صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







ففروا إلى الله

محمد بن شاكر الشريف

 
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ‏
أما بعد :‏
‏ فإن قلوب العباد أوعية لما أودع فيها من العلوم، وظروف لما جعل فيها من المعارف بالأمور، ‏وهي مع ذلك تصدأ إذا أُهملت كما يصدأ الحديد، وتضطرب وتفور كما يفور المرجل إذا فتحت ‏أبوابها للوساوس والشكوك والشهوات والشبهات، ويعلوها الران إ ذا تركت نهبا لإبليس وجنوده، ‏حتى إنها لتصير من أثر ذلك معتمة لا تتمكن من الإبصار ومعرفة الحقائق حتى لو كانت في غاية ‏الوضوح ، ويزداد الإعتام كلما بعد الناس عن ربهم حتى تصل إلى درجة الإغلاق التام ، قال الله تعالى ‏‏:"كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون" فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى ‏الله عليه وسلم قال :"إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر ‏وتاب سقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله :كلا بل ران على ‏قلوبهم ما كانوا يكسبون"‏ ‏ [المطففين : 14] قال الطبري :"فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا ‏تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختمُ من قبل الله عز وجل والطبع، فلا يكون ‏للإيمان إليها مسلك ولا للكفر منها مخلص"‏ ، وعن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال :سمعت رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم يقول :"تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت ‏فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين :على أبيض مثل ‏الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف ‏معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه"‏ ‏.‏

‏ ولا يتمكن العبد من النجاة من ذلك إلا بالفرار إلى الله تعالى والرجوع إلى ربه والإنابة إليه، ‏والذل والخضوع والانكسار بين يديه، والاستغفار والتوبة، والاعتماد عليه تعالى في الأمور كلها، فهو ‏ربه ومليكه، وخالقه ورازقه، يعطي ويمنع وهو على كل شيء قدير، قلبه بين يديه يقلبه كيف يشاء، ‏وهذا هو الفرار إليه الذي طلبه الله منا بقوله تعالى :"ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين" فهو ‏سبحانه الملاذ والملجأ وهو المغيث، ولا ملجأ منه تعالى إلى إليه، بقول ابن جرير :"فاهربوا أيها الناس ‏من عقاب الله إلى رحمته بالإيمان به، واتباع أمره، والعمل بطاعته"، والفرار لا يكون إلا إلى الله تعالى ‏ولا يكون إلى أحد من خلقه، فإن الله تعالى هو رب العالمين وهو الفعال لما يريد، والخلق بأجمعهم لا ‏يقدرون على شيء إلا ما شاءه الله تعالى :"وما تشاؤون إلا أن يشاء الله"، ومن فرَّ إلى غيره لم يمتنع ‏منه، حتى يفر الإنسان من نفسه التي بين جنبيه إلى ربه خالقه ومولاه، فراحة الإنسان وأنسه وسعادته ‏وأمنه واطمئنانه إنما تكون بالفرار مما سوى الله إلى الله تعالى.‏

‏ وقد عبر القرآن عن الرجوع إلى الله تعالى بلفظ الفرار لبيان الحزم والجدية والفورية التي ينبغي ‏أن يتعامل بها مثل هذا الأمر فهو ليس أمرا على التراخي، فشأن المخالفة والمشاققة لله ولرسوله أمر ‏جلل مخوف حقه أن يُفَرَّ منه ويقلع عنه بأقصى ما يمكن، والتعبير بلفظ الفرار يدل على شدة القيود ‏التي تكبل الإنسان أو على شدة المغريات التي تأسره حتى يحتاج إلى الفرار وإلا لم يستطع أن يخرج من ‏دائرة تأثيرها، كما أن التعبير بالفرار ؛ يفصح عن سرعة الإهلاك والعذاب التي تنظر المتواني أو ‏المتباطئ، فالأمر لا يحتمل الإبطاء في الرجوع إلى الله تعالى، فالفرار الفرار إليه يا عباد الله ، فإنه لا ‏مهرب منه إلا إليه، والإنسان في غالب شأنه لا يفر إلا مما يخاف منه أشد الخوف ولا قدرة له على ‏دفع ضره وأذاه، ولا يفر إلى شيء إلا إذا كان يجد عنده الأمن والطمأنينة فكان في هذا التعبير القرآني ‏الموجز أصرح الدلالة على أن الشقاء والبؤس والتعاسة والخسارة الكاملة التي لا ربح بعدها، في البعد ‏عن الله والفرار منه إلى غيره، كما أن الخير والفلاح والربح المضمون الذي لا تعقبه خسارة، في ‏القرب إلى الله والفرار إليه

والفرار إلى الله كما يكون بالعمل بطاعته والتوبة إليه، يكون أيضا بالهجرة من دار الكفر إلى ‏دار الإسلام، ومن دار البدعة أو المعصية إلى دار السنة أو الطاعة، ومن أعدائه إلى أوليائه، فهو ‏متضمن للولاء والبراء والثبات على الدين، فالأول فرار بالقلب والثاني فرار بالجسد، والثالث فرار ‏بالقلب والجسد معا، وكل نوع من الفرار مطلوب من المرء كلٍّ على حسب حاله ‏
والمسلم في حاجة دائمة إلى الفرار إلى الله تعالى والاستغفار والتوبة إليه في كل آن وحين، ‏فبالفرار إلى الله سبحانه وتعالى والاستغفار والتوبة يستنزل الغيث، ويستجلب المال والولد، ويشتد ‏الساعد وتزيد القوة التي يتمكن بها المرء من فعل ما يريد، قال الله تعالى :" {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ ‏كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ ‏أَنْهَاراً" [نوح :10-12ا]، وقال تعالى"وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى ‏أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ " [هود:3] ‏وقال تعالى :" وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى ‏قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ" [هود :52].‏

