صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







ولذكر الله أكبر

محمد بن شاكر الشريف

 
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم أجمعين أما بعد فإن الله تعالى خلق السموات والأرض، كما خلق الملائكة، والإنس والجن لعبادته، قال تعالى: "وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين" كما قال: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" والله تعالى غني عن عبادة العابدين فملكه لا يزيد بطاعة الطائعين، كما لا ينقص بعصيان العاصين، وقد شرع الله تعالى كثيرا من العبادات الظاهرة من صلاة وزكاة وصوم وحج وغير ذلك مما شرع والتي يدل الالتزام بها وأداؤها من العباد على عبوديتهم لربهم وطاعتهم له، والغرض الأسمى ما ذلك ما وقر في القلب من إيمان إلى جانب ما يظهر من أعمال البدن تصديقا لذلك، وليس المطلوب مجرد ظاهر من القول والعمل لا حقيقة له في الباطن، وذكر الله تعالى من الأدلة العظيمة الدالة على تعظيم الله تعالى وتعظيم أمره ونهيه، ودلالة على ما وقر في قلب المسلم واستقر من إيمان صادق.

ومن فضل الله تعالى على عباده أن جعل للخير مواسم يعطي فيها على العمل الصالح ما لا يعطي في غيره، فينشط فيها المسلم لعمل ما أحبه الله ورضيه، ويجتهد في ذلك حتى يصل إلى غاية عالية.

وقد أقبل علينا موسم الحج وهو من أعظم مواسم التقرب إلى الله تعالى، فلو نظرت إلى هذه العبادة على ما فيها من مشقة بدنية حيث يأتيها الحاج من مئات الأميال بل وآلافها، وما يتحمله من كلفة مالية، إلى جانب هجر الأوطان والأموال والأهلين، وجدت من المقاصد العظمى لهذه الفريضة ذكر الله تعالى، فقال تعالى آمرا نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام بالدعوة إلى الحج: "وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى ضامر من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام" فبين أن ذكر الله من المقاصد العظمى لهذه الفريضة، وقال في تأدية مناسك هذه الفريضة "فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ"فكرر الذكر مرتين تأكيدا وتنبيها على أهميته، وقال: "وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ" والأيام المعدودات هي أيام التشريق، وأمر بالذكر بعد قضاء المناسك وأدائها فقال: "فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرا" وهذا رسولنا الكريم يبين أن الطواف وهو ركن من أركان الحج ليس المقصد منه سوى ذكر الله كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمى الجمار لإقامة ذكر الله"، فالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة إنما جعل ذلك لإقامة ذكره تعالى، وليس من أجل تجاذب أطراف الحديث بين الناس أثناء الطواف والسعي، و كذلك رمي الجمار وليس لرجم إبليس كما يزعم كثير من الناس وحتى أيام العيد التي هي أيام فرح وسرور وقد يصحب ذلك أنواع من اللهو فإنها لا تخلو من ذكر الله تعالى، وقد بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه عن أيام التشريق التي هي أيام العيد الأكبر حيث يقول عنها: "وإن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل" ، فذكر الله تعالى يلف عبادة الحج من بدئها إلى نهايتها وفي أثناء أدائها، ففي الإهلال بالحج ذكر وفي الطواف ذكر وفي الصعود للصفا والمروة ذكر وفي الوقوف بعرفة ذكر وفي المزدلفة ذكر وفي ذبح النسك ذكر وفي العيد ذكر، وقد ذكر البخاري في صحيحه ترجمة تدل لذلك فقال: "باب التكبير أيام منى وإذا غدا إلى عرفة، وكان عمر - رضي الله عنه - يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد ، فيكبرون ويكبر أهل الأسواق ، حتى ترتج منى تكبيرا . وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات ، وعلى فراشه وفى فسطاطه ، ومجلسه وممشاه تلك الأيام جميعا . وكانت ميمونة تكبر يوم النحر . وكن النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد"

