيب أو أقط ، فرأى العلماء أن هذه الأقوات كانت هي غالب القوت عندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الحديث في ذلك الزمان ، فكأنه قال : أخرجوا صاعاً من غالب قوت البلد التي أنتم فيها ، وعلى ذلك أفتى العلماء بجواز إخراج صاع من الأرز والذرة ونحوه إذا كان هذا هو غالب قوت البلد في زمنهم ، فبالنظر المجرد إلى الفتوى بجواز إخراج الأرز والذرة يقول القائل : قد حدث تغير في الحكم ، وبالنظر إلى حقيقة الأمر وأن المطلوب هو إخراج الصاع من غالب قوت البلد ، فليس هناك تغير في الحكم الشرعي ، كل ما هنالك أن الذي تغير هو غالب قوت البلد ، والحكم باق على ما هو عليه ، وهذا المثال ونحوه قد ينظر إليه على أنه تغير للفتوى بتغير الزمان ، والحقيقة أن الزمن بمجرده ليس مسوّغاً لتغيير الفتوى لأن هذا هو النسخ الذي لا يملكه أحد إلا الشارع وإنما نسب التغيير لتغير الزمان في كلام بعض أهل العلم ؛ لأن الزمان هو الوعاء الذي تجري فيه الأحداث والأفعال والأحوال ، وهو الذي تتغير فيه العوائد والأعراف ، فنسبة تغير الفتوى لتغير الزمان من هذا الباب ، وإلا لو ظل العرف كما هو عدة قرون لم يكن أحد مستطيعاً أن يغير الفتوى .
2 - وجود السبب وتحقق الشرط وانتفاء المانع أو عدم بعض ذلك :
من المعلوم أن الأحكام مرتبة على وجود سببها ، فإذا وجد سبب الحكم وتحقق شرطه وانتفى المانع ، انطبق الحكم على الواقع ، فإذا تخلف أحد الشروط أو وجد أحد الموانع انطبق حكم آخر على الواقع .
والناظر من بعيد يرى أن الواقعتين متشابهتان ، ولهما حكمان متغايران ، فيظن أن الحكم قد تغير ، والحقيقة أن الواقعتين وإن كانتا متشابهتين لكنهما غير متماثلتين ، فهما واقعتان مختلفتان لكل منهما حكم يخصها ، ونضرب مثلاً لذلك ، لو أن رجلاً ملك نصاب الزكاة ، ثم استفتى أهل العلم عن وجوب إخراج الزكاة ؛ فإن المفتي يسأله : هل حال على النصاب الحول ؟ فلو قال : نعم . وسأله : هل عليك دين ؟ فقال : لا . هنا يجيبه المفتي بقوله : نعم تجب عليك الزكاة . ويحدد له المقدار الواجب إخراجه حسب نوع المال الذي يملكه ، فلو بعد فترة من الزمان جاءه الرجل نفسه وسأله : هل عليَّ زكاة ؟ فإذا سأله المفتي : هل عليك دين ؟ وقال :
نعم ، علي دين يستوعب أكثر مالي حتى لا يبقى منه قدر النصاب . هنا يقول المفتي : ليس عليك زكاة . والرائي غير المتبصر يرى أن الحكم تغير ، والأمر ليس كذلك ، فالحالة الأولى وجد السبب وتحقق الشرط وانتفى المانع ، وأما الحالة الثانية فقد وجد المانع وهو الدين ، فهنا حالتان مختلفتان ، لكل حالة حكم في الشرع ، وليس في هذا اختلاف ، وفي مثل هذا يقول الشيخ عابد السفياني - وفقه الله - :
« إن تلك الواقعة التي تغير حكمها ؛ إما أن تكون هي هي عند تغير الحكم بجميع خصائصها والحيثيات التي تكتنفها ، وإما أن تختلف في بعض خصائصها وحيثياتها ، فإن كانت الأولى فنحن ننازع أشد المنازعة في تغير حكمها ؛ لأن ذلك هو النسخ والتبديل المنهي عنه كما سيأتي بيانه ، وإن كانت الثانية فليست في موضع النزاع ؛ لأنها حينئذٍ حادثتان ، وحادثتان متميزتان من حيث خصائصهما والاعتبارات التي تحفهما لهما حكمان ليس غريباً ولا عجيباً ، ولا يقال له تغير ولا تبدل » [24] .
