اطبع هذه الصفحة

http://www.saaid.net/Doat/alsharef/60.htm?print_it=1

تمليك دار الإسلام لغير المسلمين

محمد بن شاكر الشريف


بسم الله الرحمن الرحيم


خلق الله تعالى الإنسان وأسكنهم الأرض التي خلقها وجعلها دارا لهم، فكان منهم المسلم ومنهم الكافر، فالدار التي يسكنها المسلمون ويقيمون فيها شرع الله تعالى دار إسلام، وفي المقابل الدار التي يسكنها الكفار ولا تحكمها شريعة الله دار كفر، فالإسلام أو الكفر ليس صفة ذاتية للدار وإنما هي تابعة للأحكام الغالبة فيها، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فإن كون الأرض دار كفر أو دار إسلام أو إيمان أو دار سلم أو حرب، أو دار طاعة أو معصية، أو دار المؤمنين أو الفاسقين، أوصاف عارضة لا لازمة، فقد تنتقل من وصف إلى وصف، كما ينتقل الرجل بنفسه من الكفر إلى الإيمان والعلم، وكذلك بالعكس" وقال: "والبقاع تتغير أحكامها بتغير أحوال أهلها فقد تكون البقعة دار كفر إذا كان أهلها كفارا ثم تصير دار إسلام إذا أسلم أهلها كما كانت مكة شرفها الله في أول الأمر دار كفر وحرب وقال الله تعالى فيها: "وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك" ثم لما فتحها النبي صارت دار إسلام وهى في نفسها أم القرى وأحب الأرض إلى الله... وهذا أصل يجب أن يعرف فإن البلد قد تحمد أو تذم في بعض الأوقات لحال أهله ثم يتغير حال أهله فيتغير الحكم فيهم، إذا المدح والذم والثواب والعقاب إنما يترتب على الإيمان والعمل الصالح، أو على ضد ذلك من الكفر والفسوق والعصيان"
وقد أرسل الله تعالى الرسل وأنزل الكتب حتى يوحده الناس ويعبدوه وحده، وقد أحب الله منهم الإيمان ورضيه لهم، وكره منهم الكفر ولم يرضه لهم، وأحب كل ما يوصل إلى الإيمان، وأبغض كل ما يقود إلى الكفر.
وكون الدار دار إسلام فذلك مظنة عبادة الله وتوحيده وظهور أعلام الدين، بعكس دار الكفر التي يفشو فيها الكفر ويستضعف فيها أهل الإيمان، وتعلو فيها أعلام الشرك، ومن ثم فإن من مهام المسلم التي يكلف بها هو تحويل الديار كلها ما استطاع إلى دار إسلام، والمحافظة على دار الإسلام القائمة حتى لا يتغلب عليها الكفار وتعود لسلطان الكفر مرة أخرى، وهذا أحد أهم أغراض الجهاد في سبيل الله، فإن الأرض لله تعالى هو خالقها ومالكها والمتفرد فيها بالأمر والنهي وهو لا يحب أن تحكم أرضه بغير شرعه الذي أنزله على رسله.
وهذا يقودنا إلى البحث في حكم التنازل عن دار الإسلام ليملكها الكفار ويحكموا فيها بما يخالف شرع الله تعالى، تحت ذريعة ما يتوهمه بعض الناس من المصالح:
فالأصل أن الأرض لله تعالى ولا يحكم فيها إلا بشرع الله، وتمليك الله الناس الأرض إنما هو تمليك استخلاف لا تمليك استبداد، كما قال الله تعالى: "يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى"، أي لا يحل أن يعمل فيها إلا بما شرعه الله تعالى، وكل عمل يغاير شرعه فهو مردود، ومن أجل ذلك فإنه لا يجوز للمسلم أن يتنازل عن ما استخلفه الله تعالى فيه بغير إذن منه تعالى-سواء بعوض مالي أو غير مالي أو بغير عوض أصلا، وسواء ببيع أو هبة-لغير المسلم ليحكم فيها بغير شرع الله تعالى، فالكافر إذا ملك أرضا فإنه يعبد عليها غير الله تعالى ويحكم فيها بغير شرعه تعالى، ومن هنا فإنه لا ينبغي أن يباح للكافر أسباب تملك الأرض في دار الإسلام، كشراء العقارات أو إحياء الموات أو أن يتملك شيئا بالشفعة، وهذا كله في حق الذمي الذي يُقَر بقاؤه في دار الإسلام بالجزية فكيف بحال الحربي المحارب للمسلمين، كيف يُمَكَّن من التملك في دار الإسلام؟ هذا لا يباح بحال، لذا فقد منع العلماء من ذلك كله لأهل الذمة الذين هم من أهل دار الإسلام، قال في مغني المحتاج (فقه شافعي) : "وما عمره الكافر في موات دار الإسلام فإنه لا يملكه كما قال، "وليس هو"- أي إحياء الأرض المذكورة- لذمي ولا لغيره من الكفار، كما فهم بالأولى وإن أذن له فيه الإمام؛ لأنه استعلاء، وهو ممتنع عليهم بدارنا، فلو أحيا ذمي أرضا نزعت منه ولا أجرة عليه"، وفي حواشي الشرواني (فقه شافعي): "فلو أحيا ذمي أرضا ميتة بدارنا ولو بإذن الإمام نزعت منه ولا أجرة عليه"، وفي الفقه المالكي أراء: أن الذمي يملك بالإحياء كالمسلم، والرأي الثاني أنه لا يملك في أرض الإسلام، والرأي الثالث التفرقة بين البعيد والقريب فإن أحيا في البعيد جاز وإن أحيا في القريب لم يملك حتى لو أذن له الإمام (انظر منح الجليل شرح مختصر خليل) وفي شرح زاد المستقنع للشنقيطي (فقه حنبلي): "فالذي تطمئن إليه النفس أنه لا يكون للكفار ملك بالإحياء في بلاد المسلمين، ومن أجازوا ذلك استدلوا بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: "من أحيا أرضاً ميتة فهي له"[1]، والعموم يخصص بالشريعة العامة، وخاصة في هذا الزمان، فلا يشك المسلم بحصول الضرر لحرص الكفار على التمكن من ديار المسلمين، ولا مانع من تخصيص العموم، إذ أن العموم خوطب به المسلمون، وإذا كان المخاطب به هم المسلمون فالحكم يكون لهم، وعلى هذا: لا يدخل أهل الذمة في هذا العموم، فهو عام مخصص بعرف الشرع أي: أن الشرع جعل الخطاب للمسلمين وقال: (من أحيا)، ومما يؤكد هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له) أي: بشرط ألا يكون فيها حق لمسلم، وأراضي المسلمين التي لم تحيا وهي في بلادهم ملك لعامة المسلمين، وإذا مكن الكافر منها فلا شك أنه يخالف مقاصد الشريعة العامة، فالعموم هنا لا يخلو من نظر كما ذكرنا"، نقل ابن القيم في كتابه أحكام أهل الذمة بعض الأحكام المتعلقة يتملك أهل الذمة في دار الإسلام فذكر: "أن أبا عبد الله سئل عن الرجل يبيع داره وقد جاءه نصراني فأرغبه وزاده في ثمن الدار، ترى أن يبيع منه وهو نصراني أو يهودي أو مجوسي ؟ قال: لا أرى له ذلك، يبيع داره من كافر يكفر فيها ؟ يبيعها من مسلم أحب إلي (قال ابن القيم: فهذا نص على المنع)"[2]، وقال: "قال عبد الله بن أحمد سألت أبي عن الذمي اليهودي والنصراني لهم شفعة ؟ قال لا قلت المجوسي ؟ قال ذاك أشد
قال ابن القيم في تعليقه على الروايات السابقة: "وحقيقة الأمر أن الكفار ممنوعون من الاستيلاء على ما ثبت للمسلمين فيه حق من عقار أو رقيق أو زوجة مسلمة أو إحياء موات أو تملك بشفعة من مسلم لأن مقصود الدعوة أن تكون كلمة الله هي العليا وإنما أُقِروا بالجزية للضرورة العارضة والحكم المقيد بالضرورة مقدر بقدرها"[3]، والذين أقروا بجواز تملك أهل الذمة في بلد المسلمين، لم يعارضوا العلة التي أوردها ابن القيم وهو أن: "مقصود الدعوة أن تكون كلمة الله هي العليا"، ولكنهم يرون أن إباحة التملك لهم لا يناقض أن تكون كلمة الله هي العليا، لأن هذا كله في مسألة فرعية خاصة، والدار دار إسلام لا يترتب على التملك فيها أية تغييرات في الوضع العام للدولة؛ لأن أهل الذمة تجري عليهم أحكام الإسلام فهم ملتزمون بالصغار ودفع الجزية، وهذا لا يمنع من أن تكون كلمة الله هي العليا، أما إذا كان الأمر متعلقا بالتملك العام أو التنازل العام أو التفريط العام الذي يترتب عليه تغييرات دائمة في وضع الدولة ويؤدي إلى التسليم والإقرار للكفار بأحقيتهم في تملك يلد المسلمين أو جزء منها، والتصرف فيها تصرف المالك في ملكه، والذي يترتب عليه الموافقة على تحويل دار الإسلام إلى دار كفر، فلا شك أن هذا الوضع العام يفوق الوضع الخاص أو الجزئي بمراحل كبيرة، وهو ممنوع منعا باتا، ومنع أهل الذمة من التملك في دار الإسلام يدل من باب أولى على منع تملك الحربي، بل ليس بين الحربي وبين المسلمين إلا علاقة القتال كما ذلت على ذلك النصوص المتكاثرة، وقد نهى الله تبارك وتعالى عن موادة الذين أخرجوا المسلمين من ديارهم أو ظاهروا (عاونوا) على إخراجهم قال الله تعالى: "إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم"، فلا يجوز تولي الكافرين الذين أخرجوا المسلمين من ديارهم، وتمليك الكفار وتمكينهم من أرض دار الإسلام هو من الموالاة، لأن الموالاة تعني المناصرة وفي إعطائهم أرض المسلمين أعظم المناصرة والتمكين، كما أن الموافقة والإقرار على التنازل عن الأرض-تحت أي ذريعة-يدخل في المظاهرة، فمن وافق على التنازل أو قبول التعويض فقد ظاهر (عاون) على إخراج أهل الديار من ديارهم.
