اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/alsharef/41.htm?print_it=1

أهل الذمة والولايات السياسية
(2/2)

محمد بن شاكر الشريف

 
بينت في الحلقة الأولى من هذه المقالة عدالة الشريعة في تعاملها مع أهل الذمة، والتزام المسلمين بذلك في تعاملهم معهم، ثم سقت الأدلة التي تبين أنه لا يجوز تولية أهل الذمة الولايات السياسية في بلاد المسلمين، ونقلت طائفة كبيرة من أقوال أهل العلم من مختلف المذاهب في ذلك، وفي هذه الحلقة نكمل ما تبقى من هذه المقالة.
بفعل ما فيه بلاد المسلمين اليوم من ضعف وتخاذل أمام عدو الله وعدو المسلمين، نجد اليوم من المسلمين من يحاول أن يؤكد مساواة أهل الذمة للمسلمين في حق تولي الولايات، بأنواع من الكلام الذي يظنه أدلة وما هي إلا شبهات، سَهَّل قبولها لديه والدعوة إليها والتمسك بها، الحالة التي عليها العلاقات الدولية اليوم، وها نحن أولاء نعرض لبعض هذه الشبهات ونرد على ما اشتبه منها:

وزارة التنفيذ:
لقد تصرمت قرون الإسلام وانقضت بالاتفاق على أن أهل الذمة لا ولاية لهم على المسلمين في شيء، وهذا الاتفاق لا يخدشه-كما يتوهم البعض- ما نقل عن الماوردي (الشافعي) بإجازته لأهل الذمة أن يكونوا وزراء تنفيذ، والذي دعا الماوردي رحمه الله لذلك هو تصويره لهذا النوع من الوزارة على أنه ليس من ولاية الأمر، حيث يقول عن الذمي المعين في وزارة التنفيذ: "فهو معين في تنفيذ الأمور وليس بوال عليها ولا متقلدا لها"[1] وسبب ذلك ما تقرر عنده-كما عند بقية أهل العلم- أن الولاية لا يجوز عقدها لغير المسلم، لكن الماوردي مع ذلك محجوج بالنصوص الشرعية التي تنهى عن ذلك، ومحجوج بعمل الخلفاء الراشدين وأصحاب السيرة المستقيمة من الخلفاء الأمويين أو العباسيين[2]، وقد رد عليه الجويني (الشافعي أيضا) رحمه الله بكلام شديد فقال: "ذكر مصنف الكتاب المترجم بالأحكام السلطانية أن صاحب هذا المنصب يجوز أن يكون ذميا، وهذه عثرة ليس لها مقيل، وهي مشعرة بخلو صاحب الكتاب عن التحصيل، فإن الثقة لا بد من رعايتها، وليس الذمي موثوقا به في أفعاله وأقواله وتصاريف أحواله، وروايته مردودة، وكذلك شهادته على المسلمين، فكيف يقبل قوله فيما يسنده ويعزيه إلى إمام المسلمين" ثم ذكر بعضا من الأدلة إلى أن يقول: "وقد نص الشافعي رحمة الله عليه أن المُترجِم الذي يُنهي إلى القاضي معاني لغات المدعين يجب أن يكون مسلما عدلا رضيا، ولست أعرف في ذلك خلافا بين علماء الأقطار، فكيف يسوغ أن يكون السفير بين الإمام والمسلمين من الكفار"[3]

هل لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين؟
هناك من يزعم –من المسلمين-أن أهل الذمة في البلاد الإسلامية لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، ويستدلون على زعمهم ذلك أن هذه قاعدة شرعية، أو ما ينسبه البعض الآخر للرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين،وهذا لا شك في خطئه فليست هناك قاعدة شرعية تذكر ذلك كما أن الرواية المزعومة من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل هذا النص إنما ورد في حق من أسلم من الكفار، فقد سأل ميمون بن سياه أنس بن مالك قال: يا أبا حمزة ما يحرم دم العبد وماله؟ فقال: "من شهد أن لا إله إلا الله، واستقبل قبلتنا وصلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم له ما للمسلم وعليه ما على المسلم"[4] وأخرجه النسائي بلفظ: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبيحتنا، وصلوا صلاتنا، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم"[5] وأخرجه أبو داود بلفظ "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين"[6]، فأخذه هؤلاء وجعلوه لأهل الذمة، وأهل الذمة كفار لم يشهدوا أن لا إله إلا الله، ولم يشهدوا أن محمدا رسول الله، ولم يستقبلوا قبلتنا ولم يصلوا صلاتنا، ولا أدرى هل وقعوا في ذلك جهلا أو عمدا، ولا شك أن هذا القول الذي ينسبه هؤلاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم مخالف لكل ما تقدم من الأدلة التي أورتها في الحلقة الأولى من المقالة وليس في أيدي هؤلاء أكثر من محاولة بيان عدم دلالة هذه الأدلة، وذلك بأنواع مستكرهة من التأويل.