وبالمثل لو أن شخصاً سرق ثم تبين أن شروط إقامة الحد غير مستوفاة ، فلم يحكم عليه القاضي بالقطع ، فإنه لا يقال هنا قد تغير الحكم ولكن شروط إقامة الحد هي التي لم تكتمل ، وهذا هو الذي حدث في عهد عمر - رضي الله عنه - عام المجاعة عندما قُحط الناس ، وتعرضوا للهلاك بسبب الجدب ، أصبح كثير ممن يسرق إنما يسرق لاضطراره إلى ذلك ليدفع عن نفسه الهلاك ، وهذه حالة تدرأ عن صاحبها الحد ، ونظراً لأن الأمر كان منتشراً واختلط من يسرق للضرورة ومن يسرق لغير ذلك ولم يمكن تمييزهما من بعض ، فصار ذلك شبهة درأ بها عمر - رضي الله عنه - الحد في عام المجاعة ، فلله دره ! ما أفقهه وما أعلمه ، ولما زالت المجاعة زالت الشبهة فكان من يسرق يقام عليه الحد ، فليس في هذا أيضاً تغيير للحكم الشرعي ؛ لأن ما فعله عمر - رضي الله عنه - في عام المجاعة كان هو الواجب في مثل تلك الحالة .
3 - الضرورة الملجئة :
هناك أحوال اضطرار يقع فيها العبد المسلم مما يكون معه مضطراً لفعل ما حرم الله ، ومن رحمة الله بالعباد أنه في هذه الأحوال لم يجعل عليهم إثماً فيما فعلوه ، والناظر غير المتبصر يظن أن الحكم اختلف ، وهما في الحقيقة حالان مختلفان ، لكل حال حكم ، فحال الاختيار له حكم ، وحال الاضطرار له حكم ، وحالان مختلفان لهما حكمان متغايران لا يقال له تبدل ولا تغير ، ولنضرب المثل لذلك ، من المعلوم أن الله حرم أكل الميتة ، فيحرم على العباد أكل لحوم الميتات ( إلا ميتة البحر ) ، فمن أكل منها يقال له : هذا حرام ، وقد فعلت ما يستوجب عقاب الله .
فلو تغير حال أحد الناس وصار في حالة اضطرار بحيث إذا لم يأكل من الميتة هلك ؛ هنا يصدق عليه وصف المضطر ، وهنا يباح له الأكل من الميتة ، والحكم تغير هنا في الظاهر ، ولكن في الحقيقة الحكم لم يتغير ، وإنما الذي تغير هو الحال التي ترتب عليه الحكم .
ومن أمثلة ذلك ما حصل من غلمان حاطب الذين سرقوا ناقة ، ولم يقطعهم عمر ، فإنه أحضر عبد الرحمن بن حاطب وقال له : « والله ! لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له ؛ لقطعت أيديهم » [25] ، فهذا يبين أن عمر رأى أن هؤلاء في حالة اضطرار تدرأ عنهم الحد ، وأن عقوبتهم القطع لو كانوا غير مضطرين ، وقد عاقب عمر حاطباً على ذلك وأضعف عليه الغرم .
4 - تغير الوصف أو الاسم :
هناك أحكام رُتبت على أوصاف أو أسماء ، فإذا تغيرت تلك الأوصاف أو الأسماء تغير الحكم تبعاً لذلك . مثال : رجل تزوج امرأة ، حل له منها ما يحل للرجل من امرأته ، فلو طلقها حرم عليه منها ما كان حلالاً له ، هنا تغيرت صورة الحكم لأن ما كان حلالاً جائزاً للرجل تغير وصار حراماً ، وفي الحقيقة فإن المتغير هو الصفة أو الاسم وليس الحكم الشرعي ؛ إذ الحكم باقٍ على ما هو عليه ، وهو أن الرجل تحل له زوجته ، وأن الرجل تحرم عليه غير زوجته .
ومن أمثلة تغير الاسم أو الوصف الدال على تغير الحقيقة ، تغير الخمر بحيث تصير خلاً ، فالخمر من أحكامها النجاسة ، فإذا تغيرت حقيقة السائل المسكر وصار خلاً ، فقد تغير وصف السائل وتغير اسمه وصار خلاً ، والخل ليس بنجس ( سواء قلنا بجواز تخليل الخمر أم لا ) ، وحكم الخمر لم يتغير ، وإنما الخمر نفسها هي التي تغيرت .