مما تقدم يتبين لنا أنه لا يجوز لأهل فلسطين أن يتنازلوا عن أرض فلسطين أو عن جزء منها لليهود ويقروا بسيطرتهم عليها وتملكهم لها، بأية حجة أو ذريعة حتى لو كان ذلك بدعوى الصلح، فالصلح الذي يحرم حلالا أو يحل حراما لا يجوز
فالتنازل عما اصطلح على تسميته "حق العودة" لا يجوز فعله أو الإقدام عليه، لأن في ذلك الإقرار الدائم بضياع فلسطين أو جزء منها وانتقال ملكيتها إلى الأبد إلى اليهود وهو ما يطلبه اليهود من الفلسطينيين والعرب تحت مسمى"يهودية الدولة".
وفلسطين كأرض ودولة ليست ملكا لأحد أيا كان موقعه ومنصبه حتى يمكن التنازل عنها أو التفريط فيها من قبل فرد أو هيئة، ولو قدر أن هناك من تنازل عن أي جزء منها فإن تنازله يقع باطلا غير منتج لأي أثر، بل ملكيتها من الناحية العامة هي ملك للمسلمين جميعهم وكذلك أرض الإسلام كلها، فدار الإسلام ملك للمسلمين كلهم وليست ملكا للأفراد، ولذلك يجب على المسلمين إذا حاول الكفار الاستيلاء على قطر من أقطار بلاد المسلمين ولم يكن في  جندها غناء وكفاية، فإنه يجب على من يليهم من المسلمين أن يقفوا معهم وأن يقاتلوا العدو الغاصب إلى جانبهم، حتى ينصرهم الله تعالى وينهزم العدو، والملكية الثابتة لآحاد المسلمين على قطعة معينة من الأرض، هي ملكية استخلاف لا ملكية استبداد، ومن ثم فإن أحدا منهم لا يجوز له التصرف فيها إلا وفق شريعة الله تعالى، وقد بين الله تعالى أن الأرض له وأنه يورثها من يشاء من عباده، وأن الله تعالى قد أورثها عباده الصالحين، فمهما تمكن منها الكفار ومهما سيطروا عليها السنين الطوال فإن وراثتها تكون للصالحين من عباده، وأن الله ناصرهم وممكن لهم في الأرض وفي هذا ما يشحذ الهمم ويبعث في النفس الطمأنينة، فلا ينبغي للصالحين أن يملوا أو أن ييئسوا  من استعادة ما فقدوه من حقوقهم بل عليهم أن يجدوا ويجتهدوا في السعي لنصرة الحق وهزيمة الباطل.
 وببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، انحصر الصلاح في المؤمنين به وانحصرت وراثة الأرض في المتابعين له، ولا يخرجها الله من أيديهم إلى غيرهم إلا بذنوبهم وتقصيرهم، قال الله تعالى: "إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين" وقال تعالى: "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" قال ابن كثير في تفسيرها: "يقول تعالى مخبرا عما حتمه وقضاه لعباده الصالحين، من السعادة في الدنيا والآخرة، ووراثة الأرض في الدنيا والآخرة، كقوله تعالى: "إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين" [الأعراف:128]. وقال: "إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد" [غافر:51]. وقال: "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا"،الآية [النور:55] .وأخبر تعالى أن هذا مكتوب مسطور في الكتب الشرعية والقدرية فهو كائن لا محالة"، وما دام المسلمون عندهم وعد من الله تعالى، والله تعالى لا يخلف وعده، فإن عليهم أن يجدوا ويجتهدوا في تحقيق موعود الله بالأسباب التي خلقها الله تعالى موصلة لمسبباتها، ولا يلجئوا إلى أحد سواه لأن تصريف الكون بيد الله تعالى، وهذا يبين الخطأ الشديد الذي يقع فيه الكثيرون عندما يعلقون آمالهم في تحرير بلادهم من الغاصبين لها واستعادتهم لحقوقهم على مواقف بعض الدول الكبرى، التي يعلم كل أحد أن من أسباب نكبتهم تلك الدول التي أعطت للغاصب الحق فيما غصب وأيدته في ذلك، وأعانته عليه بالرأي والمال والسلاح، وأن كل ما قدمته تلك الدول للفلسطينيين هو الوعد بإعطاء بعض الفتات الذي يتناقص مع كل جولة مفاوضات حتى تكون المحصلة النهائية الحصول على لا شيء تقريبا.