هل قوله تعالى لا يألونكم خبالا وما تلاها شرط في الحكم أم هو كشف عن حقيقة أمرهم؟
قال الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعلقون"، في هذه الآية كشف وبيان لحقيقة موقف أهل الذمة من المسلمين، ولفظ الآية ونظمها يبين أن ما ذكر فيها هو من خصائص القوم وصفاتهم المتأصلة فيهم، فالله تعالى ينهانا أن نتخذ من أهل الذمة بطانة ويكشف لنا عن حقيقة موقفهم من المسلمين فيقول: إنهم لا يألونكم خبالا، ودوا ما عنتم، قد بدت البغضاء من أفواههم، ثم يبين الله تعالى أن الأمر أكبر مما ظهر بقوله: وما تخفي صدورهم أكبر، ثم يقول الله تعالى محرضا المؤمنين على عدم اتخاذهم بطانة :" قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعلقون"، فجاء أناس ممن يريد لَيَّ النصوص ويدعي الفهم والاستنارة فزعم أن قوله تعالى: لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم هو شرط لتطبيق الحكم، فإذا تخلف ذلك الشرط جاز اتخاذهم بطانة، فإذا كان أهل الذمة ممن لا يجتهدون في أذيتنا، ولا يودون لنا التعب والمشقة، ولم تظهر البغضاء من أفواههم، جاز اتخاذهم بطانة، وهذا ما لم يقله أحد من أهل العلم السابقين.

ولفظ الآية يأبي هذا التفسير التحريفي فالآية تكشف عن حقيقتهم: يا أيها الذين لآمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ...الآية فهذه حقيقتهم والصفة المتأصلة فيهم، ولذلك حسن أن يقال عنهم: قد بدت البغضاء من أفواههم، تأكيدا وتوثيقا للحكم في نفوس السامعين، وحسُن قوله تعالى: "قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعلقون" وكأن فيها جوابا أو ردا لمن يقول: وإذا لم يظهر منهم ما نكره من الأقوال أو الأفعال؟، فيقال لهم: إن كانت لكم عقول تعقلون بها عداوتهم لكم، فقد بينا لكم الآيات الدالة على ذلك، ولذلك يقول ابن جرير في تفسيرها: " فنهى الله المؤمنين به أن يتخذوا من الكفار به أخلاء وأصفياء، ثم عرّفهم ما هم عليه لهم منطوون من الغش والخيانة، وبغيهم إياهم الغوائل، فحذرهم بذلك منهم ومن مخالَّتهم" فهم منطوون على هذه الأمور وليست هي شرطا أو قيدا في الحكم تزول بزواله، ومن الذي يقدر على العلم بذلك وهي أمور قلبية لا يطلع عليها الناس، ومع هذا الوضوح فقد زعم بعض من لم يفهم كلام أهل العلم أن الطبري رحمه الله تعالى ممن يرى جواز الاستعانة بغير المسلمين في أمور المسلمين وشئونهم، مع أن الطبري بيَّن  ذلك بعبارة واضحة وهو يرد على من يقول إن الذين بدت البغضاء من أفواههم هم المنافقون، قال رحمه الله: " القول في تأويل قوله تعالى : "قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ"