وكمثال على ذلك أيضاً أمر الله تعالى بصرف الزكاة إلى مستحقيها بقوله :
{  إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ  } ( التوبة : 60 ) . فالله بعلمه وحكمته وزع الزكاة على هذه الأصناف الثمانية ، فإذا كان عام ولم نجد فقيراً يستحق الزكاة فمنعنا سهم الفقراء لعدم وجودهم ، فهذا لا يُعد تغييراً ، وإنما فقدنا المستحق ، وكذلك إذا كان فلان من الناس يعطى من الزكاة لأنه فقير ، ثم وسع الله عليه وصار غنياً ومنعنا عنه الزكاة فلا يقال إن الحكم تغير ، بل صفة هذا الشخص التي يستحق عليها الزكاة هي التي تغيرت ، وهكذا فعل عمر - رضي الله عنه - في سهم المؤلفة قلوبهم ، فالمؤلفة قلوبهم هم من يعطون من الصدقات لأجل تألف قلوبهم على الإسلام ، أو لأجل ضعف المسلمين حتى يأمن المسلمون شرهم ، فهو حكم معلق على وصف وليس على أشخاص بأعيانهم ، فإذا تحقق هذا الوصف في شخص أو عدة أشخاص فأعطيناهم سهم المؤلفة قلوبهم ، ثم جاء العام الذي يليه وقد فقدوا وصف المؤلفة ( كأن حسن إسلامهم ، أو قوي المسلمون فلم يعد بهم ضعف ) فمنعنا عنهم سهم المؤلفة قلوبهم ؛ فليس في هذا تغير للحكم ، وإنما الذي حدث أن هؤلاء الأشخاص استحقوا السهم في المرة الأولى لانطباق الوصف عليهم وليس لأشخاصهم ، ثم فقدوا الوصف في العام الذي يليه ، ففقدوا ما كان مترتباً على الوصف ، وهذا إعمال للحكم الشرعي وليس تغييراً له .
5 - تدافع المأمورات أو المنهيات :
قد يكون هناك أمران مطلوب تحصيلهما ولكن لا يمكن تحصيل أحدهما إلا بتفويت الآخر ، فهما على ذلك متدافعان ، كما أنه قد يكون هناك أمران مطلوب اجتنابهما ولا يمكن اجتناب أحدهما إلا بفعل الآخر ، فهنا تُحَصَّل أعظم المصلحتين ، وتُدفع أقبح المفسدتين ، فمثلاً : الشهادة يُطلب فيها العدول ، فإذا لم نجد العدول صرنا بين أمرين : إما ضياع الحقوق ، وإما قبول شهادة غير العدول ، أمران أحلاهما مر ، وقد أفتى أهل العلم في مثل ذلك أن لكل قوم عدولهم ، وعلى القاضي أن يتوسم فيهم ويقبل أكثرهم صلاحاً وأقلهم فجوراً ، فقد ينظر هنا إلى أن هذا من قبيل تغيير الحكم ، وذلك بقبول شهادة من لا يعرف بعدالة ، والحقيقة أن هذا من باب التعارض وأنه لا يمكن تحصيل أحدهما إلا بتفويت الآخر ، وهي فتوى وليست حكماً ، وهي فتوى خاصة بمثل هذه الحالة ؛ بمعنى أنه إذا وجد العدول في هذا المكان لم تُقبل شهادة غيرهم .
قال الإمام علاء الدين الطرابلسي الحنفي : « قال القرافي في باب السياسة :
نص بعض العلماء على أنه إذا لم نجد في جهة إلا غير العدول ؛ أقمنا أصلحهم وأقلهم فجوراً للشهادة عليهم ، ويلزم ذلك في القضاة وغيرهم لئلا تضيع المصالح ، قال : وما أظن أحداً يخالف في هذا ، فإن التكليف شرط في الإمكان ، وهذا كله للضرورة لئلا تهدر الأموال وتضيع الحقوق ، قال بعضهم : وإذا كان الناس فساقاً إلا القليل النادر قبلت شهادة بعضهم على بعض ، ويحكم بشهادة الأمثل فالأمثل من الفساق ، هذا هو الصواب الذي عليه العمل ، وإن أنكره كثير من الفقهاء بألسنتهم » [26] .
6 - وجود العارض وزواله :
قد يكون هناك شيء محبوب شرعاً لكن يخشى من فعله أن يترتب عليه تكليف قد لا يقوم به الناس ، فيترك هذا الشيء لذلك العارض ، فإذا زال العارض رجع الأمر إلى حاله الأولى ، وقد يظن أن هذا تغيراً للحكم وإنما هو من باب زوال العارض ، مثال ذلك امتناع الرسول صلى الله عليه وسلم عن قيام الليل في رمضان في المسجد بعدما فعل ذلك عدة ليال ، وذلك خوفاً من أن يفرض قيام الليل على المسلمين رحمة منه صلى الله عليه وسلم بالمسلمين ، فلما زال هذا الأمر بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأُمن عدم فرض قيام الليل ؛ جاز الاجتماع في المسجد في رمضان لقيام الليل ، وليس في هذا تغيير للحكم الشرعي .