والفرار إلى الله تعالى ليس عملا قلبيا أو وجدانيا فحسب، ثم ينغلق المرء بعدها على نفسه فلا ‏يكون لذلك الفرار أثر في الواقع، ولكنَّ الفرار مبتداه من القلب ثم ينساح على الجوارح كلها فيغمرها ‏فيه، حتى تكون تابعة له تعمل ما يأمرها به، ولا تمتنع منه، كما قال رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  :" ألا وإن في ‏الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"‏ ‏ وكما ‏قال الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله تعالى عنه :" القلب ملك وله جنود، فإذا صلح الملك ‏صلحت جنوده، وإذا فسد الملك فسدت جنوده"‏ ‏ وجنود القلب هي أعضاء البدن، فإذا كان الفرار ‏انغلاقا بالنفس عما حولها بحيث لا يؤثر فيها، فهو انسحاب من الحياة وهروب غير محمود، وهؤلاء ‏هم أصحاب رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  عندما فروا إلى الله غيروا وجه الأرض حتى عمها التوحيد والعدل بعد أن ‏غلب عليها الشرك والظلم.‏

‏ ولا يكون الفرار انسحابا محمودا من الحياة إلا في آخر الزمان، عند غلبة الجهل وفساد الناس، ‏حين لا يجدي العمل والدعوة، فيكون الفرار حينئذ حفاظا على الدين ورعاية له، قال رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم  ‏‏:"يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن"‏ ، ‏قال ابن حجر رحمه الله تعالى:"والخبر دال على فضيلة العزلة لمن خاف على دينه"‏

وقد يقع في ذهن البعض أو الكثيرين أن الفرار إلى الله تعالى والاستغفار والتوبة لا تكون إلا من ‏العاصي أو عند الوقوع في المعصية، وهذا وهم غير صحيح، بل العبد محتاج إلى ذلك ولو كان على ‏غير معصية، بل يحتاج إليها مع الطاعة في كل تقلباتها :قبل الطاعة وفي أثناء الطاعة وبعد الانتهاء منها ‏قال الله تعالى لعباده وهم في أثناء طاعة من أجل الطاعات، وهي فريضة الحج:" ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ ‏أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " [البقرة :199] فأمرهم بالاستغفار وهم يؤدون ‏النسك، كما أمرهم تعالى بالاستغفار بعدما أمرهم بكثير من الأعمال الصالحة والواجبات فقال تعالى ‏‏:"فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ ‏خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" [المزمل :20]، وقد ‏نادى الله تعالى المؤمنين باسم الإيمان وأمرهم بالتوبة فقال :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً ‏نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي ‏اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ‏إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [التحريم :8] وقال تعالى :" وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ ‏تُفْلِحُونَ" [النور :31]، وهذا رسولنا الكريم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يقول لأصحابه ‏‏:" يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة"‏ ‏ ويقول :" والله إني لأستغفر الله ‏وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة"‏ ‏ .‏

لقد كان الفرار إلى الله تعالى هو مصدر القوة والعزة والمنعة التي كان يعشها المسلمون الأولون، ‏وهو الذي كان سببا في انتصارهم وظهورهم على من ناوأهم ممن خالفهم وعاداهم حتى إن أحدهم ‏ليسرع الفرار إلى الله ولو كان في ذلك موته، فعندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ‏بدر للمسلمين محرضا لهم على القتال:"قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض قال عُمير بن الحُمام ‏الأنصاري يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض! قال :نعم قال :بخ بخ، فقال رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم :ما يحملك على قولك بخ بخ؟ قال :لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون ‏من أهلها، قال :فإنك من أهلها، فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال :لئن أنا حييت ‏حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، قال :فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل"‏ ، وتقدم ‏رضي الله عنه للقتال مسرعا وهو يرتجز ويقول :" ركضا إلى الله بغير زاد * إلا التقى وعمل المعاد ‏والصبر في الله على الجهاد * وكل زاد عرضه النفاد غير التقى والبر والرشاد" والركض إلى الله تعالى ‏هو الفرار إليه.‏

ثم تغير الحال وضعف المسلمون وصار كثير منهم يفرون إلى عدو الله وعدو المسلمين، مسارعة ‏فيهم والتماسا للقوة والعزة منهم، حتى إن منهم من ينصر الكفار على المسلمين من أجل ذلك، وقد ‏نهى الله تعالى المؤمنين عن هذا المسلك فقال :"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ‏تلقون إليهم بالمودة" وبين حقيقة من يسلك هذا السبيل فقال :" فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ‏يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ ‏عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ" [المائدة :52]، وقال :" بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ ‏يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً" [النساء :139-‏‏138]، فلا عز لنا ولا نصر ولا كرامة، إلا أن يكون الفرار إلى الله تعالى وحده لا شريك له، دون ما ‏سواه من خلقه أجمعين، اللهم اجعلنا ممن يفرون إليك. ‏

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
محمد الشريف
  • مقالات في الشريعة
  • السياسة الشرعية
  • كتب وبحوث
  • قضايا عامة
  • الصفحة الرئيسية