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قد بدت بغضاء هؤلاء الذين نهيتكم أيها المؤمنون، أن تتخذوهم بطانة من دونكم لكم "من أفواههم"، يعني بألسنتهم. والذي بدا لهم منهم بألسنتهم،  إقامتهم على كفرهم، وعداوتهم من خالف ما هم عليه مقيمونَ من الضلالة. فذلك من أوكد الأسباب في معاداتهم أهل الإيمان، لأن ذلك عداوة على الدين، والعداوة على الدين العداوةُ التي لا زوال لها إلا بانتقال أحد المتعاديين إلى ملة الآخر منهما، وذلك انتقال من هدى إلى ضلالة كانت عند المنتقل إليها ضلالة قبل ذلك. فكان في إبدائهم ذلك للمؤمنين، ومقامهم عليه، أبينُ الدلالة لأهل الإيمان على ما هم عليه من البغضاء والعداوة" ثم نقل عن قتادة رحمه الله تعالى: " قوله:"قد بدت البغضاء من أفواههم"، يقول: قد بدت البغضاء من أفواهُ المنافقين إلى إخوانهم من الكفار، من غشهم للإسلام وأهله، وبغضهم إياهم" ثم عقب عليه بقوله: " وهذا القول الذي ذكرناه عن قتادة، قول لا معنى له"  ثم بدأ يبين سبب حكمه على ما قاله قتادة فقال: "وذلك أن الله تعالى ذكره إنما نهى المؤمنين أن يتخذوا بطانة ممن قد عرفوه بالغش للإسلام وأهله والبغضاء، إما بأدلة ظاهرة دالة على أنّ ذلك من صفتهم، وإما بإظهار الموصوفين بذلك العداوة والشنآن والمناصبة لهم.
فأما من لم يُثبِتوه معرفةً أنه الذي نهاهم الله عز وجل عن مخالَّته ومباطنته، فغير جائز أن يكونوا نهوا عن مخالته ومصادقته، إلا بعد تعريفهم إياهم، إما بأعيانهم وأسمائهم، وإما بصفات قد عرفوهم بها.

وإذْ كان ذلك كذلك وكان إبداء المنافقين بألسنتهم ما في قلوبهم من بغضاء المؤمنين إلى إخوانهم من الكفار، غير مدرِك به المؤمنون معرفةَ ما هم عليه لهم، مع إظهارهم الإيمانَ بألسنتهم لهم والتودد إليهم كان بيِّنًا أن الذي نهى الله المؤمنون عن اتخاذهم لأنفسهم بطانة دونهم، هم الذين قد ظهرت لهم بغضاؤهم بألسنتهم، على ما وصفهم الله عز وجل به، فعرَفهم المؤمنون بالصفة التي نعتهم الله بها، وأنهم هم الذين وصفهم تعالى ذكره بأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون، ممن كان له ذمةٌ وعهدٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أهل الكتاب. لأنهم لو كانوا المنافقين، لكان الأمر فيهم على ما قد بينا. ولو كانوا الكفار ممن قد ناصب المؤمنين الحربَ، لم يكن المؤمنون متخذيهم لأنفسهم بطانة من دون المؤمنين، مع اختلاف بلادهم وافتراق أمصارهم، ولكنهم الذين كانوا بين أظهُر المؤمنين من أهل الكتاب أيامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن كان له من رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وعقدٌ من يهود بني إسرائيل"[7]. فالمعنيون بهذه الآيات ليسوا هم المنافقين وليسوا هم الكفار من أهل الحرب وإنما كفار أهل الذمة

البر بهم والإقساط إليهم:
لم ينهنا ربنا تبارك وتعالى عن البر والإقساط بمن لم يقاتلنا في الدين ولم يعينوا المشركين علينا، كما قال تعالى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من ديارهم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين".
 فبرهم والإقساط إليهم أمر مطلوب، لكن ليس من معنى هذا توليتهم الولايات على المسلمين، فإن هذا لم يقل به أحد، والآية إنما تعنى أن المسلمين أهل عدل وإنصاف وإحسان لا يظلمون أحدا شيئا، وأن من لم يقاتلهم في الدين ولم يعن عليهم أحدا فإن المسلمين يحفظون له ذلك ويثيبونه عليه
ما يجوز من الاستخدام أو الاستعانة:
يجوز الاستعانة بأهل الذمة واستخدامهم فيما يحتاج إليه المسلمون وذلك وفق عدة شروط منها:
أن لا يكون في ذلك ولاية على المسلمين
أن يكون حسن الرأي في المسلمين
أن تكون بالمسلمين حاجة إليه
والوقائع التي حدثت في السيرة النبوية تدل على هذا الجواز بتلك القيود المذكورة، وإذا تأمل المتأمل ما يساق من وقائع في ذلك، لا يجد فيها استعانة أو استخداما مطلقا، بل يجدها مقيدة بأحد القيود السابقة، كاستئجار الرسول صلى الله عليه وسلم في الهجرة دليلا مشركا خبيرا بالطرق، فهي ليست ولاية وكان الرجل مأمونا وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في حاجة لذلك، وكذلك اتخاذه عينا (جاسوسا) من خزاعة على مشركي، قريش وكانت خزاعة عيبة نصح[8] لرسول الله صلى الله عليه وسلم مشركهم ومسلمهم، ونحو ذلك من الأمور