ما الحل؟

لذلك فإن الحل الذي لا حل غيره هو التمسك بالحق كاملا غير منقوص والإصرار على استيفائه كاملا وتحمل كافة التبعات التي تترتب على ذلك، والصبر على ذلك، وعدم القبول بما يقدمه هؤلاء من عروض تكرس الظلم وتقر السرقة ونجعل الباطل حقا، كالدعوة إلى توطين اللاجئين الفلسطينيين في الأماكن التي يقيمون فيها، وهذا الحل يضمن للغاصب الفوز بما غصبه بينما تحل المشكلة على حساب الدول التي استضافت اللاجئين، أو الدعوة إلى مبادلة الأرض المحتلة عام 1948 بأرض أخرى في فلسطين، والإقرار بهذا هو إقرار للسارق الغاصب بما سرق، فإنه يبادل أرضا ليست ملكا له بأرض أخرى ليست ملكا له أيضا، فإن كلا الأرضين ملك للفلسطينيين، أو التعويض المالي عن الأملاك فيكون هذا في حقيقته بيعا لدار الإسلام، لعدو الله ورسوله والمؤمنين، وقد بينت النصوص الشرعية أن من أخرج من داره وطرد منها فإن له الحق أن يقاتل من أجل استردادها وليس في هذا ظلم وإنما الظلم واقع ممن أخرجه من داره قال الله تعالى: "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ألا أن يقولوا ربنا الله"، بل إن الله تعالى أمر بمعاقبة الذين أخرجوا المسلمين من ديارهم والقصاص منهم وذلك بإخراجهم كما أخرجوا المسلمين، قال الله تعالى: "واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم"، قال ابن كثير: "أي: لتكن همتكم منبعثة على قتالهم، كما أن همتهم منبعثة على قتالكم، وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها، قصاصا"[4].
ولا شك أن هذا الأمر لا يتأتى بالأحلام أو الأمنيات بل هو في حاجة إلى غاية الجد والاجتهاد في تحصيل الأدوات الموصلة لتحقيق المراد، كما قال تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم"، فهل من مشمر 
       
 

-------------------
[1] أخرجه
[2] أحكام أهل الذمة 1/ 577
[3] أحكام أهل الذمة 1/286
[4] تفسير ابن كثير 1/524

 

محمد الشريف
  • مقالات في الشريعة
  • السياسة الشرعية
  • كتب وبحوث
  • قضايا عامة
  • الصفحة الرئيسية