وإذا كان ذكر الله تعالى من أهم مقاصد الحج فإن الله تعالى من رحمته بالناس أباح لهم أن يبتغوا من فضله في أمور البياعات والتجارات، على سبيل الإباحة وانقلب الحال عند كثير من الناس بحيث صار ذكر الله أقل ما يشغل همه وأصبح تحقيق المكاسب المالية العظمى في ذلك الموسم العظيم أكثر ما يستحوذ عليهم، حتى يتقاعس الكثير منهم عن أداء الفريضة حتى لا يفوته ما يراه من المكسب المادي، وصنف آخر يتتبع كل رخصة وردت فيجمع في حجه الرخص كلها وصولا إلى توفير وقته للتجارة والكسب، مع أن أربح التجارة هي ما كانت مع الله تعالى فإنه يعطي ما لا يعطيه أحد، فبينما يقابل الناس الشيء بمثله أو قريب من ذلك فإن الله يقابل الشيء بعشرة أمثالة إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" والحج المبرور هو الحج الذي وفيت أحكامه ووقع مطابقا لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل

صور الذكر:
وذكر الله تعالى يشمل أمرين: أمر قلبي وهو تذكر الله تعالى وتذكر أمره ونهيه وعدم الغفلة عن ذلك أو نسيانه، فلا يقدم الإنسان في أمر من الأمور إلا وهو على بصيرة وتذكر، ويدل على ذلك وصية سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه لسعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه حيث قال له: "يا سعد اذكر الله عند همك إذا هممت و عند يدك إذا قسمت و عند حكمك إذا حكمت"

وذكر عملي وهو لهج اللسان بالثناء على الله تعالى بما هو أهله ودعاؤه في السر والعلن في السراء والضراء، والقيام بما أوجب الله تعالى من الواجبات والانتهاء عما حرم من المحرمات، ويدل لذلك ما ذكره في الكشاف "وذكر الله يتناول كل ما كان من ذكر طيب: تسبيح ، وتهليل ، وتكبير ، وتمجيد ، وتوحيد ، وصلاة ، وتلاوة قرآن ، ودراسة علم ، وغير ذلك مما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغرق به ساعة ليله ونهاره"

وإذا نظرت إلى كثير من العبادات البدنية الظاهرة تجد التأكيد على أن المقصد من ذلك ذكر الله تعالى حتى يعلم المسلم أن ذكره تعالى هو المقصود الأول بما طُلب منه، فإن الذكر للعبادة بمثابة الروح للجسد، فكما أن الجسد بلا روح ميت فكذلك العبادة بلا ذكر ميتة، يقول الله تعالى: "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر" وقد ورد في تفسيرها عدة أقوال أقواها وأشهرها ثلاثة، أحدهما: يتحدث عن المكافأة التي يكافئ الله تعالى بها الذاكر فهو يقول: إن ذكر الله لك أيها الذاكر أكبر من ذكرك له، فإن ذكر الله للعبد يرفع منزلته، وأما ذكر العبد لربه فلا يزيد في ملكه شيئا، وهذا لا شك فضل عظيم ومنزلة عظمى للعبد الذاكر أن يذكره رب السموات والأرضين، وقد دل على هذه المكافأة العظيمة قوله تعالى: "فاذكروني أذكركم" فمن ذكر الله تعالى فإن الله يذكره، وقد جاء في الحديث القدسي يقول الله تعالى:" أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم"

والقول الثاني: أنه لا شيء من الأعمال والتعبدات أكبر من ذكر الله تعالى، كما قال قتادة في تفسير قوله تعالى :"ولذكر الله اكبر" بل ذكر الله أكبر، وعن أمّ الدرداء قالت:(وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) فإن صليت فهو من ذكر الله، وإن صمت فهو من ذكر الله، وكلّ خير تعمله فهو من ذكر الله، وكل شرّ تجتنبه فهو من ذكر الله، وأفضل ذلك تسبيحُ الله"
والثالث: أن ذكر الله ومراقبته في نهيه عن الفحشاء والمنكر أكبر من نهي الصلاة عن ذلك والأقوال غير متعارضة أو متضادة ولذا جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله:(وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) قال: لها وجهان: ذكر الله أكبر مما سواه، وذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه.

والأقوال كلها متفقة على بيان منزلة الذكر وعظمه وفضله حتى يقول أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: "ألا أخبركم بخير أعمالكم وأحبها إلى مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير من أن تغزوا عدوّكم، فتضربوا أعناقهم، وخير من إعطاء الدنانير والدراهم؟ قالوا: ما هو؟ قال: ذكركم ربكم، وذكر الله أكبر".