محكمة التاريخ:
لقد كانت هناك فترات من الزمن تخلى فيها المسلمون عن كثير من الأحكام الشرعية، وتقاعس فيها بعض ولاة الأمور من المسلمين عن الالتزام بالأحكام الشرعية الخاصة بالمشاركة السياسية لأهل الذمة، فولوهم بعض الولايات والمناصب التي لا ينبغي أن يتولوها، وقد أثبت التاريخ والواقع ما تحدث عنه القرآن بما يكنه الكفار للمسلمين، وما تنطوي عليه أفئدتهم، بما لا يدع مجالا لمُشكك أو لمخذل، وفي هذا الواقع التاريخي بيان ورد على بعض المعاصرين الذين يحاولون التفرقة بين من ظهرت عداوته من أهل الذمة، وبين من ظهرت مودته أو لم تظهر منه عداوة، فيجعلون كل ما تقدم من الأدلة خاصا بمن ظهرت عداوته، ويرون أن من ظهرت مودته أو لم تظهر منه عداوة فإن الأدلة لا تتناوله.
وذلك أن ما في القلوب لا يعلمه إلا الله تعالى، وقد قال الله تعالى: "ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك فيها الحرث والنسل والله لا يحب الفساد"، والأدلة المتقدمة ليس فيها هذا القيد الذي زعموه، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى عشرين موضعا من كتاب الله تعالى في بيان غش الكفار من اليهود والنصارى للمسلمين، وعداوتهم وخيانتهم وتمنيهم السوء لهم، ومعاداة الرب تعالى لمن أعزهم أو والاهم أو ولاَّهم أمور المسلمين، ثم قال بعدما أورد هذه المواضع العديدة: "والآيات في هذا كثيرة، وفي بعض هذا كفاية"[9].
وهذه بعض الوقائع التاريخية من القديم ومن الحديث، ومن الشرق ومن الغرب، ومن اليهود ومن النصارى، بما يدل على أن ما يظهره أهل الذمة غير ما يبطنون، وقد تمثل ما قاموا به -سواء في القديم أو الحديث-عندما تولوا بعض الأمور، أو عند شعورهم بالقوة وأمنهم من معاقبة المسلمين لهم في أمرين:
الأول: ظلمهم للمسلمين وإذلال من يقع منهم تحت أيديهم، والاستعانة بأهل ملتهم في أعمال الدولة وإبعاد المسلمين عنها، بل وفصلهم من وظائفهم، وقد بلغت مكانة اليهود في الدولة الفاطمية أن قال القائل-في وصف ما هم عليه من العز والسؤدد الذي لم ينله كثير من المسلمين-

يهود هذا الزّمان قد بلغوا ... غاية آمالهم، وقد ملكوا
العزّ فيهم والمال عندهم ... ومنهم المستشار والملك
يا أهل مصر إنّي قد نصحت لكم ... تهوّدوا قد تهوّد الفلك[10].

وقد تسلط اليهود أيضا في دولة غرناطة على الناس وقاموا  بحكم الجماعات الإسلامية وجمع الضرائب منهم مما دفع بابن الجد إن يقول:

تحكمت اليهود على الفروج ... وتاهت بالبغال وبالسروج
وقامت دولة الأنذال فينا ... وصار الحكم فينا للعلوج
فقل للأعور الدجال هذا ... زمانك إن عزمت على الخروج.