7 - تغير الآلات والوسائل :
هناك من الأحكام الشرعية ما يكون تنفيذها عن طريق آلة أو وسيلة ، والشريعة لم تحدد في كثير من الأمور الآلات والوسائل التي يتحقق بها الحكم الشرعي ، بل تركتها ليختار المسلمون في كل زمان ومكان ما هو أنفع لهم وأصلح وأفضل في تنفيذ الحكم الشرعي ؛ إذ ربما لو ألزم المسلمون بآلة أو وسيلة معينة لتعسر عليهم ذلك ، ووجدوا في ذلك من المشقة والحرج الشيء الكثير لا سيما أن الوسائل والآلات تتعدد وتتباين ، وقد يكون بعضها ميسراً وبعضها غير ذلك ، وقد يختلف العسر واليسر بالنسبة للآلة أو الوسيلة نفسها باختلاف الزمان والمكان ، والله يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر ، فله الحمد والمنة .
مثال ذلك : أمر الله تعالى المسلمين بالجهاد في سبيله وقال : {  وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ  } ( الأنفال : 60 ) ، وقد كانت القوة المستطاعة في ذلك الزمان هي السيف والرمح والترس ونحو ذلك ، فإن المفتي والعالم في ذلك الزمان : يقول يجب على المسلمين إعداد السيوف والرماح والحراب وما أشبه ذلك ، ثم بعد الزمن المتطاول الذي أوصل إلى عصرنا يقول المفتي والعالم الآن يجب على المسلمين إعداد المدفع والدبابة والصاروخ والطائرة ، ولا يجب إعداد السيف ولا الرمح ولا الحربة ، فقد وجب اليوم ما لم يكن قبلُ واجباً ، وسقط وجوب ما كان قبلُ واجباً ، وهذا قد ينظر إليه على أنه تغير في الحكم الشرعي ، والحقيقة أن الحكم لم يتغير ؛ لأن الحكم الشرعي هو وجوب إعداد القوة المستطاعة ، وكانت القوة المستطاعة في الزمن الأول : السيف والرمح ونحوه ، وصارت اليوم المدفع والصاروخ ، ونحوه ، وقد تكون بعد فترة من الزمن شيئاً آخر فالحكم الشرعي لم يتغير ، وإنما الذي تغير هو الآلة أو الوسيلة التي يتحقق بها الحكم الشرعي في الواقع ، وهذه الآلات والوسائل والأساليب المستجدة ، لا يكفي فيها أن تكون محققة للحكم الشرعي بل هي محكومة بشروط هي :
1 - ألا تعارض قاعدة كلية من قواعد الشريعة .
2 - ألا تخالف دليلاً من أدلة الشرع التفصيلية .
3 - ألا يترتب عليها مفسدة تربو على المصلحة المتحصلة منها [27] .
من كل ما تقدم يتبين أن مسألة تغير الفتوى ليست مسألة متعلقة بالزمان المجرد ، أو المكان المجرد ، وكأن الزمان والمكان هما سبب تغيير الفتوى ، ولكن لما كان الزمان والمكان أوعية للأحداث والأفعال والتغيرات والعوائد والأعراف نُسب التغير للزمان والمكان ، وهذا يطلق عليه في عرف البلاغيين مجاز مرسل علاقته الظرفية ، وقد تبين بما تقدم أيضاً أن الموضوع منضبط وله قواعد تحكمه ، وليس هو مجرد استجابة أو إذعاناً لضغط الواقع ، وهذه الأمثلة المتقدمة يمكن أن تندرج تحت قسمين كبيرين :
الأول : فتاوى مؤسسة من أول أمرها على العرف أو المصلحة المرسلة ، ثم يتغير العرف أو المصلحة بتغير الزمان والمكان ، فتتغير الفتوى تبعاً لذلك .
الثاني : فتاوى مؤسسة على نصوص ، لكن هذه النصوص كانت معللة بعلة أو راعت عرفاً قائماً ، أو كانت مرتبة على صفة أو مقيدة بحالة ونحو ذلك ، فإذا زالت العلة أو تغير العرف أو الصفة أو الحالة ؛ فإن الفتوى تتغير أيضاً لذلك [28] .
ويمكننا أن نلاحظ مما تقدم عدة أشياء :
1 - أن عملية تغير الفتوى بتغير ما هي مرتبة عليه ؛ إنما هي عملية تهدف إلى إبقاء الأمور تحت حكم الشريعة ، وإن تغيرت صورتها الظاهرة ، وهي ليست خروجاً على الشريعة واستحدثاً لأحكام جديدة .