وآي القرآن كلها تشهد على عظيم منزلة الذكر وفضله، حيث يذكر العبد ربه فلا يغفل عنه بل يظل ناظرا لعلم الله تعالى به وإحاطته له حتى يطلع ربه على سره ونجواه وما هو أخفى من ذلك، ويبقى لسانه يلهج بذكر الله تعالى والثناء عليه بما هو أهله، فيحمله ذلك على المتابعة التامة والالتزام بما حد الله له من حد، حتى إذا غلبته نفسه لحظة أو تملكه الشيطان على حين غرة سارع بكل قواه من غير تأخير أو تسويف إلى التوبة والاستغفار.

وهذا كتاب ربنا يبين أن من أكثر من ذكره تعالى فإن ذلك يحمله على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يكون قدوته في كل ما يأتي ويذر، يقول الله تعالى: "لقد كان لكم في رسول أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا" فجعل الإكثار من ذكره تعالى والمداومة على ذلك في جميع المواطن على السراء والضراء، خوفا من عقابه ورجاء لثوابه من المعينات على اتخاذ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة،لأن ذاكر الله متَّبِع لأوامره ، بخلاف الغافل عنه، كما بين أن ذكر الله تعالى يكون مبعثا لطمأنينة القلب وسكونه وعدم اضطرابه في الملمات المدلهمات فقال تعالى: "ألا بذكر الله تطمئن القلوب" وقد بين القرآن أيضا أن ذكر الله تعالى في مواطن الجهاد والجلاد وملاقاة الكفار مؤدية للفلاح فقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون" قال أبو حيان: " وأمرهم بذكره تعالى كثيرا في هذا الموطن العظيم من مصابرة العدو والتلاحم بالرماح وبالسيوف وهي حالة يقع فيها الذهول عن كل شيء فأمروا بذكر الله إذ هو تعالى الذي يفزع إليه عند الشدائد ويستأنس بذكره ويستنصر بدعائه ومن كان كثير التعلق بالله ذكره في كل موطن حتى في المواضع التي يذهل فيها عن كل شيء ويغيب فيها الحس { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } " قال قتادة : افترض الله ذكره أشغل ما يكون العبد عند الضراب والسيوف ، وقال الزمخشري: فيه إشعار بأن على العبد أن لا يفتر عن ذكر الله أشغل ما يكون قلبا وأكثر ما يكون هما وأن يكون نفسه مجتمعة لذلك وإن كانت متوزعة عن غيره، "، كما أمر الله تعالى بالذكر الكثير بعد الانتهاء من صلاة الجمعة فقال: "فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا كثيرا لعلكم تفلحون"، كما بين القرآن أن المداومة على ذكر الله تعالى في جميع الأحايين دلالة بينة على أن الذاكر من أولي الألباب أصحاب العقول الرشيدة، فقال تعالى في وصف أولي الألباب: "الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم"، فعلى أي وضع شئت أن تراه رأيته ذاكرا لله تعالى بفعاله وأقواله، فهم يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم قال مجاهد: "لا يكون من الذاكرين كثيرا حتى يذكره قائما وقاعدا ومضطجعا"، والذاكرون الله بحق لا يشغلهم عن الذكر شيء لا الأموال ولا التجارات ولا الأهلون كما قال تعالى: "رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله"

ولا شك أن ذكر الله تعالى في الأزمان والأمكنة التي أمر بالذكر فيها أعلى مكانة وأجل قدرا من الذكر العام غير المرتبط بزمن أو مكان، فهلا شمر المسلمون والحجاج عن ساعد الجد وأكثروا من الذكر والدعاء في هذا الجمع العظيم الذي يباهي به الله ملائكته، وسألوا الله من فضله لهم ولأمتهم السداد والنصر والظهور على من شاق الله ورسوله وحارب أولياءه، نسأل الله تعالى بمنه وفضله وتوفيقه أن يجعلنا ممن يحقق مقاصد الحج ونكون من الذاكرين الله كثيرا ...آمين
 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
محمد الشريف
  • مقالات في الشريعة
  • السياسة الشرعية
  • كتب وبحوث
  • قضايا عامة
  • الصفحة الرئيسية