وهذا أبو إسحق الألبيري الصنهاجي وقد رأى ما ساد به اليهود على المسلمين، فيقول:

وإني احتللت بغرناطة ... فكنت أراهم بها عابثين
وقد قسموها وأعمالها ... فمنهم بكل مكان لعين
وهم يقبضون جباياتها ... وهم يخضمون وهم يقضمون
ورخم قردهم[11] داره ... وأجرى إليها نمير العيون
فصارت حوائجنا عنده ... ونحن على بابه قائمون
ويضحك منا ومن ديننا ... فإنا إلى ربنا راجعون[12]

والثاني: تحريضهم للمشركين وأعداء المسلمين على غزوهم ومحاربتهم، وإيذائهم للمسلمين بكل سبيل، و إعانتهم للقوى الكافرة المهاجمة لبلاد المسلمين، وقد كان أول ذلك ما فعله اليهود زمن البعثة النبوية، فبرغم ما كان بين الرسول صلى الله عليه وسلم  وبينهم من معاهدات، فقد خانوا ونقضوها، وحرضوا المشركين على قتال المسلمين  ولكن الله خذلهم.
 ومن ذلك ما فعله النصارى في الأندلس زمن دولة المرابطين عندما حرضوا  الطاغية ابن رذمير على محاربة المسلمين وقتالهم، وتوالت عليه كتبهم، وتواترت رسلهم ملحة بالاستدعاء، مطمعة في دخول غرناطة، فلما أبطأ عنهم، وجهوا إليه زماماً يشتمل على اثني عشر ألفاً من أنجاد مقاتليهم، لم يَعُدُّوا فيها شيخاً ولا غراً"[13].
 وعندما أغارت جموع التتار على بلاد الشام ودخلوا دمشق استطال النصارى هناك على المسلمين، "وأحضروا فرمانا من هولاكو بالاعتناء بأمرهم وإقامة دينهم: فتظاهروا بالخمر في نهار رمضان، ورشوه على ثياب المسلمين في الطرقات، وصبوه على أبواب المساجد وألزموا أرباب الحوانيت بالقيام إذا مروا بالصليب عليهم، وأهانوا من امتنع من القيام للصليب وصاروا يمرون به في الشوارع إلى كنيسة مريم، ويقفون به ويخطبون في الثناء على دينهم، وقالوا جهراً: ظهر الدين الصحيح دين المسيح، فقلق المسلمون من ذلك، وشكوا أمرهم لنائب هولاكو وهو كتبغا فأهانهم وضرب بعضهم، وعظم قدر قسوس النصارى، ونزل إلى كنائسهم وأقام شعارهم"[14],
 ومن ذلك أيضا الحريق الكبير الذي شب في دمشق سنة سبعمائة وأربعين، وبعد خمسة عشر يوما شب حريق أعظم منه وكان أمرا مهولا، ثم تبين بعد ذلك أن من فعل ذلك هم مجموعة من النصارى الذين تستعملهم الدولة في أعمالها، وعلى رأسهم سلامة بن سليمان بن مرجا النصراني، كاتب الأمير علم الدين سنجر البشمقدار[15].
قال ابن القيم: "ولو علم ملوك الإسلام بخيانة النصارى الكتاب، ومكاتبتهم الفرنج أعداء الإسلام، وتمنيهم أن يستأصلوا الإسلام وأهله، وسعيهم في ذلك بجهد الإمكان، لَثَنَاهُمْ ذلك عن تقريِبهم وتقليدهم الأعمال، وهذا الملك الصالح أيوب كان في دولته نصراني يسمى محاضر الدولة أبا الفضائل بن دخان، ولم يكن في المباشرين أمكَنُ منه، وكان المذكور قذاةً في عين الإسلام، وبثرة في وجه الدين، ومثالبُه في الصحف مسطورة، ومخازيه مخلدة مذكورة، حتى بلغ من أمره أنه وقع لرجل نصراني أسلم برده إلى دين النصرانية، وخروجه من الملة الإسلامية، ولم يزل يكاتب الفرنج بأخبار المسلمين وأعمالهم وأمر الدولة وتفاصيل أحوالهم، وكان مجلسه معموراً برسل الفرنج والنصارى، وهم مكرمون لديه، وحوائجهم مقضية عنده، ويحل لهم الأدرار والضيافات وأكابر المسلمين محجوبون على الباب لا يؤذن لهم، وإذا دخلوا لم ينصفوا في التحية ولا في الكلام، فاجتمع به بعض أكابر الكتاب فلامه على ذلك وحذره من سوء عاقبة صنعه، فلم يزده ذلك إلا تمرداً"[16]
 وفي حوادث سنة سبعمائة وسبع وستين عندما هاجم الفرنج الإسكندرية وقت الضحى من يوم الجمعة، دخل ملك قبرص - واسمه ربير بطرس بن ريوك - وشق المدينة وهو راكب، فاستلم الفرنجُ الناسَ بالسيف، ونهبوا ما وجدوه من صامت وناطق، وأسروا وسبوا خلائق كثيرة، وأحرقوا عدة أماكن، وهلك في الزحام، بباب رشيد، ما لا يقع عليه حصر، فأعلن الفرنج بدينهم، وانضم إليهم من كان بالثغر من النصارى، ودلوهم على دور الأغنياء، فأخذوا ما فيها، واستمروا كذلك، يقتلون، ويأسرون، ويسبون، وينهبون، ويحرقون، من ضحوة نهار الجمعة إلى بكر نهار الأحد، فرفعوا السيف، وخرجوا بالأسرى والغنايم إلى مراكبهم، وأقاموا بها إلى يوم الخميس ثامن عشرينه، ثم أقلعوا، ومعهم خمسة آلاف أسير"[17].
وعندما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر تطاولت النصارى من القبط والنصارى الشوام على المسلمين بالسب والضرب، ونالوا منهم أغراضهم وأظهروا حقدهم، ولم يبقوا للصلح مكاناً، وصرحوا بانقضاء ملة المسلمين وأيام الموحدين[18].
  وعندما سافر عسكر الفرنساوية إلى جهة الصعيد صحبهم يعقوب القبطي ليعرفهم الأمور ويطلعهم على المخباءات، ولما تظاهر يعقوب القبطي مع الفرنساوية وجعلوه ساري عسكر القبطة، جمع شبان القبط وحلق لحاهم، وزياهم بزي مشابه لعسكر الفرنساوية والوقائع في ذلك كثيرة وهذه مجرد أمثلة.
وهكذا تثبت وقائع التاريخ المتعددة على اختلاف ما بينها من الزمان والمكان ما جاء في كتاب ربنا العليم الحكيم وهو مصداق لقوله تعالى: " سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ "  فقد بينت هذه الوقائع التي أوردناها ما ذكرته الآيات من كراهية الكفار للمسلمين وحقدهم عليهم وإرادة السوء بهم، اللهم بمنك وكرمك وقدرتك نجنا منهم ومن شرهم وممن مكن لهم وأعانهم
 