2 - أن التغير في الفتوى هو تغير خاص من حيث الزمان والمكان والشخص ، حيث تتغير فقط بالنسبة للزمان أو المكان أو الشخص الذي تغيرت في حقه مسوّغات الفتوى ، وهذا معناه أن الأمور تكون باقية على ما هي عليه في بقية الأماكن والأزمان والأشخاص .
3 - أن أهل العلم عندما قالوا بمراعاة الأحوال والعوائد ونحوها ؛ إنما قالوا ذلك حتى لا يقعوا في الظلم : إما ظلم العباد بإلزامهم بما لم يلزمهم به الشرع ، وإما ظلم أنفسهم بالخطأ على الدين .
4 - أن الذي يقول في حق هذه العوائد والأعراف إنها تغيرت وبالتالي تتغير الفتوى المرتبة عليها ؛ إنما هم أهل العلم والمعرفة بالشرع ، وليس أهل الهوى والجهل .
5 - أن العرف الذي تتغير به الفتوى ليس هو العرف الحاصل من وقوع الناس في مخالفة الشرع ، فإذا صار من عرف الناس اليوم في بعض البلدان خروج المرأة كاشفة صدرها ونحرها ، وكذلك إذا صار من عرف الناس التعامل بالربا في البنوك الربوية ؛ فإن هذا العرف لا تتغير به الفتوى ؛ لأنه عرف قائم على مخالفة الشرع فلا يعتد به ؛ إذ العرف الذي يعتد به هو ما لم يكن مخالفاً للشرع .
وأختم المقال بقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : « ليس لأحد أن يغير شريعته التي بعث بها رسوله ، ولا يبتدع في دين الله ما لم يأذن به » [29] .

________________________
(1) التعريفات ، للجرجاني ، 1/33 .
(2) أنيس الفقهاء ، للقونوي ، 1/309 .
(3) التعاريف ، للمناوي ، 1/55 .
(4) التعاريف ، 1/79 .
(5) إعلام الموقعين ، 1/87 .
(6) مجموع فتاوى ابن تيمية ، 28/511 .
(7) إعلام الموقعين ، 3/3 .
(8) تفسير ابن كثير ، 2/19 .
(9) تفسير ابن جرير ، 15/130 .
(10) تفسير القرطبي ، 8/319 .
(11) أخرجه البخاري ، كتاب الصلح ، رقم 2499 ، و مسلم ، كتاب الأقضية ، رقم 3242 .
(12) أخرجه ابن حبان ، (1/179) ، و الحاكم في المستدرك ، (1/174) ، وقال : صحيح ليس له علة ، و الترمذي ، (5/44) ، قال : هذا حديث حسن صحيح .
(13) أخرجه الحاكم في المستدرك ، (1/172) .
(14) انظر في تعريف الحكم الشرعي : البحر المحيط ، للزركشي ، (1/117 ، 132) .
(15) انظر في تعريف النسخ : الإحكام في أصول الأحكام ، (3/116) ، والبحر المحيط ، (4/64 ، 68) ، وإرشاد الفحول ، ص 276 .
(16) أخرجه مسلم في صحيحه ، 1/218 .
(17) مجموع الفتاوى ، 33/94 .
(18) الموافقات ، للشاطبي ، 1/78 ، 79 .
(19) الثوابت والمتغيرات ، د / صلاح الصاوي ، ص 40 .
(20) استشهد الدكتور صلاح الصاوي لكلامه ذلك بالدكتور يوسف القرضاوي ، والشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ، وهما مع ذلك ليس لهما سلف في هذا التقسيم ، وهو يعني أن د / صلاح لم يجد أحداً من المتقدمين يستشهد بكلامه على ما ذهب إليه .
(21) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ، ص 111 ، 112 .
(22) انظر : معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام ، ص 129 .
(23) إعلام الموقعين ، 3/14 .
(24) الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية ، ص 449 ، 450 .
(25) انظر : تنوير الحوالك ، شرح موطأ مالك ، 2/220 .
(26) معين الحكام ، ص 117 .
(27) انظر : تحطيم الصنم العلماني ، محمد بن شاكر الشريف ، ص 59 .
(28) انظر : (شيخ الإسلام ابن تيمية والولاية السياسية الكبرى) ، د / فؤاد عبد المنعم ، ص 77 ، 78 .
(29) مجموع الفتاوى ، 22/196 .

 

محمد الشريف
  • مقالات في الشريعة
  • السياسة الشرعية
  • كتب وبحوث
  • قضايا عامة
  • الصفحة الرئيسية