 
 

---------------------------------------
[1] الأحكام السلطانية ص28-29
[2] انظر أحكام أهل الذمة لابن القيم 1/456-478، تحطيم الصنم العلماني ص108-110
[3] غياث الأمم في التياث الظلم ص 114-116
[4] أخرجه البخاري كتاب الصلاة رقم 323
[5] أخرجه النسلئي كتاب تحريم الدم رقم 3967 وأخرجه أحمد بنحوه رقم 12643
[6] أبو داود كتاب الجهاد رقم2641
[7] تفسير ابن جرير الطبري 7/145-147
[8]  يحفظون سره ولا يخفون عنه شيئا
[9]  أحكام أهل الذمة 1/498
[10] إتحاف الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء للمقريزي
[11] إشارة منه إلى الوزير اليهودي
  [12] تاريخ الأدب الأنداسي إحسان عباس 1/148
[13] الإحاطة في أخبار غرناطة
[14] السلوك لمعرفة دول الملوك
[15] انظر في تفاصيل ذلك السلوك لمعرفة دول الملوك
[16] أحكام أهل الذمة 1/499
[17] انظر في تفاصيل ذلك السلوك لمعرفة دول الملوك
[18] انظر عجائب الآثار للجبرتي

 

محمد الشريف
  • مقالات في الشريعة
  • السياسة الشرعية
  • كتب وبحوث
  • قضايا عامة
  • الصفحة الرئيسية